موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: التَّناسُخُ والتَّقَمُّصُ والحُلولُ


يُستَدَلُّ مِنَ النُّصوصِ الوارِدةِ في رَسائِلِ الدُّروزِ بأنَّهم يعتَقِدونَ بالتَّناسُخِ والتَّقَمُّصِ، أي: بانتِقالِ الرُّوحِ مِن جِسمٍ بَشَريٍّ إلى جِسمٍ بشريٍّ آخَرَ، باعتِبارِ أنَّ الرُّوحَ لا تَموتُ، بل يموتُ قَميصُها (الجِسمُ)، ويُصيبُه البِلى، فتَنتَقِلُ الرُّوحُ إلى قَميصٍ آخَرَ.
وهذا أخَصُّ مِنَ التَّناسُخِ الذي تَعتَقِدُه فِرَقٌ أُخرى كالنُّصَيريَّةِ الذين لا ينحَصِرُ عِندَهمُ التَّناسُخُ بَينَ النَّاسِ، بل يكونُ أحيانًا بَينَهم وبَينَ البَهائِمِ: أي، بمَعنى المَسخِ [3419] يُنظر: مخطوط في تقسيم جبل لبنان: مخطوط في الجامعة الأمريكية ببيروت (رقم 31)، ويوجد شريط عنه في الجامعة الأردنية (رقم 699). .
وعَقيدةُ الدُّروزِ تُنكِرُ المَسخَ في التَّناسُخِ إنكارًا صَريحًا، وتَنفيه نَفيًا قاطِعًا، حتَّى إنَّها استَبدَلَت لفظةَ التَّناسُخِ بـ (التَّقَمُّصِ)؛ لأنَّ في انتِقالِ النَّفسِ إلى جِسمِ حَيوانٍ ظُلمًا له، ولأنَّ العِقابَ والثَّوابَ بُني حَسَبَ ما يزعُمونَ على قاعِدةِ العَدلِ الإلهيِّ في مُحاسَبةِ الأرواحِ بَعدَ مُرورِها في الدَّهرِ الطَّويل، لا في مَدى حَياةٍ واحِدةٍ، بخَيرِها وشَرِّها، وقِصَرِها أو طولِها، بحَيثُ يمنَحُها الدَّهرُ الطَّويلُ فُرَصَ الاكتِسابِ والتَّطَوُّرِ، والامتِحانِ والتَّبَدُّلِ؛ لكي تُحاسَبَ حِسابًا عادِلًا على مَجموعِ ما كُتِبَ، فلا تَكونُ الأرواحُ كياناتٍ مُبهَمةً غَيرَ واعيةٍ [3420] يُنظر: ((مذهب الدروز والتوحيد)) للنجار (ص: 62). .
ولكنَّ الدُّروزَ يعتَقِدونَ بالمَسخِ المَعنَويِّ أوِ المَجازيِّ؛ قال الدَّرْزيُّ عَبدُ اللَّهِ النَّجَّار: (المَسخُ في اللُّغةِ تَحويلُ الصُّورةِ إلى أقبَحَ مِنها، فيُقالُ: مَسخَه اللَّهُ قِردًا، وهذا دينيًّا ورَدَ ذِكرُه، مَجازيٌّ مَعنَويٌّ، المَقصودُ مِنه التَّحقيرُ والذَّمُّ والتَّوبيخُ، وهو تَعبيرٌ مَجازيٌّ، وليس حِسِّيًّا على الإطلاقِ.
وإنَّما تَكونُ الحِكمةُ في عَذابِ رَجُلٍ يَفهَمُ ويعرِفُ العَذابَ؛ ليَكونَ مَأدبةً له وسَبَبًا لتَوبَتِه... وإنَّما يكونُ العَذابُ الواقِعُ في الإنسانِ نُقلَتَه مِن دَرَجةٍ عاليةٍ إلى دَرَجةٍ دونَها في الدِّينِ، وفي قِلَّةِ مَعيشَتِه وعَمى قَلبِه في دينِه ودُنياه) [3421] ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص: 61، 62). .
ومِمَّا يتَّصِلُ باعتِقادِهم في هذا الشَّأنِ: (أنَّ العالَمَ قد خُلِقَ دَفعةً واحِدةً، وأنَّ البَشَرَ خُلِقوا سَويَّةً ولَيسوا بمُتَناسِلينَ مِن أبٍ واحِدٍ، بل مِن حينِ الخَليقةِ وُجِدَ الحايِكُ في نَولِه، والبنَّاءُ على الحائِطِ، وأنَّ عَدَدَ أنفُسِ البَشَرِ لا يزيدُ ولا ينقُصُ) [3422] ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 34). !
وفي هذا المَعنى جاءَ في رِسالةِ (من دون قائِمِ الزَّمانِ) ما يلي: (أليس قد صَحَّ عِند كُلِّ ذي عَقلٍ ومَعرِفةٍ بالحَقيقةِ والفَضلِ أنَّ هذه الأشخاصَ -أعني عالَم السَّوادِ الأعظَمِ- لم يتَناقَصوا ولَم يتَزايدوا؟ بل هي أشخاصٌ مَعدودةٌ مِن أوَّلِ الأدوارِ إلى انقِضاءِ العالَمِ والرُّجوعِ إلى دارِ القَرارِ.
والدَّليلُ على ذلك أنَّ هذه الخِلقةَ -أعني العالَمَ العُلويَّ والسُّفليَّ- ليس لها وقتٌ مُحَدَّدٌ، ولا أمَدٌ عِندَ العالَمِ مَعدودٌ، أليس لو زادَ العالَمُ في كُلِّ ألفِ سَنةٍ شَخصًا واحِدًا لَضاقَت بهمُ الأرضُ؟ ثُمَّ إنَّه لو نَقَصَ في كُلِّ ألفِ سَنةٍ شَخصٌ واحِدٌ لم يبقَ مِنهم أحَدٌ، فصَحَّ عِندَ كُلِّ ذي عَقلٍ راجِحٍ، ومَن هو بالحَقيقةِ لنَفسِه ناصِحٌ، أنَّ الأشخاصَ لم تَتَناقَصْ ولَم تَتَزايدْ، بل تَظهَرُ بظهوراتٍ مُختَلفاتِ الصُّورِ على مِقدارِ اكتِسابِها مِن خَيرٍ وشَرٍّ) [3423] ((رسالة من دون قائم الزمان والهادي إلى طاعة الرحمن)) لبهاء الدين- ضمن ((رسائل الحكمة)) (2/ 535). .
فتَمُرُّ النَّفسُ في دَورانِها عِندَهم بحالاتٍ مُختَلفةٍ، وتَظَلُّ كذلك حتَّى تَتَطَهَّرَ إن كانت صالحةً، أمَّا النَّفسُ الشِّرِّيرةُ فتَظَلُّ مُعَذَّبةً بجَميعِ أنواعِ العَذاباتِ المَعروفةِ. والعَذابُ الأكبَرُ هو عَذابُ الضَّميرِ، وعَذابُ النَّدَمِ على ما فاتَ؛ لأنَّها لم تَنتَفِعْ مِن أدوارِها الماضيةِ [3424] يُنظر: ((بنو معروف الدروز)) لسعيد الصغير (ص: 239). .
وهم يعتَقِدونَ أنَّه: (كُلَّما ماتَ إنسانٌ انتَقَلَت روحُه لمَولودٍ جَديدٍ، ويُسَمَّى ذلك عِندَهمُ الفرقةَ والخِلقةَ، ويُشَبِّهونَ النَّفسَ بالسَّائِلاتِ التي تَحتاجُ إلى إناءٍ يضبِطُها، فإذا كُسِرَ فلا بُدَّ مِن تَلَقِّي السَّائِلِ في إناءٍ غَيرِه؛ لئَلَّا يَهرِفَ ويَضيعَ) [3425] ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 34). .
وبناءً على ذلك فإذا ماتَ أحَدٌ مِن مَذهَبِهم فإنَّه يولَدُ ثانيةً على نَفسِ هذا المَذهَبِ؛ ولهذا فلا يقبَلونَ أحَدًا في مَذهَبِهم حتَّى ولَوِ اطَّلَعَ الإنسانُ على كُتُبِهم وعَرَف ديانَتَهم واعتَقدَ صِحَّتَها وسَلَك بموجِبها فلا فائِدةَ مِن ذلك، بل حينَ مَوتِه تَرجِعُ روحُه إلى مَذهَبِه القديمِ!
وكذلك إذا انتَقَلَ أحَدٌ مِن مَذهَبِهم إلى غَيرِه فإنَّهم لا يعتَرِفونَ بذلك؛ لأنَّ روحَه في النَّقلةِ الأُخرى سَتَعودُ إلى مَذهَبِه القديمِ [3426] يُنظر: ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 47). .
قال الدَّرْزيُّ سامي مَكارِم: (ففي عَقيدَتِهم أنَّ الذين نَقَلوا الدَّعوةَ وتَعَرَّضوا إلى الحَقيقةِ في الماضي لا يزالونَ يُولَدونَ مِن تَقَبُّلِ الدَّعوةِ، كذلك فإنَّ التَّقَمُّصَ في مُعتَقَدِ التَّوحيدِ ليس تَطَوُّرًا للرُّوحِ في هذا الدَّورِ، بل هو تَقلُّبُ الرُّوحِ في شَتَّى الأحوالِ؛ لكي يتَسَنَّى لها أن تَختَبرَ هذه الأحوالَ. فمَن لم يتَقَبَّلْ نِداءَ الحَقِّ حَسَبَ مُعتَقدِ التَّوحيدِ لا يُمكِنُه إلَّا أن يحصُدَ نَتيجةَ أعمالِه في حيواتِه التَّاليةِ، وكذلك هي الحالُ بالنِّسبةِ لمَن تَقبَّل هذا النِّداءَ وتَعَرَّف إلى الحَقيقةِ. والتَّقَمُّصُ يتَضَمَّنُ عِندَ الدُّروزِ أيضًا تَمييزًا جِنسيًّا؛ فالذَّكرُ يولَدُ ذَكرًا، والأُنثى أُنثى) [3427] ((أضواء على مسلك التوحيد)) (ص: 121 - 122). .
ونَتيجةً لهذه النَّظَريَّةِ عِندَهم فإنَّهم يقولونَ عن ذَوي العاهاتِ والمُصابينَ كالأعمى والأعرَجِ والفقيرِ والجاهِلِ: إنَّ مُصابَهم هو قِصاصٌ عن ذُنوبِهم في مُدَّةِ حَياتِهمُ السَّابقةِ [3428] يُنظر: ((الدروز والثورة السورية)) لكريم ثابت (ص: 48). .
واستَدَلَّ الدُّروزُ بآياتٍ مِنَ القُرآنِ الكريمِ ليُثبِتوا فيها اعتِقادَهم بالتَّناسُخِ، مُؤَوِّلينَ مَعناها ليتَّفِقَ مَعَ ما يزعُمونَ، ومِن ذلك ما استَدَلَّ به الدَّرْزيُّ فُؤاد الأطرَش: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا [النساء: 56] ، (كيف تَكفُرونَ بنِعمةِ اللَّهِ وكُنتُم أمواتًا فأحياكم ثُمَّ يُميتُكم ثُمَّ يُحييكم ثُمَّ إليه تُرجَعونَ) [3429] وقد أوردوا الآيةَ هكذا، ويلاحَظُ أنَّ كَلِمةَ (نعمة) غيرُ موجودةٍ في الآيةِ، والصَّحيحُ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة: 28] . ، (لا ينفعُ نَفسًا إيمانُها إن لم تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبلُ وكسَبَت في إيمانِها خَيرًا) [3430] زاد في الآيةِ كَلِمةَ (إنْ) والصحيحُ: لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام: 158] . ، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه: 55] ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19] .
وزَعَمَ الأطرَش أنَّ تَشبيهَ النَّفسِ بالأرضِ إثباتٌ مادِّيٌّ على التَّقَمُّصِ لا يقبَلُ الجَدَلَ، وقال: (فلنَتَأمَّلْ في أدوارِ الأرضِ ومَواسِمِها ومَوتِها ثُمَّ حَياتها. والإنسانُ يرفُضُ هذه الفِكرةَ؛ لأنَّها تُناقِضُ مَبدَأَ الذَّاتيَّةِ وتُحَطِّمُ أحلامَه، ويضَعُ الإنسانَ أمامَ الواقِعِ الرُّوحيِّ مَوضِعَ المُنافِحِ في سَبيلِ خَلاصِه مِن أسْرِ مادِّيَّةِ التَّفكيرِ والحَياةِ) [3431] ((الدروز مؤامرات وتاريخ وحقائق)) (ص: 187، 188). .
وبسَبَبِ اعتِقادِهم بالتَّقَمُّصِ يعتَقِدونَ أيضًا بالنُّطقِ، والنُّطقُ هو: أنَّ الرُّوحَ حينَ تَنتَقِلُ مِن جَسَدٍ إلى جَسَدٍ تَحمِلُ مَعلوماتٍ عن دَورِها في الجيلِ السَّابقِ، يعني في الجِسمِ الذي كانت تَتَقَمَّصُه قَبلَ قَميصِها الحاليِّ، وفي هذه الحالةِ تَتَحَدَّثُ أو تَنطِقُ بما تذكُرُه مِن وقائِعَ عن حَياتِها السَّابقةِ [3432] يُنظر: ((إسلام بلا مذاهب)) للشكعة (ص: 280). .
ومِنَ الدُّروزِ مِثلُ عَبدِ اللَّهِ النَّجَّار مَن ينفي نَظَريَّةَ (النُّطقِ) هذه مِن أساسِها، ويعتَبرُها خُرافاتٍ مِن سُذَّجِ العامَّةِ، ويستَشهدُ على ذلك بنُصوصٍ مِن رَسائِلِهم، ومِمَّا ذَكرَه نَقلًا عن (الرِّسالةِ: 67): (فإن قال قائِلٌ: ما لنا لا نَعرِفُ ما مَضى مِنَ الأدوارِ؟ قال له المُحتَجُّ بالحَقيقةِ: إنَّك لو ذَكرتَ وعَرَفتَ لَشارَكتَ المُبدِعَ في غَيبِ حِكمتِه، ولَكان ذلك عَجزًا مِنَ الباري، ولَكان يُفسِدُ النِّظامَ) [3433] ((مذهب الدروز والتوحيد)) (ص: 69 - 71). .
غَيرُ أنَّ الدَّرْزيَّ سامي مَكارِم رَدَّ على النَّجَّارِ فقال: (يُمكِنُنا القَولُ: إنَّ مَنطِقَ عَمَليَّةِ التَّقَمُّصِ لا يتَعارَضُ مَعَ تَذَكُّرِ الماضي، خاصَّةً عِندَما نُدرِكُ أنَّ نَزَعاتِ الفِكرِ اللَّطيفةَ، حَسَبَ عَقيدةِ التَّوحيدِ، تَنطَوي عِندَ المَوتِ في أعماقِ النَّفسِ المُتَنَقِّلةِ مِن جَسَدٍ إلى جَسَدٍ. وهذه النَّزَعاتُ والأفكارُ اللَّطيفةُ، كبُذورِ انطِلاقةِ الحَياةِ التَّاليةِ، هي التي تُحَدِّدُ وضعَ التَّقَمُّصِ المُقبِلِ، فلا بُدَّ لبَعضِ الأذهانِ إذا صادَفَت بَعضَ الحالاتِ المُناسِبةِ أن تَتَذَكَّرَ الماضيَ المُباشِرَ الذي كانت تَعيشُ فيه) [3434] ((أضواء على مسلك التوحيد)) (ص: 127). .
أمَّا الحُلولُ: فهو نَوعٌ مِنَ التَّقَمُّصِ، لكنَّه يختَلفُ عنه في أنَّ النَّفسَ المُنتَقِلةَ مِن جِسمٍ إلى آخَرَ تَنتَقِلُ مَعَها أحيانًا جَميعُ صِفاتِها، أو بَعضُ صِفاتِها البارِزةِ. ومِن ذلك نَشَأ الاعتِقادُ أنَّ نُفوسَ الأنبياءِ والمُرسَلينَ تَنتَقِلُ مِن دَورٍ إلى دَورٍ مُستَكمِلةً أروَعَ صِفاتِها، فحَمزةُ بنُ عَليٍّ في دَورِ الحاكِمِ هو نَفسُ سَلمانَ الفارِسيِّ في دَورِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [3435] يُنظر: ((أصل الموحدين الدروز)) لأمين طايع (ص: 100، 101). .
وقدِ استَنتَجَ الدُّكتور مُحَمَّد كامِل حُسَين مِن نَظَريَّة التَّناسُخِ هذه أنَّ لها صِلةً بمَذهَبِ التَّناسُخِ في الدِّيانةِ البوذيَّةِ، والدِّيانةِ الهِندوكيَّةِ؛ ففي الدِّيانةِ البوذيَّةِ ظَهَرَ بوذا على هَيئةِ حَيواناتٍ وطُيورٍ وشَجَرٍ وصُوَرٍ إنسيَّةٍ حَوالَي ألفِ مَرَّةٍ. وفي الدِّيانةِ الهِندوكيَّةِ ظَهَرَ شيفا على صُوَرٍ إنسيَّةٍ عَديدةٍ، كذلك ظَهَرَ مَذهَبُ التَّناسُخِ عِندَ فلاسِفةِ اليونانِ وقُدَمائِهم؛ ففي ديانةِ قُدَماءِ اليونانِ تَظهَرُ آلهَتُهم في صورٍ مُختَلفةٍ، وعِندَ فلاسِفةِ اليونانِ التَّناسُخُ عِندَهم عِدَّةُ أقسامٍ: نَسخٌ ومَسخٌ وفَسخٌ ورَسخٌ [3436] يُنظر: ((طائفة الدروز)) (ص: 109). ويُنظر: ((البوذية وتأثيرها في الفكر والفرق الإسلامية المتطرفة)) لمحمد الزغبي، وعلي زيعور (ص: 147 - 149). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (قد لَبَّسَ إبليسُ على أقوامٍ فقالوا بالتَّناسُخِ وأنَّ أرواحَ أهلِ الخَيرِ إذا خَرَجَت دَخَلَت في أبدانٍ خَيِّرةٍ فاستَراحَت، وأرواحَ أهلِ الشَّرِّ إذا خَرَجَت تَدخُلُ في أبدانٍ شِرِّيرةٍ فيتَحَمَّلُ عليها المَشاقُّ، وهذا المَذهَبُ ظَهَرَ في زَمانِ فِرعَونِ موسى) [3437] ((تلبيس إبليس)) (ص: 73). .
ولَقد ورَدَ في القُرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ الشَّريفةِ ما يدُلُّ على الحَقِّ في هذه المَسألةِ؛ فما جاءَ عن سُؤالِ المَلَكينِ، وعَذابِ القَبرِ، يدُلُّ على بُطلانِ ما يتَوهَّمُ به البَعضُ مِن أنَّ الأرواحَ تَظَلُّ مُتَنَقِّلةً بَينَ الأجسادِ، كُلَّما انتَسَخَ وُجودُ واحِدةٍ مِنها في جَسَدِها التي هي فيه انتَقَلَت مِنه إلى جَسَدٍ آخَرَ؛ فاللَّهُ سُبحانَه وتعالى يُرسِلُ مَلَكينِ إلى الإنسانِ عَقِبَ وفاتِه، يسألانِه عن رَبِّه، وعن دينِه الذي عاشَ عليه، وعَمَّا عَلِمَه مِن أمرِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإمَّا أن يتَعَرَّضَ إلى العَذابِ أو إلى النَّعيمِ.
ومِمَّا يدُلُّ على بُطلانِ هذا المُعتَقَدِ أيضًا ما ذَكرَه اللَّهُ تعالى مِن أنَّ أرواحَ الشُّهَداءِ تَكونُ عِندَه، فقال اللَّهُ تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .
وذكر اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَذابَ البَرزَخِ، فقال: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 45-46] . وقد ثَبَتَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا أتى المُشرِكينَ يومَ بَدرٍ في القَليبِ ناداهم: ((يا فُلانُ، يا فُلانُ، هَل وجَدتُم ما وعَدَ رَبُّكم حَقًّا؟ فقد وجَدتُ ما وعَدَني رَبِّي حَقًّا!)) [3438] أخرجه البخاري (3976)، ومسلم (2875) مطوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي طلحةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه.
وقد أخبرَ اللَّهُ تعالى أيضًا بأنَّ هذه الأبدانَ التي فيها أرواحُنا سَتَشهَدُ علينا يومَ القيامةِ بما عَمِلَت، فقال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 19 - 22] .
وقد نَقَلَ ابنُ حَزمٍ عنِ القائِلينَ بالتَّناسُخِ قَولَهم: (فلَمَّا وجَدْناه تعالى يقطَعُ أجسامَ الصِّبيانِ الذين لا ذَنبَ لهم بالجُدَريِّ والقُروحِ، ويأمُرُ بذَبحِ بَعضِ الحَيوانِ الذي لا ذَنبَ له وبطَبخِه وأكلِه، ويُسَلِّطُ بَعضَها على بَعضٍ فيَقطَعُه ويأكُلُه ولا ذَنبَ له؛ عَلِمْنا أنَّه تعالى لم يفعَلْ ذلك إلَّا وقد كانتِ الأرواحُ عُصاةً مُستَحِقَّةً للعِقابِ بكَسبِ هذه الأجسادِ لتُعَذَّبَ) [3439] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (1/ 93). .
وهذا مُشابِهٌ لاعتِقادِ الدُّروزِ أنَّ مَن يولَدُ أعمى وبه عاهةٌ إنَّما كان ذلك لعِصيانِ هذه الأرواحِ في حيواتِها السَّابقةِ!
ورَدَّ ابنُ حَزمٍ على ذلك بقَولِه: (يكفي مِن بُطلانِ هذا الأصلِ الفاسِدِ أن يُقالَ لهم: إن طَرَدتُم هذا الأصلَ وقَعتُم في مِثلِ ما أنكرتُم ولا فرقَ، وهو أنَّ الحَكيمَ العَدلَ الرَّحيمَ على أصلِكم لا يخلُقُ مَن يُعَرِّضُه للمَعصيةِ حتَّى يحتاجَ إلى إفسادِه بالعَذابِ بَعدَ إصلاحِه، وقد كان قادِرًا على أن يُطَهِّرَ كُلَّ نَفسٍ خَلَقَها ولا يُعَرِّضَها للفِتَنِ، ويَلطُفَ بها ألطافًا فيُصلِحَها بها حتَّى تَستَحِقَّ كُلُّها إحسانَه والخُلودَ في النَّعيمِ، وما كان ذلك ينقُصُ شَيئًا مِن مُلكِه، فإن كان عاجِزًا عن ذلك فهذه صِفةُ نَقصٍ ويَلزَمُ حامِلَها أن يكونَ مِن أجلِ نَقصِه مُحدَثًا مَخلوقًا، فإن طَرَدوا هذا الأصلَ خَرَجوا إلى قَولِ المانَويَّةِ في أنَّ للأشياءِ فاعِلَينِ، وقد تَقدَّمَ إبطالُنا لقَولِهم، وباللَّهِ تعالى التَّوفيقُ. وبَيَّنَّا أنَّ الذي لا آمِرَ فوقَه ولا مُرَتِّبَ عليه فإنَّ كُلَّ ما يفعَلُه فهو حَقٌّ وحِكمةٌ، وإذ قد تعَلَّق هؤلاء القَومُ بالشَّريعةِ أنَّ كُلَّ قَولٍ لم يأتِ عن نَبيِّ تلك الشَّريعةِ فهو كَذِبٌ وفِريةٌ، فإذ لم يأتِ عن أحَدٍ مِنَ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ القَولُ بتَناسُخِ الأرواحِ فقد صارَ قَولُهم به خُرافةً وكَذِبًا وباطِلًا) [3440] ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (1/ 93، 94). .
ومِن مَزاعِمِ واعتِقاداتِ الدُّروزِ أيضًا أنَّ أنفُسَ العالَمِ لا تَزيدُ ولا تَنقُصُ، والرَّدُّ على ذلك بالإحصاءاتِ السُّكَّانيَّةِ التي تَتَوالى مِن أنحاءِ العالَمِ، فتُخبرُ عن تَزايُدِ أعدادِ السُّكَّانِ فيه!

انظر أيضا: