موسوعة الفرق

المطلَبُ الرَّابعُ: مَوقِفُ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه وأهلِ بَيتِه من ابنِ سَبَأٍ


عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: (لَيُحِبُّني قومٌ حتَّى يدخُلوا النَّارَ في حُبِّي، ولَيُبغِضُني قومٌ حتى يدخُلوا النَّارَ في بُغضي) [185] رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (952)، وابن أبي شيبة (32133) واللفظ لهما، وابن أبي عاصم في ((السنة)) (983) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّح إسنادَه على شرطِ الشَّيخينِ: الألباني في تخريج ((كتاب السنة)) (983). .
وعنه رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: (مَثَلي في هذه الأُمَّةِ كمَثَلِ عيسى بنِ مَريَمَ؛ أحبَّتْه طائفةٌ وأفرَطَت في حُبِّه فهَلَكت، وأبغَضَتْه طائفةٌ وأفرَطَت في بُغضِه فهَلَكت، وأحبَّتْه طائفةٌ فاقتَصَدت في حُبِّه فنَجَت) [186] رواه عبد الله بن أحمد وِجادةً عن أبيه في ((السنة)) (1025).
انقسامُ النَّاسِ في عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: مُبغِضٌ
وهؤلاء هم النَّواصِبُ الذين طعَنوا فيه، بل غالى بعضُهم فقالوا بكُفرِه كالخَوارجِ.
القِسمُ الثَّاني: محِبٌّ غالٍ في حُبِّه
وقد ذهَب الغُلُوُّ ببعضِهم حتَّى جعلوه بمنـزلةِ النَّبيِّ، بل رفعَه بعضُهم إلى منزلةِ الألوهيَّةِ، فدَعَوه مع اللَّهِ سُبحانَه.
القِسمُ الثَّالِثُ: الذين أحبُّوا عَليًّا وآلَ بيتِه محبَّةً شَرعيَّةً بلا غُلُوٍّ
وهم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، أتباعُ السَّلَفِ الصَّالحِ، فأحبُّوا عَليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه وآلَ بيتِه؛ لقُربِهم من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَسَبًا، ولوَصيَّةٍ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأهلِ بيتِه أن يحِبَّهم النَّاسُ، ويَعرِفوا قَدْرَهم، ولا يَظلِموهم، كما في عِدَّةِ أحاديثَ؛ منها:
عن زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا فينا خطيبًا بماءٍ يُدعى خُمًّا بَينَ مكَّةَ والمدينةِ، فحَمِد اللهَ وأثنى عليه، ووَعَظ وذَكَّر، ثمَّ قال: ((أمَّا بعدُ، ألَا أيُّها النَّاسُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أن يأتيَ رسولُ رَبِّي فأُجيبَ، وأنا تارِكٌ فيكم ثَقَلينِ: أوَّلُهما كتابُ اللهِ، فيه الهُدى والنُّورُ؛ فخُذوا بكتابِ اللهِ واستَمسِكوا به))، فحَثَّ على كتابِ اللهِ ورَغَّب فيه، ثمَّ قال: ((وأهلُ بيتي، أذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي، أذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي، أذَكِّرُكم اللهَ في أهلِ بيتي)) [187] رواه مسلم (2408). .
وعَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه وأهلُ بيتِه بَريئون ممَّن يغلو فيهم، وقد تبرَّؤوا من عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ وأتباعِه.
روى شُعبةُ عن سَلَمةَ بنِ كُهَيلٍ عن زيدِ بنِ وَهبٍ الجُهَنيِّ، وهو من كبارِ التَّابعين الثِّقاتِ، ومن أصحابِ عَليٍّ المشهورين، قال: قال عَليُّ بنُ أبي طالبٍ: (ما لي ولهذا الحَمِيتِ الأسوَدِ [188] الحَمِيتُ هو المتينُ من كُلِّ شيءٍ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (1/152). ؟! يعني ابنَ سَبَأٍ، وكان يقَعُ في أبي بَكرٍ وعُمَرَ) [189] رواه ابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (29/ 7، 8). .
وروى الكَشِّيُّ بسَنَدِه عن محمَّدِ بنِ قُولَوَيهِ قال: حدَّثَني سعدُ بنُ عَبدِ اللَّهِ قال: حَدَّثنا يعقوبُ بنُ يزيدَ عن ابنِ أبي عُمَيرٍ، وأحمَدُ بنُ محمَّدِ بنِ عيسى عن أبيه، والحُسَينُ بنُ سَعدٍ عن ابنِ أبي عُمَيرٍ، عن هشامِ بنِ سالمٍ عن أبي حمزةَ الثُّماليِّ، قال: قال عَليُّ بنُ الحُسَينِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (لعَنَ اللَّهَ من كذَب علينا، إنِّي ذكَرتُ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ فقامت كُلُّ شعرةٍ في جسدي، لقد ادَّعى أمرًا عظيمًا، ما له؟! لعنه اللَّهُ! كان عَليٌّ عبدًا للهِ صالحًا، أخًا لرَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما نال الكرامةَ مِن اللَّهِ إلَّا بطاعتِه له ولرَسولِه، وما نال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكرامةَ إلَّا بطاعةِ اللَّهِ) [190] ((رجال الكشي)) (ص: 100). ويُنظر: ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني (2/183، 184)، ((قاموس الرجال)) لمحمد تقي التستري (5/461). .
وروى الكَشِّيُّ أيضًا بسَنَدِه عن محمَّدِ بنِ قُولَوَيهِ قال: حدَّثني سعدُ بنُ عبدِ اللَّهِ، قال: حَدَّثنا يعقوبُ بنُ يزيدَ ومحمَّدُ بنُ عيسى، عن عَليِّ بنِ مِهزيارٍ، عن فضالةَ بنِ أيُّوبَ الأزديِّ، عن أبانَ بنِ عُثمانَ، قال: سمِعتُ أبا عبدِ اللَّهِ عليه السَّلامُ يقولُ: (لعَنَ اللَّهُ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ؛ إنَّه ادَّعى الرُّبوبيَّةَ في أميرِ المُؤمِنين، وكان واللَّهِ طائعًا، الوَيلُ لمن كذَب علينا! وإنَّ قومَنا يقولون فينا ما لا نقولُ في أنفُسِنا، نبرَأُ إلى اللَّهِ منهم، نبرَأُ إلى اللَّهِ منهم) [191] ((رجال الكشي)) (ص: 100). ويُنظر: ((تنقيح المقال في أحوال الرجال)) للمامقاني (2/183، 184)، ((قاموس الرجال)) لمحمد تقي التستري (5/461). .
وروى الكَشِّيُّ أيضًا بسَنَدِه عن محمَّدِ بنِ خالِدٍ الطَّيالِسيِّ عن ابنِ أبي نَجرانَ عن عبدِ اللَّهِ بنِ سِنانٍ، قال: قال أبو عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (إنَّا أهلُ بيتٍ صِدِّيقون، لا نخلو من كذَّابٍ يَكذِبُ علينا، ويُسقِطُ صِدقَنا بكَذِبِه علينا عِندَ النَّاسِ، كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصدَقَ النَّاسِ لَهجةً، وأصدَقَ البَريَّةِ كُلِّها، وكان مُسيلِمةُ يَكذِبُ عليه، وكان أميرُ المُؤمِنين أصدَقَ من بَرَأ  اللَّهُ بَعدَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان الذي يَكذِبُ عليه ويَعمَلُ في تكذيبِ صِدقِه ويفتري على اللَّهِ الكَذِبَ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ لعنه اللَّهُ) [192] ((رجال الكشي)) (ص: 100). هذه رواياتُ الكَشِّيِّ عن بعضِ أئمَّةِ أهلِ البيتِ في تبَرُّئِهم من عبدِ اللهِ بنِ سَبَأٍ، وكتابُ الكَشِّيِّ اسمُه (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين)، وقد اختصره إمامُ الشِّيعةِ الطُّوسي الملقَّبُ عندهم بشيخِ الطَّائفةِ، فهذَّبه وجرَّده من الزِّياداتِ والأغلاطِ، وسمَّاه بـ(اختيار الرجال)، وأملاه على تلاميذِه، كما نصَّ على ذلك رضيُّ الدِّينِ علي بن طاووس في (فرج المهموم)، نقلًا عن نسخةٍ بخطِّ الشَّيخِ الطُّوسيِّ المصَرِّح فيها بأنَّها اختصارُ رجالِ كتابِ (الرِّجال) لأبي عَمرٍو محمَّدِ بنِ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ الكَشِّيِّ واختيارُه؛ فكتابُ (رجالِ الكَشِّيِّ) هو اختيارُ الشَّيخِ الطُّوسيِّ، لا رجالُ الكَشِّيِّ الأصلُ الذي اسمُه (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين)؛ فإنَّه كتابٌ مفقودٌ، لم يوجَدْ له أثَرٌ. يُنظر: ((رجال الطوسي)) (ص: 62). .
وقد اختَلَفت الرِّواياتُ في مَوقِفِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه من ابنِ سَبَأٍ حينما ادَّعى ألوهيَّتَه [193] ((ابن سبأ حقيقة لا خيال)) لسعد الهاشمي (ص: 154 - 159)، ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها)) لغالب عواجي (1/324). .
1- بعضُ الرِّواياتِ تذكُرُ أنَّ عَليًّا استتابه ثلاثةَ أيَّامٍ، فلم يرجِعْ؛ فأحرقه في جملةِ سبعينَ رَجُلًا [194] ((منهج المقال)) للاسترابادي (ص: 203). .
2- بعضُ الرِّواياتِ تَذكُرُ أنَّ ابنَ سَبَأٍ لم يُظهِرِ القولَ بألوهيَّةِ عَليٍّ إلَّا بَعدَ وفاتِه، وهذا يؤيِّدُ الرِّوايةَ التي تَذكُرُ أنَّه نفاه إلى المدائنِ حينما عَلِم ببعضِ أقوالِه، وغُلُوِّه فيه [195] ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي الحديد (2/309). ويُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (ص: 157). .
3- بعضُ الرِّواياتِ تَذكُرُ أنَّ عَليًّا عَلِم بمقالةِ ابنِ سَبَأٍ في دعوى ألوهيَّتِه، ولكِنَّه اكتفى بنَفيِه إلى المدائِنِ خَوفَ الفتنةِ واختلافِ أصحابِه عليه، وخوفًا من شماتةِ أهلِ الشَّامِ [196] يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 235). .
قال البَغداديُّ: (السَّبَئيَّةُ أتباعُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ الذي غلا في عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وزَعَم أنَّه كان نبيًّا، ثُمَّ غلا فيه حتَّى زعَم أنَّه إلهٌ، ودعا إلى ذلك قَومًا من غُواةِ الكوفةِ، ورُفِع خبَرُهم إلى عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، فأمَر بإحراقِ قَومٍ منهم في حُفرتينِ... ثُمَّ إنَّ عَليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه خاف من إحراقِ الباقينَ منهم شماتةَ أهلِ الشَّامِ، وخاف اختِلافَ أصحابِه عليه، فنفى ابنَ سَبَأٍ إلى سباطِ المدائِنِ، فلمَّا قُتِل عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه زعم ابنُ سَبَأٍ أنَّ المقتولَ لم يكُنْ عَليًّا، وإنَّما كان شيطانًا تصَوَّر للنَّاسِ في صورةِ عَليٍّ، وأنَّ عَليًّا صَعِد إلى السَّماءِ كما صَعِد إليها عيسى بنُ مريمَ، وقال: كما كذَبَت اليهودُ والنَّصارى في دعواها قَتْلَ عيسى كذلك كذَبَت النَّواصِبُ والخوارجُ في دعواها قَتْلَ عَليٍّ، وإنَّما رأت اليهودُ والنَّصارى شخصًا مصلوبًا شبَّهوه بعيسى، كذلك القائلون بقتلِ عَليٍّ، رأوا قتيلًا يُشبِهُ عَليًّا، فظنُّوا أنَّه عليٌّ، وعليٌّ قد صَعِد إلى السَّماءِ، وإنَّه سيَنزِلُ إلى الدُّنيا، وينتَقِمُ من أعدائِه! وزعَم بعضُ السَّبَئيَّةِ أنَّ عَليًّا في السَّحابِ، وأنَّ الرَّعدَ صَوتُه، والبَرقَ صَوتُه، ومَن سَمِع من هؤلاء صوتَ الرَّعدِ قال: عليك السَّلامُ يا أميرَ المُؤمِنين! وقد رُوِي عن عامِرِ بنِ شراحيلَ الشَّعبيِّ أنَّ ابنَ سَبَأٍ قيل له: إنَّ عَليًّا قد قُتِل، فقال: إن جِئتُمونا بدماغِه في صُرَّةٍ لم نُصَدِّقْ بموتِه، لا يموتُ حتَّى يَنزِلَ من السَّماءِ ويملِكَ الأرضَ بحذافيرِها!
وهذه الطَّائفةُ تَزعُمُ أنَّ المَهديَّ المُنتظَرَ إنَّما هو عَليٌّ دونَ غيرِه... وقال المحقِّقون من أهلِ السُّنَّةِ: إنَّ ابنَ السَّوداءِ كان على هوى دينِ اليَهودِ، وأراد أن يفسِدَ على المسلمين دينَهم بتأويلاتِه في عَليٍّ وأولادِه؛ لكي يعتقِدوا فيه ما اعتقَدت النَّصارى في عيسى عليه السَّلامُ، فانتسب إلى الرَّافِضةِ السَّبَئيَّةِ حين وجَدَهم أعرَقَ أهلِ الأهواءِ في الكُفرِ، ودلَّس ضلالتَه في تأويلاتِه) [197] ((الفرق بين الفرق)) (ص: 233، 235). .
وقال الشَّهْرَستانيُّ: (السَّبَئيَّةُ أصحابُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ الذي قال لعَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أنت أنت، يعني: أنت الإلهُ! فنفاه إلى المدائِنِ، وزعموا أنَّه كان يهوديًّا فأسلم، وكان في اليهوديَّةِ يقولُ في يوشَعَ بنِ نونٍ وَصيِّ موسى مثلَ ما قال في عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وهو أوَّلُ من أظهَر القولَ بالنَّصِّ بإمامةِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ومنه انشعَبَت أصنافُ الغُلاةِ، وزعم أنَّ عَليًّا حيٌّ لم يمُتْ، وفيه الجزءُ الإلهيُّ، ولا يجوزُ أن يُستولى عليه، وهو الذي يجيءُ في السَّحابِ، والرَّعدُ صوتُه والبَرقُ تَبَسُّمُه، وإنَّه سينزِلُ بَعدَ ذلك إلى الأرضِ فيملأُ الأرضَ عَدلًا كما مُلِئَت جَورًا، وإنَّما أظهَر ابنُ سَبَأٍ هذه المقالةَ بَعدَ انتقالِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، واجتمَعت عليه جماعةٌ) [198] ((الملل والنحل)) (1/ 174). .
والواقِعُ أنَّ الرِّواياتِ التي تَذكُرُ أنَّ عَليًّا تَرَك ابنَ سَبَأٍ، فلم يُحرِقْه واكتفى بنَفيِه مع عِظَمِ دَعواه وشَناعةِ رأيِه: فيها نَظَر؛ فيُستبعَدُ أن يترُكَه يَعيثُ في الأرضِ فسادًا، ويدعو إلى ألوهيَّتِه أو نبُوَّتِه أو وصايتِه أو التَّبرُّؤُ من أصحابِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ يكتفي بنفيِه فقط إلى المدائِنِ، وهو يَعلَمُ أنَّه باقٍ على غُلُوِّه، وأنَّه سيُفسِدُ كُلَّ مكانٍ يَصِلُ إليه. ولو صَحَّ أنَّه تَرَك قَتْلَه، واكتفى بنَفيِه، فلعَلَّ ذلك لعَدَمِ ثُبوتِ تلك الأقوالِ عنده، أو لأنَّه لم يُظهِرْ تأليهَ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه في حياتِه، وإنَّما أظهر ذلك بَعدَ وفاةِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، مع أنَّه ثبَت أنَّ عَليًّا أحرَق الزَّنادقةَ الذين ادَّعَوا ألوهيَّتَه؛ فالأمرُ في قَتلِ عَليٍّ لابنِ سَبَأٍ أو نفيِه إلى المدائِنِ فيه خلافٌ بَيْنَ المُؤَرِّخين، مع اتِّفاقِهم على إنكارِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه على ابنِ سَبَأٍ، وإحراقِه طائفةً ممَّن يقولُ بقَولِه، واللَّهُ أعلَمُ.
فعن عِكرمةَ أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه حرَّق قومًا فبَلَغ ابنَ عبَّاسٍ فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِقْهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تُعَذِّبوا بعذابِ اللَّهِ))، ولقتَلْتُهم، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن بدَّل دينَه فاقتُلوه)) [199] رواه البخاري (3017).
وفي روايةٍ: (أُتيَ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه بزنادقةٍ فأحرَقَهم) [200] رواه البخاري (6922) ولَفظُه: عن عِكرمةَ قال: أُتيَ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه بزنادقةٍ فأحرَقَهم، فبَلَغ ابنَ عبَّاسٍ فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِقْهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تُعَذِّبوا بعذابِ اللَّهِ))، ولقتَلْتُهم، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن بدَّل دينَه فاقتُلوه)). .
وروى أبو الطَّاهِرِ المخلِصُ من طريقِ شَريكٍ العامِريِّ قال: قيل لعَليٍّ: إنَّ هنا قومًا على بابِ المسجِدِ يدَّعون أنَّك رَبُّهم! فدعاهم فقال لهم: وَيلَكم ما تقولون؟! قالوا: أنت رَبُّنا وخالِقُنا ورازِقُنا! فقال: وَيلَكم! إنَّما أنا عبدٌ مِثلُكم، آكُلُ كما تأكُلون، وأشرَبُ كما تَشرَبون، إن أطعتُ اللَّهَ أثابني إن شاء اللَّهُ، وإن عصَيتُه خَشِيتُه أن يُعَذِّبني؛ فاتَّقوا اللَّهَ وارجِعوا، فأبَوا، فلمَّا كان الغدُ غَدَوا عليه، فجاء قَنبَرٌ فقال: قد واللَّهِ رجَعوا يقولونَ ذلك الكلامَ، فقال: أدخِلْهم، فقالوا كذلك، فلمَّا كان الثَّالثُ قال: لئِنْ قُلتُم ذلك لأقتُلَنَّكم بأخبَثِ قِتلةٍ، فأبَوا إلَّا ذلك، فقال: يا قَنبَرُ، ائتِني بفَعَلةٍ معهم مُرورُهم [201] في كُتُبِ اللُّغةِ: المَرُّ: الحَبلُ أو المِسحاةُ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (5/170)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 474). وزَبلُهم، فخَدَّ لهم أُخدودًا بَيْنَ بابِ المسجِدِ والقَصرِ، وقال: احفِروا فأبعِدوا في الأرضِ، وجاء بالحَطَبِ فطَرَحه بالنَّارِ في الأخدودِ، وقال: إنِّي طارِحُكم فيها أو ترجِعوا، فأبَوا أن يرجِعوا؛ فقَذَف بهم) [202] رواه أبو الطَّاهِرِ المُخلِصُ: في كتابه المخلصيات (547)، وحسَّن إسنادَه ابنُ حَجَرٍ في كتابه ((فتح الباري)) (12/271). .
وقد جاءَت هذه القِصَّةُ في كتابِ الكافي للكَلينيِّ الذي هو عِندَ الشِّيعةِ بمنـزلةِ صحيحِ البُخاريِّ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ، فروى الكَلينيُّ في كتابِ الحُدودِ في بابِ المرتَدِّ، بإسنادينِ عن أبي عبدِ اللَّهِ أنَّه قال: (أتى قومٌ أميرَ المُؤمِنين عليه السَّلامُ، فقالوا: السَّلامُ عليك يا رَبَّنا! فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفَر لهم حَفيرةً، وأوقد فيها نارًا، وحَفَر حَفيرةً أُخرى إلى جانِبِها، وأفضى ما بَيْنَهما، فلمَّا لم يتوبوا ألقاهم في الحَفيرة، وأوقَد في الحَفيرةِ الأخرى نارًا حتَّى ماتوا) [203] ((الكافي)) (7/257-259). ويُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي الحديد (2/308، 309). .
وفي بحارِ الأنوارِ للمَجلِسيِّ نقلًا عن مناقِبِ آلِ أبي طالِبٍ لابنِ شَهرِ آشوبَ: (فخَدَّ عليه السَّلامُ لهم أخاديدَ، وأوقَد نارًا، فكان قَنبَرٌ يحمِلُ الرَّجُلَ بَعدَ الرَّجُلِ على مَنكِبِه، فيَقذِفُه في النَّارِ) [204] ((بحار الأنوار)) (25/285)، ((مناقب آل أبي طالب)) (1/227). .
وقد روى الخطيبُ البَغداديُّ بسَنَدِه من طريقِ زِيادٍ البَكَّائيِّ قال: حَدَّثَنا المجالِدُ بنُ سَعيدٍ قال: حدَّثَني الشَّعبيُّ قال: أخبَرَني زَحْرُ بنُ قَيسٍ الجُعفيُّ قال: بعَثَني عَليٌّ على أربعِمائةٍ من أهلِ العِراقِ، وأمَرَنا أن نَنزِلَ المدائِنَ رابطةً، قال: فواللَّهِ إنَّا لجُلوسٌ عِندَ غُروبِ الشَّمسِ على الطَّريقِ إذ جاءنا رجلٌ قد أعرَق دابَّتَه، فقُلْنا: من أين أقبَلْتَ؟ فقال: من الكوفةِ، فقُلْنا: متى خرَجْتَ؟ قال: اليومَ، قُلْنا: فما الخبَرُ؟ قال: خرج أميرُ المُؤمِنين إلى الصَّلاةِ صلاةِ الفَجرِ فابتَدَره ابنُ بَجرةَ وابنُ مُلجِمٍ، فضَرَبه أحدُهما ضربةً إنَّ الرَّجُلَ ليعيشُ ممَّا هو أشَدُّ منها، ويموتُ ممَّا هو أهوَنُ منها، قال: ثُمَّ ذهَب، فقال عبدُ اللَّهِ بنُ وَهبٍ السَّبَئيُّ -ورفَع يَدَه إلى السَّماءِ-: اللَّهُ أكبَرُ، اللَّهُ أكبَرُ، قال: قُلتُ له: ما شأنُك؟ قال: لو أخبَرَنا هذا أنَّه نَظَر إلى دماغِه قد خرج عرَفْتُ أنَّ أميرَ المُؤمِنين لا يموتُ حتَّى يسوقَ العَرَبَ بعصاه! قال زَحْرٌ: فواللَّهِ ما مكَثْنا إلَّا تلك اللَّيلةَ حتَّى جاءنا كتابُ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ: مِن عبدِ اللَّهِ حَسَنٍ أميرِ المُؤمِنين إلى زَحرِ بنِ قَيسٍ، أمَّا بَعدُ: فخُذِ البيعةَ على مَن قِبَلَك، قال: فقُلْنا: أين ما قُلتَ؟ قال: ما كنتُ أراه يموتُ!) [205] ((تاريخ بغداد)) (8/ 490). .
والذي يَغلِبُ على الظَّنِّ أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ أحرَق عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ حينَ ادَّعى ألوهيَّةَ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ويَبعُدُ جِدًّا أن يَترُكَ قَتْلَه وقد أظهَر زَندقَتَه، ويقتَصِرَ على قَتلِ بعضِ أتباعِه الذين أظهَروا الزَّندقةَ، وقد كان له أتباعٌ آخَرون قالوا بقَولِه، وزادوا ضلالًا بَعدَ موتِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، فادَّعَوا أنَّه لم يمُتْ، وأنَّه سيرجِعُ إلى الدُّنيا، ومن أولئك السَّبئيِّينَ: عبدُ اللَّهِ بنُ وَهبٍ السَّبَئيُّ، كما في روايةِ الخَطيبِ. واللَّهُ أعلَمُ بحقيقةِ الحالِ.

انظر أيضا: