موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: أسبابُ قَولِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بالتَّقيَّةِ


ذَهَبَ الإماميَّةُ إلى القَولِ بالتَّقيَّةِ لظُروفٍ أحاطت بهم، ورَأوا أنْ لا خَلاصَ لهم إلَّا بالاتِّكاءِ على دَعوى التَّقيَّةِ، ومن ذلك:
أوَّلًا: أنَّهم وقَفوا على أقوالٍ مُتَضارِبةٍ عن الأئِمَّةِ المَعصومينَ عِندَهم؛ فالرِّواياتُ عنهم تورِدُ اختِلافَهم في الشَّيءِ الواحِدِ، فتَتَناقَضُ فيه أقوالُهم دونَ أن يجِدوا مُبرِّرًا واضِحًا لذلك التَّناقُضِ؛ فخَرَجوا مِن ذلك بدَعوى أنَّ ذلك الكلامَ إنَّما صَدَرَ عن الأئِمَّةِ على سَبيلِ التَّقيَّةِ. وهذا التَّبريرُ يتَكرَّرُ عِندَهم كثيرًا، فأيُّ رِوايةٍ في كُتُبِهم عن أئِمَّتِهم لا تُعجِبُهم وتُخالفُ آراءَهم يحمِلونَها على التَّقيَّةِ، حتَّى قال يوسُفُ البَحرانيُّ: (فلم يُعلَمْ مِن أحكامِ الدِّينِ على اليقينِ إلَّا القَليلُ؛ لامتِزاجِ أخبارِه بأخبارِ التَّقيَّةِ) [1914] ((الحدائق)) (1/5). .
2- ما وجَدوه مِن كلامِ الأئِمَّةِ في مَدحِ الصَّحابةِ الذينَ تَبرَّأ منهم الشِّيعةُ، فزَعَموا أنَّ ذلك المَدحَ إنَّما كان تَقيَّةً.
والحَقيقةُ أنَّ ما رَواه الشِّيعةُ عن الأئِمَّةِ في لُجوئِهم إلى التَّقيَّةِ غَيرُ صَحيحٍ؛ فقد أورَدوا رِواياتٍ كثيرةً لأُناسٍ سَألوا بَعضَ الأئِمَّةِ المَعصومينَ -بحَسبِ زَعمِهم- عن مَسائِلَ، فأجابوا فيها بجَوابٍ، ثُمَّ سَألوهم بَعدَ مُدَّةٍ فأجابوا فيها بجَوابٍ آخَرَ دونَ أن يوجَدَ أيُّ داعٍ للتَّقيَّةِ لصُدورِ تلك الإجاباتِ المُختَلفةِ مِن إمامٍ واحِدٍ وعن مَسألةٍ واحِدةٍ، وبَين خاصَّةِ الإمامِ وشيعَتِه وأنصارِه، كما صَرَّحت بهذا مَصادِرُهم. وهذا اعتِرافٌ منهم بأنَّ الأئِمَّةَ لا يلجؤون إلى التَّقيَّةِ بسَبَبِ الخَوفِ، وإنَّما هو بسَبَبِ الجَهلِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا طَعنٌ شَنيعٌ في أولئِك الذينَ يدَّعونَ عِصمَتَهم، ومِن ذلك ما أورَدَه النُّوبختيُّ عن عُمَرَ بنِ رَباحٍ أنَّه سَأل أبا جَعفرٍ عن مَسألةٍ، فأجابَ فيها بجَوابٍ، ثُمَّ عادَ إليه في عامٍ آخَرَ فسَأله عن تلك المَسألةِ بعَينِها فأجابَ فيها بخِلافِ الجَوابِ الأوَّلِ، فقال لأبي جَعفَرٍ: هذا خِلافُ ما أجَبتَني في هذه المَسألةِ العامَ الماضيَ! فقال له: إنَّ جَوابَنا رُبَّما خَرَجَ على وَجهِ التَّقيَّةِ، فتَشَكَّك في أمرِه وإمامَتِه، فلقِيَ رجلًا مِن أصحابِ أبي جَعفرٍ يُقالُ له مُحَمَّدُ بنُ قَيسٍ، فقال له: إنِّي سَألتُ أبا جَعفرٍ عن مَسألةٍ فأجابَني فيها بجَوابٍ، ثُمَّ سَألتُه عنها في عامٍ آخَرَ فأجابَني فيها بخِلافِ جَوابِه الأوَّلِ، فقُلتُ له: لمَ فعَلتَ ذلك؟ فقال: فعَلتُه للتَّقيَّةِ، وقد عَلمَ اللهُ أنِّي ما سَألتُه عنها إلَّا وأنا صَحيحُ العَزمِ على التَّدَيُّنِ بما يُفتيني به وقَبولِه والعَمَلِ به! فلا وجهَ لاتِّقائِه إيَّاي وهذه حالي! فقال مُحَمَّدُ بنُ قَيسٍ: فلعلَّه حَضَرَك مَن اتَّقاه؟ فقال: ما حَضَرَ مَجلسَه في واحِدةٍ مِنَ المَسألتَينِ غَيري، لا، ولكِنَّ جَوابَيه جميعًا خَرَجا على وجهِ التَّبخيتِ، ولم يحفَظْ ما أجابَ به العامَ الماضيَ، فيُجيبَ بمِثلِه، فرَجَعَ عن إمامَتِه، وقال: لا يكونُ إمامًا مَن يُفتي بالباطِلِ على شَيءٍ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ ولا في حالٍ مِنَ الأحوالِ، ولا يكونُ إمامًا مَن يُفتي تَقيَّةً بغَيرِ ما يجِبُ عِندَ اللهِ) [1915] يُنظر: ((فرق الشيعة)) (ص: 80). .
وقد أجابَ سُليمانُ بنُ جَريرٍ الشِّيعيُّ عن تَخليطِ الشِّيعةِ في تَمَسُّكِهم بالتَّقيَّةِ ليجعَلوها مخرجًا لأكاذيبِهم على أئِمَّتِهم؛ حَيثُ قال: (إنَّ أئِمَّةَ الرَّافِضةِ وضَعوا لشيعَتِهم مَقالتَينِ لا يظهَرونَ مَعَها مِن أئِمَّتِهم على كذِبٍ أبدًا، وهما القَولُ بالبَداءِ، وإجازةُ التَّقيَّةِ.
فأمَّا البَداءُ فإنَّ أئِمَّتَهم لما أحَلُّوا أنفُسَهم مِن شيعَتِهم مَحَلَّ الأنبياءِ مِن رَعيَّتِها في العِلمِ فيما كان ويكونُ، والإخبارِ بما يكونُ في غَدٍ، وقالوا لشيعَتِهم: إنَّه سَيكونُ في غَدٍ وفي غابرِ الأيَّامِ كذا وكذا، فإن جاءَ ذلك الشَّيءُ على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نُعلِمْكم أنَّ هذا يكونُ؟! فنحن نَعلمُ مِن قِبَلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ما عَلِمَتْه الأنبياءُ، وبَينَنا وبَينَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِثلُ تلك الأسبابِ التي عَلِمَت بها الأنبياءُ عن اللهِ ما عَلِمَت، وإنْ لم يكُنْ ذلك الشَّيءُ الذي قالوا إنَّه يكونُ، على ما قالوا، قالوا لشيعَتِهم: بَدا للهِ في ذلك بكونِه!
وأمَّا التَّقيَّةُ فإنَّه لمَّا كثُرَت على أئِمَّتِهم مَسائِلُ شيعَتِهم في الحَلالِ والحَرامِ وغَيرِ ذلك مِن صُنوفِ أبوابِ الدِّينِ فأجابوا فيها، وحَفِظَ عنهم شيعَتُهم جَوابَ ما سَألوهم وكتَبوه ودَوَّنوه، ولم يَحفَظْ أئِمَّتُهم تلك الأجوِبةَ بتَقادُمِ العَهدِ وتَفاوُتِ الأوقاتِ؛ لأنَّ مَسائِلَهم لم تَرِدْ في يومٍ واحِدٍ، ولا شَهرٍ واحِدٍ، بل في سِنينَ مُتَباعِدةٍ، وأشهُرٍ مُتَبايِنةٍ، وأوقاتٍ مُتَفرِّقةٍ؛ فوقَعَ في أيديهم في المَسألةِ الواحِدةِ عِدَّةُ أجوِبةٍ مُختَلفةٍ مُتَضادَّةٍ، وفي مَسائِلَ مُختَلفةٍ أجوِبةٌ مُتَّفِقةٌ، فلمَّا وقَفوا على ذلك منهم رَدُّوا إليهم هذا الاختِلافَ والتَّخليطَ في جَواباتِهم وسَألوهم عنه، وأنكَروا عليهم، فقالوا: من أينَ هذا الاختِلافُ؟! وكيف جازَ ذلك؟! قالت لهم أئِمَّتُهم: إنَّما أجَبْنا بهذا للتَّقيَّةِ، ولنا أن نُجيبَ بما أحبَبْنا وكيف شِئْنا؛ لأنَّ ذلك إلينا، ونحن أعلمُ بما يُصلِحُكم، وما فيه بَقاؤُكم، وكفُّ عَدوِّكم عنَّا وعنكم، فمتى يُظهَرُ مِن هؤلاء على كَذِبٍ؟! ومتى يُعرَفُ لهم حَقٌّ مِن باطِلٍ؟!) [1916] يُنظر: ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص 85-87). .
وقد حاول مُحَمَّد صادِق آل بَحرِ العُلومِ المُعَلِّقُ على كِتابِ النُّوبختيِّ إيجادَ مُبَرِّراتٍ ورَدَّ هذا القَولِ، لكِنَّها واهيةٌ [1917] يُنظر: ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام)) لغالب عواجي (1/386- 390). .

انظر أيضا: