موسوعة الفرق

الفرْعُ الثَّاني: من المُصَنَّفاتِ الشِّيعيَّةِ في التَّاريخِ: تاريخُ المسعوديِّ (مروجُ الذَّهَبِ)


هذا نموذَجٌ آخَرُ للمُصَنَّفاتِ الشِّيعيَّةِ التي تزخَرُ بالمَرويَّاتِ الواهيةِ، وتَشَيُّعُ المسعوديِّ وانحرافُه في الكتابةِ التَّاريخيَّةِ -وبخاصَّةٍ تاريخُ الصَّحابةِ رضي اللَّهُ عنهم- غيرُ خافٍ على العُلَماءِ قديمًا وحديثًا [638] قال الذَّهبيُّ: (قيل: إنَّه من ذريةِ ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. عِدادُه في البَغداديِّين، وأقام بمصرَ مدَّةً. وكان أخباريًّا علَّامةً صاحِبَ غرائبَ، ومُلَحٍ، ونوادرَ... وكان معتزليًّا). ((تاريخ الإسلام)) (7/ 829). وقال آغا بزرك الطَّهرانيُّ: (عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليٍّ أبو الحسنِ المسعوديُّ الهُذَليُّ، من ولَدِ ابنِ مسعودٍ الصَّحابيِّ، البغداديُّ المصريُّ المتوفَّى بها في 346ه كما أرَّخه في الوفياتِ، هو المؤرِّخُ الكبيرُ صاحِبُ مُروجِ الذَّهَبِ وغيرِه، ومن تلاميذِه: أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إبراهيمَ النُّعمانيُّ تلميذُ الكُلينيِّ، يروي عنه في كتابِه ((الغَيبة))، وذَكَر أنَّه يروي عن محمَّدِ بنِ يحيى العطَّارِ الذي هو من مشايخِ الكُليني، ويروي المسعوديُّ أيضًا عن الحسَنِ بنِ محمَّدِ بنِ جُمهورٍ عن أبيه محمَّدِ بنِ جُمهورٍ الذي هو من أصحابِ الرِّضا). ((طبقات أعلام الشيعة)) (ص: 182). وقال محبُّ الدِّينِ الخطيبُ في تعليقِه على كتاب ((العواصم من القواصم)) لابن العربي (ص: 249): (عليُّ بنُ الحُسينِ المسعوديُّ يَعُدُّه الشِّيعةُ من شيوخِهم وكبارِهم، ويذكُرُ له المامقانيُّ في تنقيح المقال (2: 282 -283) مؤلَّفاتٍ في الوصايةِ وعِصمةِ الإمامِ وغيرِ ذلك؛ مما يكشِفُ عن عصبيَّتِه والتزامِه غيرَ سَبيلِ أهلِ السُّنَّةِ المحمَّديَّةِ، ومن طبيعةِ التَّشيُّعِ والتحزُّبِ والتعصُّبِ البعدُ بصاحبِه عن الاعتدالِ والإنصافِ). .
وقد جَعَل ابنُ العَرَبيِّ في كتابِه ((العواصِمُ من القواصِمِ)) عاصمةً مُهِمَّةً، وهي الاحترازُ من المفَسِّرين والمؤرِّخين وأهلِ الآدابِ المنسوبين إلى الجهالةِ بحُرُماتِ الدِّينِ، أو هم على البِدعةِ مُصِرِّين، ثمَّ قال: (ومن أشَدِّ شيءٍ على النَّاسِ جاهِلٌ عاقِلٌ، أو مبتَدِعٌ محتالٌ،... وأمَّا المبتدِعُ المحتالُ فالمسعوديُّ؛ فإنَّه يأتي منه متاخمةُ الإلحادِ فيما روى من ذلك، وأمَّا البِدعةُ فلا شَكَّ فيه) [639] ((العواصم من القواصم)) (ص: 248، 249). .
وقال ابنُ تَيميَّة: (وفي تاريخِ المسعوديِّ من الأكاذيبِ ما لا يحصيه إلَّا اللَّهُ تعالى) [640] ((منهاج السنة)) (2/163). .
وقال ابنُ حَجَرٍ عن المسعوديِّ: (كتُبُه طافحةٌ بأنَّه كان شيعيًّا مُعتَزِليًّا حتى إنَّه قال في حَقِّ ابنِ عُمَرَ: إنَّه امتنع من بيعةِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ ثمَّ بايع بعدَ ذلك يزيدَ بنَ معاويةَ والحَجَّاجَ لعبدِ المَلِكِ بنِ مروانَ، وله من ذلك أشياءُ كثيرةٌ!) [641] ((لسان الميزان)) (4/225). .
أمَّا ابنُ خَلدونَ فقد تردَّدت عباراتُه عن المسعوديِّ بَيْنَ القدحِ والمدحِ، والإعجابِ والذَّمِّ؛ ففي بدايةِ حديثِه في المقَدِّمةِ ذَكَر وهو يتحدَّثُ عن مشاهيرِ المؤرِّخين ما في كُتُبِ المسعوديِّ من المطاعنِ والمغامِزِ، فقال: (وإن كان في كُتُبِ المسعوديِّ والواقديِّ من الطَّعنِ والغَمزِ ما هو معروفٌ عِندَ الأثباتِ، ومشهورٌ بَيْنَ الحَفَظةِ الثِّقاتِ) [642] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 4). .
ثمَّ ذَكَر ابنُ خَلدونَ نماذِجَ من الوَهمِ والخطَأِ في تاريخِ المسعوديِّ [643] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 10، 12). .
وفي موطِنٍ آخَرَ يشيرُ ابنُ خَلدونٍ إلى نوعٍ من أنواعِ التَّأليفِ في التَّاريخِ، هو ذِكْرُ الأحوالِ العامَّةِ للآفاقِ والأخبارِ والأعصارِ، ومَثَّل ذلك بمروجِ الذَّهَبِ للمسعوديِّ، وذَكَر أنَّ المسعوديَّ بذلك صار إمامًا للمؤرِّخين يرجِعون إليه، وأصلًا يُعوِّلون في تحقيقِ الكثيرِ من أخبارِهم عليه [644] ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 32). .
والذي يظهَرُ أنَّ مَدْحَ ابنِ خَلدونَ للمسعوديِّ لعُمومِ منهجِه، وشمولِه في كتابِه لأحداثِ المَشرِقِ والمغرِبِ، والعَرَبِ والعَجَمِ، ووصفِه الجبالَ والبُلدانَ والبحارَ، والممالِكَ والدُّوَلَ، وهذا حقٌّ، لكِنْ فَرقٌ بَيْنَ هذا وبينَ تحقيقِ الرِّواياتِ، والبُعدِ عن السَّواقِطِ والمُنكَراتِ، وهو ما نحن بصدَدِه [645] يُنظر: ((منهج المسعودي في كتابه التاريخ)) للسويكت (ص: 442). .
وأكَّد بعضُ الباحثين المحْدَثين على المُيولِ الشِّيعيَّةِ القويَّةِ عِندَ المسعوديِّ، وعلى تعاطُفِه الشِّيعيِّ في ذِكْرِ التَّاريخِ الإسلاميِّ، وأثَرِ نزعتِه الشِّيعيَّةِ في أحكامِه على الرَّغمِ من محاولتِه الظُّهورَ بالمؤرِّخِ الحياديِّ المنصِفِ؛ فقد خدَم المسعوديُّ مَذهَبَه الشِّيعيَّ وبطريقةٍ تخفى على كثيرٍ من النَّاسِ، ولم يلتَزِمْ بالمنهجِ الإسلاميِّ القويمِ الذي يحفَظُ لصحابةِ رَسولِ اللَّهِ مكانتَهم في النُّفوسِ، فأثَّرت النَّزعةُ الشِّيعيَّةُ عِندَه في كتابتِه في تاريخِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدين والأمويِّين، ولم يستَطِعْ أن يكتُبَ تاريخًا مجرَّدًا من الهوى [646] يُنظر: ((منهج المسعودي في كتابه التاريخ)) للسويكت (ص: 74، 358، 397، 359، 368، 400، 444). .
أوجُهٌ من النَّقصِ والتَّقصيرِ في تاريخِ المسعوديِّ
1- اختَصَر الحديثَ في خلافةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه اختصارًا مُخِلًّا؛ حيث لم يتجاوَزْ حديثُه ثمانيَ صَفَحاتٍ، قال في نهايتِها مُعَلِّلًا ذلك: (وقد أعرَضْنا عن ذِكْرِ كثيرٍ من الأخبارِ في هذا الكتابِ للاختصارِ والإيجازِ) [647] يُنظر: ((مروج الذهب)) (2/310). .
2- تعدَّى المسعوديُّ وتجاوَز في حديثِه على كثيرٍ من الصَّحابةِ الذين كانت لهم مواقِفُ مع عليٍّ، ووصَفَهم بما لا يليقُ بمكانتِهم، كطلحةَ، والزُّبَيرِ، وعائشةَ، ومعاويةَ رضي اللَّهُ عن الجميعِ [648] يُنظر: ((منهج المسعودي في كتابة التاريخ)) للسويكت (ص: 260). .
3- يُلاحَظُ أنَّ المسعوديَّ في كتابِه لا يعتمِدُ غالبًا في سَوقِ الرِّواياتِ التَّاريخيَّةِ على الإسنادِ كما فعل ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، وإنَّما يكتفي بالنَّقلِ عن كُتُبِ التَّاريخِ قَبْلَه، أو بالنَّقلِ عن بعضِ الأخباريِّين في عصرِه من غيرِ أن يذكُرَ الإسنادَ ليُنظَرَ فيه.
نماذِجُ من كتابِ مُروجِ الذَّهَبِ
النموذَجُ الأوَّلُ
قال المسعوديُّ: (وقد بَلَغ يعني معاويةَ من أمرِهم في طاعتِهم له أنَّه صلَّى بهم عِندَ مسيرِهم إلى صِفِّينَ الجُمُعةَ في يومِ الأربعاءِ؟!...
ثمَّ ارتقى بهم الأمرُ في طاعتِه إلى أن جعلوا لعْنَ عليٍّ سُنَّةً ينشأُ عليها الصَّغيرُ ويَهلِكُ عليها الكبيرُ!
وذَكَر بعضُ الأخباريِّين أنَّه قيل لرجُلٍ من أهلِ الشَّامِ من زعمائِهم وأهلِ الرَّأيِ والعَقلِ منهم: من أبو ترابٍ هذا الذي يلعَنُه الإمامُ على المنبَرِ؟ قال: أراه لصًّا من لصوصِ الفِتَنِ) [649] ((مروج الذهب)) (3/41-43). .
النَّموذَجُ الثَّاني
ذَكَر المسعوديُّ بلا إسنادٍ متَّصِلٍ أنَّ معاويةَ وراءَ قَتلِ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ، وأنَّه دسَّ إلى زوجتِه جَعدةَ بنتِ الأشعَثِ بنِ قَيسٍ الكِنديِّ: (إنَّك إن احتَلْتِ في قتلِ الحَسَنِ وجَّهتُ إليك بمائةِ ألفِ دِرهَمٍ، وزوَّجْتُك من يزيدَ، فكان ذلك الذي بعَثَها على سَمِّه!) [650] ((مروج الذهب)) (3/5). .
وقال المسعوديُّ: (حدَّث مُحمَّدُ بنُ جريرٍ الطَّبريِّ، عن مُحمَّدِ بنِ حميدٍ الرَّازيِّ، عن عَليِّ بنِ مجاهدٍ [651] هو راوٍ متروكٌ، وكذَّبه بعضُ أهلِ الحديثِ. يُنظر ترجمته في: ((ميزان الاعتدال)) للذهبي (3/ 152). والعجيبُ أنَّ هذه الرِّوايةَ لم يذكُرْها ابنُ جريرٍ في كتابِه التاريخ، فإمَّا أنَّها كانت عندَه فأعرض عنها لعَدَمِ صحَّتِها أو أنَّها كَذِبٌ على ابنِ جريرٍ، وهو لم يَرْوِها، ولعَلَّ هذا هو الأقرَبُ؛ فإنَّ المسعوديَّ نقلها من بعضِ الكُتُبِ من غيرِ سماعٍ، ثمَّ قال بعد روايتِها: وفي نسخةٍ، فذكر قصَّةَ التَّكبيرِ بما لا يُرضي الرَّافضةَ، وأنَّ تكبيرَه بسببِ قَبولِ الحسنِ بنِ عليٍّ الصُّلحَ مع معاويةَ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين. ، عن مُحمَّدِ بنِ إسحاقَ، عن الفَضلِ بنِ عَبَّاسِ بنِ ربيعةَ، قال: وفَد عبدُ اللَّهِ بنُ العبَّاسِ على معاويةَ، قال: فواللَّهِ إنِّي لفي المسجِدِ إذ كبَّر معاويةُ في الخضراءِ، فكَبَّر أهلُ الخضراءِ، ثمَّ كبَّر أهلُ المسجدِ بتكبيرِ أهلِ الخضراءِ، فخرجَت فاختةُ بنتُ قَرظةَ بنِ عَمرِو بنِ نَوفَلِ بنِ عبدِ منافٍ من خَوخةٍ لها، فقالت: سَرَّك اللَّهُ يا أميرَ المُؤمِنين، ما هذا الذي بلغك فسُرِرْتَ به؟ قال: موتُ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ! فقالت: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون، ثمَّ بكت وقالت: مات سيِّدُ المُسلِمين وابنُ بنتِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال معاويةُ: نِعِمَّا واللَّهِ ما فعَلْتِ، إنَّه كان كذلك أهلًا أن تبكي عليه، ثمَّ بلغ الخبرُ ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، فراح فدخل على معاويةَ، قال: عَلِمتَ يا ابنَ عبَّاسٍ أنَّ الحَسَن توفِّيَ، قال: ألذلك كبَّرْتَ؟ قال: نعم، قال: أمَا واللَّهِ ما موتُه بالذي يؤخِّرُ أجلَك، ولا حُفرتُه بسادَّةٍ حُفْرتَك، ولئِنْ أُصِبْنا به فقد أُصِبْنا قبله بسَيِّد المُرسَلين وإمامِ المتَّقين ورسولِ رَبِّ العالَمين، ثمَّ بعدَه بسَيِّدِ الأوصياءِ، فجَبَرَ اللَّهُ تلك المصيبةَ، ورفع تلك العَثرةَ، فقال: ويحك يا ابنَ عبَّاسٍ! ما كَلَّمتُك قطُّ إلَّا وجَدْتُك مُعِدًّا). قال المسعوديُّ: (وفي نسخةٍ: أنَّه لمَّا صالح الحَسَنُ معاويةَ كَبَّر معاويةُ في الخضراءِ، فكَبَّر أهلُ الخضراءِ، ثمَّ كبَّر أهلُ المسجدِ بتكبيرِ أهلِ الخضراءِ، فخرجَت فاختةُ بنتُ قَرظةَ من خَوخةٍ لها، فقالت: سَرَّك اللَّهُ يا أميرَ المُؤمِنين، ما هذا الذي بلغك؟ قال: أتاني البشيرُ بصُلحِ الحَسَنِ وانقيادِه، فذَكَرتُ قولَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ ابني هذا سَيِّدُ أهلِ الجنَّةِ، وسيُصلِحُ اللَّهُ به بَيْنَ فئتينِ عظيمتينِ من المُؤمِنين)) [652] أخرجه البخاري (2704) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي بَكرةَ نُفيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فالحمدُ لله الذي جعَل فِئتي إحدى الفئتينِ) [653] ((مروج الذهب)) (3/8). .
فالرِّوايةُ الأولى تخالِفُ الرِّوايةَ الثَّانيةَ، ولعَلَّ الأولى كَذِبٌ؛ فتأثُّرُها بالتَّشيُّعِ واضحٌ، لا سيَّما وفيها وَصفُ ابنِ عبَّاسٍ لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ بأنَّه سَيِّدُ الأوصياءِ، وعقيدةُ الوصيَّةِ المزعومةِ عقيدةُ غُلاةِ الرَّافِضةِ، وحاشا أحدًا من الصَّحابةِ أن يعتَقِدَها!




انظر أيضا: