موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّاني: مُنكِرو ابنِ سَبَأٍ والرَّدُّ عليهم


أوَّلًا: بعضُ المُستَشرِقين:
أنكَر بعضُ المُستَشرِقين وجودَ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، وقالوا: إنَّه شخصيَّةٌ وهميَّةٌ تخيَّلها مُحَدِّثو القَرنِ الثَّاني، ومن هؤلاء:
- الدُّكتورُ بِرْنارد لويس اليَهوديُّ الإنجليزيُّ [101] يُنظر: ((أصول الإسماعيليين والإسماعيلية)) تعريب خليل جلو وجاسم الرجب (ص: 86، 87). .
- يوليوس فلهوزن اليهوديُّ الألمانيُّ [102] يُنظر: ((الخوارج والشيعة)) ترجمة عبد الرحمن بدوي. .
- فرييدلاندِر الأمريكيُّ [103] يُنظر: ((عبد الله بن سبأ والشيعة)) نشره في المجلة الأشورية (1909، 1910). .
- الأميرُ كايتاني الإيطاليُّ [104] يُنظر: ((أصول الإسماعيلية)) لبرنارد. .
وقد عارَض هؤلاء المُستَشرِقين مُستَشرِقون آخَرون [105] يُنظر: ((عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام)) لسليمان العودة (ص: 62-73). ، فقَرَّروا أنَّ ابنَ سَبَأٍ حقيقةٌ، منهم: إجناس جولد صيهر [106] يُنظر: ((العقيدة والشريعة في الإسلام)) (ص: 229). .
- دينولد ألين نيكلسن [107] يُنظر: ((تاريخ العرب الأدبي في الجاهلية وصدر الإسلام)) ترجمة صفاء خلوصي (ص: 325). .
ثانيًا: بعضُ أتباعِ المُستَشرِقينَ
1- طه حُسَين: فقال: (إنَّ أمرَ السَّبَئيَّةِ وصاحِبِهم ابنِ السَّوداءِ إنَّما كان مُتكَلَّفًا منحولًا... فحينَ كان الجِدالُ بَيْنَ الشِّيعةِ وغَيرِهم من الفِرَقِ الإسلاميَّةِ أراد خُصومُ الشِّيعةِ أن يُدخِلوا في أصولِ هذا المذهَبِ عُنصُرًا يهوديًّا؛ إمعانًا في الكَيدِ لهم والنَّيلِ منهم) [108] ((علي وبنوه)) (ص: 98-100). .
وقد استدَلَّ على إنكارِ ابنِ سَبَأٍ بأنَّ المؤرِّخَ البَلاذُريَّ لم يذكُرْ شيئًا عن عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ ولا أصحابِه في قِصَّةِ مَقتَلِ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
واستدَلَّ أيضًا بأنَّ حادِثةَ تحريقِ عَليٍّ للذين ألَّهوه لم يذكُرْها بعضُ المؤَرِّخين ولم يُؤَقِّتْها، وإنَّما أهمَلوها إهمالًا تامًّا!
أمَّا عَدَمُ ذِكرِ البَلاذُريِّ لابنِ سَبَأٍ فلا يعني أنَّه شخصيَّةٌ خياليَّةٌ؛ لأنَّ بعضَ المُؤَرِّخينَ قد يَذكُرُ ما لا يَذكُره الآخَرون، ثُمَّ إنَّ البَلاذُريَّ لم يلتَزِمْ ذِكرَ جميعِ الوقائِعِ والأحداثِ!
ويكفي في إثباتِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ أنَّه مذكورٌ في كثيرٍ من الرِّواياتِ التَّاريخيَّةِ بالأسانيدِ في كُتُبِ أهلِ السُّنَّةِ، وفي كُتُبِ التَّاريخِ والتَّراجِمِ، ولو صَحَّ التَّشكيكُ فيها لصَحَّ التَّشكيكُ في كُلِّ ما هو مذكورٌ ومتواتِرٌ فيها. وهكذا حادثةُ تحريقِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه للذين ألَّهوه؛ فهي مذكورةٌ في صحيحِ البُخاريِّ [109] أخرجه البخاري (6922) عن عِكرِمةَ، قال: أُتيَ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه بزنادقةٍ فأحرَقَهم، فبَلَغ ابنَ عبَّاسٍ فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِقْهم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تُعَذِّبوا بعذابِ اللَّهِ))، ولقتَلْتُهم، كما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن بدَّل دينَه فاقتُلوه)). ، ومذكورةٌ في كتُبِ التَّاريخِ والتَّراجِمِ، وفي كُتُبِ الشِّيعةِ أنفُسِهم، كما تقَدَّم.
2- محمَّد كامِل حُسَين: حيث اعتبَرَ قِصَّةَ ابنِ سَبَأٍ أقرَبَ إلى الخُرافاتِ، ولم يذكُرْ أيَّ دليلٍ لِما يراه [110] يُنظر: ((أدب مصر الفاطمية)) (ص: 7). !
3- حامد حفني داود: ادَّعى أنَّ ابنَ سَبَأٍ من أعظمِ الأخطاءِ التَّاريخيَّةِ التي أفلتَتْ من زِمامِ الباحثين، وغُمَّ عليهم أمرُها فلم يَفْقَهوها ويَفطِنوا لها، وادَّعى أنَّ أهلَ السُّنَّةِ افتَرَوا قِصَّةَ عَبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ على الشِّيعةِ واعتبروها مَغمَزًا يَغمِزون به عليهم [111] يُنظر: ((التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية)) (ص: 18). ويُنظر: ((مع رجال الفكر في القاهرة)) لمرتضى العسكري (ص: 93). .
وحامد حفني أحدُ دُعاةِ التَّقريبِ بَيْنَ السُّنَّةِ والشِّيعةِ، ويكفي في الرَّدِّ عليه ما تقَدَّم نَقلُه من مصادِرِ الشِّيعةِ القديمةِ المُعتَمَدةِ عِندَهم، التي أثبتت وجودَ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، وأنَّه الذي أظهَر القولَ بالوصيَّةِ والعِصمةِ وغيرِ ذلك ممَّا صار فيما بَعدُ أساسًا للمَذهَبِ الشِّيعيِّ.
ثالثًا: الشِّيعةُ المُعاصِرون الذين يُنكِرون ابنَ سَبَأٍ
الشِّيعةُ المعاصِرون الذين أنكَروا وجودَ ابنِ سَبَأٍ كثيرون؛ منهم:
1- محمد جواد مغنية: فهو في نَظَرِه شخصيَّةٌ وهميَّةٌ، ذكره كُلُّ من نسب إلى الشِّيعةِ ما ليس له به عِلمٌ، وتكلَّمَ عنهم جهلًا وخطأً أو نِفاقًا وافتراءً [112] يُنظر: ((التشيع)) (ص: 18). .
2- مرتضى العسكريُّ: فقد زعم أنَّه ناقَش جميعَ من ذهبوا إلى وجودِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، وخرج بنتيجةٍ هي أنَّ ابنَ سَبَأٍ شخصيَّةٌ وهميَّةٌ خُرافيَّةٌ، ابتدعها واختَلَقها سيفُ بنُ عُمَرَ [113] يُنظر: ((التشيع)) (ص: 18، 19). وسَيفُ بنُ عُمَرَ هو مؤرِّخٌ من قُدَماءِ المؤَرِّخين العَرَبِ، ومات في زمَنِ خِلافةِ هارونَ الرَّشيدِ. قال عنه ابنُ حَجَرٍ: (ضَعيفٌ في الحديثِ، عمدةٌ في التَّاريخِ). ((تقريب التهذيب)) (ص: 262). . وصنَّف كتابًا خاصًّا بابنِ سَبَأٍ عنوانُه: (عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ وأساطيرُ أُخرى).
3- عَليٌّ الورديُّ: فهو يرى أنَّ ابنَ سَبَأٍ هو عمَّارُ بنُ ياسرٍ! واستدَلَّ على ذلك بما يلي:
- أنَّ ابنَ سَبَأٍ كان يُكنى بابنِ السَّوداءِ، ومِثلُه عَمَّارٌ!
- أنَّ عَمَّارًا من أبٍ يمانيٍّ، ومعنى هذا أنَّه كان من أبناءِ سَبَأٍ، فكلُّ يمنيٍّ يَصحُّ أن يُقالَ عنه: إنَّه ابنُ سَبَأٍ!
- أنَّ عمَّارًا كان شديدَ الحُبِّ لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ، ويُحَرِّضُ النَّاسَ على بيعتِه في كُلِّ سبيلٍ.
- ما رُوِيَ من أنَّ عَمَّارًا ذهب في أيَّامِ عُثمانَ إلى مِصرَ، وأخذ يُحرِّضُ النَّاسَ هناك على عثمانَ!
واستخلَص الوَرديُّ من ذلك أنَّ ابنَ سَبَأٍ لم يكُنْ سوى عمَّارِ بنِ ياسِرٍ! وأنَّ قُرَيشًا كانت تعتبرُ عمَّارًا رأسَ الثَّورةِ على عثمانَ، ولكِنَّها لم تَشَأْ في أوَّلِ الأمرِ أن تُصرِّحَ باسمِه، فرمَزَت عنه بابنِ سَبَأٍ أو ابنِ السَّوداءِ، وتناقَلَ الرُّواةُ هذا الرَّمزَ غافِلين [114] يُنظر: ((وعاظ السلاطين)) (ص: 274-278). !
وقال: (يبدو أنَّ هذه الشَّخصيَّةَ العجيبةَ اختُرِعتْ اختراعًا، وقد اختَرَعها أولئك الأغنياءُ الذين كانت الثَّورةُ مُوجَّهةً ضِدَّهم) [115] ((وعاظ السلاطين)) (ص: 151). .
4- كامل الشِّيبي: الذي تابعَ الورديَّ في القولِ بأنَّ ابنَ سَبَأٍ هو عمَّارُ بنُ ياسرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وحاول أن يُعزِّزَ ما ذهب إليه، وتابَع كذلك طه حسين في إنكارِ حَرقِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه للسَّبَئيَّةِ، فقال: (أمَّا قضيَّةُ إحراقِ عَليٍّ المزعومِ للسَّبَئيَّةِ فإنَّه خبَرٌ مختَلَقٌ من أساسِه، ولم يَرِدْ على صورةٍ فيها ثِقةٌ في كتابٍ مُعتبَرٍ من كتُبِ التَّاريخِ، ولعَلَّ أصلَ هذا الحادِثِ يتَّصِلُ بإحراقِ خالِدِ بنِ عبدِ اللَّهِ القَسريِّ بَيانًا وخمسةً من أتباعِه الغُلاةِ، ثُمَّ لمَّا تقدَّم بها الزَّمنُ زُحزِحَت الحادثةُ إلى الأمامِ قليلًا حتى اتَّصَلت بعليٍّ) [116] ((الصلة بين التصوف والتشيع)) (ص: 41-45). .
والقَولُ بأنَّ ابنَ سَبَأٍ هو عمَّارُ بنُ ياسرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه رأيٌ يرُدُّه العَقلُ والنَّقلُ والتَّاريخُ، وكيف تُلصَقُ تلك العقائِدُ التي قال بها ابنُ سَبَأٍ بعمَّارِ بنِ ياسر رَضِيَ اللَّهُ عنه؟!
كما أنَّ كُتُبَ الجَرحِ والتَّعديلِ والرِّجالِ الموثَّقةِ عِندَ السُّنَّةِ والشِّيعةِ تَرُدُّ هذا القولَ، ويكفي أنَّ كُتُبَ الشِّيعةِ تواترت على ذِكرِ عمَّارِ بنِ ياسرٍ في أصحابِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه والرُّواةِ عنه، وفرَّقَت بينه وبينَ ترجمةِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، الذي تذكُرُه باللَّعنةِ، وتمدَحُ عَمَّارًا، فكيف نجمَعُ بَيْنَ هاتينِ التَّرجمتينِ إن كانا نفسَ الشَّخصِ [117] يُنظر: ((رجال الطوسي)) (ص: 46، 51)، ((رجال الحلي)) (ص: 255، 469)، ((أحوال الرجال)) للكشي، ((قاموس الرجال)) للتستري، ((تنقيح المقال)) للمامقاني. ؟!
5- طالب الحُسَينيُّ الرِّفاعيُّ: فقال في حاشيتِه على مقَدِّمةِ محمَّد باقر لكتاب (تاريخ الإماميَّة) التي طُبِعَت أيضًا باسمِ (التَّشيُّعُ ظاهِرةٌ طبيعيَّةٌ في إطارِ الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ): (على أنَّه لو كان ابنُ سَبَأٍ هذا حقيقةً تاريخيَّةً ثابتةً فعلًا، فإنَّه كما سنذكُرُه مُفَصَّلًا في مبحثٍ خاصٍّ به لا صِلةَ إطلاقًا بَيْنَ أفكارِه وبينَ ما اشتمَلت عليه عقيدةُ الشِّيعةِ من الوصيَّةِ لأميرِ المُؤمِنينَ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ عليه السَّلامُ؛ لأنَّها قائمةٌ على رواياتٍ في صِحاحِ الفريقَينِ من السُّنَّةِ والشِّيعةِ، كما هي موجودةٌ أيضًا في كتُبِ الفريقَينِ في التَّفسيرِ والتَّاريخِ وأُصولِ الاعتقادِ؛ ومِن ثَمَّ فالقولُ بأنَّ التَّشيُّعَ نتيجةٌ من نتائجِ الفِكرةِ السَّبَئيَّةِ -كما يُدَّعى- رأيٌ باطِلٌ) [118] ((التشيع ظاهرة طبيعية)) (ص: 20). .
6- عبد اللَّه فياض: فقد أنكر وجودَه في كتابِه (تاريخُ الإماميَّةِ وأسلافِهم من الشِّيعةِ)، وهو كتابٌ مُطعَّمٌ بآراءِ المُستَشرِقين، وكان المُشرِفَ عليه الدُّكتورُ قُسطَنْطين زريق، أحدُ أساتذةِ دائرةِ التَّاريخِ بالجامعةِ الأمريكيَّةِ ببيروتَ. قال في كتابِه: (يبدو أنَّ ابنَ سَبَأٍ كان شخصيَّةً إلى الخيالِ أقربَ منها إلى الحقيقةِ، وأنَّ دَورَه -إن كان له دَورٌ- قد بُولغَ فيه إلى درجةٍ كبيرةٍ؛ لأسبابٍ دينيَّةٍ وسياسيَّةٍ، والأدِلَّةُ على ضَعفِ قصَّةِ ابنِ السَّوداءِ كثيرةٌ) [119] يُنظر: ((تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة)) (ص: 92-100). ، واستدَلَّ بما ذهب إليه مرتضى العسكريُّ، وهو اتِّهامُ سَيفِ بنِ عُمَرَ باختلاقِ هذه الشَّخصيةِ، وزعَم وجودَ تناقُضٍ ومبالغةٍ في الرِّواياتِ، وعَزَّز موقِفَه برأيِ الورديِّ والشِّيبـيِّ، مع أنَّ أكثَرَ الرِّواياتِ التي تُثبِتُ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ ليست من طريقِ سَيفِ بنِ عُمَرَ، فما أكثَرَ الرِّواياتِ في كُتُبِ الحديثِ والتَّاريخِ والتَّراجِمِ من غيرِ طريقِه! منها:
- قال أبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ: (حَدَّثنا إبراهيمُ بنُ محمَّدٍ، ثنا عبدُ اللَّهِ، ثنا يوسُفُ بنُ أسباطٍ، ثنا محمَّدُ بنُ عبدِ العزيزِ التَّيميُّ الكوفيُّ، عن مغيرةَ، عن أمِّ موسى، قالت: بلَغ عَليًّا أنَّ ابنَ سَبَأٍ يُفَضِّلُه على أبي بَكرٍ وعُمَرَ، فهَمَّ عَليٌّ بقتلِه، فقيل له: أتقتُلُ رَجُلًا إنما أجَلَّك وفضَّلك؟ فقال: لا جَرَمَ لا يساكِنُني في بلدةٍ أنا فيها) [120] ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) (8/ 253). .
- قال البُخاريُّ: حَدَّثنا أبو النُّعمانِ محمَّدُ بنُ الفَضلِ، حَدَّثنا حمَّادُ بنُ زَيدٍ، عن أيُّوبَ، عن عِكرمةَ، قال: (أُتيَ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه بزنادقةٍ فأحرَقَهم، فبلَغَ ذلك ابنَ عبَّاسٍ، فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِقْهم؛ لنهيِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُعَذِّبوا بعذابِ اللَّهِ)) ولقَتَلْتُهم؛ لقَولِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن بَدَّل دينَه فاقتُلوه)) [121] أخرجه البخاري (6922). .
- قال ابنُ أبي الدُّنيا: حَدَّثنا الحُسَينُ نا عبدُ اللَّهِ قال: حدَّثني أبي عن هشامِ بنِ محمَّدٍ عن أبي عبدِ اللَّهِ الجُعفيِّ قال: أخبَرنا عُروةُ بنُ عَبدِ اللَّهِ عن زَحْرِ بنِ قَيسٍ قال: (قال رجُلٌ يُقالُ له ابنُ السَّوداءِ مِن هَمدانَ يُقالُ له: عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ: واللَّهِ لو رأيتُ أميرَ المُؤمِنين في قَبرِه لعَلِمتُ أنَّه لن يَذهَبَ حتى يَظهَرَ!) [122] ((مقتل علي)) (ص: 87). ويُنظر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب (9/ 516).
فدعوى أنَّ قِصَّةَ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ اخترعها سَيفُ بنُ عُمَرَ التَّميميُّ غيرُ صحيحةٍ؛ فتلك الرِّواياتُ وغيرُها من غيرِ طَريقِه!
والحقيقةُ أنَّه قد تواتَر ذِكْرُ ابنِ سَبَأٍ في كتُبِ السُّنَّةِ والشِّيعةِ على حَدٍّ سَواءٍ، واتَّفق القُدَماءُ من أهلِ السُّنَّةِ والشِّيعةِ على اعتبارِ ابنِ سَبَأٍ حقيقةً واقعيَّةً، وشخصيَّةً تاريخيَّةً [123] من أبرز هذه الدِّراساتِ وأهمِّها: ((عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة)) لسليمان العودة، وقد توفَّرت لديه أدِلَّةٌ قاطعةٌ على وجودِ ابنِ سَبَأٍ وسَعيِه في الفتنةِ، وهي دراسةٌ ناقش فيها المؤلِّفُ المشكِّكين والمنكِرين، والقائلين بأنَّ ابنَ سَبَأٍ هو عمَّارُ بنُ ياسرٍ، وأثبَت زَيفَ هذه الأقوالِ. وكذلك عمَّارٌ الطالبيُّ أثبت بُطلانَ هذه الأقوالِ في كتابه: ((آراء الخوارج)) (ص: 74-81). وكذلك عِزَّت عطيَّة في كتابه ((البدعة)) (ص: 64) وما بعدها. ولسعدي الهاشميِّ محاضرةٌ في هذا الموضوع، أثبت فيها وجودَ ابنِ سَبَأٍ بالأدِلَّةِ عند السُّنَّةِ والشِّيعةِ، وقد طُبِعَت في كتاب:‍ ((ابن سبأ حقيقة لا خيال)). .
نقولاتٌ لبعضِ عُلَماءِ الشِّيعة الذين أثبَتوا وجودَ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، ودورَه في نشأةِ التَّشيُّعِ:
1- سعدُ بنُ عبدِ اللَّهِ القُمِّيُّ:
أقرَّ بوجودِ ابنِ سَبَأٍ، وذكَر أسماءَ بعضِ أصحابِه الذين تآمَروا معه، ولقَّب فرقتَه بالسَّبَئيَّةِ، ورأى أنَّها أوَّلُ فِرقةٍ في الإسلامِ قالت بالغُلُوِّ، واعتبر ابنَ سَبَأٍ (أوَّلَ من أظهر الطَّعنَ على أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ والصَّحابةَ، وتبرَّأ منهم، وادَّعى أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه أمَره بذلك). وذَكَر القُمِّيُّ أنَّ عَليًّا بلغه ذلك فأمَر بقَتلِه، ثُمَّ ترَكَ ذلك واكتفى بنفيِه إلى المدائِنِ [124] ((المقالات والفرق)) (ص: 20). .
كما نقَل عن جماعةٍ من العُلَماءِ: (أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ كان يهوديًّا فأسلَم، ووالى عَليًّا، وكان يقولُ وهو على يهوديَّتِه في يوشُعَ بنِ نونٍ وَصِيِّ موسى بهذه المقالةِ، فقال في إسلامِه بَعدَ وفاةِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَليٍّ بمِثلِ ذلك، وهو أوَّلُ من شَهِد بالقَولِ بفَرضِ إمامةِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وأظهَر البراءةَ من أعدائِه، وأكفَرَهم، فمِن هاهنا قال مَن خالف الشِّيعةَ: إنَّ أصلَ الرَّفضِ مأخوذٌ من اليهوديَّةِ) [125] ((المقالات والفرق)) (ص: 20). .
ثُمَّ ذَكَر القُمِّيُّ مَوقِفَ ابنِ سَبَأٍ حينما بلغَه نَعيُ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه؛ حيث ادَّعى أنَّه لم يمُتْ، وقال برَجعتِه، وغلا فيه [126] ((المقالات والفرق)) (ص: 21). .
هذا ما قاله القُمِّيُّ عن ابنِ سَبَأٍ، والقُمِّيُّ عِندَ الشِّيعةِ ثقةٌ، واسِعُ المَعرِفةِ بالأخبارِ [127] يُنظر: ((الفهرست)) للطوسي (ص: 105)، ((جامع الرواة)) للأردبيلي (1/352). ، ومعلوماتُه عندهم مُهِمَّةٌ نظرًا لقِدَمِ فترتِها الزَّمنيَّةِ، ولأنَّه -كما روى شيخُهم الملقَّبُ عندهم بالصَّدوقِ- قد لقِيَ إمامَهم المعصومَ -في نظَرِهم- وهو: الحَسَنُ العَسكريُّ، وسَمِع منه [128] يُنظر: ((إكمال الدين)) لابن بابويه القمي (ص: 425-453). .
2- الحَسَنُ بنُ موسى النُّوبَختيُّ:
قال النُّوبَختيُّ: (لمَّا قُتِل عَليٌّ عليه السَّلامُ افتَرَقت التي ثبَتَتْ على إمامتِه وأنَّها فرضٌ من اللَّهِ عزَّ وجَلَّ ورسولِه عليه السَّلامُ، فصاروا فِرَقًا ثلاثةً: فِرقةٌ منهم قالت: إنَّ عَليًّا لم يُقتَلْ ولم يمُتْ، ولا يُقتَلُ ولا يموتُ حتَّى يسوقَ العَرَبَ بعصاه، ويملأُ الأرضَ عَدلًا وقِسطًا كما مُلِئَت ظُلمًا وجَورًا، وهي أوَّلُ فِرقةٍ قالت في الإسلامِ بالوَقفِ بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من هذه الأمَّةِ، وأوَّلُ من قال منها بالغُلُوِّ، وهذه الفِرْقةُ تُسَمَّى السَّبَئيَّةَ أصحابَ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، وكان ممَّن أظهر الطَّعنَ على أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعثمانَ والصَّحابةِ وتبرَّأ منهم، وقال: إنَّ عَليًّا عليه السَّلامُ أمَره بذلك فأخَذه عَليٌّ فسأله عن قولِه هذا فأقَرَّ به، فأمَر بقَتلِه، فصاح النَّاسُ إليه: يا أميرَ المُؤمِنين أتقتُلُ رجلًا يدعو إلى حُكمِ أهلِ البَيتِ وإلى ولايتِك والبراءةِ من أعدائِك؟ فصَيَّره إلى المدائِنِ، وحكى جماعةٌ من أهلِ العِلمِ من أصحابِ عَليٍّ عليه السَّلامُ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ كان يهوديًّا فأسلمَ ووالى عَليًّا عليه السَّلامُ، وكان يقولُ وهو على يهوديَّتِه في يوشَعَ بنِ نونٍ بَعدَ موسى عليه السَّلامُ بهذه المقالةِ، فقال في إسلامِه بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَليٍّ عليه السَّلامُ بمِثلِ ذلك، وهو أوَّلُ مَن شَهَر القولَ بفَرضِ إمامةِ عَليٍّ عليه السَّلامُ، وأظهَر البراءةَ من أعدائِه وكاشَف مُخالِفيه؛ فمِن هناك قال من خالف الشِّيعةَ: إنَّ أصلَ الرَّفضِ مأخوذٌ من اليهوديَّةِ، ولمَّا بلغ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ نعيُ عَليٍّ بالمدائِنِ، قال للذي نعاه: كذَبْتَ! لو جِئْتنا بدماغِه في سبعينَ صُرَّةً وأقمْتَ على قَتلِه سبعينَ عَدلًا لعَلِمْنا أنَّه لم يمُتْ ولم يُقتَلْ، ولا يموتُ حتَّى يملِكَ الأرضَ) [129] ((فرق الشيعة)) (ص: 21 - 23). .
ونلاحِظُ أنَّ النُّوبَختيَّ يتَّفِقُ مع القُمِّيِّ في أمرِ ابنِ سَبَأٍ حتى في الألفاظِ نفسِها، والنَّوبَختيُّ ثِقةٌ مُعتَمَدٌ عِندَ الشِّيعةِ، بصيرٌ بالأخبارِ والرِّجالِ [130] يُنظر: ((الفهرست)) للطوسي (ص: 75)، ((جامع الرواة)) للأردبيلي (1/228)، ((الكنى والألقاب)) عباس القمي (1/148)، ((متقبس الأثر)) الحائري (16/125). .
3- الكَشِّيُّ:
روى الكَشِّيُّ ستَّ رواياتٍ في ذِكرِ ابنِ سَبَأٍ [131] ((رجال الكشي)) (ص: 106-108، 305). ، وتشيرُ تلك الرِّواياتُ إلى أنَّ ابنَ سَبَأٍ ادَّعى النُّبوَّةَ، وأنَّه زعَم أنَّ أميرَ المُؤمِنين هو اللَّهُ تعالى اللَّه وتقَدَّسَ، وأنَّ عَليًّا استتابه فلم يَتُبْ، فأحرقه بالنَّارِ، كما نقَل الكَشِّيُّ لَعْنَ الأئمَّةِ لعبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، وأنَّه كان يَكذِبُ على عَليٍّ، ومن ذلك قولُ عَليِّ بنِ الحُسَينِ: (لعَنَ اللَّهُ مَن كَذَب علينا، إنِّي ذكَرتُ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ فقامت كُلُّ شعرةٍ في جَسَدي، لقد ادَّعى أمرًا عظيمًا، ما له؟! لعنه اللَّهُ! كان عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه واللَّهِ عبدًا للهِ صالحًا، أخا رسولِ اللَّهِ، ما نال الكرامةَ من اللَّهِ إلَّا بطاعتِه!) [132] ((رجال الكشي)) (ص: 108). .
ثُمَّ قال الكَشِّيُّ بَعدَ ذِكرِ تلك الرِّواياتِ: (ذَكَر أهلُ العِلمِ أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ سَبَأٍ كان يهوديًّا فأسلم ووالى عليًّا، وكان يقولُ وهو على يهوديَّتِه في يوشَعَ بنِ نونٍ وَصِيِّ موسى بالغُلُوِّ، فقال في إسلامِه بَعدَ وفاةِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه مِثلَ ذلك، وكان أوَّلَ مَن شَهَر القولَ بفَرضِ إمامةِ عَليٍّ عليه السَّلامُ، وأظهَر البراءةَ من أعدائِه، وكاشَف مُخالِفيه وأكفَرَهم؛ فمِن هنا قال مَن خالف الشِّيعةَ: إنَّ أصلَ الرَّفضِ مأخوذٌ من اليهوديَّةِ) [133] ((رجال الكشي)) ((ص: 108-109). .
هذه مقالةُ الكَشِّيِّ، وهي تتَّفِقُ مع كلامِ القُمِّيِّ والنُّوبَختيِّ، وكُلُّهم يُوَثِّقون قولَهم هذا بنسبتِه إلى أهلِ العِلمِ؛ ممَّا يَدُلُّ على أنَّ هذا الأمرَ كان معروفًا عِندَ علمائِهم، لا يشكُّون فيه.
وتلك الرِّواياتُ السِّتُّ جاءت في كتابِ (رِجالِ الكَشِّيِّ)، والشِّيعةُ يعتبرونَه أحدَ الأصولِ الأربعةِ التي عليها المُعَوَّلُ في تراجِمِ رجالِ الشِّيعةِ، وقام الطُّوسيُّ شَيخُ الطَّائفةِ عندَهم بتهذيبِ الكتابِ، فصار عندَهم أكثَرَ ثقةً وتحقيقًا؛ حيث اجتمَع في تأليفِه الكَشِّيُّ الذي هو عندَهم ثقةٌ بصيرٌ بالأخبارِ وبالرِّجالِ، مع الطُّوسيِّ، وهو صاحِبُ كتابينِ من صِحاحِهم الأربعةِ، ومُؤَلِّفُ كتابينِ مِن كُتُبِهم الأربعةِ المُعَوَّلِ عليها في عِلمِ الرِّجالِ عِندَهم [134] ما نُقل عن الكَشِّيِّ هو من تهذيبِ الطُّوسيِّ واختيارِه؛ لأنَّ الأصلَ -كما يقولُ الشِّيعةُ- مفقودٌ لا يُعرَفُ له أثَرٌ. يُنظر: ((مقدمة رجال الكشي)) (ص: 17، 18)، ((لؤلؤة البحرين)) ليوسف البحراني (ص: 403). .
وتوجَدُ نُصوصٌ أُخرى في إثباتِ وُجودِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ في كتُبِ الشِّيعةِ الزَّيديَّةِ:
قال المُرتضى، وهو من أئمَّةِ الزَّيديَّةِ في اليَمَنِ، ومن أشهَرِ مُؤَلِّفيهم وفُقَهائِهم: (حَدَث أواخِرَ أيَّامِ عَليٍّ قَولُ ابنِ سَبَأٍ؛ فإنَّه أفرط في وَصفِه، وبعضِ كِبارِ الصَّحابةِ، فنفاه عَليٌّ من الكوفةِ إلى أن مات عَليٌّ عليه السَّلامُ، فرجع واستمال قومًا من أهلِها في سَبِّ الصَّحابةِ، فبقيَ في الرَّوافِضِ إلى الآنَ) [135] ((البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)) (1/ 13). .
وقال أيضًا: (أمَّا الرَّوافِضُ فهم السَّبَئيَّةُ، أصحابُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ، زعَم أنَّ عَليًّا إلهٌ، فنفاه إلى المدائِنِ، وزَعَم أصحابُه أنَّ عَليًّا عليه السَّلامُ في السَّحابِ، وأنَّ الرَّعدَ صَوتُه، والبَرقَ سَوطُه!) [136] ((البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار)) (1/ 31). .
وقد ذهَب بعضُ شُيوخِ الشِّيعةِ المُعاصِرين إلى أنَّ شَخصيَّةَ ابنِ سَبَأٍ حقيقيَّةٌ.
فقد جاء ذِكرُ ابنِ سَبَأٍ في أهَمِّ وأوسَعِ كُتُبِ الشِّيعةِ المُعاصِرةِ في أسماءِ الرِّجالِ، وهو كتابُ (تنقيحِ المقالِ) [137] يُنظر: ((تنقيح المقال)) (2/183). لعبدِ اللَّهِ الممقانيِّ [138] يُنظر: ((مقتبس الأثر)) للأعلمي (21/230). .
وقال محمَّد حُسَين الزَّين: (وعلى كُلِّ حالٍ، فإنَّ الرَّجُلَ -أي: ابنَ سَبَأٍ- كان في عالَمِ الوجودِ، وأظهَر الغُلُوَّ، وإن شَكَّ بعضُهم في وجودِه وجعَلَه شخصًا خياليًّا، أمَّا نحن -بحسَبِ الاستقراءِ الأخيرِ- فلا نَشُكُّ بوجودِه وغُلوِّه) [139] ((الشيعة في التاريخ)) (ص: 213). .
فإثباتُ وُجودِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ موجودٌ في كثيرٍ من كتُبِ الشِّيعةِ القديمةِ والحديثةِ [140] لعَلَّ أقدَمَ مَصدَرٍ عند الشِّيعةِ تحدَّث عن ابنِ سَبَأٍ والسَّبَئيَّةِ هو كتابُ: ((مسائل الإمامة)) (ص: 22، 23) لعبد الله الناشئ الأكبر (ت 293هـ‍). راجع ترجمته في ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (3/91، 92). ومن كتُبِهم في الرِّجالِ التي جاءت على ذِكرِ ابنِ سبأ: ((منتهى المقال)) للمازندراني، ((منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال)) للاستراباذي (ص: 203-204)، ((جامع الرواة)) للأردبيلي (1/485)، ((الرجال)) لابن داود الحلي (2/71)، ((قاموس الرجال)) للتستري (5/461) وما بعدها، ((رجال الطوسي)) (ص: 51). ومن كُتُبِهم في الحديثِ والفِقهِ التي جاء فيها ذِكرُ ابنِ سَبَأٍ: ((من لا يحضره الفقيه)) لابن بابويه القمي (1/213)، ((تهذيب الأحكام)) للطوسي (2/322)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (25/286) وما بعدها. .

انظر أيضا: