موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّالثُ: نَسخُ الآيةِ أو تَخصيصُها بَعدَ عَصرِ النُّبوَّةِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ


السُّنَّةُ عِندَ الإماميَّةِ تَشمَلُ أقوالَ أئِمَّتِهم، وهم مُجمِعونَ على الأخذِ بما ورَدَ مِن كلامِ الأئِمَّةِ المَعصومينَ عِندَهم [2159] يُنظر: ((أصول الفقه)) للمظفر (1/ 141). .
ولكِنَّ المُخَصِّصاتِ التي تَرِدُ عنِ الأئِمَّةِ المَعصومينَ لدَيهم هَل تُعتَبَرُ مِن باب النَّسخِ للعُموماتِ أم التَّخصيصِ لها؟
في هذا خِلافٌ بَينِ الإماميَّةِ؛ فمِنهم مَن ذَهَبَ إلى أنَّ المُخَصِّصاتِ ناسِخةٌ لحُكمِ العُموماتِ؛ لأنَّ العامَّ لمَّا وَرَدَ وصَل وقتُ العَمَلِ به بحَسبِ الغَرَضِ، فتَأخيرُ الخاصِّ عن وقتِ العَمَلِ لو كان مخصِّصًا ومبيِّنًا لعُمومِ العامِّ يكونُ مِن بابِ تَأخيرِ البَيانِ عن وقتِ الحاجةِ، وهو قَبيحٌ مِنَ الحَكيمِ؛ لأنَّ فيه إضاعةً للأحكامِ ولمَصالحِ العِبادِ بلا مُبَرِّر؛ فوجَبَ أن يكونَ ناسِخًا للعامِّ.
قال الكاظِميُّ الخُراسانيُّ: (إنَّ انقِطاعَ الوَحيِ لا يُلازِمُ عَدَمَ تَحَقُّقِ النَّسخِ بَعدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه يُمكِنُ أن يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أودَعَ الحُكمَ النَّاسِخَ إلى الوَصيِّ، وأودَعَه الوصيُّ إلى وصيٍّ آخَرَ، إلى أن يصِلَ زَمانُ ظُهورِه وتَبليغِه. وقد ورَدَت أخبارٌ عَديدةٌ في تَفويضِ دينِ اللهِ تعالى إلى الأئِمَّةِ، وعَقدَ في الكافي بابًا في ذلك، وبَعدَ هذا لا يُصغى إلى شُبهةِ عَدَمِ إمكانِ تَحَقُّقِ النَّسخِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [2160] ((فوائد الأصول)) (4/ 274). !
ومِنَ المَعلومُ أنَّ حَلالَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَلالٌ إلى يومِ القيامةِ، وحَرامَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَرامٌ إلى يومِ القيامةِ، وهم يروونَ هذا أيضًا عن أئِمَّتِهم، فكيف يتَحَقَّقُ النَّسخُ؟!
قال أبو القاسِمِ الخُوئيُّ: (الظَّاهرُ مِنَ الخَبَرِ عُرفًا بَيانُ استِمرارِ الشَّريعةِ المُقدَّسةِ، وأنَّها لا تُنسَخُ بشَريعةٍ أُخرى، فالمُرادُ مِنه أنَّ كُلَّ ما يكونُ إلى يومِ القيامةِ متَّصِفًا بالحِلِّيَّةِ أوِ الحُرمةِ فهو حَلالُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو حَرامُه، فأحكامُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستَمِرَّةٌ إلى يومِ القيامةِ، ولا تُنسَخُ بشَريعةٍ أُخرى) [2161] ((أجود التقريرات)) (ص: 512). .
ومِنَ الإماميَّةِ مَن جَعَل المُخَصِّصاتِ كاشِفةً عنِ اتِّصالِ كُلِّ عامٍ بمُخَصِّصِه، فهي ليست تخصيصًا طارئًا بَعدَ عَصرِ النُّبوَّةِ، وإنَّما اختَفت تلك المُخَصِّصاتُ المُتَّصِلةُ ووصَلت إليهمُ المُخَصِّصاتُ المُنفصِلةُ.
قال الطُّوسيُّ: (لكثرةِ الدَّواعي إلى ضَبطِ القَرائِنِ والمُخَصِّصاتِ المُتَّصِلةِ، واهتِمامِ الرُّواةِ إلى حِفظِها ونَقلِها، فمِنَ المُستَحيلِ عادةً أن تَكونَ مُخَصِّصاتٌ مُتَّصِلةً بَعدَ المُخَصِّصاتِ المُنفصِلةِ وقد خَفيت كُلُّها علينا، وأُجيبَ عن هذا بأنَّه لا وجهَ لهذه الاستِحالةِ؛ فإنَّا نَرى أنَّ كثيرًا مِنَ المُخَصِّصاتِ المُنفصِلةِ المَرويَّةِ مَن طُرُقِنا عنِ الأئِمَّةِ مَرويَّةٌ عنِ العامَّةِ -أي أهلِ السُّنَّةِ وهم جُمهورُ المُسلمينَ- بطُرُقِهم عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيكشِفُ ذلك عنِ اختِفاءِ المُخَصِّصاتِ المُتَّصِلةِ علينا) [2162] يُنظر: ((فوائد الأصول)) لكاظمي الخراساني (4/ 274). .
ومِنَ الإماميَّةِ مَن ذَهَبَ إلى التَّخصيصِ على أساسِ أنَّ هذه المُخَصِّصاتِ (هي المُخَصِّصاتُ حَقيقةً، ولا يضُرُّ تَأخُّرُها عن وقتِ العَمَلِ بالعامِّ؛ لأنَّ العُموماتِ المُتَقدِّمةَ لم يكُنْ مُفادُها الحُكمَ الواقِعيَّ، بَل الحُكمُ هو الذي تَكفَّل المُخَصِّصُ المُنفصِلُ ببَيانِه، وإنَّما تَأخَّرَ بَيانُه لمَصلحةٍ كانت هناك في التَّأخيرِ، وإنَّما تَقدَّم العُمومُ ليُعمَلَ به ظاهرًا إلى أن يرِدَ المُخَصِّصُ، فيكونَ مُفادُ العُمومِ حكمًا ظاهريًّا، ولا مَحذورَ في ذلك؛ فإنَّ المَحذورَ إنَّما هو تَأخُّرُ الخاصِّ عن وقتِ العَمَلِ بالعامِّ إذا كان مُفادُ العامِ حُكمًا واقعيًّا لا حُكمًا ظاهريًّا) [2163] ((فوائد الأصول)) لكاظمي الخراساني (4/ 274). .
وقال مُحَمَّد رِضا المُظَفَّر: (العامُّ يجوزُ أن يكونَ واردًا لبَيانِ حُكمٍ ظاهريٍّ صوريٍّ لمَصلحةٍ اقتَضَت كِتمانَ الحُكمِ الواقِعيِّ، ولو لمَصلحةِ التَّقيَّةِ، أو لمَصلحةِ التَّدَرُّجِ في بَيانِ الأحكامِ، كما هو مَعلومٌ مِن طَريقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيانِ أحكامِ الشَّريعةِ، مَعَ أنَّ الحُكمَ الواقِعيَّ التَّابعَ للمَصالحِ الواقِعيَّةِ الثَّابتةِ للأشياءِ بعناوينِها الأوَّليَّةِ إنَّما هو على طبقِ الخاصِّ. فإذا جاءَ الخاصُّ يكونُ كاشفًا عنِ الحُكمِ الواقِعيِّ، فيكونُ مبيِّنًا للعامِّ ومخصِّصًا له، وأمَّا الحُكمُ العامُّ الذي ثَبَتَ أوَّلًا، ظاهرًا وصورةً، إن كان قد ارتَفعَ وانتَهى أمرُه، فإنَّه إنَّما ارتَفعَ لارتِفاعِ مَوضوعِه، وليس هو مِن باب النَّسْخِ... وإذا جازَ أن يكونَ العامُّ واردًا على هذا النَّحوِ مِن بَيانِ الحُكمِ ظاهرًا وصورةً، فإن ثَبت ذلك كان الخاصُّ مخصِّصًا، أي: كان كاشفًا عنِ الواقِعِ قطعًا، وإن ثَبَتَ أنَّه في حُدودِ بَيانِ الحُكمِ الواقِعيِّ للمَصالحِ الواقِعيَّةِ الثَّابتةِ للأشياءِ بعناوينِها الأوَّليَّةِ، فلا شَكَّ في أنَّه يتَعَيَّنُ كونُ الخاصِّ ناسخًا له، وأمَّا لو دارَ الأمرُ بَينَهما؛ إذ لم يقُمْ دَليلٌ على تَعيينِ أحَدِهما، فأيُّهما أرجَحُ في الحَملِ؟ فنَقولُ: الأقرَبُ إلى الصَّوابِ هو الحَملُ على التَّخصيصِ) [2164] ((أصول الفقه)) (1/ 144). .
ومَعَ هذا التَّرجيحِ فقد رَأى غَيرُه أنَّ هذه الحالةَ لا يجوزُ حَملُها إلَّا على النَّسْخِ [2165] يُنظر: ((الحاشية على الكفاية)) لمحمد علي القمي (2/ 198)، ((فوائد الأصول)) لكاظمي الخراساني (4/ 273)، ((أجود التقريرات)) للخوئي (ص: 506، 512). .
وكِتمانُ الحُكمِ الواقِعيِّ تَقيَّةً، هذا أمرٌ غَيرُ مَعروفٍ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا يجوزُ لمُسلمٍ أن يعتَقِدَه؛ فلعَلَّهم أرادوا التَّقيَّةَ بالنِّسبةِ للأئِمَّةِ، بمَعنى أنَّ الإمامَ يكتُمُ هذا الحُكمَ؛ لأنَّه لو أظهَرَه خَشيَ على نَفسِه وعلى شيعَتِه، ومِن هنا تَكونُ التَّقيَّةُ، وهذا الرَّأيُ وإن كان غَيرَ مَقبولٍ أصلًا، إلَّا أنَّه يتَمَشَّى مَعَ عَقيدةِ الإماميَّةِ وطَريقَتِهم.
أمَّا التَّدَرُّجُ في بَيانِ الأحكامِ عِندَهم فقد أوضَحَه مُحَمَّد حُسَين آل كاشِفِ الغِطاءِ بقَولِه: (يعتَقِدُ الإماميَّةُ أنَّ للهِ بحَسَبِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ من كُلِّ واقِعةٍ حُكمًا حتَّى أَرشُ الخَدشِ، وما مِن عَمَلٍ مِن أعمالِ المُكلَّفينَ مِن حَرَكةٍ أو سُكونٍ إلَّا وللهِ فيه حُكمٌ مِنَ الأحكامِ الخَمسةِ: الوُجوبُ، والحُرمةُ، والنَّدبُ، والكراهةُ، والإباحةُ، وما مِن مُعامَلةٍ على مالٍ أو عَقدِ نِكاحٍ ونَحوِها إلَّا وللشَّرعِ فيه حُكمُ صِحَّةٍ أو فسادٍ، وقد أودَعَ اللهُ سُبحانَه جَميعَ تلك الأحكامِ عِندَ نَبيِّه خاتَمِ الأنبياءِ، وعَرَفها النَّبيُّ بالوَحيِ مِنَ اللهِ أوِ الإلهامِ، ثُمَّ إنَّه -سَلامُ اللهِ عليه- حَسَبَ وُقوعِ الحَوادِثِ أو حُدوثِ الوقائِعِ أو حُصولِ الابتِلاءِ، وتَجَدُّدِ الآثارِ والأطوارِ، بَيَّنَ كثيرًا مِنها للنَّاسِ، وبالأخَصِّ لأصحابِه الحافِّينَ به، الطَّائِفينَ كُلَّ يومٍ بعَرشِ حُضورِه؛ ليكونوا هم المُبَلِّغينَ لسائِرِ المُسلمينَ في الآفاقِ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] ، وبَقيت أحكامٌ كثيرةٌ لم تَحصُلِ الدَّواعي والبَواعِثُ لبَيانِها؛ إمَّا لعَدَمِ الابتِلاءِ بها في عَصرِ النُّبوَّةِ، أو لعَدَمِ اقتِضاءِ المُصلحةِ لنَشرِها... والحاصِلُ أنَّ حِكمةَ التَّدَرُّجِ اقتَضَت بَيانَ جُملةٍ مِنَ الأحكامِ، وكِتمانَ جُملةٍ، ولكِنَّه -سَلامُ اللهِ عليه- أودَعَها عِندَ أوصيائِه، كُلُّ وَصيٍّ يعهَدُ به إلى الآخَرِ لينشُرَه في الوقتِ المُناسِبِ له حَسَبَ الحِكمةِ مِن عامٍّ مُخَصَّصٍ، أو مُطلَقٍ مُقَيَّدٍ، أو مُجمَلٍ مُبَيَّنٍ، إلى أمثالِ ذلك، فقد يذكُرُ النَّبيُّ عامًّا ويذكُرُ مُخَصِّصَه بَعد بُرهةٍ مِن حَياتِه، وقد لا يذكُرُه أصلًا، بَل يودِعُه عِندَ وَصيِّه إلى وقتِه) [2166] ((أصل الشيعة وأصولها)) (ص: 145).  .

انظر أيضا: