موسوعة الفرق

المطلَبُ الرَّابعُ: الجَرحُ والتَّعديلُ لرُواةِ الأخبارِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ


حَفِظ اللَّهُ السُّنَّةَ النَّبويَّةَ بأهلِ الحديثِ، ينفون عنها تحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهلينَ، فاجتَهَدوا في جمعِ أسانيدِها ومعرفةِ طبقاتِ رُواتِها، وكتبوا المُصَنَّفاتِ المتعدِّدةَ التي دوَّنوا فيها السُّنَّةَ النَّبويَّةَ، حرصًا على حِفظِها، وخوفًا أن يدخُلَ فيها ما ليس منها.
والمحدِّثون رحمهم اللَّه لا يحابون أحدًا، لا قريبًا ولا بعيدًا، ولا حبيبًا إليهم ولا بغيضًا، والعبرةُ عِندَهم في قبولِ الحديثِ بالحفظِ والعدالةِ وتركِ المُخالَفة؛ ولذا نجدُهم يُضَعِّفون أحاديثَ بعضِ الصَّالحين والزُّهَّادِ والقُرَّاءِ الكِبارِ والفُقَهاءِ الأجِلَّاءِ؛ لكَونِهم لم يَضبِطوا الأحاديثَ التي روَوها، أو رَوَوا ما لم يتابِعْهم عليها متابعٌ من أقرانِهم عن شيوخِهم، وكثُرَ تفرُّدُهم بأشياءَ لا يُتابَعون عليها عن شيوخِهم ولا عن شيوخِ شيوخِهم، فظهر للمحدِّثين كثرةُ أغلاطِهم في الأسانيدِ أو في المتونِ؛ فضَعَّفوا أحاديثَهم، وإن كانوا يحبُّونهم ويجِلُّونهم لصلاحِهم وزُهدِهم ودينِهم وفِقههم؛ فالميزانُ عِندَ المحَدِّثين في نقدِ الرُّواةِ هو الحِفظُ والإتقانُ والعدالةُ، وعَدَمُ الخَطَأِ والمُخالَفةِ والشُّذوذِ، من غيرِ محاباةٍ لأحدٍ.
ومن إنصافِ المحَدِّثين أنَّهم وثَّقوا كثيرًا من الرُّواةِ مع كونِهم من الشِّيعةِ أو القَدَريَّةِ أو المُرجئةِ أو الخوارجِ، ورَوَوا أحاديثَهم وقَبِلوها وصحَّحوها، ولم يمنَعْهم مخالَفتُهم في المَذهَبِ من إنصافِهم وروايةِ حديثِهم وقَبولِه والاحتجاجِ به؛ لأنَّ مَقصِدَهم حفظُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، فالنَّاظِرُ في كُتُبِ الجَرحِ والتَّعديلِ يجدُ أنَّ كثيرًا من رواةِ الشِّيعةِ وثَّقهم أهلُ الحديثِ؛ لصِدقِهم وضبطِهم لِما رووه، وينبغي التَّنبُّهُ إلى أنَّ تشَيُّعَ أولئك الرُّواةِ ليس كتشيُّعِ متأخِّري الشِّيعةِ الذين يدْعون غيرَ اللَّهِ، ويؤمِنون بغَيبةِ المَهديِّ المُنتَظَرِ، ويجيزون المُتعةَ، ويَدينون بالتَّقيَّةِ، ويَطعَنون في أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وزوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وغيرِ ذلك من الطَّامَّاتِ، وإنَّما كان تشيُّعُ بعضِ المحَدِّثين من الرُّواةِ هو في تقديمِهم عَليَّ بنَ أبي طالبٍ على عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، والأمرُ في هذا سهلٌ، والغالي المُفرِطُ منهم كان يقَدِّمُه على أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، وبعضُهم كان عِندَه غُلُوٌّ أشَدُّ من هذا، وكثيرٌ من الشِّيعةِ كان معروفًا بالكَذِبِ أو ضعيفًا متساهِلًا في رواياتِ الأحاديثِ من غيرِ ضَبطٍ وإتقانٍ؛ فطَعَن فيهم أهلُ العلمِ، لتفرُّدِهم بروايةِ ما لم يَروِه غيرُهم.
قال الحاكِمُ النَّيسابوريُّ: (أصحُّ أسانيدِ أهلِ البيتِ: جَعفَرُ بنُ مُحمَّدٍ عن أبيه عن جدِّه عن عليٍّ إذا كان الرَّاوي عن جَعفَرٍ ثِقةً) [567] يُنظر: ((معرفة علوم الحديث)) (ص: 55). .
وقال الحاكِمُ أيضًا: (إنَّ أوهى أسانيدِ أهلِ البيتِ: عمرُو بنُ شَمرٍ، عن جابرٍ الجُعفيِّ، عن الحارِثِ الأعوَرِ، عن عليٍّ) [568] يُنظر: ((معرفة علوم الحديث)) (ص: 56). .
والحاكِمُ النَّيسابوريُّ (ت 405ه) هو مؤلِّفُ كتابِ المُستَدرَكِ على الصَّحيحينِ، الذي جمعَ فيه الصَّحيحَ والحَسَنَ والضَّعيفَ والموضوعَ، وكان الحاكمُ معروفًا بالتَّشيُّعِ، لكنْ تشيُّعُه من غيرِ غُلُوٍّ.
وممَّن عُرِفَ بالتَّشيُّعِ بلا غُلُوٍّ: عبدُ الرَّزاقِ الصَّنعانيُّ (ت 211ه)، صاحِبُ كتابِ المُصَنَّفِ المشهورِ بمُصَنَّفِ عبدِ الرَّزاقِ.
وممَّن عُرِف بالتَّشيُّعِ المعتَدِلِ: النَّسائيُّ (ت 303ه)، صاحِبُ كتابِ السُّنَنِ، أحدِ كُتُبِ الحديثِ السِّتَّةِ المعتَمَدةِ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ.
وعُرِف بالتَّشيُّعِ بلا غُلُوٍّ أيضًا: ابنُ عبدِ البَرِّ الأندَلسيُّ المالكيُّ (ت 463ه)، صاحِبُ الكُتُبِ الكثيرةِ النَّافعةِ، كالتَّمهيدِ والاستذكارِ والاستيعابِ في معرفةِ الأصحابِ.
وكلُّ هؤلاء يعتَبِرون من أئِمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ، وهم ثِقاتٌ يجِلُّهم عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ، ويرجِعون إلى كتُبِهم للاستفادةِ من العِلمِ النَّافِعِ الذي فيها.
أمَّا الشِّيعةُ الرَّافِضةُ الذين رَفَضوا خلافةَ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ رضي اللَّهُ عنهم؛ فقد رفَضوا ما ثبت عنهم من أخبارٍ، وطَعَنوا فيهم وفي سائِرِ الصَّحابةِ الكرامِ رِضوانُ اللَّهِ عليهم، وطَعَنوا في جميعِ عُلَماءِ الإسلامِ الذين لم يقولوا بقَولِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ اليهوديِّ في إثباتِ أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي اللَّهُ عنه هو الوَصيُّ بعدَ النَّبيِّ، فاعتَقَدوا كُفرَ أو ضلالَ مَن خالَفَهم، ولم يعتَمِدوا على ما رواه المحَدِّثون وكَتَبه العُلَماءُ؛ لأنَّهم عِندَهم كُفَّارٌ أو ضُلَّالٌ.
فالجَرحُ والتَّعديلُ عِندَ الشِّيعةِ الرَّافِضةِ مُرتَبِطٌ بعقيدتِهم في الإمامةِ، وكُتُبُ الرِّجالِ عِندَهم طافحةٌ بالطَّعنِ في الصَّحابةِ الكِرامِ البَرَرةِ رضي اللَّهُ عنهم.
وقولُهم بعِصمةِ الأئِمَّةِ جَعَلهم لا ينظُرون إليهم على أنَّهم مجرَّدُ رُواةٍ ثقاتٍ فحَسْبُ، بل جَعَلوهم مصدرًا للتَّشريعِ؛ لأنَّ أقوالَهم عِندَهم سُنَّةٌ واجبةُ الاتِّباعِ كسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ومن أشهَرِ كُتُبِ الرِّجالِ عِندَ الشِّيعةِ هذه الكُتُبُ الخَمسةُ، وكُلُّها لعُلَماءَ متأخِّرين عن عَصرِ الرِّوايةِ:
(رجالُ البرقيِّ)، و (رجالُ الكَشِّيِّ)، و (رجالُ الشَّيخِ الطُّوسيِّ)، و (فهرستُه)، و (رجالُ النَّجاشيِّ).
وقد جمع هذه الأصولَ وغيرَها عبدُ اللَّهِ الماماقانيُّ في كتابِه (تنقيحُ المقالِ في عِلمِ الرِّجالِ). وهو من أكبَرِ كتُبِ الرِّجالِ حجمًا ومكانةً عِندَ الشِّيعةِ الرَّافِضةِ، وهذه بعضُ النَّماذجِ من هذا الكتابِ ممَّا فيه تعديلٌ أو جرحٌ اتِّباعًا للأهواءِ:
1- (عَليُّ بنُ أبي طالبٍ: أميرُ المُؤمِنين عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ، مناقِبُه وفضائلُه لا يَسَعُ البَشَرَ عدُّها وإحصاؤها، قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي [الكهف: 109] . وقد ورد أنَّه لو كان البَحرُ مِدادًا، والأشجارُ أقلامًا وأوراقُ الأشجارِ قِرطاسًا، والجِنُّ والإنسُ كِتابًا، لمَا أحَصَوا مناقِبَه) [569] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/264). .
2- (مُحمَّدُ بنُ أبي بَكرِ بنِ أبي قُحافةَ: جليلُ القَدرِ، عظيمُ المنزِلةِ، من خواصِّ عَليٍّ رَضيَ اللَّهُ عنه وحواريِّيه. أتته النَّجابةُ من قِبَلِ أمِّه أسماءَ بنتِ عُمَيسٍ لا مِن قِبَلِ أبيه، من أنجَبِ النُّجَباءِ، من أهلِ بيتِ سوءٍ، بايع أميرَ المُؤمِنين على البراءةِ من أبيه، ومِن الخليفةِ الثَّاني، وقال له: أشهَدُ أنَّك إمامٌ مُفتَرَضُ الطَّاعةِ، وأنَّ أبي في النَّارِ) [570] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/ 57، 58). !
3- (عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ العَدَويُّ خليفةُ العامَّةِ: بالغَت العامَّةُ في مَدحِه، ومن لاحَظ ترجمتَه المتفَرِّقةَ وأمعَنَ النَّظرَ فيها لم يعتَمِدْ على خَبَرِه) [571] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/ 201). .
4- (عبدُ اللَّهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ: كان كأبيه في الرَّأيِ والنِّفاقِ، والكَذِبِ على اللَّهِ ورسولِه، والخروجِ مع معاويةَ بصِفِّينَ، وكفى بذلك جَرحًا) [572] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/ 200). .
5- (عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ:... لا أعتَمِدُ على روايتِه؛ لأنَّ من خان في الأصولِ لا يوثَقُ به في الفروعِ) [573] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/ 146، 147). .
6- (خالِدُ بنُ الوليدِ: تعاقَد مع أبي بَكرٍ على قَتلِ عَليٍّ رَضيَ اللَّهُ عنه، ثمَّ نَدِم أبو بكرٍ خوفًا من الفتنةِ، سمَّاه العامَّةُ سيفَ اللَّهِ، والأحقُّ بتسميتِه سَيفُ الشَّيطانِ... زنديقٌ، أشهرُ مِنْ كُفْرِ إبليسَ في العداوةِ لأهلِ البيتِ) [574] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (1/ 394). .
7- (أنسُ بنُ مالكٍ: كان من المنحَرِفين عن عَليٍّ رَضيَ اللَّهُ عنه، الكاتمين لمناقِبِه حبًّا للدُّنيا، فدعا عليه بالعمى فكُفَّ بصَرُه، وكان يكذِبُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [575] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/ 154، 155).
8- (النُّعمانُ بنُ بشيرٍ: كان منحَرِفًا عن عَليٍّ رَضيَ اللَّهُ عنه، وعدُوًّا له، فزندَقتُه لا شكَّ فيها) [576] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (3/ 272). .
9- (معاذُ بنُ جَبَلٍ: مالَأَ عدوَّ اللَّهِ أبا بَكرٍ وعُمَرَ على وليِّ اللَّهِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، والبُشرى بالنَّارِ له ولأبي بَكرٍ وعُمَرَ وأبي عُبيدةَ) [577] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (3/ 220، 221). .
10- (سُفيانُ الثَّوريُّ: كذابٌ خبيثٌ مُدَلِّسٌ معانِدٌ يهوديٌّ، قد آثَر دُنياه على آخرتِه على عِلمٍ منه بذلك) [578] ((تنقيح المقال في علم الرجال)) (2/37). .
تلك بعضُ النَّماذِجِ الكافيةِ لبيانِ منهجِ الرَّافِضةِ في الجَرحِ والتَّعديلِ، واجترائِهم على اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، وعلى رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى الصَّحابةِ الكرامِ، وعلى أئِمَّةِ المُسلِمين.

انظر أيضا: