موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: الفرقُ بَينَ منهَجِ المُعتَزِلةِ ومنهَجِ الجَهميَّةِ في التَّأويلِ


نتناوَلُ في هذا المَطلَبِ مُقارَنةً منهجيَّةً بَينَ المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ في شأنِ التَّأويلِ لديهما، معَ بيانِ أوجُهِ الاتِّفاقِ والاختِلافِ بَينَهما في ذلك [1219] يُنظر: ((جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية)) لمحمد لوح (ص: 220). .
إنَّ لفظةَ (الجَهميَّةِ) سُمِّي بها كُلٌّ مِن الجَهميَّةِ المحضةِ، والمُعتَزِلةِ، والأشاعرةِ؛ لأنَّ التَّجهُّمَ دَرجاتٌ، ذكَرها ابنُ تيميَّةَ فأفاد ما مُلخَّصُه:
الدَّرجةُ الأولى: الجَهميَّةُ الغُلاةُ، وهُم الذين ينفونَ الأسماءَ والصِّفاتِ، ويجعَلونَ الإطلاقاتِ الوارِدةَ في ذلك مِن بابِ المجازِ، وهؤلاء الجَهميَّةُ المحضةُ.
الدَّرجةُ الثَّانيةُ: الجَهميَّةُ الذين يُثبِتونَ أسماءَ اللهِ الحُسنى في الجُملةِ، ويجعَلونَ كثيرًا منها على المجازِ، وينفونَ الصِّفاتِ، وهذا النَّوعُ هو تجهُّمُ المُعتَزِلةِ ومَن قلَّدهم.
الدَّرجةُ الثَّالثةُ: طائِفةٌ مِن الصِّفاتيَّةِ المُثبِتينَ لبعضِ الصِّفاتِ، وأُطلِق عليهم "الجَهميَّةُ"؛ لاشتِراكِهم في ردِّ بعضِ الصِّفاتِ وتأويلِها [1220] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) (5/48-51). .
ولذا نجِدُ أنَّ كثيرًا مِن السَّلفِ تناوَلوا المُعتَزِلةَ، وردُّوا على أقوالِهم في كُتبِ الرَّدِّ على الجَهميَّةِ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ السَّلفَ يُسمُّونَ كُلَّ مَن نفى الصِّفاتِ، وقال: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ، وإنَّ اللهَ لا يُرى في الآخِرةِ؛ جَهميًّا) [1221] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/427). .
وقال أيضًا: (لكنَّ المُعتَزِلةَ إن وافَقوا جَهمًا في بعضِ ذلك فهُم يُخالِفونَه في مسائِلَ غَيرِ ذلك) [1222] ((مجموعة الرسائل والمسائل)) (3/428). .
وفي هذا الفصلِ تُذكَرُ أوجُهُ الاتِّفاقِ والاختِلافِ بَينَ الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ، على النَّحوِ التَّالي:
أوَّلًا: ما اتَّفق الجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ فيه
اتَّفَقوا على عدَّةِ أُصولٍ؛ هي:
1- تقديمُ العقلِ على النَّقلِ.
2- القولُ بالمجازِ في نُصوصِ الشَّرعِ.
3- القولُ بأنَّ نُصوصَ الوَحيِ أدلَّةٌ لفظيَّةٌ لا تُفيدُ اليقينَ.
4- موقِفُهما مِن ظاهِرِ النَّصِّ، فهُم لا يعتقِدونَ أنَّ للنَّصِّ ظاهِرًا وباطِنًا كما يقولُ الباطِنيَّةُ والصُّوفيَّةُ، والفلاسِفةُ، بل يقولونَ: إنَّ له معنًى ظاهِرًا غَيرَ مُرادٍ، ومعنًى آخَرَ مُرادًا، فيُحمَلُ عليه، وذلك لقرينةٍ عندَهم مانِعةٍ مِن إرادةِ المعنى الأوَّلِ، دالَّةٍ على المعنى الثَّاني.
5- القولُ بأنَّ القرآنَ مخلوقٌ.
6- نَفيُ رُؤيةِ اللهِ في الآخِرةِ.
ثانيًا: ما اختلَف الجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ فيه
1- اختَلَفوا في بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ ففي حينِ تنفي الجَهميَّةُ الأسماءَ والصِّفاتِ، ولم يُقِرُّوا بشيءٍ منها تجِدُ المُعتَزِلةَ يُثبِتونَ الأسماءَ شَريطةَ ألَّا يترتَّبَ على هذا الإثباتِ إثباتُ صفةٍ، فهو تعالى قادِرٌ، عالِمٌ، لكن بذاتِه لا بعِلمٍ ولا بقُدرةٍ.
2- اختلَفوا في أفعالِ العِبادِ؛ فالجَهميَّةُ يقولونَ بالجَبرِ، وحقيقتُه أنَّه لا اختِيارَ للعبدِ في أفعالِه، ولا قُدرةَ له في ذلك، بل هو على حدِّ قولِهم كالحَجرِ المُلقى في اليمِّ تُحرِّكُه الأمواجُ أينما اتَّجهَت، وإنَّما تُنسَبُ إليه الأفعالُ على سبيلِ المجازِ، في حينِ يُمثِّلُ موقِفُ المُعتَزِلةِ الاتِّجاهَ المُعاكِسَ؛ فيُثبِتونَ الحُرِّيَّةَ الإنسانيَّةَ المُطلَقةَ تحقيقًا لمفهومِ العَدلِ الإلهيِّ عندَهم، ولكنَّهم في سبيلِ ذلك هدَموا قاعِدةً مِن أهَمِّ قواعِدِ الدِّينِ؛ فأنكَروا القضاءَ الأزليَّ، وأنَّه تعالى ما شاء كان، وما لم يشَأْ لم يكنْ، وعلى مذهَبِهم يلزَمُ أن يقعَ في مُلكِ اللهِ ما لا يُريدُ [1223] يُنظر: ((تاريخ الجهمية والمُعتزِلة)) للقاسمي (ص: 419 – 420). .
3- اختَلَفوا في بابِ الإيمانِ؛ حيثُ يرى جَهمٌ ومَن معَه أنَّ الإيمانَ معرِفةٌ بالقلبِ فقط، وأنَّ القولَ والعملَ ليسا مِن الأركانِ؛ فهُم مُرجِئةٌ مِن هذه الجهةِ، والمُعتَزِلةُ يُخالِفونَهم في ذلك.
4- اختَلَفوا في الجنَّةِ والنَّارِ: فتقولُ الجَهميَّةُ: إنَّهما تفنيانِ وتَبيدانِ بمَن فيهما؛ ليبقى اللهُ ولا شيءَ معَه، والمُعتَزِلةُ يُخالِفونَهم في ذلك، إلَّا أنَّ العلَّافَ منهم ذهَب إلى قولٍ قريبٍ مِن قولِ الجَهميَّةِ، فزعَم أنَّه يأتي على الجنَّةِ والنَّارِ زمانٌ تسكُنُ فيه حركاتُ أهلِهما.
5- أنكَر المُعتَزِلةُ عذابَ القَبرِ، كما قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (أنكَر مشايِخُنا عذابَ القَبرِ في كُلِّ حالٍ) [1224] ((فضل الاعتزال)) (ص: 202). .
وأمَّا الجَهميَّةُ فقد نسَب إليهم البعضُ القولَ بإنكارِه، فنسَبه البغداديُّ إلى ‌الجَهميَّةِ [1225] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص: 245). ، ونسَبه المَلَطيُّ إلى جَهمِ بنِ صَفوانَ [1226] يُنظر: ((التنبيه والرد على أهل الأهواء)) (ص: 124). .

انظر أيضا: