موسوعة الفرق

الفرْعُ الخامِسُ: زيديَّةُ اليَمَنِ


ظهَر في اليَمَنِ يحيى بنُ الحُسَينِ بنِ القاسِمِ بنِ إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ الحَسَنِ بنِ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ، وهو من أوائِلِ مَن أدخل التَّشيُّعَ الغاليَ والاعتزالَ إلى اليَمَنِ [308] قال ابنُ أبي الرِّجالِ: (على أهلِ اليَمَنِ نِعمتانِ في الإسلامِ؛ الأولى: الإمامُ الهادي الذي أنقذهم من الباطنيَّةِ والجَبرِ والتشبيهِ، والثانيةُ: للقاضي جعفرِ بنِ عبدِ السَّلامِ الذي أنقذهم من مذهَبِ التطريفِ). يُنظر: مقدمة كتاب ((أمالي أبي طالب)) بتحقيق عبد الله العزي الزيدي (ص: 23)، فالزيديةُ يرون الهاديَ أعظَمَ نِعَمِ اللهِ على أهلِ اليَمَنِ، والقاضي جعفَرُ بنُ أحمدَ بنِ عبد السَّلامِ (ت 573 هـ) هو من أشهَرِ فُقَهاءِ الزيديةِ، ومن متعصِّبي الشيعةِ ودعاةِ المعتزلةِ، رحل إلى العراقِ ورجع بكثيرٍ من كتُبِ الشّيعةِ والمعتزلةِ، وأدخلها إلى اليمَنِ، واللهُ المستعانُ. يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (2/ 121). .
قَدِم إلى اليَمَنِ من الحِجازِ سنةَ (284هـ) فدعا إلى نفسِه بالإمامةِ، وتلقَّب بالهادي، وكان فقيهًا مجتَهِدًا، ومُعتَزِليًّا منحَرِفًا عن أهلِ الحديثِ، وقد خالف زيدَ بنَ عَليٍّ في بعضِ ما ذهب إليه من اجتهاداتٍ فِقهيَّةٍ، ومع هذا غَلَب اسمُ المَذهَبِ الزَّيديِّ على مَذهَبِ الهادي؛ وذلك لأنَّ الهاديَ وأتباعَ مَذهَبِه يقولون بإمامةِ زيدِ بنِ عَليٍّ، ووجوبِ الخروجِ على الظَّلَمةِ، ويعتَقِدون فَضلَه وزعامتَه، ويحصُرون الإمامةَ فيمن قام ودعا من أولادِ الحَسَنينِ، ممَّن هو جامِعٌ لشروطِ الإمامةِ المدوَّنةِ في كُتُبِهم، فمَن قال بإمامتِه فهو زيديٌّ، وإن لم يلتَزِمْ مَذهَبَه في الفروعِ، فأكثَرُ أئمَّةِ الزَّيديَّةِ يخالِفون مَذهَبَ زيدٍ في كثيرٍ من المسائِلِ الفِقهيَّةِ الاجتهاديَّةِ، كالقاسِمِ الرَّسِّيِّ، والهادي، والنَّاصِرِ الأُطروشِ، وغَيرِهم [309] يُنظر: ((هداية الراغبين)) لابن الوزير، ((رحيق الأزهار)) للجنداري (ص: 16). .
قال الإمامُ الزَّيديُّ أحمدُ بنُ يحيى المُرتَضى: (فالزَّيديَّةُ مَنسوبةٌ إلى زَيدِ بنِ عَليٍّ؛ لقَولِهم جميعًا بإمامتِه، وإنْ لم يكونوا على مَذهَبِه في مسائِلِ الفُروعِ، وهي تخالِفُ الشَّافعيَّةَ والحَنَفيَّةَ في ذلك؛ لأنَّهم إنَّما نُسِبوا إلى أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ لمتابعتِهم لهما في الفُروعِ) [310] ((المنية والأمل)) (ص: 96). .
وقال الإمامُ الزَّيديُّ يحيى بنُ حمزةَ: (فمَن كان على عقيدتِه في الدِّيانةِ والمسائِلِ الإلهيَّةِ، والقَولِ بالحِكمةِ، والاعترافِ بالوَعدِ والوعيدِ، وحَصرِ الإمامةِ في الفِرْقةِ الفاطميَّةِ، والنَّصِّ في الإمامةِ على الثَّلاثةِ الذين هم عليٌّ ووَلَدُه، وأنَّ طريقَ الإمامةِ الدَّعوةُ فيمن عداهم، فمن كان مُقِرًّا بهذه الأصولِ فهو زيديٌّ) [311] ((الرسالة الوازعة)) (ص: 28). .
وغُلاةُ الزَّيديَّةِ الهادويَّةُ في اليَمَنِ يجعَلون عَليًّا وفاطِمةَ والحَسَنينِ معصومِينَ كالأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ويجعلون إجماعَ أبنائِهم حُجَّةً؛ لأنَّهم عندهم وَحدَهم آلُ محمَّدٍ، ولا يجعَلون آلَ العبَّاسِ ولا آلَ عليٍّ من غيرِ الحَسَنينِ من أهلِ البيتِ، ولا يَعُدُّون من عُلَماءِ أهلِ البيتِ العُلَماءَ الهاشِميِّين الذين على غيرِ المَذهَبِ الزَّيديِّ؛ فإنَّ بعضَ الفُقَهاءِ الهاشِميِّين أحنافٌ ومالكيَّةٌ وشافعيَّةٌ وحنابلةٌ، وكثيرٌ من الفُقَهاءِ الحَسَنيِّينَ والحُسَينيِّينَ في اليَمَنِ شوافِعُ معروفون في تِهامةَ وعَدَنٍ وحَضرَموتَ وغَيرِها [312] يُنظر: ((المنية والأمل)) لابن المرتضى (ص: 102)، ((اليمن: الإنسان والحضارة)) للشماحي (ص: 102). ويُنظر: ((أعلام الحنفية من أهل البيت)) لوائل بن محمد ((أعلام الشافعية من أهل البيت)) لبسام الحسيني ((أعلام المالكية من أهل البيت)) لرزق بن عبد العليم ((أعلام الحنابلة من أهل البيت)) للمزيني. .
وكان زيديَّةُ اليَمَنِ يعتَقِدون أنَّ المصيبَ في الاجتهاديَّاتِ واحدٌ إلى زَمَنِ الإمامِ المتوكِّلِ أحمدَ بنِ سُلَيمانَ [313] هو: أحمدُ بنُ سُليمانَ بنِ محمَّدٍ الحَسَنيُّ، من نَسلِ الهادي يحيى بنِ الحسينِ، ولِدَ في حوث، وهو من أشهَرِ أئمَّةِ الزيديَّةِ في اليمَنِ، كان شاعرًا، فقيهًا، ذا بأسٍ وحزمٍ وصبرٍ، عظيمَ الهمَّةِ في حروبِه، دعا الناسَ إلى بيعتِه بالإمامةِ، فبايعه خلقٌ كثيرٌ، وملك صعَدةَ ونجرانَ وزَبيدَ ومواضِعَ متعدِّدةً من اليَمَنِ بعد حروبٍ كثيرةٍ، وأخذ صنعاءَ مرَّتين، ثم اصطَلَح مع عدوِّه على أن يكونَ لكُلٍّ منهما ما في يده من بلادٍ وحصونٍ، وكان مشهورًا بتخريبِ بيوتِ المخالفين له والعصاةِ المفسدين، وكانت له مع الباطنيَّةِ حروبٌ كثيرةٌ، وكان يذكُرُ في خُطَبِه ورسائِلِه الأحاديثَ الموضوعةَ في فضائِلِ أهلِ البيتِ، ويفسِّرُ بعضَ الآياتِ على غيرِ تأويلِها ليجعلَها دالَّةً على فضائلِ أهلِ البيتِ، مِثلُ آيةِ النُّورِ؛ فقد فسَّر الزُّجاجةَ والمِصباحَ والمِشكاةَ والشَّجَرةَ والكوكَبَ الدُّرِّيَّ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبعَليٍّ وفاطمةَ والحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهم، ومن كتُبِه: أصول الإحكام في أحاديث الحلال والحرام، وكتاب الزاهر في أصول الفقه، وقد أصيبَ بالعمى آخِرَ عُمُرِه، وتوفي سنة 566هـ. يُنظر: ((العواصم والقواصم)) لابن الوزير (8/334، 335)، ((تاريخ اليمن)) للواسعي (ص: 29)، ((تاريخ اليمن الإسلامي)) للمطاع (ص: 302 - 363)، ((الأعلام)) للزركلي (1/132)، ((هجر العلم)) للأكوع (1/538-540). ، الذي استقدم بعضَ عُلَماءِ المُعتَزِلةِ من أهلِ العِراقِ إلى اليَمَنِ، فانتشر بَيْنَ الهادَويَّةِ مَذهَبُ مُعتَزِلةِ البَصرةِ [314] يُنظر: ((الزيدية)) للأكوع (ص:31)، ((الصلة بين الزيدية والمعتزلة)) لأحمد عارف (ص: 71)، ((القبورية في اليمن)) للمعلم (ص: 181، 182)، مقدمة العمري لكتاب ((تاريخ مدينة صنعاء)) لأحمد الرازي (ص: 19). .
وزيديَّةُ اليَمَنِ يُقَلِّدون غالبًا الإمامَ الهاديَ يحيى بنَ الحُسَينِ، وهم يُنسَبون إليه، فيقالُ لهم: الهادَويَّةُ.
وكان الهادي يدعو في كتُبِه إلى مَذهَبِ الشِّيعةِ الزَّيديَّةِ الجاروديَّةِ، لكِنَّه لا ينسُبُ نفسَه إلى أبي الجارودِ، فهو أشرَفُ في نَفسِه من أن ينتَسِبَ إلى أبي الجارودِ الكوفيِّ الذي لم يكُنْ من أهلِ البيتِ، وكذلك الزَّيديَّةُ الغُلاةُ لا ينسُبون أنفُسَهم إلى الجاروديَّةِ، بل ينسُبون أنفُسَهم إلى زيدِ بنِ عَليٍّ أو إلى الهادي يحيى بنِ الحُسَين، ويزعُمون أنَّهم يتَّبِعون أهلَ البيتِ، ويعتَقِدون عقائِدَ الجاروديَّةِ من القَولِ بأنَّ عليًّا هو الوَصيُّ، وبُغضِ الصَّحابةِ والطَّعنِ فيهم، ويُسَمُّون هذه العقائِدَ عقيدةَ أهلِ البيتِ [315] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 430 – 432، 436 - 438).      !
وقد خاض في عِلمِ الكلامِ على طريقةِ المُعتَزِلةِ؛ فهو في كتُبِه يجتَهِدُ في الدَّعوةِ إلى عقائِدِهم بالطُّرُقِ الكلاميَّةِ الفَلسفيَّةِ، وبالنُّصوصِ المتشابِهةِ، والحُجَجِ العَقليَّةِ المتكَلَّفةِ، ويَظهَرُ ذلك جَليًّا في كثيرٍ من كتُبِه ورسائِلِه لا سيَّما رسالتِه في الرَّدِّ على الحَسَنِ بنِ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ؛ ففيها الخوضُ في أكثَرَ من أربعين مسألةً غالِبُها من فُضولِ العِلمِ، ومن التَّنطُّعِ والتَّكلُّفِ، والهادي لا ينسُبُ نفسَه إلى مَذهَبِ المُعتَزِلة، بل يرى أنَّ عقائِدَ المُعتَزِلةِ التي يوافِقُهم عليها هي نفسُ عقيدةِ أهلِ البيتِ، وهو يخالِفُهم في بعضِ المسائِلِ، مِثلُ قَولِهم بأنَّ الإمامةَ تَصلُحُ في كُلِّ مسلمٍ، وإن كان من غيرِ أهلِ البيتِ، والهادي يعتَقِدُ أنَّ الإمامةَ لا تكونُ إلَّا في نَسلِ الحَسَنِ والحُسَينِ مَّمن شَهَر سيفَه، ودعا إلى نفسِه، وهو في كتُبِه ورسائِلِه يَرُدُّ على الرَّافضةِ الذين يجعلون الأئمَّةَ اثنَي عَشَرَ إمامًا، منهم محمَّدٌ الباقِرُ، وجعفَرٌ الصَّادِقُ، وموسى الكاظِمُ، ومَن بَعدَهم ممَّن لم يخرُجْ على الحُكَّامِ الذين كانوا في زمانِهم [316] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 49 – 54، 62، 65، 74، 79، 86، 87، 95، 96، 97، 112 – 114، 141 - 148، 152 – 161، 168 – 179، 189، 191 – 195، 207 – 217، 240 – 259، 267 – 421، 434 - 438، 457، 483 - 502، 537، 571 - 578)، ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 414، 422، 439، 449) و (2/ 243، 245، 284 – 286، 295، 296، 371)، ((عيون المسائل)) للجشمي (ص: 79، 102). .
والهادي عندَه غُلُوٌّ مُفرِطٌ في آلِ البيتِ، حتى إنَّه كان يحمِلُ قَولَه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] على عُلَماءِ أهلِ البيتِ دونَ غَيرِهم من عُلَماءِ الأمَّةِ [317] يُنظر: ((الأحكام)) للهادي يحيى بن الحسين (1/ 5، 394). وقد أخذ الهادي هذا الغُلوَّ عن جدِّه القاسِمِ الرَّسِّيِّ، وعن عمِّه وشيخِه محمَّدِ بنِ القاسِمِ الرَّسِّيِّ. يُنظر: ((مجموع كتب ورسائل القاسم الرسي)) (2/ 185)، ((مجموع كتب ورسائل محمد بنِ القاسم)) (ص: 72). وقد تتابع كثيرٌ من الزيديةِ على تفسيرِ أهلِ الذِّكرِ بأنهم أهلُ البيتِ دونَ غيرِهم. يُنظر مثلًا: ((مجموع رسائل الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة)) القسم الثاني (2/ 159). !
وكان يُفَسِّرُ قَولَ اللَّهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] بأنَّ المرادَ بأُولي الأمرِ أهلُ البَيتِ دونَ غَيرِهم من حُكَّامِ المُسلِمين [318] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 125). .
وكان يرى أنَّ معنى قولِ اللَّهِ تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26] أي: يؤتي المُلكَ مَن يشاءُ من الأنبياءِ ثُمَّ الأئمَّةِ مِن بَعدِهم، والذين يشاءُ أن يَنزِعَه منهم هم أعداؤه جَبابرةُ الأرضِ [319] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 163). .
وقال الهادي: (مَن أنكَرَ أن يكونَ عَليٌّ أَولى النَّاسِ بمقامِ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه فقد ردَّ كتابَ اللَّهِ، وأبطَلَ قَولَ رَبِّ العالمين، وخالف في ذلك ما نطَق به الكِتابُ المُبينُ، وأخرج هارونَ من أمرِ موسى كُلِّه، وأكذَبَ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه في قَوِله، وأبطَلَ ما حَكَم به في أميرِ المُؤمِنين، فلا بُدَّ أن يكونَ مَن كَذَّب بهذين المعنيينِ في دينِ اللَّهِ فاجِرًا، وعند جميعِ المسلِمين كافِرًا! حَدَّثني أبي عن أبيه أنَّه سُئِل عن إمامةِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رحمة اللَّهُ عليه: أفرضٌ هي من اللَّهِ؟ فقال: كذلك نقولُ، وكذلك يقولُ العُلَماءُ من آلِ الرَّسولِ عليه وعلى آلِه السَّلامُ، قولًا واحدًا لا يختَلِفون فيه؛ لسَبقِه إلى الإيمانِ باللَّهِ، ولِما كان عليه من العِلمِ بأحكامِ اللَّهِ، ... وهذا بَيِّنٌ والحمدُ للهِ لكُلِّ مرتادٍ طالِبٍ في عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رحمةُ اللَّهِ عليه، لا يجهَلُه إلَّا متجاهِلٌ جائِرٌ، ولا يُنكِرُ الحقَّ فيه إلَّا ألدُّ مكابِرٌ، حَدَّثني أبي عن أبيه أنَّه سُئِل عمَّن حارب أميرَ المُؤمِنين، وعمَّن تخلَّف عنه في حَربِه فلم يكُنْ معه ولا عليه؟ فقال: مَن حارَبَه فهو حَربٌ للهِ ولرَسولِه، ومَن قَعَد عنه بغيرِ إذنِه فضالٌّ هالِكٌ في دينِه... فإذا فَهِم ولايةَ أميرِ المُؤمِنين عليه السَّلامُ واعتقَدَها، وقال في كُلِّ الأمورِ سِرًّا وعلانيةً بها، وَجَب عليه التَّفضيلُ والاعتقادُ، والقولُ بإمامةِ الحَسَنِ والحُسَينِ الإمامَينِ الطَّاهِرَينِ، سِبْطَيِ الرَّسولِ المُفَضَّلين، اللَّذَين أشار إليهما الرَّسولُ، ودَلَّ عليهما، وافترض اللَّهُ سُبحانَه حُبَّهما، وحُبَّ مَن كان مِثلَهما في فِعلِهما من ذريَّتِهما، حينَ يقولُ لرسَولِه صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه: قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى: 23] ،... فهما ابناه وولداه بفَرضِ اللَّهِ وحُكمِه،... فإذا أقام معرفةَ ولايتِهما، وقال بتفضيلِهما وإمامتِهما، وَجَب عليه أن يَعرِفَ أُولي الأمرِ مِن ذُرِّيَّتِهما [320] روى الهادي يحيى بنُ الحسينِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم أنَّه قال: (من مات ولم يَعرِفْ إمامَ زمانِه مات مِيتةً جاهليَّةً). يُنظر: ((درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية)) (376)، وهذا الحديثُ موضوعٌ لا أصلَ له. يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (1/ 110)، ((سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة)) للألباني (5/ 87، 88). وقد رُوِيت أحاديثُ عجائِبُ لتقويةِ أمرِ الهادي يحيى بنِ الحسينِ في اليمَنِ، ولا يَشُكُّ منصِفٌ في كَذِبِها، من ذلك ما جاء في ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) (ص: 29): (قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: يأتيكم صاحِبُ اليمَنِ حتى يدخُلَ بين أظهُرِكم، فيأخُذَ العُمَّالَ وعُمَّالَ العُمَّالِ، رجلٌ منَّا أهلَ البيتِ، فانصروه؛ فإنَّه يدعو إلى الحَقِّ). ومن ذلك خبرٌ مأثورٌ لعَلَّ الذي افتراه عليُّ بنُ محمَّدٍ مؤلِّفُ سيرةِ الهادي؛ ففي هذا الخبرِ الإشارةُ إلى الهادي وإلى مؤلِّفِ سيرةِ الهادي عليِّ بنِ محمَّدٍ العبَّاسيِّ العَلَويِّ الذي كان يحمِلُ اللِّواءَ أحيانًا بين يدي الهادي كما ذكر ذلك في كتابِه ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) (ص: 206)، فتأمَّلْ هذا النَّصَّ: (عليُّ بنُ محمَّدٍ: قال أبو جعفَرٍ محمَّدُ بنُ سليمانَ: فحدَّثني محمدُ بنُ عبيدِ اللهِ قال: وجدتُ في كتُبِ جَدِّي عُبَيدِ اللهِ بنِ العبَّاسِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رحمةُ الله عليه قال: إنَّ القائمَ من وَلَدِ الحسَنِ إذا خرج بدأ بالمسيرِ في نجدٍ، فيسيرُ إلى اليمَنِ، فيسوقُ يمَنَها إلى تِهامَتِها إلى مكَّةَ كسَوقِ الرَّاعي غَنَمَه، يَقدُمُه بين يديه رجلٌ من ولَدِ العبَّاسِ بنِ عليٍّ عليه السَّلامُ)، ثمَّ قال هذا الكوفيُّ: بلَغَنا عن عُبَيدِ اللهِ بنِ موسى قال: حدَّثني أبي عن بِشرِ بنِ رافعٍ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ صلواتُ اللهِ عليه أنَّه ذَكَر فِتنةً بين الثمانين والمائتين، فيخرجُ رجلٌ من عِترتي اسمُه اسمُ نبيٍّ). ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) (ص: 30). ويقصِدُ به يحيى بنَ الحُسَينِ الملقَّبَ بالهادي، ولا يعلَمُ الغيبَ إلَّا اللهُ! ولكِنَّ الشيعةَ قومٌ يَكذِبون، وهم يُصَدِّقون مثلَ هذه الأحاديثِ التي لا يخفى كَذِبُها، ويكذِّبون بالأحاديثِ الصَّحيحةِ وإن كانت متواترةً، واللهُ المستعانُ! وقد ذكر صاحبُ سيرةِ الهادي بعضَ الكراماتِ للهادي، اللهُ أعلَمُ بصِحَّتِها، فلا تطمئنُّ النفسُ لما يذكره هذا العَلَويُّ الذي كان يغلو في الهادي، وقد يكونُ بعضُها أمرًا عاديًّا بالغ فيه مؤلِّفُ سيرتِه، مِثلُ ذِكرِه تظليلَ السَّحابِ له في يومٍ مُشمِسٍ، أو انقِطاعِ المطَرِ أثناءَ سَفَرِه، أو مَرَضِ وموتِ بعضِ من كان يقعُ في الهادي، وقد يكونُ بعضُها صحيحًا، كرَدِّ اللهِ بَصَرَ الصغيرِ الذي دعا له الهادي، وليس كُلُّ من استجاب اللهُ دعاءَه أو ظهَرَت له كرامةٌ يكونُ على الحقِّ في جميعِ أمرِه، فبعضُ فِرَقِ الصوفيةِ كالرِّفاعيَّةِ تَظهَرُ منهم خوارِقُ عجيبةٌ، وهم في ضلالٍ مُبينٍ. واللهُ أعلَمُ وأحكَمُ. يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) (ص: 129، 131، 133، 136، 139 - 141). وسيرةُ الهادي فيها إشكالاتٌ كثيرةٌ، والزيديةُ يعتنون بها، ويدَّعون أنها مضبوطةٌ، ويُقِرُّون بما فيها، كما ذكر ذلك الإمامُ الزَّيديُّ عبدُ اللهِ بنُ حمزةَ. يُنظر: ((مجموع رسائل عبد اللهِ بنِ حمزة)) القسم الثاني (2/ 209). ، الذين أُمِر الخَلقُ بطاعتِهم، فيَعلَمَ أنَّ الأمرَ والنَّهيَ والحِكمةَ والإمامةَ مِن بَعدِهما في ذريَّتِهما دونَ غيرِهما، لا تجوزُ إلَّا فيهم، ولا تُرَدُّ إلَّا إليهم، وأنَّ الإمامَ مِن بَعدِهما مِن ذريَّتِهما مَن سار بسِيرتِهما، وكان مِثلَهما، واحتذى بحَذوِهما، فكان وَرِعًا تقيًّا، صحيحًا نقيًّا، وفي أمرِ اللَّهِ سُبحانَه جاهِدًا، وفي حُطامِ الدُّنيا زاهِدًا، وكان فَهِمًا بما يحتاجُ إليه، عالمَّا بتفسيرِ ما يَرِدُ عليه، شُجاعًا كَمِيًّا، بَذولًا سَخِيًّا، رؤوفًا بالرَّعيَّةِ رَحيمًا، متعَطِّفًا متحنِّنًا حليمًا، مواسيًا لهم بنفسِه، مُشرِكًا لهم في أمرِه، غيرَ مُستأثرٍ عليهم، ولا حاكِمٍ بغيرِ حُكمِ اللَّهِ فيهم، قائمًا شاهِرًا لسَيفِه، داعيًا إلى رَبِّه، رافعًا لرايتِه، مجتَهِدًا في دعوتِه، مُفَرِّقًا للدُّعاةِ في البلادِ، غيرَ مُقَصِّرٍ في تألُّفِ العبادِ، مخيفًا للظَّالمين، ومُؤمِنًا للمُؤمِنين، لا يأمَنُ الفاسقين ولا يأمنونَه، بل يَطلُبُهم ويَطلُبونه، قد باينهم وباينوه، وناصَبهم وناصَبوه، فهم له خائِفون، وعلى إهلاكِه جاهِدون، يبغيهم الغوائِلَ، ويدعو إلى جهادِهم القبائِلَ، متشَرِّدًا عنهم، خائفًا منهم، لا يردَعُه عن أمرِ اللَّهِ رادعٌ، ولا تهولُه الأخوافُ، ولا يمنَعُه عن الجهادِ عليهم كثرةُ الإرجافِ، شِمِّريٌّ مُشَمِّرٌ، مجتَهِدٌ غيرُ مُقَصِّرٍ، فمن كان كذلك من ذُرِّيَّةِ السِّبطَينِ الحَسَنِ والحُسَينِ، فهو الإمامُ المفتَرَضةُ طاعتُه، الواجبةُ على الأمَّةِ نُصرتُه، ومن قَصَّر عن ذلك ولم ينصِبْ نفسَه للهِ، ويَشهَرْ سيفَه له، ويبايِنِ الظَّالمين ويباينوه، ويُبَيِّنْ أمرَه، ويرفَعْ رايتَه ليُكمِلَ الحُجَّةَ لرَبِّه على جميعِ بَرِيَّتِه، بما يَظهَرُ لهم من حُسنِ سِيرتِه، وظاهِرِ ما يبدو لهم من سَريرتِه، فتَجِبُ طاعتُه على الأمَّةِ، والمهاجَرةُ إليه، والمُصابرةُ معه ولَدَيه، فمَن فعل ذلك من الأمَّةِ معه مِن بَعدِ أن قد أبان لهم صاحِبُهم نفسَه، وقصَدَ رَبَّه، وشَهَر سَيفَه، وكَشَف بالمبايَنةِ للظَّالمين رأسَه، فقد أدى إلى اللَّهِ فَرْضَه، ومَن قَصَّر في ذلك كانت الحُجَّةُ عليه للهِ قائمةً، ساطعةً مُنيرةً، بَيِّنةً قاطعةً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42] ، مِثلُ مَن قام من ذُرِّيَّتِهما من الأئمَّةِ الطَّاهِرين، الصَّابرينَ للهِ المحتَسِبين، مثلُ زَيدِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه إمامِ المتَّقين، والقائِمِ بحُجَّةِ رَبِّ العالَمين، ومِثلُ يحيى ابنِه المحتَذي بفِعلِه، ومِثلُ مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللَّهِ [321] هو الملقَّب بالنَّفسِ الزكيَّةِ الذي خرج وأخوه إبراهيمُ على أبي جعفرٍ المنصورِ العبَّاسيِّ، وقد تقدَّم خبرُه وترجمتُه. ، وإبراهيمَ أخيه [322] هو: إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحسَنِ بنِ الحسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، أخو النَّفسِ الزكيَّةِ، وقد تقدَّم خبرُه وترجمتُه. ، المجتَهِدينِ للهِ، المصَمِّمَينِ في أمرِ اللَّهِ، اللَّذينِ لم تأخُذْهما في اللَّهِ لومةُ لائمٍ، اللَّذينِ مَضَيا قَدَمًا قَدَمًا، صابرَينِ محتَسِبَينِ، وقد مُثِّل بآبائِهما وعُمومتِها أقبَحَ المَثْلِ، وقُتِلوا أفحَشَ القَتلِ، فما ردَعَهما ذلك عن إقامةِ أمرِ خالِقِهما، والاجتهادِ في رِضا رَبِّهما، فصَلَواتُ اللَّهِ على أرواحِ تلك المشايخِ وبركاتُه؛ فلقد صبروا للَّهِ واحتَسَبوا، وما وَهَنوا ولا جَزَعوا...
ومِثلُ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ الفَخيِّ [323] هو: الحسينُ بنُ عليِّ بنِ الحسَنِ بنِ الحسَنِ بنِ الحسَنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، خرج على عاملِ المدينةِ في عهدِ الهادي بنِ المهديِّ بنِ أبي جعفَرٍ المنصورِ، وبايعه كثيرٌ من آلِ البيتِ وغيرِهم، ووقعت فتنةٌ عظيمةٌ، قُتِل فيها الحسينُ بنُ عليٍّ سنة 169هـ، ونجا منها إدريسُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحسَنِ، وفرَّ إلى المغربِ، وأسَّس فيها دولةَ الأدارسةِ. يُنظر: ((تاريخ الطبري)) (8/ 192 - 203)، ((أخبار فخ وخبر يحيي بن عبد الله وأخيه إدريس بن عبد الله)) لأحمد بن سهل الرازي (ص: 131 - 156)، ((مقاتل الطالبيين)) للأصفهاني (ص: 372 - 385)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/ 283 - 285). ، الشَّهيدِ المحرِمِ المجرَّدِ للهِ سُبحانَه، المُصَمِّمِ الباذِلِ نَفسَه للهِ في عصابةٍ قليلةٍ من المُؤمِنين، يأمرون بالمعروفِ، وينهون عن المُنكَرِ، ويَضرِبون ويُضرَبون، حتى لقُوا اللَّهَ على ذلك، وقد رضِيَ عنهم، وقَبِل فِعلَهم منهم، فرحمةُ اللَّهِ وبركاتُه عليهم، ويحيي بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الحَسَنِ [324] هو: يحيى بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، كان مع ابنِ عمِّه الحسينِ بنِ عليِّ بنِ الحسنِ في ثورتِه بالمدينةِ، وحضر معركةَ فَخٍّ سنة 169هـ ونجا فدعا إلى نفسِه، فبايعه كثيرٌ من أهلِ الحرمينِ واليمَنِ ومِصرَ، وذهب إلى اليمنِ فأقام مدَّةً، ودخل مصرَ والمغربَ، وعاد إلى المشرِقِ فدخل العراقَ متنكِّرًا، وقصد بلادَ الرَّيِّ وخراسانَ، فوصل إلى ما وراء النَّهرِ، واشتدَّ هارون الرشيدُ في طلبِه، فخرج يحيى بنُ عبدِ اللهِ إلى طَبَرِستان، فبلادِ الدَّيلَمِ، ودعا الناسَ إلى بيعته سنة 175هـ وكثُر جمعُه، فندب الرَّشيدُ لحربِه الفضلَ بنَ يحيى البَرمكيَّ في خمسين ألفًا، وضَعُف أمرُ يحيى وخاف أن يَغدِرَ به مَلِكُ الدَّيلمِ، فطلب الأمانَ من الرشيدِ، فأجابه بخَطِّه، واستقدمه إلى بغدادَ، فدخلها يحيى، وأغدق عليه الرَّشيدُ عطاياه، إلى أن بلغه أنَّه يدعو لنفسِه سِرًّا، فحبسه عِندَ الفضلِ بنِ يحيى البرمكيِّ، ورَقَّ له الفَضلُ البرمكيُّ فأطلقه، وعَلِم الرَّشيدُ بذلك فكان ذلك ممَّا أحفظه على البرامكةِ، وأرسل من أعاد يحيى إلى الاعتقالِ في سردابٍ، واستمَرَّ في حبسِه إلى أن مات سنة 180هـ تقريبًا. يُنظَر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب (14/ 115)، ((الأعلام)) للزركلي (8/ 154، 155). القائِمِ للهِ، المحتَسِبِ الصَّابِرِ للهِ على الشِّدَّةِ والغَضَبِ، ومُحمَّدِ بنِ إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ [325] هو: محمدُ بنُ إبراهيمَ بنِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، من أئمةِ الزيديةِ، كان مقيمًا في المدينةِ، وحَجَّ سنة 196هـ والحربُ قائمةٌ في العراقِ بين الأمينِ والمأمونِ العباسيَّينِ، فأقبل عليه الناسُ بمكةَ، وكثُرَ تردُّدُهم، فخاف الفتنةَ، فاستتر، ثمَّ عرض عليه بعضُ الشيعةِ الخروجَ على بني العبَّاسِ، فقصد الكوفةَ، فدخلها وكتم خبَرَه، وبايعه فيها نحو 120 رجلًا، ثم أراد محمَّدٌ العودةَ إلى المدينةِ، فلقي في طريقِه أبا السَّرايا السريَّ ثائرًا على بني العبَّاسِ، فبايعه السريُّ، وقويَ به أمرُه، فدخل الكوفةَ، وبايعه أهلُها سنة 199، وفي بعضِ حروبِه التي انتصر فيها على العباسيِّين أصبح ميتًا، ويقال: إنَّ أبا السرايا سَمَّه، واللهُ أعلمُ، وكان موتُه سنة 199هـ وله من العمر 26 سنة، وكانت مدَّةُ خروجِه قرابةَ شهرين، وحصل بخروجِه فسادٌ عظيمٌ، وفتنٌ كثيرةٌ، وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون. يُنظر: ((مقاتل الطالبيين)) للأصفهاني (ص: 424 - 453)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (4/ 1056 - 1058)، ((الأعلام)) للزركلي (5/ 293، 294). القائِمِ بحُجَّةِ اللَّهِ الجليلِ، الدَّاعي إلى الحَقِّ، والنَّاهي عن الفِسقِ، المتفَرِّدِ للهِ، الصَّابِرِ له في كُلِّ أمرِه، الحاكِمِ في كُلِّ الأمورِ بحَقِّه، ومِثلُ القاسِمِ بنِ إبراهيمَ [326] هو: القاسِمُ الرَّسِّيُّ جَدُّ الهادي يحيى بنِ الحُسَينِ، وقد تقدَّمت ترجمتُه. الفاضِلِ العالِمِ الكريمِ، المجَرِّدِ لسَيفِه، المصَمِّمِ الباذِلِ لنفسِه، المبايِنِ للظَّالمين، الدَّاعي إلى الحقِّ المُبين، صلواتُ اللَّهُ عليهم أجمعين ورحمتُه وبركاتُه، فمَن كان كذلك من ذُرِّيَّةِ الحَسَنِ والحُسَينِ، فهو إمامٌ لجميعِ المسلمين، لا يسَعُهم عصيانُه، ولا يحِلُّ لهم خِذلانُه، بل يجِبُ عليهم طاعتُه ومُوالاتُه، ويُعَذِّبُ اللَّهُ مَن خذَلَه، ويثيبُ مَن نَصَره، ويتولَّى من تولَّاه، ويُعادي مَن عاداه) [327] ((الأحكام)) (1/ 10 - 15) باختصار.
وكانت للهادي جُرأةٌ عظيمةٌ على تأويلِ الآياتِ القُرآنيَّةِ على غيرِ ظاهِرِها، كما فعل أيضًا في تأويلِ قَولِ اللَّهِ تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] ؛ حيث أنكر أن تكونَ الأشياءُ تُسَبِّحُ للهِ حقيقةً كما أخبَرَ اللَّهُ في كتابِه، وأوَّلَ ذلك بأنَّه ما من شيءٍ إلَّا وفيه من أثَرِ الصَّنعةِ والتَّدبيرِ والتَّقديرِ ما يَدُلُّ على اللَّهِ، ويوجِبُ على مَن عَرَف ذلك وتفَكَّرَ فيه تسبيحَ اللَّهِ والإقرارَ بوحدانيَّتِه، ومِثلُ ذلك تفسيرُه قَولَه تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن: 6] بأنَّ المرادَ سُجودُ الإنسانِ الذي يتفَكَّرُ في النُّجومِ والأشجارِ [328] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 590 - 593)، ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 291 - 295) و (2/ 127، 137، 183). !
ومن ذلك أنَّه في تفسيرِ قَولِه تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] أنكر أن يخاطِبَ اللَّهُ جَهنَّمَ، وأنَّها ترُدُّ عليه بقولِها: هل من مزيدٍ؟ وذكر أنَّ الخِطابَ لخَزَنةِ جهنَّمَ لا لجهنَّمَ، وأنَّ الذي يقولُ: هل من مزيدٍ، هم خَزَنةُ جهنَّمَ لا جَهنَّمُ [329] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 81، 82). !
ومن ذلك إنكارُه أن يدعوَ اللَّهُ الكافرين يومَ القيامةِ إلى السُّجودِ فلا يستطيعون، كما هو صريحُ قولِ اللَّه سُبحانَه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] ، وادَّعى أنَّ المعنى: يُدْعَون إلى إثباتِ حُجَّةٍ ظاهِرةٍ على أنَّهم كانوا من أهلِ السُّجودِ والإيمانِ، ورَدَّ على المفسِّرين الذين فسَّروها بأنَّ اللَّه يأمرُ النَّاسَ يومَ القيامةِ بالسُّجودِ [330] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 269 - 272). ، وقد جاءت السُّنَّةُ الصَّحيحةُ بما يوافِقُ نَصَّ الآيةِ الكريمةِ [331] ولفظُه: عن أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يَكشِفُ ربُّنا عن ساقِه فيَسجُدُ له كُلُّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنةٍ، ويبقى من كان يسجُدُ في الدُّنيا رِئاءً وسُمعةً، فيَذهَبُ ليَسجُدَ فيَعودُ ظَهَرُه طَبَقًا واحِدًا)). أخرجه البخاري (4919) واللفظ له، ومسلم (183). .
ومن ذلك إنكارُه انكشافَ سَوءاتِ آدَمَ وحوَّاءَ بعدَ أكلِهما من الشَّجَرةِ، وأوَّلَ ذلك بأنَّ المرادَ بدا لهما سُوءُ فِعْلِهما [332] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 143). ، مع أنَّ الآيةَ تنُصُّ على أنَّه قد كُشِفَت سوآتِهما وأنَّهما طَفِقا يخصِفان عليهما مِن وَرَقِ الجنَّةِ، كما قال اللَّهُ تعالى: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف: 22] .
وقال الهادي في تفسيرِ قولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف: 27] : (الذي بلَغَنا عن نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسلَّم أنَّ لباسَهما هو لِباسُ التَّقوى والإيمانِ لا ما يقولُ الجاهِلون: إنَّه لباسُ ثِيابٍ) [333] ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 143). .
وقد أنكَر تكليمَ اللَّهِ تعالى لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حقيقةً كما أخبر في كتابِه، وفَسَّر قولَه تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] بأنَّ اللَّهَ خَلَق كلامًا أسمعه موسى [334] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 176، 179، 180). ، وهذا القولُ يقولُه المُعتَزِلةُ والأشاعِرةُ الذين يُنكِرون أنَّ اللَّهَ سُبحانَه يتكَلَّمُ حقيقةً كما يليقُ بجَلالِه [335] يُنظر: ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) للعمراني (2/ 540)، ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 113).
وقد أنكَر أن يكونَ موسى عليه السَّلامُ قد طَلَب من اللَّهِ أن يُرِيَه نفسَه، فقال في تفسيرِ قَولِه تعالى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] : (لم يُرِدْ موسى عليه السَّلامُ ما يتوَهَّمُ الجاهِلون من أن يكونَ سأل أن يَرى ما لا يُرى، وموسى عليه السَّلامُ أعرَفُ باللَّهِ مِن أن يجعَلَه محدودًا، وإنَّما المعنى: أَرِني آيةً مِن كِبارِ آياتِك، أنظُرْ بها إلى عجائِبِ قُدرتِك، فأوحى اللَّهُ إليه إنَّك لَنْ تَرَانِي أي: لن ترى مني تلك الآيةَ؛ لضَعفِ بِنيتِك عمَّا طلَبْتَ مِن عظيمِ آياتي) [336] ((تفسير الإمام الهادي)) (1/203، 204). ويُنظر فيه أيضًا: (1/210 - 212). .
وأنكَر النَّفخَ في الصُّورِ، وذكر أنَّ الصُّورَ جمعُ صُورةٍ، ونفخُ اللَّهِ فيها النَّفخةَ الأولى بمعنى إفنائِها، والنَّفخةُ الثَّانيةُ في الصُّورِ والأبدانِ الباليةِ لحياتِها [337] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 572)، ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 432). وفسَّر الهادي النَّاقورَ المذكورَ في قولِه تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ [المدثر: 8، 9] بأنَّه علامةٌ يجعَلُها اللهُ يومَ القيامةِ أو نورٌ يظهَرُ أو أصواتٌ من الملائكةِ، وليس هو النَّفخَ في الصُّورِ، كما قال المفسِّرون. يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 360، 361). .
ومن ذلك أنَّه فسَّر قَولَه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] بأنَّ المرادَ سُكرُ النَّومِ، لا سُكرُ الخَمرِ [338] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 175). وهذا القولُ الضَّعيفُ لم يتفرَّدْ به الهادي، فقد قاله الضَّحَّاكُ قبله، وهو قولٌ مخالِفٌ لظاهِرِ الآيةِ، وإن قاله من قاله؛ قال ابنُ الجوزيِّ: (في معنى: وَأَنْتُمْ سُكَارَى قولان: أحدُهما: من الخَمرِ، قاله الجمهورُ. والثَّاني: من النَّومِ، قاله الضَّحَّاكُ، وفيه بعدٌ. وهذه الآيةُ اقتضت إباحةَ السُّكرِ في غيرِ أوقاتِ الصَّلاةِ، ثمَّ نُسِخَت بتحريمِ الخمرِ). ((زاد المسير)) (1/ 408). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (1/ 540، 545، 546). ولعَلَّ الهاديَ أخذ هذا التفسيرَ من كتُبِ جَدِّه القاسِمِ الرَّسِّيِّ، لكِنَّ القاسِمَ الرَّسِّيَّ فسَّر الآيةَ بأنَّها تعُمُّ سُكرَ الشَّرابِ وغيرَه من كُلِّ ما أسكَر من بنجٍ أو نومٍ، فخالفه حفيدُه الهادي فجعلها مقصورةً على سُكرِ النَّومِ، وخالف جمهورَ مفسِّري الأمَّةِ. يُنظر: ((مجموع كتب ورسائل القاسم الرسي)) (2/ 663). !
ومن ذلك أنَّه فسَّر قَولَه تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة: 17] أنَّ العَرشَ هو مُلكُ اللَّهِ، قال: والمُلكُ ما خَلَق اللَّهُ في الآخرةِ والأولى، ومعنى ثمانيةٍ: لا يخلو أن يكونَ ثمانيةَ أصنافٍ من الملائكةِ أو ثمانيةَ آلافٍ، وحَمْلُها للعَرشِ هو قيامُها فيه ونهوضُها، وإنفاذُ أمرِ ربِّها، وإيصالُ الثَّوابِ للمُثابين، والعِقابِ إلى المعاقِبين، وفسَّر فَوقَهم بأنَّ المعنى منهم؛ لأنَّه يُنكِرُ أنَّ للهِ عَرشًا مخلوقًا، وأنَّ اللَّهَ استوى عليه [339] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 602، 603)، ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 284 - 286)، وقد أشار ابنُ الوزيرِ إلى خطأ الهادي في تفسيرِ العَرشِ والكرسيِّ بالمُلكِ من غيرِ أن يُسَمِّيَه. يُنظر: ((العواصم والقواصم)) (8/ 334). ! وذكر الهادي أنَّ الكُرسيَّ هو العرشُ، وأنَّ معناهما واحِدٌ [340] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 457). ، وقال الهادي في بعضِ رسائِلِه ما نصُّه: (إنَّ العَرشَ هو اللَّهُ! وإنَّ الوَجهَ هو اللَّهُ! وإنَّ الكُرسيَّ هو اللَّهُ!) [341] ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 215). .
ومن ذلك نفيُه أن يكونَ اللَّهُ قد جعَلَ على قُلوبِ الكافِرين أكِنَّةً، وفسَّر قَولَه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الكهف: 57] بالاستفهامِ للنَّفيِ لينصُرَ قَولَ المُعتَزِلةِ، فقال: (يريدُ سُبحانَه: أإنَّا جعَلْنا على قلوبِهم أكِنَّةً كما قالوا، وفي آذانِهم وَقرًا كما ذكروا؟!) [342] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 301). .
ومن ذلك أنَّه فسَّر قَولَه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] أنَّ المرادَ صلاةُ العِشاءِ، وليس المرادُ صلاةَ قيامِ اللَّيلِ [343] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 601، 602)، ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 345، 352 - 354).      ، وقال مُنكِرًا صلاةَ التَّراويحِ: (لم يبلُغْنا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلى بالنَّاسِ تراويحَ ليلةً ولا ليلتينِ، ولا ساعةً ولا ساعتينِ، ولم يَرْوِه أحدٌ من علمائِنا، ولم يُؤثِرْه عن النَّبيِّ أحدٌ من آبائِنا) [344] ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 601، 602).    .
هكذا قال الهادي، مع أنَّ التَّراويحَ مذكورةٌ في مسنَدِ الإمامِ زيدٍ، وهو من أشهَرِ الكُتُبِ عِندَ الزَّيديَّةِ، ففيه ما نصُّه: (حَدَّثني زيدُ بنُ عَليٍّ عن أبيه عن جَدِّه عن عليٍّ -عليهم السَّلامُ- أنَّه أمَر الذي يُصَلِّي بالنَّاسِ صلاةَ القيامِ في شَهرِ رمَضانَ أن يُصَلِّيَ بهم عِشرين) [345] يُنظر: ((مسند الإمام زيد بنِ علي)) كتاب الصلاة، باب القيام في شهر رمضان رقم (155)، ومِن تعصُّبِ الإمامِ الزيديِّ عبدِ اللهِ بنِ حمزةَ أنَّه قال عن هذا الحديثِ المرويِّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه: (إن أشار في صلاةِ التراويحِ عليُّ بنُ أبي طالبٍ برأيٍ فهي مصلحةٌ للُمسلمين كما كان يشيرُ في الأمورِ التي أخطؤوا في أصولها، فأشار عليهم بما يكونُ أحمدَ عاقبةً في فروعِها، وإلَّا فهو عليه السَّلامُ لم يكُنْ تعَبَّدَها ولا الصَّالحُ من أهلِ بَيتِه). ((مجموع رسائل الإمام عبد اللهِ بنِ حمزة)) القسم الثاني (2/ 606).    .
وغرائِبُ الهادي في الفِقهِ كثيرةٌ؛ منها أنَّه قال: (رَفعُ اليَدَينِ في التَّكبيرِ في الصَّلاةِ لا يجيزُه عُلَماءُ آلِ الرَّسولِ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسلَّم، وقد قيل: إنَّ رفعَ اليَدَينِ فِعلٌ جاهِليٌّ كانت قُرَيشٌ تفعَلُه لآلهتِها وأصنامِها عِندَ وقوفِها تجاهَها) [346] ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 600، 601) باختصار. على أنَّ ما نسبه الهادي إلى جميعِ آلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّهم لا يرفعون أيديَهم في التَّكبيرِ كَذِبٌ عليهم؛ فقد ثبت عن بعضِ علماءِ الآلِ قبل الهادي أنهم كانوا يرفعون أيديَهم، وبعضُهم جوَّز الرَّفعَ وترْكَه، وقد ثبت حديثُ الرَّفعِ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه كما في السُّنَنِ بلفظ: ((أنَّه كان إذا قام إلى الصَّلاةِ المكتوبةِ كبَّر ورفَع يدَيه حَذْوَ مَنكِبَيه، ويصنعُ مثلَ ذلك إذا قضى قراءتَه وأراد أن يركَعَ، ويصنَعُه إذا رفَعَ من الرُّكوعِ، ولا يرفَعُ يَدَيه في شيءٍ من صلاتِه وهو قاعدٌ، وإذا قام من السَّجدتَينِ رفع يديه كذلك وكَبَّرَ)). أخرجه أبو داود (744) واللفظ له، والترمذي (3423) مطولًا باختلاف يسير، وابن ماجه (864) باختلاف يسير. صحَّحه الترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/620)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (22/453)، والمعلمي في ((التنكيل)) (2/33)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (744). وفي كتاب الجامع الكافي في فقه الزيدية (1/ 177، 178): (كان أحمدُ بنُ عيسى قديمًا يرفعُ يديه في كُلِّ خفضٍ ورَفعٍ، ثم ترك ذلك. قال محمَّدٌ: حدَّثني عليٌّ ومحمَّدٌ ابنا أحمدَ عن أبيهما قال: يرفعُ الرجُلُ يديه في تكبيرةِ الركوعِ، وإذا استوى من الركوعِ قائمًا رفَع يديه، وقال: سمِعَ اللهُ لمن حمِدَه، ثمَّ يُكَبِّرُ فسَجَد. قال محمَّدٌ: وحَدَّثنا إسماعيلُ بنُ إسحاقَ الرَّاشديُّ قال: صليتُ خَلفَ أحمدَ بنِ عيسى عليه السلامُ فلمَّا أراد أن يركعَ رفع يديه نحوًا من حيالِ وَجهِه، ثم كبَّر وركع، فلمَّا رفع رأسَه من الركوعِ رفع يديه مثلَ ذلك، مع قولِه: سمع اللهُ لمن حَمِده، ثمَّ كبَّر وسجد، وصلَّى بنا كذلك حتَّى فرغ وسلَّم. قال محمَّدٌ: وحدَّثنا أحمدُ بنُ طاهرٍ الرَّقِّيُّ أنَّه رأى أحمدَ بنَ عيسى عليه السَّلامُ يرفَعُ يدَيه في كُلِّ خفضٍ ورفعٍ نحوًا من حديثِ إسماعيلَ. قال محمَّدٌ: ورأيتُ أحمدَ بنَ عيسى عليه السَّلامُ بعدَ ذلك يصلِّي فلم يرفَعْ يديه بعد التكبيرةِ الأولى في خفضٍ ولا رفعٍ حتى انصرف، تفقَّدتُ ذلك منه في الفرائِضِ وغيرِها. قال محمَّدٌ: ينبغي أن يكونَ ترَكَه لضَعفٍ... وقال القاسِمُ عليه السَّلامُ: يُكرَهُ رفعُ اليدينِ في الخفضِ والرَّفعِ بعد التكبيرةِ الأولى، وقال: هو عَمَلٌ. ورويَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم أنَّه نهى عن ذلك. وفي روايةِ داود عن القاسمِ عليه السلامُ: ولا يرفَعُ يديه إلَّا في أوَّلِ التكبيرِ عِندَ الدخولِ في الصلاةِ. وقد رويت أحاديثُ في رفعِ اليدينِ -يعني في كُلِّ خفضٍ ورفعٍ- وأحَبُّ إلينا أن لا يرفَعَ إلَّا في أوَّلِ التكبيرِ؛ لأنَّه قد صَحَّ عن ابنِ مسعودٍ وغيرِه أنَّه رأى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لم يرفَعْ إلَّا في أوَّلِ التكبيرِ. وقال الحسَنُ عليه السلامُ: وإذا ركعتَ رفَعْتَ يديك مع كُلِّ تكبيرةٍ مِن رَفعٍ ووَضعٍ حيالَ أُذُنيك، وتَحَرِّيكَ رَفعَ اليدينِ في التكبيرةِ أَولى. وقال الحسَنُ عليه السَّلامُ -فيما حَدَّثنا حسينٌ عن زيدٍ عن أحمدَ عنه-: ورفعُ اليدينِ في أوَّلِ الصَّلاةِ من آلةِ الصَّلاةِ، وهو فيما بعدُ مخيَّرٌ؛ إن فَعَل فحَسَنٌ، وإن تَرَك فجائِزٌ. وقال الحسَنُ عليه السلامُ أيضًا -في روايةِ ابنِ صباحٍ عنه- وقاله محمَّدٌ في المسائلِ: ورفعُ اليدينِ إذا ركع وإذا سجَد وإذا رفع كُلُّه عندنا جائزٌ مفعولٌ، غيرَ أنَّا رُوِّينا عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وعن عليٍّ عليه السَّلامُ أنَّهما كانا يرفعانِ أيديَهما مع أوَّلِ تكبيرةٍ حتَّى لا يعيدا رفَع اليدينِ في سِواهما). انتهى من كتاب الجامع الكافي للعلوي الزيدي، وهو من أشهَرِ كُتُبِ الفِقهِ الزيديةِ القديمةِ، ومحمَّدٌ المذكورُ في النَّصِّ هو محمَّدُ بنُ منصورٍ المراديُّ الكوفيُّ، المسَمَّى عِندَ الزيديَّةِ حواريَّ آلِ الرَّسولِ، وهو ثقةٌ. ويُنظر: (أمالي الإمام أحمد بنِ عيسى)) (1/ 99). فتبيَّن بهذا تساهُلُ الهادي في النَّقلِ والرِّوايةِ، وأنَّه لا يُعتَمَدُ عليه فيما ينقُلُه حتَّى عن أهلِ البيتِ! .
والنَّاظِرُ في كتُبِ الهادي يجِدُ أنَّ بعضَ المسائِلِ أصاب فيها، وخالفه بعضُ الزَّيديَّةِ مِن بَعدِه، مِثلُ إثباتِ المعراجِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى السَّمواتِ [347] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 605).    ، ونجِدُ بعضَ الشِّيعةِ الزَّيديَّةِ الذين يزعُمون اتِّباعَ الهادي يُنكِرون ذلك!
ومن ذلك إثباتُ النِّصابِ في زكاةِ الزُّروعِ؛ قال الهادي: (الزَّكاةُ واجبةٌ على الإنسانِ في مالِه، إذا بلَغ من الطَّعامِ خمسةَ أوسُقٍ في سَنَتِه وَجَب عليه أن يُخرِجَ عُشْرَ ما وقَعَ من الطَّعامِ، والوَسقُ سِتُّون صاعًا) [348] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 76).    .
وقد وافق الهادي في هذا السُّنَّةَ النَّبَويَّةَ الصَّحيحةَ، ووافق قولَ جُمهورِ الفُقَهاءِ كالمَّالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابِلةِ، ووافَق فُقَهاءَ أهلِ البَيتِ القُدامى [349] قال العلوي (ت 445 هـ): (مسألةٌ: مقدارُ ما يجبُ فيه الصَّدَقةُ من الثَّمَرِ. قال أحمدُ والقاسمُ والحسَنُ ومحمَّدٌ: وليس فيما دونَ خمسةِ أوساقٍ صَدَقةٌ، فإذا بلغ خمسةَ أوساقٍ ففيه الصَّدقةُ. وروى محمَّدٌ عن عليٍّ وأبي سعيدٍ وابنِ عُمَرَ وجابرٍ وأبي هُرَيرةَ وعبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وأبي أُمامةَ وعَمرِو بنِ حزمٍ، كلُّهم روَوا عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم أنَّه قال: ((ليس فيما دونَ خمسةِ أوساقٍ صَدَقةٌ))، قال القاسِمُ والحَسَنُ ومحمَّدٌ: فما زاد على خمسةِ أوساقٍ فبالحسابِ، والوَسقُ: سِتُّون صاعًا بصاعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم. قال الحَسَنُ ومحمَّدُ: والخَمسةُ أوسُقٍ ثلاثُمائةِ صاعٍ). ((الجامع الكافي في فقه الزيدية)) (1/ 382). والمنقولُ عن زيدِ بنِ عليٍّ كما في مسندِ الإمامِ زيدٍ وأمالي أحمدَ بنِ عيسى موافِقٌ للجُمهورِ في أنَّه لا زكاةَ دونَ خَمسةِ أوسُقٍ. يُنظر: ((أمالي الإمام أحمد بنِ عيسى)) (1/ 275). ، لكِنَّ المعتَمَدَ في المَذهَبِ الزَّيديِّ أنَّه لا نِصابَ في الزُّروعِ، وأنَّه يجِبُ إخراجُ الزَّكاةِ من كثيرِ المالِ وقَليلِه، كما هو مَذهَبُ أبي حنيفةَ [350] يُنظر: ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 244).    .
والهادي كان جاهِلًا بالسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ مِن كُتُبِه؛ منها:
أنَّه ذكَرَ أنَّ الملائِكةَ خَلَقها اللَّهُ من الرِّيحِ والهواءِ [351] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 581).    ، مع أنَّه قد صَحَّ في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ المشهورةِ أنَّ اللَّهَ خَلَق الملائكةَ مِن نورٍ [352] أخرجه مسلم (2996) عن عائشةَ قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائِكةُ من نورٍ، وخُلِق الجانُّ من مارجٍ من نارٍ، وخُلِق آدمُ ممَّا وُصِف لكم)). .
وأنكَر أن يكونَ الشَّيطانُ يجري من ابنِ آدَمَ مجرى الدَّمِ [353] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 579).    ، كما ثبت ذلك في الحديثِ الصَّحيحِ [354] أخرجه البخاري (3281)، ومسلم (2175) من حديثِ صفيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ رَضِيَ اللهُ عنها؛ بلفظ: ((إنَّ الشَّيطانَ يجري من الإنسانِ مجرى الدَّمِ)). .
وأنكر أحاديثَ الشَّفاعةِ المتواتِرةَ [355] حديثُ الشَّفاعةِ: أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مُسلمٍ: ((...يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأسَك، سَلْ تُعطَه، اشفَعْ تُشَفَّعْ، فأرفَعُ رَأسي فأقولُ: يا رَبِّ أُمَّتي أُمَّتي، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ، أدخِلِ الجَنَّةَ من أمَّتِك مَن لا حِسابَ عليه مِن البابِ الأيمَنِ من أبوابِ الجَنَّةِ، وهم شُركاءُ النَّاسِ فيما سِوى ذلك من الأبوابِ ...)). [356] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 110، 371).    .
وأنكَر أحاديثَ انشِقاقِ القَمَرِ [357] ومنها: عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: انشَقَّ القَمَرُ على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِقَّتينِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اشهَدوا)). أخرجه البخاري (3636) واللفظ له، ومسلم (2800). وحديثُ ابنِ عبَّاسٍ، قال: إنَّ القَمَرَ انشَقَّ على زمانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. أخرجه البخاري (3638)، ومسلم (2803) واللفظ له. ، وفسَّر قَولَ اللَّهِ تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] بقَولِه: (اقترب انشِقاقُ القَمَرِ، وانشِقاقُه هو في يومِ الدِّينِ) [358] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (2/ 119).    ، وجَهِل أنَّ اللَّهَ سُبحانَه أخبَرَ في كتابِه أنَّ القَمَرَ يومَ القيامةِ لا يَنشَقُّ بل يُخسَفُ، ويجمَعُ بينَه وبينَ الشَّمسِ؛ قال اللَّهُ تعالى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة: 8-9] .
والهادي يعتَمِدُ في بعضِ الأحكامِ على رواياتٍ يرويها عن أبيه عن جَدِّه القاسِمِ الرَّسِّيِّ، وروى قليلًا من الأحاديثِ النَّبَويَّةِ عن طريقِ أبيه عن جَدِّه؛ منها ما هو مُرسَلٌ، ومنها ما هو موقوفٌ، وكثيرًا ما يذكُرُ أحاديثَ موضوعةً بلا إسنادٍ، يقولُ فيها: بلَغَنا عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويروي بعضَ الأحاديثِ النَّبَويَّةِ وبعضَ أقوالِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ بإسنادٍ تالفٍ لا يصِحُّ عِندَ أهلِ الحديثِ، وهو هذا الإسنادُ: حَدَّثني أبي عن أبيه قال: حَدَّثنا أبو بكرِ بنُ أبي أُوَيسٍ عن الحُسَينِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ ضميرةَ عن أبيه عن جَدِّه عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ [359] يُنظر: ((الأحكام)) للهادي يحيى بن الحسين (1/ 41، 75، 307، 345). وهذا مثالٌ منها: حدَّثني أبي عن أبيه أنَّه قال: حدَّثني أبو بكرِ بنُ أبي أويسٍ عن حُسَينِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ ضميرةَ عن أبيه عن جَدِّه عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رحمةُ اللهِ عليه أنَّه قال: (الصَّلاةُ الوُسطى هي صلاةُ الجُمُعةِ، وهي في سائِرِ الأيَّامِ الظُّهرُ). ((الأحكام)) (1/ 93). وهذا كَذِبٌ على عليِّ بنِ أبي طالبٍ؛ فقد روى البخاري (2931) ومسلم (627) من طريقِ محمَّدِ بنِ سيرينَ عن عَبيدةَ السَّلمانيِّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: لمَّا كان يومُ الأحزابِ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ملأَ اللهُ بُيوتَهم وقُبورَهم نارًا، شَغَلونا عن الصَّلاةِ الوُسطى حتَّى غابت الشَّمسُ)). وقد جمع القاضي ابنُ أبي النَّجمِ الدين الصَّعديُّ الزَّيديُّ (ت 647هـ) كتابًا أسماه: ((درر الأحاديث النبوية بالأسانيد اليحيوية)) تضمَّن 393 حديثًا ممَّا رواه يحيى بنُ الحُسَينِ في كتبِه، أكثَرُها أحاديثُ بلا إسنادٍ، يقولُ فيها: بلَغَنا عن رسولِ اللهِ، أو بلَغَنا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ عن رسولِ اللهِ، أو بلَغَنا عن الحَسَنِ بنِ عليٍّ عن رسولِ اللهِ، أو بلغنا عن الحُسَينِ بنِ عليٍّ عن رسولِ اللهِ، أو بلَغَنا عن زيدِ بنِ عليٍّ عن آبائِه عن عليٍّ عن رسولِ اللهِ، أو بلَغَنا عن عبدِ اللهِ بنِ الحَسَنِ عن أبيه عن جَدِّه عن رسولِ اللهِ، أو بلَغَنا عن جَعفَرِ بنِ محمَّدٍ عن أبيه عن آبائِه عن رسولِ اللهِ! وقليلٌ منها عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه من قولِه أو عن غيرِه من أهلِ البيتِ. وأكثَرُ الأحاديثِ التي رواها الهادي مكذوبةٌ، وكثيرٌ منها لا يوجَدُ ما يشهَدُ لها في كتُبِ الحديثِ الأخرى، سواءٌ من كتُبِ المحَدِّثين أو حتى كتُبِ الشيعةِ أنفُسِهم، وقد تنصَّل محقِّقُ الكتاب عبدُ اللهِ العزي الزيديُّ من تخريجِها معتَذِرًا بأنَّها مقبولةٌ عِندَ أهلِ البيتِ! وبعضُ الأحاديثِ التي رواها الهادي صحيحةٌ معروفةٌ عِندَ أهلِ الحديثِ لكِنْ بغيرِ الإسنادِ الذي ذكره الهادي، ومن الأحاديثِ التي تفرَّد الهادي بروايتِها حديث رقم (88) قال: حدَّثني أبي عن أبيه يرفعُه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم أنَّه قال: (إذا وُضِعَت موائدُ آلِ محمَّدٍ حَفَّت بهم الملائكةُ يُقَدِّسون اللهَ ويَستغفِرون اللهَ لهم ولمن أكل معهم من طعامِهم!)، وهذا حديثٌ مكذوبٌ، ومَتْنُه غريبٌ! والشِّيعةُ يُصَدِّقون أيَّ حديثٍ في فضائِلِ أهلِ البيتِ وإن كان مكذوبًا، وإن كان مَتْنُه ظاهِرَ الكَذِبِ، ويتَّهِمون أهلَ العلمِ الذين يُبَيِّنون لهم كَذِبَ ذلك الحديثِ أنهم ناصبةٌ لا يحبُّون أهلَ البيتِ، ويتجاهَلون أنَّ أهلَ الحديثِ قد بيَّنوا صحَّةَ كثيرٍ من الأحاديثِ الواردةِ في فضائِلِ أهلِ البيتِ، فعُلَماءُ الحديثِ يُبَيِّنون ما ثبت عن النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا لم يَثبُتْ عنه، حتى إنَّهم بَّينوا كَذِبَ بعضِ الأحاديثِ الواردةِ في فَضلِ القرآنِ الكريمِ؛ لأنَّه تفرَّد بروايتِها بعضَ الكذَّابين، وفي صحيحِ الأحاديثِ الواردةِ في فَضلِ القرآنِ الكريمِ أو في فضلِ آلِ البيتِ كفايةٌ. وهذا الحديثُ المكذوبُ ذكره الهادي يحيى بنُ الحُسَينِ محتَجًّا به، ففي كتابه ((الأحكام)) (2/ 337) ما نصُّه: (قال يحيى بنُ الحسينِ صلواتُ اللهِ عليه: لموائِدِ آلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم فضلٌ على سائرِ الموائدِ، ولمن أكَل معهم فضلٌ على مَن أكَل مع غيرِهم، تفضيلًا من اللهِ سُبحانَه لهم بولادةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم إيَّاهم، ولِما أراد سُبحانَه من إبانةِ فَضلِهم وإتمامِ النِّعمةِ عليهم وتظاهُرِ نعمائِه عندَهم، وفي ذلك ما حدَّثني أبي عن أبيه يرفَعُه إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّم أنَّه قال: (إذا وُضِعَت موائِدُ آلِ محمَّدٍ حفَّت بهم الملائكةُ يُقَدِّسون اللهَ ويستغفرون لهم ولمن أكَل معهم من طعامِهم). قال يحيى بنُ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه: وذلك احتجاجٌ من اللهِ عليهم بما أسبَغ من كرامتِه لديهم، فإن شكَروا زادهم، وإن كفَروا عاقَبهم، فنسألُ اللهَ أن يجعَلَنا لأنعُمِه من الشَّاكِرين، ولآلائِه من الذَّاكِرين، وله سُبحانَه من الخائِفين، وأن يمُنَّ علينا بشُكرِ ما أولانا وأعطانا من أفضَلِ العطايا من ولادةِ سَيِّدِ المُرسَلين، والاصطِفاءِ على العالمين)، وقد تتابع الزَّيديَّةُ على الاستدلالِ بهذا الحديثِ المكذوبِ جازمين بنسبتِه إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، غافلين عن كَذِبِه، مغترِّين بأنَّ الهاديَ أو القاسِمَ ذَكَره، واللهُ المستعانُ. يُنظر مثلًا: ((شرح الأزهار)) لابن مفتاح الزيدي (10/205). .
 ولم يلتَفِتِ الهادي إلى الأدِلَّةِ المرويَّةِ عِندَ أهلِ الحديثِ، فيستَنبِطُ منها أحكامًا فقهيَّةً، ولكِنَّه أعرَضَ عنها، وما عَلِمَه منها تجاهَلَه؛ لأنَّه كان يُنكِرُ صِحَّةَ تلك الأحاديثِ وإن كانت في صحيحِ البُخاريِّ ومُسلِمٍ، كما بَيَّنَ ذلك المهديُّ أحمدُ بنُ يحيى بنِ المرتضى في كتابه (الغايات)، ناقلًا عن الهادي يحيى بنِ الحُسَينِ في ذِكرِ المخالِفِ أنَّه قال: (ولهم -أي أهلِ السُّنَّةِ- كتابانِ يسمُّونَهما بالصَّحيحينِ، ولَعَمْري هما عن الصِّحَّةِ لخاليانِ)، وعَقَّب المهديُّ على كلامِ الهادي بقولِه: (ولَعَمْري إنَّه - أي الهاديَ- لا يقولُ ذلك على غيرِ بَصيرةٍ) [360] يُنظر: ((المنار في المختار من جواهر البحار الزخار)) للمقبلي (1/352). !
 فالهادي والمتعَصِّبون من أتباعِ مَذهَبِه لا يعتدُّون بأحاديثِ كُتُبِ السُّنَّةِ؛ لأنَّ رُواتَها لم يكونوا من الشِّيعةِ، ويقتَصِرون على الأحاديثِ المرويَّةِ عن أسلافِهم بأسانيدِهم.
والنَّاظِرُ في كتُبِ عُلَماءِ الزَّيديَّةِ يجِدُ أنَّ أكثَرَهم يؤثِرون العَمَلَ بما قرَّره عُلَماءُ مَذهَبِهم، حتَّى لو كان مصادِمًا لأدِلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وإذا تعارَض ما رجَّحه أهلُ المَذهَبِ الزَّيديِّ في مسألةٍ ما مع النَّصِّ يقولون: والمَذهَبُ بخِلافِه! ويعتَمِدُ المتعَصِّبون ما هو مقرَّرٌ في المَذهَبِ وإن خالف الدَّليلَ، بل وإن خالف قولَ زيدِ بنِ عَليٍّ الذي ينتَسِبون إليه، ومن ذلك أنَّ اللَّهَ تعالى أحلَّ للمُسلِمين أكلَ طعامِ أهلِ الكتابِ، وأحَلَّ زواجَ المُسلِمِ بالكتابيَّةِ؛ قال اللَّهُ تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ [المَّائدة: 5] ، لكِنَّ الهادويَّةَ لم يأخُذوا بما دلَّت عليه هذه الآيةُ الكريمةُ [361] ذكر محمَّدُ بنُ إبراهيمَ الوزيرُ أنَّ زيدَ بنَ عليٍّ وحفيدَه أحمدَ بنَ عيسى ويحيى بنَ حمزةَ جَوَّزوا نكاحَ الكتابيَّةِ. يُنظر: ((العواصم والقواصم)) (8/214). !
قال نَشوانُ بنُ سَعيدٍ الحِميَريُّ (ت 573 هـ) مُنكِرًا على بعضِ المقَلِّدين من عُلَماءِ عَصرِه من متعَصِّبةِ الزَّيديَّةِ الهادويَّةِ؛ لإيثارِهم رأيَ الإمامِ الهادي يحيى بنِ الحُسَينِ على قَولِ اللَّهِ سُبحانَه:
إذا جادَلْتُ بالقرآنِ خَصمي
أجاب مجادِلًا بكلامِ يحيى
فقُلتُ: كلامُ رَبِّك عنه وَحيٌ
أتجعَلُ قَولَ يحيى عنه وَحيَا؟ [362] يُنظر: مقدمة ((شمس العلوم)) (1/9).
على أنَّ هذا التَّعصُّبَ للأئمَّةِ المتبوعين ليس خاصًّا بالمَذهَبِ الزَّيديِّ، بل هو شائِعٌ في المذاهِبِ الأخرى كذلك [363] يُنظر: ((أدب الطلب)) للشوكاني (ص: 70-72). .
والهادي كان يرى نفسَه أفضَلَ أهلِ زمانِه وأعلَمَهم، ويُصَرِّحُ بأنَّ اللَّهَ فَضَّله على أهلِ دَهْرِه، ويرى أنَّه تجِبُ على النَّاسِ طاعتُه، وأنَّه تجِبُ الهِجرةُ إليه لنُصرتِه، وكان يكاتِبُ النَّاسَ بذلك يدعوهم إلى الهِجرةِ إليه وطاعتِه ونُصرتِه [364] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 431 – 434، 483، 494 – 499، 507 – 511، 599)، ((سيرة الهادي يحيى بنِ الحسين)) للعلوي (ص: 49، 50)، ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 129).    ، وبلغ به الأمرُ أنَّه أخبر باستبشارِ الملائكةِ في السَّماءِ بأمرِه، وضَمِن لمن أطاعه الجنَّةَ [365] يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص: 51).    ، وقال: (واللَّهِ واللَّهِ لو عَلِمتُ أنَّ أحدًا في هذا العَصرِ أقوَمَ بهذا الأمرِ منِّي أو عرَفْتُه من أهلِ البيتِ يقومُ بأفضَلَ ممَّا أقومُ به لاتَّبَعْتُه حيثُ كان، ولكِنِّي لا أعلَمُه) [366] يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص: 51).    !
وقال جامِعُ سيرتِه عَليُّ بنُ محمَّدٍ العَلَويُّ: (سمِعتُه ما لا أحصيه إذا اجتَمَع عندَه النَّاسُ يقولُ: واللَّهِ لئِنْ أطعْتُموني لا فقَدْتُم من رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسلَّم إلَّا شَخْصَه إن شاء اللَّهُ تعالى) [367] يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص: 49). !
فالهادي كان يرى أنَّه يقومُ مقامَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسلَّم، وأنَّه خيرُ أهلِ الأرضِ الواجِبُ طاعتُه، وكان يُلقِّبُ نفسَه: الهادي إلى الحَقِّ أميرُ المُؤمِنين يحيى بنُ الحُسَينِ ابنِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسلَّم، وقيل: كان يتواضَعُ للنَّاسِ ويَرحَمُ المساكينَ ويُوَزِّعُ الصَّدَقاتِ عليهم مع الحِرصِ على إظهارِ هَيبتِه في مَلبَسِه، ولا يحِبُّ أن يُنادى بالسَّيِّدِ، ويحِبُّ أن يُنادى بابنِ رَسولِ اللَّهِ، وكان يأمُرُ بالمعروفِ وينهى عن المُنكَرِ، ويُعلِّمُ النَّاسَ، ويتفَقَّدُ أحوالَهم، وكان يتورَّعُ عن الحرامِ في مأكَلِه، ويحرِصُ على العَدلِ في حُكمِه [368] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 542 - 546)، ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص: 53 – 65، 73، 77، 117، 121 - 124).       . ومن حَسَناتِه التي تُذكَرُ له إقامةُ الحُدودِ والقِصاصِ، وإلزامُ النِّساءِ بالحِجابِ، والإصلاحُ بَيْنَ القبائِلِ، ومحاربةُ القرامِطةِ الباطنيَّةِ في اليَمَنِ، وله مواقِفُ طيِّبةٌ في العَفوِ عِندَ المقدِرةِ، والغَضَبِ على عساكِرِه إن وقع منهم ظُلمٌ وتَعَدٍّ على النَّاسِ [369] يُنظر: ((سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص:81 - 84، 108 – 110، 1122، 119 – 121، 126 – 129، 139، 142، 166، 167، 222، 330، 340، 389 - 397)، ((تتمة المصابيح)) للآملي (ص: 571، 572). .
وكان الهادي قويًّا حازِمًا، فارِسًا شُجاعًا، قَويَّ القَلبِ، ثابتَ الجأشِ، شديدًا على مخالِفيه، وربَّما رمى بالكُفرِ مَن يقاتِلُهم ولعَنَهم، وقد قَتَل بيَدِه في حروبِه كثيرًا من الذين يقاتِلونه [370] وقد ذَكَر صاحِبُ سيرةِ الهادي بعضَ القِصَصِ الغريبةِ الدَّالَّةِ على شجاعةِ الهادي، وقد يكونُ في بعضِ ما ذكره مبالغاتٌ، وقد ذكر في بعضِ المواطِنِ التي انتصر فيها الهادي على جيشٍ كثيفٍ أنَّه لم يَبْقَ مع الهادي إلَّا سبعةُ رِجالٍ، ثمَّ سَمَّى منهم ثمانيةً! واللهُ أعلَمُ. يُنظر: ((سيرة الهادي إلى الحق يحيى بنِ الحسين)) للعلوي (ص: 296، 297). ، وهَدَم كثيرًا من القُرى والبُيوتِ، وربَّما أمَرَ بحَرقِها بعد هَدمِها، وقطَعَ كثيرًا من نخيلِ أهلِ اليَمَنِ وأعنابِهم، وأفسَد كثيرًا من مزارِعِهم وآبارِهِم، وطَرَد بعضَ أهلِ القُرى من قراهم وشَرَّدَهم، وفي بعضِ المعارِكِ التي انتَصَر فيها أمَرَ بقطعِ رُؤوس القتلى، وفي بعضِ المواطِنِ في نجرانَ عَلَّق جُثَثَ القتلى على الأشجارِ بعراقيبِهم مُنَكَّسين حتى أنتَنَت القريةُ نَتْنًا شديدًا [371] يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص: 103، 104، 143، 144، 161 – 163، 165، 166، 169، 170، 173، 175، 178، 189، 191، 195، 224، 234، 237، 244، 251). !
وكان الهادي يرى أنَّ أكبَرَ فرائِضِ اللَّهِ على خَلقِه، وأعظَمَ ما افترض على عبادِه ضَرْبُ وجوهِ أعداءِ اللَّهِ بالسَّيفِ، وسَفكُ دمائِهم، ومجاهَدتُهم على مخالفةِ الحَقِّ؛ ولهذا خُلِق الخَلقُ؛ لأنَّه أفضَلُ عبادتِه [372] يُنظر: ((تفسير الإمام الهادي)) (1/ 239). .
قال العَلَويُّ جامِعُ سيرةِ الهادي: (سمعتُه يقولُ: لأضرِبَنَّ ضَربًا ما ضربه إلَّا عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ رحمةُ اللَّهِ عليه،... وسمِعتُه يقولُ يومًا وعندَه النَّاسُ: ما أشتفي ولا يشفي قلبي إلَّا أن أطَأَ جِيَفَ المخالِفين للحَقِّ بفَرَسي) [373] يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بنِ الحسين)) للعلوي (ص: 50) بتصرف يسير. .
والنَّاظِرُ في سيرةِ الهادي التي جمَعَها أحَدُ أصحابِه يجِدُ فيها أمورًا مُنكَرةً غيرَ قَتلِ المخالفين له، وقَطْعِ أشجارِهم، وهَدْمِ بُيوتِهم وحُصونِهم، وحَرقِ بَعضِ القُرى، وطَرْدِ أهلِها؛ فمِن ذلك أخذُه أموالَ الذين يقاتِلونه غنائِمَ، وربما أباح لجُندِه أن ينهَبوا أموالَهم، مع أنَّ المحاربينَ له لم يكونوا من القرامِطةِ أحيانًا، بل كانوا مُسلِمين ممن يقاتِلُهم ويقاتِلونَه على المُلْكِ [374] يُنظر: ((سيرة الهادي يحيى بن الحسين)) للعلوي (ص: 186، 193، 196، 292)، ((الإكليل)) للهمداني (ص: 15). ! ومن ذلك أنَّه كان في بعضِ السِّنينَ لا يُعطي الزَّكاةَ لمُستَحقِّيها من الفُقَراءِ، وقد أنكر عليه بعضُ أتباعِه، فبَيَّن لهم حجَّتَه في مَنعِ الفُقَراءِ الزَّكاةَ في بعضِ السَّنواتِ، وأنَّه كان محتاجًا لصَرفِها لأنصارِه وجُندِه، حتَّى لا يضعُفَ عن إقامةِ دَولتِه [375] يُنظر: ((رسالة جواب مسائل الحسين بن عبد الله الطبري فيما التبس من سيرة الإمام الهادي)) ضمن ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 523 - 538).    ، مع كونِه كان أحيانًا يأخُذُ ضرائِبَ على النَّاسِ بقَدْرِ غِناهم وفَقرِهم لينفِقَها على عساكِرِه، ويُقَوِّيَ بها دولتَه [376] يُنظر: ((مجموع رسائل الهادي)) (ص: 527، 528). !
أئمَّةُ الزَّيديَّةِ ودَورُهم في نَشرِ القُبوريَّةِ في اليَمَنِ:
النَّاظِرُ في كتُبِ عقائِدِ الزَّيديَّةِ وكتُبِ التَّاريخِ والتَّراجِمِ المتعَلِّقةِ بهم يجِدُ أنَّ عُلَماءَ الزَّيديَّةِ وأئمَّتَهم لم يهتمُّوا كثيرًا بتقريرِ توحيدِ الألوهيَّةِ، ولم يجتَهِدوا في الدَّعوةِ إليه، ولم يحرِصوا على التَّحذيرِ من الشِّركِ باللَّهِ عزَّ وجَلَّ في عبادتِه [377] يُنظر: ((القبورية في اليمن)) لأحمد المعلم (ص: 264 - 270). .
ومن أعظَمِ ما يُقَرِّرونه في كتُبِهم نفيُ صفاتِ اللَّهِ الثَّابتةِ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، وادِّعاءُ أنَّ إثباتَها تشبيهٌ للهِ سُبحانَه، وتقريرُ كثيرٍ من عقائِدِ المُعتَزِلةِ، كالقَولِ بخَلقِ القرآنِ، وخَلقِ أفعالِ العِبادِ، والقَولِ بتخليدِ العُصاةِ في النَّارِ، ومن أعظَمِ ما يُقَرِّرونه في كتُبِهم تثبيتُ الوَصيَّةِ لعَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وإثباتُ حَقِّ الإمامةِ في ذُرِّيَّةِ الحَسَنِ والحُسَينِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، والطَّعنُ في كثيرٍ من الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، وأنَّ الخروجَ على الحُكَّامِ الجائرين جهادٌ في سبيلِ اللَّهِ، ولم يكتفوا بتقريرِه بلا عَمَلٍ، بل نجِدُهم في كُلِّ عَصرٍ يقومون بالثَّوراتِ والخُروجِ على الحُكَّامِ، ولا يتوَرَّعون عمَّا يحصُلُ بسبَبِ ذلك من مفاسِدَ عظيمةٍ، وحُروبٍ طاحنةٍ، يُسفَكُ فيها كثيرٌ من دماءِ أتباعِهم وأعدائِهم، وهم يحسَبون أنَّهم يُحسِنون صُنعًا! وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11-12] [378] يُنظر: ((المعرفة والتاريخ)) للفسوي (1/ 193، 194)، ((تاريخ الطبري)) (8/ 535 - 541)، ((مجموع رسائل الإمام عبد اللهِ بنِ حمزة)) القسم الثاني (2/ 289 – 291، 401)، ((المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)) لابن الجوزي (7/ 212 - 214)، ((سمط النجوم العوالي)) للعصامي (4/ 191- 198)، ((أئمة اليمن بالقرن الرابع عشر)) لمحمد زبارة (ص: 5 - 7، 10، 18، 48 – 57). .
وأئمَّةُ الزَّيديَّةِ في اليَمَنِ يُجَوِّزون البناءَ على قُبورِ عُظَمائِهم، ولا يحَذِّرون النَّاسَ من التَّوسُّلِ والتَّبرُّكِ بها، ووُجِدَت في اليَمَنِ كثيرٌ من المشاهِدِ والقِبابِ المبنيَّةِ على القُبورِ، ووُجِدَ حولَها سَدَنةٌ يتأكَّلون منها، ويحكون للعوامِّ الخُرافاتِ التي ترغِّبُهم في النُّذورِ لها والتَّوسُّلِ بها، ويبنون بتلك القبورِ مجدًا وجاهًا على أنقاضِ عقائِدِ الأمَّةِ، بعد أن تحوَّلت تلك القبورُ إلى مزاراتٍ مُقَدَّسةٍ يعتَقِدُ فيها العوامُّ وأشباهُهم ما لا يجوزُ اعتقادُه إلَّا في اللَّهِ تعالى، حتَّى إنَّ مِن العوامِّ مَن يتبَرَّكُ بتربتِها، ومِن العوامِّ مَن يدعو أصحابَ تلك القبورِ مِن دونِ اللَّهِ سُبحانَه، وتغاضى أئمَّةُ الزَّيديَّةِ عن ذلك، وتركوا العوامَّ يَغرَقون في بحرِ الشِّركِ والخُرافةِ!
والإمامُ الزَّيديُّ المتعَصِّبُ المنصورُ باللَّهِ عبدُ اللَّهِ بنُ حَمزةَ أوَّلُ مَن سَنَّ لأئمَّةِ الزَّيديَّةِ سُنَّةَ البناءِ على المشاهِدِ [379] يُنظر: ((تاريخ اليمن)) للواسعي (ص: 197). ، فكأنَّه أراد أن يُظْهِرَ بذلك شيئًا من أبَّهةِ المُلكِ للأئمَّةِ وهم أمواتٌ، كما هي لهم وهم أحياءٌ [380] يُنظر: ((الإمامة وخطرها على وَحدة اليمن)) للزبيري (ص: 13-14). !
وقد خَطَا الإمامُ الزَّيديُّ عبدُ اللَّهِ بنُ حَمزةَ بالقُبوريَّةِ في الدِّيارِ اليَمنيَّةِ خُطواتٍ كبيرةً جِدًّا؛ إذ لم يكتَفِ بأن يبنيَ لنفسِه مَشهَدًا في حياتِه أو يوصِيَ أن يُبنى له ذلك بعدَ وَفاتِه، وإنَّما سَنَّ ذلك عمليًّا في حياتِه بأمرٍ إماميٍّ وتهديدٍ شَديدِ اللَّهجةِ لأهلِ قَريةِ لَصَفٍ [381] قريةٌ في نواحي مدينةِ شبامٍ بوادي حَضرَموتَ. يُنظر: ((معجم البلدان والقبائل اليمنية)) للمقحفي (3/ 1735). التي قُتِلَ فيها أخوه إبراهيمُ بنُ حمزةَ وهو يقاتِلُ الأيوبيِّينَ؛ فقد كَتَب لهم عبدُ اللَّهِ بنُ حَمزةَ هذه الرِّسالةَ:
(بسمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، من عبدِ اللَّهِ المنصورِ باللَّهِ أميرِ المُؤمِنين إلى كافَّةِ السَّاكنينَ بلَصَفٍ من المُؤمِنين والمُسلِمين، سلامٌ عليكم، فإنَّا نحمَدُ اللَّهَ إليكم الذي لا إلهَ إلَّا هو، ونسألُه لنا ولكم التَّوفيقَ لِمَا يحِبُّ ويرضى. أمَّا بعدُ: فقد بلَغَنا جَفْوتُكم للشَّهيدِ الذي تُوُفِّيَ بَيْنَ أظهُرِكم، وحطَّ رحْلَه بَيْنَ أفنِيَتِكم، وجاد بنفسِه دونَ بِلادِكم، واستقبَلَ بوَجهِه العدوَّ صبرًا واحتسابًا حين زاغت الأبصارُ فَشَلًا، وبلغت القلوبُ الحناجِرَ وَجَلًا، وظَنَّ قومٌ باللَّهِ الظُّنونا جَزَعًا، وابتُلِيَ المُؤمِنون بالهزيمةِ امتحانًا، وزُلزِلوا بالحادثةِ اختبارًا، فرَخَص عنده من الموتِ ما غلا عِندَ غيرِه، وغلا عنده من الفِرارِ ما رَخَص عِندَ سواه، وعَلِمَ القصدَ فتَمَّ العَزمُ، ومضى على البصيرةِ على مناهِجِ السَّلَفِ الصَّالحِ مُستقبِلًا لكثرةِ العَدُوِّ وعَزمِه، ومُستصغرًا لعظيمةِ نجدِه، فبلَغَنا أنَّكم هاجِرون لقَبرِه، قالونَ لمصرَعِه، قد صغَّرتُم منه ما عظَّم اللَّهُ سُبحانَه جَهلًا، وجَهِلتُم ما عَلِم الصَّالحون حَيرةً وشَكًّا، كأنَّكم لم تسمعوا أقوالَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه فينا: ((أقرَبُ النَّاسِ منِّي موقفًا يومَ القيامةِ بعدَ حمزةَ وجَعفَرٍ رجُلٌ منَّا أهلَ البيتِ خَرَج بسيفِه فقاتَل إمامًا ظالِمًا فقُتِل)) [382] لم نقِفْ عليه فيما لدينا من كتُبٍ مُسنَدةٍ. ، فهَلَّا -رَحِمَكم اللَّهُ- استشفَيتُم بتُرابِ مَصرَعِه من الأدواءِ، وسألتُم بتُربِة مَضجَعِه رَفْعَ الأسواءِ، واستمطَرْتُم ببركةِ قَبرِه من رحمةِ رَبِّكم طوالِعَ الأنواءِ، وعظَّمتُم حالَه كما يُعَظَّمُ حالُ الشُّهَداءِ، وأوجَبتُم مِن حَقِّه ما ضيَّع الأعداءُ، وعمَّرتُم على قَبِره مَشهَدًا، وجعَلْتُموه للاستغفارِ مَثابةً ومَقصِدًا، ونذَرْتُم له النُّذُرَ تَقَرُّبًا، وزُرتُموه تودُّدًا إلى اللَّهِ سُبحانَه وإلى رسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وإلينا تحبُّبًا... ألا فاعلَموا بعدَ الذي بلَغَنا عنكم أنَّا قد قَلَيْنا له جوارَكم، ورَغِبنا به عن دارِكم، وعزَمْنا بعدَ الخِيرةِ للهِ سُبحانَه وتعالى على نَقلِه من أوطانِكم إلى مَن يَعرِفُ حَقَّه، ويتيقَّنُ فَضلَه وسَبْقَه، فلو رعيتُم له حُرمةَ القَرابةِ وفَضْلَ وِراثةِ النُّبُوَّةِ لعَلِمتُم حُرمةَ ذلك الدَّمِ الزَّكيِّ) [383] يُنظر: ((هجر العلم)) للأكوع (1/223-225). !
والإمامُ يحيى بنُ محمَّدٍ حميدِ الدِّينِ أمَر قبيلةَ أرحَبَ الهَمدانيَّةِ ببناءِ تابوتٍ وقُبَّةٍ على قبرِ الإمامِ أحمدَ بنِ هاشِمٍ الويسيِّ للتَّبرُّكِ به! وهدَّدهم إن لم يفعَلوا ذلك بأنَّه سينقُلُ رُفاتَه إلى مكانٍ آخَرَ، فما كان من أهلِ أرحَبَ إلَّا أن بَنَوا له قُبَّةً ووضَعوا على قَبرِه تابوتًا [384] يُنظر: ((هجر العلم)) للأكوع (1/255). !
وقد ترتَّب على ذلك خَلَلٌ كبيرٌ في عقيدةِ كثيرٍ من العوامِّ وأشباهِهم، كما صوَّر ذلك الشَّوكانيُّ حينَ ذكَرَ ما يجري عِندَ مشهَدِ الإمامِ أحمَدَ بنِ الحُسَينِ [385] يُنظر: ((الدر النضيد)) (ص: 48). .
وبعد أن ألِفَ عُلَماءُ البلادِ الزَّيديَّةُ هذه المشاهِدَ التي شيَّدها أئمَّةٌ مجتَهِدون في نَظَرِهم ركَنوا إلى ذلك الواقِعِ، وأحسَنوا الظَّنَّ بمن سَنَّ لهم تلك السُّنَّةَ، وتابعوهم عليها بالفِعلِ وبالإفتاءِ، حتَّى إنَّه أفتى بجوازِ البناءِ على القُبورِ الإمامُ الزَّيديُّ يحيى بنُ حمزةَ الحُسَينيُّ الذي أثنى عليه الشَّوكانيُّ في (البَدرِ الطَّالِعِ) ثناءً عاطرًا [386] يُنظر: ((البدر الطالع)) (2/ 332، 333). ! فقد نقل عنه الإمامُ الزَّيديُّ أحمد المرتضى فقال: (مسألة «ي» ولا بأسَ بالقِبابِ والمشاهِدِ على الفُضَلاءِ لاستعمالِ المُسلِمين، ولم يُنكَرْ) [387] ((البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)) (2/132). . وحرف (ي) في كتابِ (البَحرِ الزَّخَّارِ) رَمزٌ لقولِ الإمامِ يحيى بنِ حمزةَ، وقال المرتضى في كتابِه (الأزهار) الذي هو أشهَرُ متنٍ فِقهيٍّ عِندَ الزَّيديَّةِ على الإطلاقِ، وهو المعتَمَدُ عِندَهم في الدِّراسةِ والفتوى، قال وهو يتكَلَّمُ عمَّا يُندَبُ في القَبرِ: ومنه رَفعُه قَدْرَ شِبرٍ: (وكُرِهَ ضِدُّ ذلك، والإنافةُ بقَبرِ غيرِ فاضِلٍ) [388] ((الأزهار في فقه الأئمة الأطهار)) (ص: 361). .
وقد ردَّ الشَّوكانيُّ على مَن جَوَّز رَفعَ القُبورِ والبناءَ عليها من أئمَّةِ الزَّيديَّةِ في كتابِه: (شَرحُ الصُّدورِ في تحريمِ رَفعِ القُبورِ).
هذا ما يتعَلَّقُ ببناءِ المشاهِدِ والقِبابِ، وأمَّا هَدمُ تلك المشاهِدِ للسِّياسةِ كذلك فهو أظهَرُ، ومن ذلك: ما حَدَث من هَدمِ القُبورِ المُشرِفةِ والمشاهدِ المقامةِ عليها زمَنَ الإمامِ المنصورِ وابنِه المتوكِّلِ على اللَّهِ اللَّذينِ كانا في عَصرِ الشَّوكانيِّ؛ حيثُ إنَّه أجاب أئمَّةَ الدَّعوةِ النَّجديَّةِ إلى هَدمِ بعضِ المشاهِدِ في صَنعاءَ وما حولها، وكتَبَ بذلك إلى سائِرِ الجِهاتِ، ذَكَر ذلك الشَّوكانيُّ في كتابِه (البَدرُ الطَّالِعُ) [389] ((البدر الطالع)) (1/ 262، 263). ، وصاحِبُ كتابِ (حوليَّاتٌ يمانيةٌ) [390] (ص: 547). .
والذي يدُلُّ على أنَّ هَدْمَهما للمشاهِدِ على القُبورِ كان سياسةً لا تديُّنًا أنَّ ذلك الإمامَ بينما كان يرضَخُ للنَّجديِّين ويداهِنُهم -كما عبَّرَ بذلك صاحِبُ الحَوليَّاتِ- كان في نفسِ الوَقتِ يكاتِبُ الأتراكَ والمِصريِّين للقُدومِ إلى الجزيرةِ العَرَبيَّةِ للقَضاءِ على الدَّولةِ النَّجديَّةِ [391] يُنظر: ((ذكريات الشوكاني)) (ص: 113)، ((حوليات يمانية)) لمؤلف مجهول بتحقيق عبد الله محمد الحبشي (ص: 22-23). .
ومُعظَمُ المشاهِدِ المُعَظَّمةِ في الدِّيارِ الزَّيديَّةِ هي للأئمَّةِ وأقارِبِهم.
قائِمةٌ بأهَمِّ القُبورِ التي عليها مشاهِدُ لبَعضِ أئمَّةِ الزَّيديَّةِ على حَسَبِ التَّسلسُلِ الزَّمَنيِّ لإنشائِها:
1- مَشهَدُ الإمامِ المنصورِ باللَّهِ عبدِ اللَّهِ بنِ حمزةَ الحَسَنيِّ في مِنطَقةِ ظَفارِ ذيبين.
2- مَشهَدُ الأميرِ عمادِ الدِّين يحيى بنِ حمزةَ (أخي عبدِ اللَّهِ بنِ حمزةَ) بمدينةِ كَحلانَ.
3- مَشهَدُ الإمامِ أحمدَ بنِ الحُسَينِ المعروفِ بأبي طيرٍ في مدينةِ ذيبينَ.
4- مَشهَدُ الإمامِ يحيى بنِ حمزةَ الحُسَيني في مدينةِ ذِمارِ.
5- مَشهَدُ الإمامِ الهادي إلى الحَقِّ يحيى بنِ الحُسَينِ بصَعدةَ، ومعه عددٌ من أبنائِه وأحفادِه، ومنهم الإمامُ المهديِّ لدينِ اللَّهِ عَليِّ بنِ محمَّدٍ الذي بنى تلك القِبابَ والمشاهِدَ.
6- مَشهَدُ الإمامِ صلاحِ الدِّينِ بصَنعاءَ.
7- مَشهَدُ الإمامِ المهديِّ لدينِ اللَّهِ أحمدَ بنِ المرتضى في حِصنِ الظَّفيرِ بحَجَّةَ.
8- مَشهَدُ الإمامِ المهديِّ صلاحِ بنِ عَليِّ بنِ مُحمَّدِ بنِ أبي القاسِمِ في صَعدةَ.
9- مَشهَدُ الإمامِ النَّاصِرِ مُحمَّدِ بنِ يوسُفَ بنِ صَلاحِ بنِ المرتضى في مدينةِ ثَلا.
10- مَشهَدُ الإمامِ شَرَفِ الدِّينِ يحيى بنِ شَمسِ الدِّينِ أحمدَ بنِ يحيى المرتضى في الظَّفيرِ بحَجَّةَ.
11- مَشهَدُ مدرَسةِ الإمامِ شَرَفِ الدِّينِ في ثلا، وفيه عددٌ من أبنائِه وبناتِه وذَويه.
12- مَشهَدُ الأميرِ صلاحِ الدِّينِ بنِ شمسِ الدِّينِ بنِ الإمامِ شَرَفِ الدِّينِ في مدينةِ ثلا.
هذه بعضُ المشاهدِ الزَّيديَّةِ، ويوجَدُ غيرُها حتَّى في صنعاءَ عاصِمةِ اليَمَنِ، ففيها مثلًا قُبَّةُ المهديِّ عبَّاسٍ، وقُبَّةُ المتوكِّلِ، وكُلُّ هذه القِبابِ والمشاهِدِ مُشاهَدةٌ للعِيانِ عَبْرَ القُرونِ، ولم يُزِلْها أحدٌ من ملوكِ الزَّيديَّةِ الذين يُسَمُّون أنفُسَهم أئمَّةَ الإسلامِ [392] يُنظر: ((الأضرحة في اليمن من القرن الرابع إلى القرن العاشر)) لعلي سيف (ص: 161). !

انظر أيضا: