موسوعة الفرق

المطلَبُ الخامسُ: التَّعارُضُ والتَّرجيحُ بَيْنَ الأخبارِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ


روى الكُلينيُّ عن عُمَرَ بنِ حنظَلةَ قال: (سألتُ أبا عبدِ اللَّهِ جَعفَرًا الصَّادِقَ عن رجلينِ من أصحابِنا بَيْنَهما منازعةٌ في دينٍ أو ميراثٍ، فتحاكما إلى السُّلطانِ، وإلى القضاةِ، أيحِلُّ ذلك؟ قال: من تحاكَمَ إليهم في حقٍّ أو باطلٍ فإنما تحاكَمَ إلى الطَّاغوتِ، وما يحكُمُ له فإنما يأخُذُ سحتًا، وإن كان حقًّا ثابتًا له؛ لأنَّه أخذه بحكمِ الطَّاغوتِ، وقد أمَر اللَّهُ أن يُكفَرَ به؛ قال تعالى: يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ [النساء:60] ، قُلتُ: فكيف يصنعانِ؟ قال: ينظرانِ إلى ما كان منكم ممَّن قد روى حديثَنا، ونظَر في حلالِنا وحرامِنا، وعَرَف أحكامَنا، فليَرْضَوا به حَكمًا، فإنِّي قد جعَلتُه عليكم حاكمًا، فإذا حكَم بحُكمِنا فلم يقبَلْه منه فإنما استخفَّ بحكمِ اللَّهِ، وعلينا ردَّ، والرَّادُّ علينا رادٌّ على اللَّهِ، وهو على حدِّ الشِّركِ باللَّهِ. قُلتُ: فإن كان كُلُّ رجلٍ اختار رجلًا من أصحابنِا، فرَضيا أن يكونَ النَّاظرين في حقِّهما، واختلفا فيما حَكما، وكلاهما اختلفا في حديثِكم؟ قال: الحكمُ ما حَكَم به أعدَلُهما وأفقَهُهما، وأصدَقُهما في الحديثِ، وأورَعُهما، ولا يُلتَفَتُ إلى ما يحكُمُ به الآخَرُ. قُلتُ: فإنَّهما عدلانِ مرضيَّانِ عِندَ أصحابِنا، لا يُفضَّلُ واحدٌ منهما على الآخَرِ؟ قال: يُنظَرُ إلى ما كان من روايتِهم عنَّا في ذلك الذي حكما به المجمَعِ عليه من أصحابِك، فيُأخَذُ به مِن حُكمِنا، ويُترَكُ الشَّاذُّ الذي ليس بمشهورٍ عِندَ أصحابِك. قُلتُ: فإن كان الخبرانِ عنكما [579] يقصِدُ الباقِرَ والصَّادِقَ. مشهورينِ قد رواهما الثِّقاتُ عنكم؟ قال: يُنظَرُ فما وافَق حُكمُه حُكمَ الكتابِ والسُّنَّةِ، وخالف العامَّةَ [580] يقصِدُ بالعامَّةِ جمهورَ عُلَماءِ المسلمينَ غيرَ الشِّيعةِ الاثني عشريَّةِ. ، فيؤخَذُ به، ويُترَكُ ما خالَف حُكمُه حُكمَ الكتابِ والسُّنَّةِ ووافَق العامَّةَ.
قُلتُ: جُعِلتُ فداك، أرأيتَ إن كان الفقيهانِ عَرَفا حُكمَه من الكتابِ والسُّنَّةِ، ووجَدْنا أحَدَ الخبرينِ موافقًا للعامَّةِ، والآخَرَ مخالِفًا لهم، بأيِّ الخبرينِ يؤخَذُ؟! قال: ما خالَف العامَّةَ ففيه الرَّشادُ. فقُلتُ: جُعِلتُ فداك، فإن وافقهما الخبرانِ جميعًا؟ قال: يُنظَرُ إلى ما هم إليه أميَلُ حُكامُّهم وقُضاتُهم، فيُترَكُ، ويؤخَذُ بالآخَرِ. قُلتُ: فإن وافَق حكامهم الخبران جميعًا؟ قال: إذا كان ذلك فأرْجِهْ حتى تلقى إمامَك؛ فإنَّ الوقوفَ عِندَ الشُّبُهاتِ خيرٌ من الاقتحامِ في الهَلَكاتِ)  [581] ((الكافي)) (1/ 67 - 68). .
هذه الرِّوايةُ يُسَمِّيها الجَعفَريَّةُ الرَّافِضةُ مقبولةَ ابنِ حنظلةَ، وفي بابِ التَّرجيحِ عِندَهم هي كما قال المظَفَّرُ: (العُمدةُ في البابِ، المقبولةُ التي قَبِلها العُلَماءُ بأنَّ راويَها صفوانُ بنُ يحيى الذي هو من أصحابِ الإجماعِ، أي الذين أجمع العصابةُ على تصحيحِ ما يصحُّ عنهم كما رواها المشايخُ الثَّلاثةُ في كُتُبِهم)  [582] ((أصول الفقه)) (3/ 217). ويعني بالمشايخِ الثَّلاثةِ أصحابَ كُتُبِ الحديثِ عندَهم، وهم: الكُلينيُّ، والصَّدوقُ، والطُّوسيُّ. .
وقال المظَفَّرُ أيضًا: (من الواضِحِ أنَّ مَورِدَها التَّعارضُ بَيْنَ الحاكِمين لا بَيْنَ الرَّاويَينِ، ولكِنْ لَمَّا كان الحُكمُ والفتوى في الصَّدرِ الأوَّلِ يقعانِ بنَصِّ الأحاديثِ، لا أنَّهما يقعانِ بتعبيرٍ من المحاكِمِ أو المفتي، كالعصورِ المتأخِّرةِ استنباطًا من الأحاديثِ، تعَرَّضَت هذه المقبولةُ للرِّوايةِ والرَّاوي؛ لارتباطِ الرِّوايةِ بالحُكمِ، ومِن هنا استُدِلَّ بها على التَّرجيحِ للرِّوايةِ المتعارِضةِ)   [583] ((أصول الفقه)) (3/ 219). .
وقال المظَفَّرُ أيضًا: (النَّتيجةُ أنَّ المستفادَ من الأخبارِ أنَّ المرجِّحاتِ المنصوصةَ ثلاثةٌ: الشُّهرةُ، وموافَقةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، ومُخالَفةُ العامَّةِ)   [584] ((أصول الفقه)) (3/223). .
وهذه التي يُسَمُّونها المقبولةَ مرفوضةٌ شَرعًا لِما يأتي:
1- أنَّها اعتبرَت كُلَّ حاكمٍ أو قاضٍ غيرِ جَعفَريٍّ اثنَيْ عَشريٍّ طاغوتًا أُمِرْنا أن نكفُرَ به بنصِّ القرآنِ الكريمِ.
2- أنَّها اعتَبَرت أخْذَ الحَقِّ الثَّابتِ سُحتًا إذا أخَذه صاحِبُ الحَقِّ عن طريقِ الحُكَّامِ والقضاةِ الذين ليسوا من الشِّيعةِ الاثْنَي عَشْريَّةِ.
3- أنَّها جعَلَت حُكمَ الحَكَمِ الجَعفَريِّ الرَّافِضيِّ كحُكمِ اللَّهِ تعالى، ومن لم يقبَلْه فكأنَّما أشرك باللَّهِ سُبحانَه.
4- أنَّها تدعو إلى مُخالَفةِ جُمهورِ المُسلِمين حتَّى عِندَ ظُهورِ موافقتِهم للكِتابِ والسُّنَّةِ.
5- الإمامُ الصَّادِقُ أعمَقُ إيمانًا، وأرفَعُ شأنًا من أن يَصدُرَ منه هذه الجِهالةُ، وإنَّما تصدُرُ هذه الرِّوايةُ عن شيعيٍّ غالٍ، يفتري على الأئِمَّةِ الكَذِبَ، ويريدُ لأمَّةِ الإسلامِ أن تتفَرَّقَ ولا تتَّحِدَ.
6- أنَّها تجعَلُ المشهورَ عِندَ الشِّيعةِ مُقَدَّمًا على غيرِه، حتى قدَّموه على ما وافَق الكتابَ والسُّنَّةَ؛ فالخبرُ المشهورُ الجَعفَريُّ المخالِفُ للكتابِ والسُّنَّةِ مُقَدَّمٌ على غيرِه الموافِقِ للكِتابِ والسُّنَّةِ.
7- أنَّها تجعَلُ من المرجِّحاتِ مُخالَفةَ عامَّةِ المُسلِمين، فما خالف الأمَّةَ الإسلاميَّةَ أولى بالقَبولِ عِندَهم ممَّا وافقهم، وما كان من رواياتِهم موافقًا لعامَّةِ المُسلِمين يجعَلونه من بابِ التَّقيَّةِ، ولا يَعمَلون به لمجرَّدِ أنَّه موافِقٌ لِما عليه عُلَماءُ المُسلِمين من غيرِهم.
والمثالُ الآتي يُبَيِّنُ كيف تمكَّن واضعو هذا المبدأِ من توجيهِ المَذهَبِ الجَعفَريِّ وجهةً بعيدةً عن أمَّةِ الإسلامِ في كثيرٍ من الأحكامِ: فقد روى الكُلينيُّ عن زُرارةَ بنِ أعيَنَ قال: (سألتُ أبا جعفرٍ الباقِرَ عن مسألةٍ فأجابني، ثمَّ جاءه رجلٌ فسأله عنها، فأجابه بخلافِ ما أجابني، ثمَّ جاء رجلٌ آخَرُ فأجابه بخلافِ ما أجابَني وأجاب صاحبي، فلمَّا خرج الرَّجلانِ قُلتُ: يا ابنَ رَسولِ اللَّهِ! رجُلانِ من أهلِ العِراقِ من شيعتِكم قدِما يسألانِ فأجبتَ كُلَّ واحدٍ منهما بغيرِ ما أجبتَ به صاحِبَه! فقال: يا زُرارةُ، إنَّ هذا خيرٌ لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمَعْتُم على أمرٍ واحدٍ لصَدَّقكم النَّاسُ علينا، ولكان أقَلَّ لبقائِنا وبقائِكم) [585] ((أصول الكافي)) (1/65). .

انظر أيضا: