موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّاني: كُمونُ حِزبِ اللهِ


كان المَرجِعُ الشِّيعيُّ اللُّبنانيُّ حُسَين فضل الله في ذلك الوقتِ يُمارِسُ دَورَه بهدوءٍ بعيدًا عنِ الصَّدرِ وحَرَكتِه، وكانت عِنايةُ فضل الله مُتَوجِّهةً إلى التَّربيةِ المَنهَجيَّةِ لإعادةِ العِلمِ الإماميِّ الدِّينيِّ وتَوطينِه وتَطويرِه في لُبنانَ، فبَدَأ أبناءُ فضَل الله بالانتِشارِ في نَسيجِ المُجتَمَعِ اللُّبنانيِّ، وبالرَّغمِ من ذلك لم يستَطيعوا الإعلانَ عن هُويَّتِهم كما يُريدونَ؛ إذ ما زال فيهم مِنَ الضَّعفِ ما يمنَعُهم من ذلك، فكانتِ الحَرَكةُ الصَّدريَّةُ واقيَ أنصارِ الدَّعوةِ والإسلاميِّينَ الخُمينيِّين في حال ضَعفِهم، وفي هذه الأثناءِ كانوا يعمَلونَ عملًا حثيثًا على بناءِ النَّواةِ التي في مُستَطاعِهم إنشاءُ مَعقِلِهم حَولَها [2692] يُنظر: ((دولة حزب الله)) لشرارة (ص: 197- 199). . فبالرَّغمِ من هذا الاحتِماءِ بـأملٍ إلَّا أنَّه لم يكُنْ في حُسبانِ الحَرَكةِ الدِّينيَّةِ الشِّيعيَّةِ في لُبنانَ أن تَكونَ أمَلٌ هي صورَتَها الدَّائِمةَ والمُستَقبليَّةَ ولا قائِدةَ مَسيرَتِها؛ إذ الصُّورةُ المَطلوبةُ هي ذلك المِثالُ الإسلاميُّ الإيرانيُّ لا المِثالُ العَلمانيُّ الذي تَدينُ به أمَلٌ.
وتلك المَجموعةُ كانت تَرى أنَّ العِلمَ لا بُدَّ أن يُصاحِبَه جِهادٌ يُكمِلُه ويتَكامَلُ مَعَه، وأصبَحَت هذه الحالةُ الجِهاديَّةُ ذاتَ أهَمِّيَّةٍ قُصوى لتَربيةِ أفرادِ الحَرَكةِ عليها [2693] يُنظر: ((دولة حزب الله)) لشرارة (ص: 282). .
وقد أَوْلتِ الحَرَكةُ الإسلاميَّةُ الخُمينيَّةُ في لُبنانَ أمرَ المَساجِدِ والمَدارِسِ الدِّينيَّةِ اهتِمامًا كبيرًا؛ فقامَت بعَمَلِ حِزامٍ مِنَ الحُسَينيَّاتِ والمُصَلَّياتِ، وكان لذلك دَورٌ هامٌّ في انتِشارِ الحَرَكةِ وتَوسُّعِها. ومِن ذلك إنشاءُ أربَعِ مَصلَّياتٍ بارِزةٍ وأساسيَّةٍ في بَيروتَ:
المُصَلَّى الأوَّلُ: الإمامُ الباقِرُ، ناحيةَ الرَّوشة، في مِنطَقةٍ اتَّخَذَها الفِلسطينيُّونَ المُسَلَّحونَ مَعِقلًا ومَلجَأً، ولم يكَدِ الفِلسطينيُّونَ يُخلونَها حتَّى حَلَّ في أبنيتِها التي لم تَكتَمِلْ بَعضُ أهالي الجَنوبِ، وتَبعَهم أهالي كيفون، والقماطيَّةِ، والبلدَتانِ سُكَّانُهما مِنَ الشِّيعةِ، وتَقَعانِ بدائِرةٍ عاليةِ الانتِخابيَّةِ التي يقتَسِمُها الدُّروزُ والموارِنةُ والأُرثوذُكسُ، ووقَعَت عَشَراتُ الأبنيةِ ومنها ثَلاثةُ فنادِقَ سابقةٍ في قَبضةِ المُسَلحَّينَ، فأسكنَ المُسَلَّحونَ الشِّيعةُ المُهاجِرينَ والمُهَجَّرينَ مِنَ الضَّاحيةِ، وأنشؤوا مُصَلَّى الإمامِ الباقِر في وسَطِ المُهَجَّرينَ الشِّيعةِ، ونَصَبوا مِذياعًا للصَّلواتِ والأدعيةِ، وأقاموا من أنفُسِهم شُرطةَ أخلاقٍ، فحَرَّموا تَناوُلَ المَشروباتِ الكُحوليَّةِ في شَهرِ رَمَضانَ، وفي الأيَّامِ العَشرةِ الأولى من مَحرَّمٍ، وزَيَّنوا المُصَلَّى بالأعلامِ والصُّورِ، واتَّخَذوه قاعِدةً للدَّعوةِ بالصُّورةِ والصَّوتِ.
المُصَلَّى الثَّاني: الإمامُ الصَّادِقُ، وكان في بناءٍ من أبنيةِ الحَمراءِ يقَعُ خَلفَ سينما ستراند، في شارِعٍ احتُلَّ بَعضُ أبنيتِه الجَديدةِ التي لم يكتَمِلْ إنشاؤُها، وبَعضُ أبنيةِ المِنطَقةِ القديمةِ التي كانت شُقَقُها مَكاتِبَ تِجاريَّةً أو مَكاتِبَ مِهَنٍ حُرَّةٍ، وأُنزِل فيها الأهالي الذين نَزَحوا مِن حَيِّ فرحانَ ومِن حَيِّ ماضي.
المُصَلى الثَّالثُ: الإمامُ الحُسَينُ، في ناحيةِ القِنطاري غَيرَ بَعيدٍ من بُرج المرِّ.
المُصَلَّى الرَّابعُ: المُصطَفى، بعَينِ المَريسةِ، في وسَطِ ناحيةٍ يتَنازَعُها السُّنَّةُ الذين سَبَقوا إليها، والدُّروزِ والشِّيعة الذين وجَدوا بها ملاذًا شعبيًّا رخيصًا، ثُمَّ طَرَأ على النَّاحيةِ تَغَيُّرٌ عَميقٌ من جَرَّاءِ انتِشارِ الفنادِقِ الفخمةِ والشُّقَقِ المَفروشةِ والمَقاهي والمَقاصِفِ وعُلَبِ اللَّيلِ. وهذه الفنادِقُ والشُّقَقُ أخلتها الأعمالُ الحَربيَّةُ ودَمَّرَتها، فأُسكنَ الشِّيعةُ في بَقاياها وبَينَ أنقاضِها الذين قُسِروا على النُّزوحِ من بُرجِ حُمود والنَّبعةِ... إلخ.
وأمَّا بلداتُ الجَنوبِ اللُّبنانيِّ فهي تَتَصَدَّرُ بمَساجِدِها وحُسَينيَّاتِها نَشاطَ الدُّعاةِ الخُمينيِّين؛ إذ هي مِنطَقَتُهمُ الأُمُّ، وفيها مَعاقِلُهمُ الأساسيَّةُ [2694] يُنظر: ((دولة حزب الله)) لشرارة (ص: 235، 239) بتصرف. .
المطلَبُ الثَّالثُ: الانشِقاقُ عن حَرَكةِ أمَلٍ
يقولُ ميثاقُ حَرَكةِ أمَلٍ: (إنَّ حَرَكةَ أمَلٍ ليست حَرَكةً دينيَّةً، وميثاقُ الحَرَكةِ الذي تَمَّت صياغَتُه في عامِ 1975م، من قِبَلِ 180 مُثَقَّفًا لُبنانيًّا مُعظَمُهم مِنَ المَسيحيِّينَ يدعو إلى إلغاءِ النِّظامِ الطَّائِفيِّ في البلادِ وإلى المُساواةِ في الحُقوقِ والواجِباتِ بَينَ جَميعِ المواطِنينَ دونَ تَمييزٍ) [2695] ((حقيقة المقاومة)) لشفيق (ص: 117)، ((نص الميثاق في أمل والشيعة)) لنورثون (ص: 229- 264). ونبيه بَرِّي كان رئيسًا لمجلِسِ النُّوَّابِ اللُّبنانيِّ، وهو قائدُ حَركةِ أمَلٍ وعضوُ المجلِسِ الشِّيعيِّ الأعلى. يُنظر: ((تذكير النفس بحديث القدس)) للعفاني (3/ 294). .
وعِندَما نَجَحَتِ الثَّورةُ الإيرانيَّةُ عامَ 1979م، كانت نُقطةَ تَحَوُّلٍ كبيرةً في الحَرَكةِ الشِّيعيَّةِ في لُبنانَ؛ فقد أصبَحَت هناك دَولةٌ دينيَّةٌ شيعيَّةٌ آلت على نَفسِها تَصديرَ ثَورَتِها. وفي ذاتِ الوقتِ كانت أمَلٌ ذاتَ وِجهةٍ عَلمانيَّةٍ، فيجِبُ أن يتِمَّ تَجاوُزُها إذًا؛ كما بَرَزَت خِلافاتٌ عَلنيَّةٌ بَينَ نَبيه بَرِّي رَئيسِ حَرَكةِ أمَلٍ مُنذُ العامِ 1980م، ومُحَمَّد مَهدي شَمس الدِّينِ الذي كان نائبًا لرِئاسةِ المَجلِسِ الإسلاميِّ الشِّيعيِّ الأعلى في لُبنانَ؛ حَيثُ كان الصَّدرُ الغائِبُ لا يزالُ هو الرَّئيسَ، وسَبَبُ ذلك: عَدَمُ القَبولِ بتَصَرُّفاتِ بَرِّي ومَنهَجِه العَلمانيِّ.
وقد نَقَل راديو صَوتِ لُبنانَ الكتائِبيِّ أنَّ المَكتَبَ الخاصَّ لنائِبِ رَئيسِ المَجلسِ الشِّيعيِّ الأعلى أعلنَ أنَّه لم تَعُدْ للقيادةِ الحاليَّةِ لحَرَكةِ أمَلٍ أيُّ عَلاقةٍ مَعَ سَماحةِ الشَّيخِ مُحَمَّد مَهدي شَمسِ الدِّينِ [2696] يُنظر: ((مجلة المجتمع الكويتية)) (العدد: 958). .
وكان الخَطُّ الذي اتَّبَعته أمَلٌ مُنذُ بداياتِها مَعَ الصَّدرِ هو مَدَّ حِبالِ الصِّلةِ مَعَ الحُكومةِ اللُّبنانيَّةِ، وتَمَسُّكَها الظَّاهريَّ بشَرعيَّةِ الدَّولةِ، والسَّعيَ من خِلالِ هذا الطَّريقِ لاستِنقاذِ حُقوقِ الشِّيعةِ، وكان الاستِمرارُ على هذه الطَّريقةِ هو مِمَّا يتَعارَضُ والهَدَفَ الجَديدَ للحَرَكةِ الشِّيعيَّةِ في لُبنانَ.
وجاءَ الاجتياحُ الإسرائيليُّ لبَيروتَ، ودَعا الرَّئيسُ اللُّبنانيُّ وقتَها إلياس سركيس إلى اجتِماعِ هَيئةِ الإنقاذِ الوطَنيِّ، وكان نَبيه بَرِّي عُضوًا فيها، وحَضَر بَرِّي باعتِبارِ أنَّ هذه الهَيئةَ ستَتَحَوَّلُ إلى حُكومةٍ وطَنيَّةٍ، وهو أحَدُ أهدافِ برِّي وحَرَكتِه في أن يكونَ لهم تَواجُدٌ حُكوميٌّ قَويٌّ [2697] يُنظر حوار نبيه بري في ((مجلة الوسط)) (العدد: 274، 277). . وهنا أعلنَ أحَدُ أبناءِ الحَرَكةِ الخُمينيَّةِ انشِقاقَه عن أمَلٍ ورَفضَه لهذه المُشارَكةِ، وأعلنَ أمَل الإسلاميَّةَ، وكان هذا الرَّجُلُ هو: حُسَينٌ الموسَويُّ، نائِبُ رَئيسِ حَرَكةِ أمَلٍ، وبهذا الانشِقاقِ تَمَّ تَفريغٌ أمَلٍ من أعضائِها الخُمينيِّين الذين انضَمُّوا إلى أمَلٍ الإسلاميَّةِ، ثُمَّ تَحَوَّلت فيما بَعدُ إلى حِزبِ اللهِ.
وقد تَفجَّرَ الوضعُ بَينَ حَرَكةِ أمَلٍ وحِزبِ اللهِ فاقتَتَلوا قتالًا شرسًا في فترةٍ تُعرَفُ بحَربِ الإخوةِ أو حَربِ الشَّقيقَينِ من عامِ 1988م إلى 1990م.

انظر أيضا: