موسوعة الفرق

المطلَبُ الأوَّلُ: بدايةُ وَضعِ الأخبارِ المكذوبةِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ


الفِرَقُ التي ظَهَرت في تاريخِ الإسلامِ، ولها عقائدُ خاصَّةٌ بها، لم تظهَرْ كُتُبُها إلَّا بعدَ استقرارِ أصولِ عقائِدِها، فوَضَع مُصَنِّفوها الكُتُبَ لتأييدِ هذه العقائِدِ، والدَّعوةِ إليها، والبِدَعُ تبدأُ صغيرةً، ثمَّ تتعمَّقُ في الضَّلالِ، وتزدادُ بُعدًا عن الحَقِّ.
وهناك مرحلةٌ بعدَ استقرارِ أصولِ العقائدِ، وقبل وَضعِ الكُتُبِ، وهي روايةُ الأخبارِ وتناقُلُها، والاحتجاجُ بها قبلَ تدوينِها، والذين اعتَنَوا حقيقةً بروايةِ الأخبارِ وكتابتِها بأسانيدِها المتعدِّدةِ، هم أهلُ الحديثِ الذين كتَبوا رواياتِ التَّفسيرِ والحديثِ وأقوالَ الصَّحابةِ والتَّابعين في الفِقهِ والزُّهدِ والرَّقائِقِ، ورواياتِ السِّيرةِ النَّبَويَّةِ والتَّاريخِ، وكتبوا أيضًا الأنسابَ وأسماءَ الرِّجالِ والوفيَاتِ والشِّعرَ، وذلك بخلافِ فِرَقِ الشِّيعةِ التي لم تكُنْ لها عنايةٌ بكتابةِ الأخبارِ بأسانيدِها المتعَدِّدةِ. وكان يحدُثُ بَيْنَهم بعدَ موتِ كُلِّ إمامٍ من أئِمَّتِهم تفرُّقٌ جديدٌ، وكُلُّ فِرقةٍ تحتجُّ بأخبارٍ كاذبةٍ تؤيِّدُ بها ما ذهبَت إليه من القَولِ بإمامةِ أحَدِ الأئِمَّةِ؛ فمثلًا لمَّا توفِّيَ جَعفَرٌ الصَّادِقُ في المدينةِ في سنةِ 148ه، افتَرَقت الشِّيعةُ بعدَه إلى عِدَّةِ فِرَقٍ.
ففِرقةٌ منهم قالت: إنَّ جَعفَرَ بنَ مُحمَّدٍ حيٌّ لم يمُتْ، ولا يموتُ حتى يَظهَرَ، ويليَ أمرَ النَّاسِ، وهو القائِمُ المَهديُّ، وزعَموا أنَّهم روَوا عنه أنَّه قال: "إن رأيتُم رأسي قد أهوى عليكم من جَبَلٍ فلا تُصَدِّقوا؛ فإنَّني أنا صاحِبُكم". ورَوَوا عنه أنَّه قال لهم: "إن جاءكم من يخبِرُكم عني أنَّه مَرَّضَني وغَسَّلني وكَفَّنَني ودفَنَني، فلا تُصَدِّقوه؛ فإنِّي صاحِبُكم، صاحِبُ السَّيفِ"، وهذه الفِرقةُ تُسَمَّى النَّاووسيَّةَ؛ نسبةً لرئيسٍ لهم من أهلِ البصرةِ يُقالُ له النَّاووسُ.
وفِرقةٌ زعَمَت أنَّ الإمامَ بعدَ جَعفَرٍ ابنُه إسماعيلُ، والذي مات في حياةِ أبيه، فأنكَرت هذه الفِرقةُ موتَه، وقالوا: كان ذلك على جهةِ التَّلبيسِ من أبيه على النَّاسِ؛ لأنَّه خاف عليه فغيَّبه، وزعموا: أنَّ إسماعيلَ حيٌّ إلى الآنَ، وأنَّه لا يموتُ حتَّى يملِكَ الأرضَ، ويقومَ بأمورِ النَّاسِ، وأنَّه هو القائمُ، ورَوَوا عن جَعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّه أشار إليه بالإمامةِ بعدَه، وأخبرهم أنَّه صاحِبُهم، والإمامُ لا يقولُ إلَّا الحَقَّ، فلمَّا أظهر موتَه عَلِمْنا أنَّه قد صَدَق، وأنَّ إسماعيلَ لم يمُتْ، وهذه الفِرقةُ هي الإسماعيليَّةُ.
وفِرقةٌ زعَمَت أنَّ الإمامَ بعدَ جَعفَرٍ هو حفيدُه: مُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، وقالوا: إنَّ الأمرَ كان لإسماعيلَ في حياةِ أبيه، فلمَّا تُوُفِّيَ قبلَ أبيه جعَل جَعفَرُ بنُ مُحمَّدٍ الأمرَ لحفيدِه مُحمَّدٍ، وكان الحَقُّ له، ولا يجوزُ غيرُ ذلك؛ لأنَّ الإمامةَ لا تنتَقِلُ من أخٍ إلى أخٍ بعدَ الحَسَنِ والحُسَينِ، ولا تكونُ إلَّا في الأعقابِ، ولم يكُنْ لإخوةِ إسماعيلَ في الإمامةِ حَقٌّ، كما لم يكُنْ لمُحمَّدِ بنِ الحنَفيَّةِ فيها حقٌّ مع عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وهذه الفِرقةُ يُسَمَّون المباركيَّةَ؛ نسبةً إلى رئيسٍ لهم يُسمَّى المبارَكَ، كان مولًى لإسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ.
وفِرقةٌ منهم يُقالُ لهم: الخطَّابيَّةُ، أصحابُ أبي الخطَّابِ مُحمَّدِ بنِ أبي زينبَ الأسديِّ الأجدَعِ، وهم الذين خرجوا على الخليفةِ العبَّاسيِّ أبي جَعفَرٍ المنصورِ في حياةِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ، فحاربوا أميرَ الكوفةِ عيسى بنَ موسى بنِ مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ العبَّاسِ، وكانوا سبعين رجلًا حتى قُتِلوا جميعًا، ثمَّ أمَر بصَلبِهم وحَرقِهم، فاعتَرَف بعضُ الشِّيعةِ بأنَّهم قُتِلوا، وقال بعضُ الشِّيعةِ: إنَّ أبا الخطَّابِ لم يُقتَلْ، ولا قُتِل أحدٌ من أصحابِه، وإنَّما لُبِّس على القومِ وشُبِّه عليهم، وإنَّما حاربوا بأمرِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ، وخرَجوا متفَرِّقين من أبوابِ المسجِدِ ولم يرَهم أحدٌ، ولم يُجرَحْ منهم أحدٌ، وأنَّه أقبل جيشُ العبَّاسيِّين يقتُلُ بعضُهم بعضًا، وهم يظنُّون أنَّهم يَقتُلون أصحابَ أبي الخَطَّابِ، وإنَّما يَقتُلون أنفُسَهم، حتَّى جَنَّ عليهم اللَّيلُ، فلمَّا أصبحوا نظروا في القتلى فوجَدوهم كُلَّهم منهم، ولم يجِدوا من أصحابِ أبي الخطَّابِ قتيلًا ولا جريحًا، وقالت هذه الفِرقةُ: إنَّ أبا الخطَّابِ كان نبيًّا مُرسَلًا، أرسَله جَعفَرُ بنُ مُحمَّدٍ، وقالت فِرقةٌ منهم: إنَّ رُوحَ جَعفَرٍ الصَّادِقِ تحوَّلت إلى أبي الخطَّابِ، ثمَّ تحوَّلت بعدَ غَيبةِ أبي الخطَّابِ في مُحمَّدِ بنِ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ.
وتشَعَّبت منهم فِرقةٌ تُسَمَّى القرامِطةَ، قيل: إنَّها سُمِّيَت باسمِ رئيسٍ لهم من الأنباطِ كان يُلَقَّبُ بقَرمطويهِ، قالوا: لا يكونُ بعدَ النَّبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا سبعةُ أئِمَّةٍ، هم: عَليُّ بنُ أبي طالبٍ وهو إمامٌ رسولٌ، والحَسَنُ والحُسَينُ، وعَليُّ بنُ الحُسَين، ومُحمَّدُ بنِ عَليٍّ، وجَعفَرُ بنُ مُحمَّدٍ، ومُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، وهو الإمامُ القائِمُ المَهديُّ، وهو رسولٌ، وزعموا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم انقطعت عنه الرِّسالةُ في حياتِه في اليومِ الذي أمَرَ فيه بنَصبِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه للنَّاسِ بغديرِ خُمٍّ، فصارت الرِّسالةُ في ذلك اليومِ إلى أميرِ المُؤمِنين، واعتلُّوا في ذلك بخبَرٍ تأوَّلوه، وهو قولُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن كُنتُ مولاه فعليٌّ مولاه)) [442] أخرجه أحمد (22945)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8145)، والحاكم (4578) من حديثِ بريدة الأسلمي رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الحاكمُ وقال: على شرط مسلمٍ، والألباني في ((صحيح الجامع)) (6523)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (157)، وصحَّح إسنادَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/211)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (22945). ، وأنَّ هذا القولَ منه خروجٌ من الرِّسالةِ والنُّبوَّةِ، وتسليمٌ منه ذلك لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ بأمرِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ ذلك صار مأمومًا لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ، محجوجًا به! فلمَّا مات عَليٌّ رَضيَ اللَّهُ عنه صارت الإمامةُ في ابنِه الحَسَنِ، ثمَّ انتقَلَت إلى الحُسَينِ، ثمَّ صارت في عَليِّ بنِ الحُسَينِ، ثمَّ في ابنِه الباقِرِ مُحمَّدِ بنِ عَليٍّ، ثمَّ كانت في جَعفَرِ بنِ مُحمَّدٍ، ثمَّ انقطَعت عن جَعفَرٍ في حياتِه، فصارت في إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، كما انقطعت الرِّسالةُ عن مُحمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم في حياتِه، ثمَّ إنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ بدا له في إمامةِ جَعفَرٍ وإسماعيلَ، فصَيَّرَها في مُحمَّدِ بنِ إسماعيلَ، واعتلُّوا في ذلك بخبَرٍ روَوه عن جَعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: "ما رأيتُ مِثلَ بَداءِ اللَّهِ في إسماعيلَ"، وزعموا أنَّ مُحمَّدَ بنَ إسماعيلَ حيٌّ لم يمُتْ، وأنَّه غائبٌ مُستترٌ في بلادِ الرُّومِ، وأنَّه القائمُ المَهديُّ، ومعنى القائِمِ عِندَهم أنَّه يُبعَثُ بالرِّسالةِ، وبشريعةٍ جديدةٍ يَنسَخُ بها شريعةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! وأنَّ مُحمَّدَ بنَ إسماعيلَ مِن أولي العَزمِ، وأولو العزمِ عِندَهم سبعةٌ: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ومُحمَّدٌ صلَّى اللَّهُ عليهم وسلم، وعَليٌّ رَضيَ اللَّهُ عنه، ومُحمَّدُ بنُ إسماعيلَ!
وقالت فِرقةٌ من أصحابِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ: إنَّ الإمامَ بعدَ جَعفَرٍ ابنُه مُحمَّدٌ، وأمُّه أمُّ ولدٍ يُقالُ لها: حميدةُ، وتأوَّلوا في إمامتِه خبَرًا، فزعَموا أنَّ مُحمَّدَ بنَ جَعفَرٍ دخل ذاتَ يومٍ على أبيه وهو صبيٌّ صغيرٌ، فدعاه أبوه، فعدا إليه فكبا في قميصِه، ووقع، فقام إليه جَعفَرٌ وقَبَّله، ومسح التُّرابَ عن وجهِه، ووضعه على صدرِه، وقال: سمِعتُ أبي يقولُ: "إذا وُلِد لك ولدٌ يُشبِهُني، فسَمِّه باسمي، فهو شبيهي، وشبيهُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى سُنَّتِه"، فجعل هؤلاء الإمامةَ في مُحمَّدِ بنِ جَعفَرٍ، وفي ولَدِه من بعدِه، وهذه الفِرقةُ تُسَمَّى السُّمَيطيَّةَ أو الشُّمَيطيَّةَ، تُنسَبُ إلى رئيسٍ لهم يُقالُ له: يحيى بنُ أبي السُّمَيطِ أو يحيى بنُ أبي الشُّمَيطِ.
وفِرقةٌ منهم قالت: الإمامةُ بعد جَعفَرٍ في ابنِه عبدِ اللَّهِ، وذلك أنَّه كان عِندَ موتِ جَعفَرٍ أكبَرَ وَلَدِه سِنًّا، وجلس مجلِسَ أبيه بعدَه، واعتلُّوا بحديثٍ يروونه عن أبيه وعن جدِّه أنَّهما قالا: "الإمامةُ في الأكبرِ من ولَدِ الإمامِ"، وهذه الفِرقةُ القائلةُ بإمامةِ عبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ هي الفطحيَّةُ، سُمُّوا بذلك؛ لأنَّ عبدَ اللَّهِ كان أفطَحَ الرَّأسِ، وقال بعضُهم: كان أفطَحَ الرِّجلينِ، وقيل: نُسُبوا إلى رئيسٍ لهم من أهلِ الكوفةِ يُقالُ له: عبدُ اللَّهِ بنُ فطيحٍ. فلمَّا مات عبدُ اللَّهِ ولم يخَلِّفْ ذَكَرًا، ارتاب القومُ واضطربوا، وأنكروا الرِّواياتِ الكثيرةَ عن عَليِّ بنِ الحُسَينِ، ومُحمَّدِ بنِ عَليٍّ، وجَعفَرِ بنِ مُحمَّدٍ، من أنَّ الإمامةَ لا تكونُ في أخوَينِ بعدَ الحَسَنينِ، ولا تكونُ إلَّا في الأعقابِ وأعقابِ الأعقابِ إلى انقضاءِ الدُّنيا، فرجع عامَّةُ الفطحيَّةِ عن القولِ بإمامتِه -سوى قليلٍ منهم- إلى القولِ بإمامةِ موسى بنِ جَعفَرٍ، وادَّعوا أنَّه توجَدُ رواياتٌ عن جَعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: "إنَّ الإمامةَ بعدي في ابني موسى"، وأنَّه دلَّ عليه، وأشار إليه، وأعلَمَهم في عبدِ اللَّهِ أمورًا لا يجوزُ معها أن يكونَ هو الإمامَ، وروى بعضُهم أنَّ جَعفَرًا قال لموسى: "يا بُنَيَّ إنَّ أخاك سيجلِسُ مجلِسي، ويدَّعي الإمامةَ بعدي، فلا تنازِعْه، ولا تتكلَمَنَّ؛ فإنَّه أوَّلُ أهلي الذين لحِقوا بي".
فلمَّا توفِّيَ عبدُ اللَّهِ بنُ جَعفَرٍ بعدَ أبيه بسبعينَ يومًا أو نحوِها رجعَت شيعتُه عن القولِ بإمامتِه، وثبتت طائفةٌ على القولِ بإمامتِه، ثمَّ بإمامةِ موسى بنِ جَعفَرٍ مِن بعدِه.
وقالت فِرقةٌ منهم: إنَّ الإمامَ هو موسى بنُ جَعفَرٍ بعد أبيه، وأنكروا إمامةَ عبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ، وخطَّؤوه في جلوسِه مجلِسَ أبيه بعدَ موتِه، وادِّعائِه الإمامةَ.
 وكذلك تفَرَّق الشِّيعةُ بعدَ الإمامِ الحادِيَ عَشَرَ الحَسَنِ العَسكريِّ بنِ عَليٍّ الهادي بنِ مُحمَّدٍ الجوادِ بنِ عَليٍّ الرِّضا بنِ موسى الكاظمِ بنِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ، فحينَ توفِّيَ الحَسَنُ العَسكريُّ سنةَ 260 للهجرةِ لم يُعرَفْ له ولَدٌ ظاهِرٌ، فاقتسَم ما ظهر من ميراثِه أخوه جَعفَرٌ وأمُّه، وهي أمُّ وَلَدٍ، فافترق أصحابُه من بعدِه فِرَقًا:
فذهبت فِرقةٌ منهم إلى أنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ حيٌّ لم يمُتْ، وإنَّما غاب، وهو القائِمُ، ولا يجوزُ أن يموتَ الإمامُ ولا وَلَدَ له؛ لأنَّ الأرضَ لا تخلو من إمامٍ، وقد ثبتت إمامةُ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ، والرِّوايةُ قائمةٌ أنَّ للقائِمِ غيبتَينِ فهذه الغَيبةُ إحداهما، وسيظهَرُ ويُعرَفُ ثمَّ يغيبُ غَيبةً أخرى، وذهبوا في ذلك إلى بعضِ مذاهبِ الواقفةِ على موسى بنِ جَعفَرٍ.
وإذا قيل لهذه الفِرقةِ: ما الفَرْقُ بينَكم وبينَ الواقِفةِ؟ قالوا: إنَّ الواقفةَ أخطأت في الوقوفِ على موسى بنِ جَعفَرٍ لَمَّا ظهَرت وفاتُه؛ لأنَّه توُفِّيَ عن خَلَفٍ قائمٍ أوصى إليه وهو ابنُه عليٌّ الرِّضا، ولأنَّه توفِّيَ عن بضعةَ عَشَرَ ذَكَرًا، وكُلُّ إمامٍ له خَلَفٌ ظاهِرٌ معروفٌ فهو مَيِّتٌ لا محالةَ كما تُوفِّيَ آباؤه، وإنما القائِمُ المَهديُّ الذي يجوزُ الوقوفُ على حياتِه من ظهَرَت له وفاةٌ عن غيرِ خَلَفٍ، فيُضطَرُّ شيعتُه إلى الوقوفِ عليه إلى أن يظهَرَ؛ لأنَّه لا يجوزُ موتُ إمامٍ بلا خَلَفٍ؛ فقد صَحَّ أنَّه غاب.
وذهبت فِرقةٌ إلى أنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ مات، وعاش بعد موتِه، وهو القائِمُ المَهديُّ، واعتلُّوا في ذلك بروايةٍ رَوَوها عن جَعفَرِ بنِ مُحمَّدٍ أنَّه قال: (إنَّما سمِّيَ القائمُ قائمًا لأنَّه يقومُ بعدَ ما يموتُ)، فالحَسَنُ العسكريُّ إذًا قد مات ولا شَكَّ في موتِه، ولا خَلَفَ له، ولا وَصيَّ موجودٌ، فلا شَكَّ أنَّه القائِمُ، وأنَّه حيٌّ بعد الموتِ؛ لأنَّ الأرضَ لا تخلو من حُجَّةٍ ظاهرٍ، فهو غائبٌ مُستترٌ، وسيظهَرُ ويملأُ الأرضَ عدلًا كما مُلِئَت جَورًا!
وإنَّما قالوا: إنَّه حيٌّ بعدَ الموتِ، وأنَّه مستَتِرٌ خائفٌ؛ لأنَّه لا يجوزُ عِندَهم أن تخلوَ الأرضُ من حُجَّةِ قائمٍ على ظهرِها، عَدلٍ حَيٍّ ظاهرٍ أو خائفٍ مغمورٍ؛ للخبرِ الذي رَوَوه عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه قال في بعضِ خُطَبِه: "اللَّهمَّ إنَّك لا تُخلي الأرضَ من حُجَّةٍ لك ظاهِرٍ أو مغمورٍ؛ لئلَّا تَبطُلَ حُجَجُك وبيِّناتُك"، فهذا دليلٌ على أنَّه عاش بعد موتِه.
وليس بَيْنَ هذه الفِرقةِ والفِرقةِ التي قَبلَها فِرَقٌ أكثَرُ من أنَّ هذه صحَّحت موتَ الحَسَنِ العسكريِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، والفِرقةُ الأولى قالت: إنَّه غاب وهو حيٌّ، وأنكرت موتَه.
وإذا قيل لهم: من أين قُلتُم هذا؟ وما دليلُكم عليه؟ رجعوا إلى تأوُّلِ الرِّواياتِ.
وقالت فِرقةٌ أخرى: إنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ توفِّيَ ولا عَقِبَ له، والإمامُ بعدَه أخوه جَعفَرٌ، وإليه أوصى الحَسَنُ، وقَبِل جَعفَرٌ الوصيَّةَ، وصارت إليه الإمامةُ.
فلمَّا قيل لهم: إنَّ الحَسَنَ وجَعفَرًا ما زالا متهاجِرينِ متعاديَينِ طولَ زمانِهما، وقد وقَفْتُم على صنايعِ جَعفَرٍ ومخالِفي الحَسَنِ، وسوءِ معاشرتِه له في حياتِه، ولهم من بعدِ وفاتِه في اقتسامِ مواريثِه! قالوا: إنَّما ذلك بَيْنَهما في الظَّاهِرِ، فأمَّا في الباطِنِ فكانا متراضيَينِ، متصافيَينِ، لا خلافَ بَيْنَهما، ولم يَزَلْ جَعفَرٌ مطيعًا له، سامعًا منه، فإذا ظهَر فيه شيءٌ من خلافِه فعن أمرِ الحَسَنِ؛ فجَعفَرٌ وَصيُّ الحَسَنِ، وعنه أفضت إليه الإمامةُ، ورجعوا إلى بعضِ قولِ الفطحيَّةِ في عبدِ اللَّهِ وموسى، وزعموا أنَّ موسى بنَ جَعفَرٍ إنَّما كان إمامًا بوصيَّةِ أخيه عبدِ اللَّهِ إليه، وعن عبدِ اللَّهِ صارت إليه الإمامةُ لا عن أبيه، وأقرُّوا بإمامةِ عبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ، وثبوتُها بعدَ إنكارِهم لها، وجُحودِهم إيَّاها، وأوجبوا فَرْضَها على أنفُسِهم ليصحِّحوا بذلك مَذهَبَهم.
وقالت فِرقةٌ أُخرى: إنَّ الإمامَ هو جَعفَرُ بنُ عَليٍّ لا أخوه الحَسَنُ العَسكَريُّ، والإمامةُ صارت إليه مِن قِبَلِ أبيه، لا من قِبَلِ أخيه، ولم يكُنِ الحَسَنُ العسكريُّ إمامًا، بل كان مُدَّعيًا مبطِلًا، والدَّليلُ على ذلك أنَّ الإمامَ لا يموتُ حتَّى يوصيَ ويكونَ له خَلَفٌ، والحَسَنُ العسكريُّ قد توفِّيَ ولا وصيَّ له، ولا وَلَدَ، فادعاؤه الإمامةَ باطلٌ، ولا يجوزُ أن تكونَ الإمامةُ في الأخوينِ جَعفَرٍ والحَسَنِ؛ لقولِ الأئِمَّةِ صلواتُ اللَّهِ عليهم: "إنَّ الإمامةَ لا تكونُ في أخوينِ بعدَ الحَسَنِ والحُسَينِ عليهما السَّلامُ"، فدلَّنا ذلك على أنَّ الإمامةَ لجَعفَرٍ، وأنَّها صارت إليه من قِبَلِ أبيه لا من قِبَلِ أخيه.
وذهَبَت فِرقةٌ إلى القولِ بإمامةِ مُحمَّدِ بنِ عَليٍّ، وهو أخو الحَسَنِ العسكريِّ، وأخو جَعفَرٍ، مع أنَّ مُحمَّدًا تُوفِّيَ في حياةِ أبيه عليٍّ الهادي، وزعمت هذه الفِرقةُ أنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ وأخاه جَعفَرًا ادَّعَيا ما لم يكُنْ لهما، وأنَّ أباهما لم يُشِرْ إليهما بشيءٍ من الوصيَّةِ والإمامةِ، ولا نَصَّ عليهما بشيءٍ يوجِبُ إمامتَهما، ولا هما في موضِعِ ذلك، وخاصَّةً جَعفَرًا الملقَّبَ بالكذَّابِ؛ فإنَّ فيه خصالًا مذمومةً؛ فقد كان ظاهِرَ الفِسقِ، غيرَ صائنٍ لنفسِه، معلِنًا بالمعاصي، ولا يجوزُ أن يكونَ مِثلُها في إمامٍ عَدلٍ، وأمَّا الحَسَنُ العسكريُّ فقد توفِّيَ ولا عَقِبَ له، ولا يجوزُ أن يموتَ إمامٌ بلا خَلَفٍ، فعَلِمْنا أنَّ مُحمَّدًا هو الإمامُ.
وقالت فِرقةٌ أُخرى: إنَّ للحَسَنِ العَسكريِّ ابنًا سمَّاه مُحمَّدًا، ودَلَّ عليه، وليس الأمرُ كما زعم من ادَّعى أنَّ الحَسَنَ توفِّيَ ولا خلَفَ له، وهو إمامٌ قد ثبتت إمامتُه ووصيَّتُه، وجرت أمورُه على ذلك، فلا يمكِنُ أن يموتَ ولا خَلفَ له، ولكِنْ خَلَفُه قائمٌ، وُلِد قبلَ وفاةِ الحَسَنِ بسنين، فهو الإمامُ الثَّاني عَشرَ بعدَ موتِ أبيه الحَسَنِ، وزعموا أنَّ أباه أمَر بإخفائِه في حياتِه مخافةً عليه، فهو مُستترٌ خائفٌ في تقيَّةٍ من عَمِّه جَعفَرٍ وغيرِه من أعدائِه، وهو المَهديُّ المُنتَظَرُ؛ فقد عُرِف في حياةِ أبيه، ونصَّ على إمامتِه، ولا عَقِبَ لأبيه غيرُه، فهو الإمامُ لا شَكَّ في ذلك، ولا إمامَ بعدَه، وهو إلى الآنَ في غيبتِه حتَّى يخرُجَ آخِرَ الزَّمانِ، فيملأُ الأرضَ عَدلًا، كما مُلِئَت ظُلمًا وجَورًا.
وقالت فِرقةٌ أُخرى: بل وُلِد للحسَنِ ولَدٌ بعدَ موتِه بثمانيةِ أشهُرٍ، والذين ادَّعوا له ولدًا في حياتِه كاذبون مُبطِلون في دعواهم؛ لأنَّ ذلك لو كان لم يخْفَ كما لم يخْفَ غيرُه، ولكِنَّه مات ولم يُعرَفْ له ولدٌ، ولا يجوزُ أن يكابِرَ مِثلُ هذا، ويدفَعَ العِيانَ والمعقولَ والمتعارَفَ، وقد كان للحسَنِ جاريةٌ حاملةٌ منه عِندَ موتِه، وكان الحَملُ قائمًا ظاهرًا ثابتًا عِندَ السُّلطانِ، وعند سائرِ النَّاسِ، وامتنع من قسمةِ ميراثِه من أجلِ ذلك الحَملِ، ثمَّ وُلِد له ابنُه الوحيدُ بعدَ وفاتِه بثمانيةِ أشهُرٍ، وقد كان أَمَر أن يُسمَّى مُحمَّدًا، وأوصى بذلك، واعتلُّوا في تصحيحِ ذلك بخبرٍ يروى عن أبي الحَسَنِ عليٍّ الرِّضا أنَّه قال: "ستُبتَلَون بالجنينِ في بطنِ أمِّه والرَّضيعِ"، فهذا هو، وهو المَهديُّ المُنتَظَرُ.
وقالت فِرقةٌ أخرى: إنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ قد صحَّت وفاتُه كما صحَّت وفاةُ آبائِه بتواطُؤِ الأخبارِ التي لا يجوزُ تكذيبُ مِثلِها، وكثرةِ المشاهدين لموتِه، وتواتُرِ ذلك عن الوليِّ له والعَدُوِّ، وهذا ممَّا لا يجوزُ الارتيابُ فيه، وصحَّ بمثلِ هذه الأسبابِ أنَّه لا خَلَفَ له، فلمَّا صحَّ عِندَنا الوجهانِ ثبت أنَّه لا إمامَ بعدَ الحَسَنِ العسكريِّ، وأنَّ الإمامةَ انقطَعت بموتِه، وذلك جائزٌ في المعقولِ والقياسِ والتَّعارُفِ، كما جاز أن تنقَطِعَ النُّبوَّةِ بعد مُحمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فلا يكونُ بعدَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نبيٌّ، فكذلك جاز أن تنقَطِعَ الإمامةُ؛ لأنَّ الرِّسالةَ والنُّبوَّةَ أعظمُ خطرًا وأجَلُّ، والخَلقُ إليها أحوَجُ، والحُجَّةُ بها ألزَمُ، والعذرُ بها أقطَعُ؛ لأنَّ معها البراهينَ الظَّاهرةَ، والأعلامَ الباهرةَ، ومع ذلك فقد انقطَعت، فكذلك يجوزُ أن تنقَطِعَ الإمامةُ، واعتلُّوا بخبرٍ يروونه عن جَعفَرٍ الصَّادقِ أنَّه قال: "إنَّ الأرضَ لا تخلو من حُجَّةٍ، إلَّا أن يغضَبَ اللَّهُ على أهلِ الأرضِ بمعاصيهم، فيرفَعَ عنهم الحُجَّةَ إلى وقتٍ"، فهذا عِندَنا ذلك الوقتُ، واللَّهُ يفعَلُ ما يشاءُ، وليس في قولِنا هذا بطلانُ الإمامةِ، وهذا أيضًا جائزٌ من وجهٍ آخَرَ كما جاز أن لا يكونَ قَبلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما بينه وبين عيسى عليه السَّلامُ نبيٌّ ولا وصيٌّ، ولما رُوِّيناه من الأخبارِ أنَّه كانت بَيْنَ الأنبياءِ فتراتٌ، ورَوَوا عن جَعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: "إنَّ الفترةَ هي الزَّمانُ الذي لا يكونُ فيه رسولٌ ولا إمامٌ"، قالوا: والأرضُ اليومَ بلا حُجَّةٍ، إلَّا أن يشاءَ اللَّهُ فيبعَثَ القائمَ من آلِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيُحييَ الأرضَ بعدَ موتِها، كما بعَث مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حينِ فترةٍ من الرُّسُلِ، فجَدَّد ما دَرَس من دينِ عيسى ودينِ الأنبياءِ قَبْلَه صلَّى اللَّهُ وسلم عليهم، فكذلك يبعث القائِمَ إذا شاء عزَّ وجَلَّ، والحُجَّةُ علينا قائمةٌ إلى أن يبعَثَ القائِمَ ويظهَرَ، ففي أيدينا علمُ آلِ البيتِ الذي خرج إلينا عنهم، فيجِبُ أن نتمَسَّك بما وصل إلينا من علمٍ عن الأئِمَّةِ الماضين المعصومين، مع الإقرارِ بموتِ الحَسَنِ العسكريِّ بلا عَقِبٍ.
وقالت فِرقةٌ أخرى: إنَّ مُحمَّدَ بنَ عَليٍّ أخا الحَسَنِ العَسكريِّ هو الإمامُ، وإن مات في حياةِ أبيه فقد أوصى إليه أبوه بالإمامةِ باسمِه وعينِه، وإشارتِه ودلالتِه، ولا يجوزُ أن يشيرَ إمامٌ قد ثبتت إمامتُه وصحَّت على غيرِ إمامٍ، فلمَّا حضرت الوفاةُ مُحمَّدًا في حياةِ أبيه لم يجُزْ أن يوصيَ ولا يقيمَ إمامًا، ولا يجوزُ له أن يوصيَ إلى أبيه؛ إذ إمامةُ أبيه ثابتةٌ عن جَدِّه، ولا يجوزُ أيضًا أن يأمُرَ مع أبيه وينهى، ويقيمَ مَن يأمُرُ معه ويشارِكَه، وإنَّما ثبتت له الإمامةُ بعد موتِ أبيه، وقد أوصى مُحمَّدٌ إلى غلامٍ لأبيه صغيرٍ كان في خدمتِه يُقالُ له: نفيسٌ، وكان عِندَه ثقةً أمينًا، ودفع إليه الكُتُبَ والوصيَّةَ، وأمره إذا حدَث به حدَثُ الموتِ أن يؤدِّيَ ذلك كلَّه إلى أخيه جَعفَرٍ، ولمَّا خاف نفيسٌ على نفسِه لمَّا عَلِم أهلُ الدَّارِ قِصَّتَه، وأحسُّوا بأمرِه وحَسدوه، وبغَوه الغوائِلَ، وخشيَ أن تَبطُلَ الإمامةُ وتذهَبَ الوصيَّةُ؛ دعا جَعفَرًا وأوصى إليه، ودفَع إليه جميعَ ما استودعه أخوه الميِّتُ في حياةِ أبيه، ودفَع إليه الوصيَّةَ على نحوِ ما أمرَه، وهكذا ادَّعى جَعفَرٌ أنَّ الإمامةَ صارت إليه من قِبَلِ مُحمَّدٍ أخيه، لا مِن قِبَلِ أبيه، وهذه الفِرقةُ تُسَمَّى النفيسيَّةَ.
 وفِرقةٌ من النفيسيَّةِ أنكروا إمامةَ الحَسَنِ العَسكريِّ، وقالوا: لم يوصِ أبوه عليٌّ الهادي إليه، ولا غيَّر وصيَّتَه إلى مُحمَّدٍ ابنِه، وهذا عِندَهم جائزٌ صحيحٌ، فقالوا بإمامةِ جَعفَرٍ من هذا الوجهِ، وناظروا عليها، وهذه الفِرقةُ تتقَوَّلُ على الحَسَنِ العَسكريِّ تقوُّلًا شديدًا، وتُكَفِّرُه وتُكَفِّرُ من قال بإمامتِه، وتغلو في القولِ في جَعفَرٍ، وتدَّعي أنَّه القائمُ، وتُفَضِّلُه على أميرِ المُؤمِنين عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وتُقَدِّمُه على الحَسَنِ والحُسَينِ وجميعِ الأئِمَّةِ، وتعتَلُّ في ذلك بأنَّ القائمَ أفضَلُ الخلقِ بعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذه الفِرقةُ هي النفيسيَّةُ الخالصةُ.
وقالت فِرقةٌ أخرى: لا ندري من هو الإمامُ بعدَ الحَسَنِ العسكريِّ بنِ عَليٍّ الهادي، أهو من وَلَدِ الحَسَنِ أم من إخوتِه؟ فقد اشتبه علينا الأمرُ، ولسْنا نعلَمُ أنَّ للحَسَنِ بنِ عَليٍّ ولدًا أم لا، ولا ندري هل الإمامةُ صَحَّت لجَعفَرٍ أو لمُحمَّدٍ ابنَي عليٍّ الهادي؟ فقد كثُر الاختلافُ، واشتبه الأمرُ علينا، إلَّا أنَّا نقولُ: إنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ بنَ عَليٍّ الهادي كان إمامًا مفتَرَضَ الطَّاعةِ، ثابِتَ الإمامةَ، وقد توفِّيَ وصَحَّت وفاتُه، والأرضُ لا تخلو من حُجَّةٍ، ونحن نتوقَّفُ في تعيينِ الإمامِ بَعدَه؛ إذ لم يَصِحَّ عِندَنا أنَّ له خلَفًا، وخَفِيَ علينا أمرُه حتَّى يصِحَّ لنا الأمرُ ويتبَيَّنَ، ونتمَسَّك بالأوَّلِ كما أُمِرْنا في روايةٍ أنَّه إذا هلك الإمامُ، ولم يُعرَفِ الذي بعده فتمَسَّكوا بالأوَّلِ حتَّى يتبيَّنَ لكم الآخرُ، فنحن نأخُذُ بهذا الخَبَرِ ونلتَزِمُه، حتَّى يُظهِرَ اللَّهُ الأمرَ إذا شاء، ويكشِفَه ويُبَيِّنَه لنا متى شاء.
ممَّا سبق عرضُه يُلاحَظُ عِدَّةُ أمورٍ؛ منها
1- عِندَما وقفَت النَّاووسيَّةُ عِندَ الإمامِ الصَّادِقِ، واعتبرَتْه القائِمَ المَهديَّ، بدأت في وضعِ الأخبارِ التي تؤيِّدُ عقيدتَها، ولم تستَطِعِ القيامَ بهذا قبلَ مَوتِه.
2- الإسماعيليَّةُ الخالصةُ قامت بمِثلِ هذا بالنِّسبةِ لإسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ.
3- المباركيَّةُ جعَلَت الإمامةَ لمُحمَّدِ بنِ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ، ويذكُرُ التَّاريخُ تفَرُّقَها بعد ذلك لعِدَّةِ فِرَقٍ، ومنهم القرامِطةُ الذين زعموا أنَّ مُحمَّدَ بنَ إسماعيلَ هو خاتَمُ النَّبيِّين، واستباحوا المحارِمَ وجميعَ ما حرَّمه اللَّهُ، ومع وضوحِ كُفرِهم استدلُّوا برواياتٍ مكذوبةٍ تؤيِّدُ عقيدتَهم.
4- الفِرقةُ التي قالت بإمامةِ مُحمَّدِ بنِ جَعفَرٍ، وفي وَلَدِه مِن بَعدِه، وضَعت من الأخبارِ ما يدُلُّ على إمامتِه.
5- الفِرقةُ التي وضَعت أيضًا من الأخبارِ ما يدُلُّ على إمامةِ عبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ، ولم تستَطِعْ أن تَضَعَ ما ينصُّ على أسماءِ من يأتي بعدَه، فلمَّا مات ولم يخلِّفْ ذَكَرًا حدَث التَّفرُّقُ المذكورُ، وأنكر القومُ ما أنكروا من الرِّواياتِ، ووضعوا رواياتٍ جديدةً تتَّفِقُ مع العقيدةِ الجديدةِ، وانظُرْ مثلًا إلى هذه الرِّوايةِ:
قال جَعفَرٌ الصَّادِقُ لموسى: (يا بُنَيَّ، إنَّ أخاك يقصِدُ عبدَ اللَّهِ سيجلِسُ مجلسي، ويدَّعي الإمامةَ بعدي، فلا تنازِعْه، ولا تتَكَلَّمَنَّ؛ فإنَّه أوَّلُ أهلي الذين لحِقوا بي).
فهذه الرِّوايةُ التي ذُكِرت للاستدلالِ على إمامةِ موسى بنِ جَعفَرٍ لم توضَعْ قبلَ موتِ عبدِ اللَّهِ بنِ جَعفَرٍ؛ لأنَّ الوضَّاعين الشِّيعةَ لم يكونوا يعرِفون مَن الذي سيموتُ قَبلَ الآخَرِ!
6- أتباعُ الحَسَنِ العَسكريِّ -الإمامِ الحاديَ عَشَرَ عِندَ الاثنَي عَشْريَّةِ- انقسَموا بعد موتِه إلى ما يَقرُبُ من عشرين فِرقةً، وكُلُّ فِرقةٍ تَضَعُ من الأخبارِ ما يؤيِّدُ عقيدتَها الجديدةَ، ولا يمكِنُ وَضعُ هذه الأخبارِ قَبلَ وفاةِ الإمامِ.
ومعنى هذا أنَّ الشِّيعةَ الاثني عَشْريَّةَ لم تبدأْ في وضعِ الأخبارِ التي فيها ذِكْرُ الاثني عَشَرَ إمامًا إلَّا بعدَ موتِ الحَسَنِ العَسكريِّ سنةَ 260 هجرية، أمَّا قبلَ ذلك فكان لهم رواياتٌ مكذوبةٌ يَروونها عن كُلِّ إمامٍ من أئِمَّتِهم، بل ويروون بعضَ الأحاديثِ الموضوعةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لكِنَّ الرِّواياتِ التي فيها ذِكْرُ اثني عَشَرَ إمامًا لم تأتِ إلَّا في النِّصفِ الثَّاني من القَرنِ الثَّالِثِ الهِجريِّ، وبعدَ استقرارِ عقيدتِهم في الأئِمَّةِ الاثنَي عَشَرَ اجتَهَد مؤلِّفوهم في تأليفِ الكُتُبِ التي تؤيِّدُ مَذهَبَهم، وتدعو إلى عقيدتِهم الجديدةِ التي لم تكُنْ معروفةً من قَبلُ، وأوَّلُ كتُبِهم المعتَمدةِ، وأصَحُّها هو الكافي، ظَهَر في القرنِ الرَّابعِ الهِجريِّ، وقد كان لهم كتُبٌ صغيرةٌ قبلَ ذلك، لكِنَّها غيرُ مشهورةٍ كشُهرةِ الكتُبِ الجامعةِ التي جاءت في القَرنِ الرَّابعِ الهِجريِّ وما بعدَه.

انظر أيضا: