موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: حقيقةُ التَّأويلِ


يُسلِّطُ هذا المَطلَبُ الضَّوءَ باختِصارٍ على حقيقةِ التَّأويلِ وتقسيماتِه [1183] يُنظر: ((المُعتزِلة بين القديم والحديث)) للعبده وعبد الحليم (ص: 91) وما بعدها. .
فبَعدَ أن قرَّرَت المُعتَزِلةُ عقائِدَها عن طريقِ مناهِجِها العقليَّةِ كان لا بُدَّ لهم مِن استِحداثِ طُرقٍ لردِّ تلك الآياتِ والأحاديثِ الصَّريحةِ الصَّحيحةِ التي تخالِفُ ما وصَلوا إليه ببِدَعِهم حِرصًا على مُقرَّراتِهم العقليَّةِ.
أمَّا الأحاديثُ فقد رأَينا كيف تعامَلوا معَها -كما سبَق- وردُّوا صحيحَها بدعاوى مُتهافِتةٍ؛ فزاغوا في العقيدةِ والشَّريعةِ معًا، وكان تمويهُهم بأنَّها أخبارُ آحادٍ طريقًا سَهلًا للتَّخلُّصِ منها.
وأمَّا الآياتُ القرآنيَّةُ فقد تعذَّرَت تلك الدَّعوى عليهم بشأنِها؛ إذ هي قطعيَّةُ الثُّبوتِ، والمُخالِفُ لذلك كافِرٌ لا محالةَ، فلجؤوا إلى طريقٍ أخبَثَ، وهو التَّأويلُ الذي فتَحوا بابَه، واتَّبَعهم فيه مِن بَعدِ ذلك طوائِفُ مِن المُتكلِّمينَ، فحرَّفوا الكَلِمَ عن مواضِعِه.
قالت المُعتَزِلةُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه لم يَستَوِ على عرشِه كما أخبَر، بل استولى عليه! فأوَّلوا الاستِواءَ بالاستيلاءِ، وأنَّ معنى اليدِ المنسوبةِ للهِ سُبحانَه هي النِّعمةُ، والعَينُ تأوَّلوها بمعنى العِلمِ [1184] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/ 131، 168). .
وكذلك فعَلوا في صفاتِ المحبَّةِ والرِّضا والغضَبِ والسَّخطِ؛ فأوَّلوها جميعًا، قالوا: محبَّةُ اللهِ ورِضاه هي إرادتُه للثَّوابِ، وسَخَطُه وغَضبُه هو إرادتُه للعِقابِ!
وقد بيَّن ابنُ تيميَّةَ كَلِمةَ التَّأويلِ، وأنَّها تُستعمَلُ في ثلاثةِ معانٍ:
الأوَّلُ: أنَّ التَّأويلَ بمعنى التَّفسيرِ، وهذا هو الغالِبُ على اصطِلاحِ المُفسِّرينَ للقرآنِ، كالطَّبريِّ؛ حيثُ يقولُ: تأويلُ آيةِ كذا، بمعنى: تفسيرِها [1185] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/55). .
الثَّاني: التَّأويلُ يأتي بمعنى الحقيقةِ التي يَؤولُ إليها الكلامُ، كما في قولِه تعالى: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [الأعراف: 53] .
فتأويلُ ما في القرآنِ مِن أخبارِ المَعادِ هو ما أخبَر اللهُ به فيه ممَّا يكونُ مِن القيامةِ والحِسابِ والجزاءِ والجنَّةِ والنَّارِ ونَحوِ ذلك، كما في قولِه تعالى: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 100] ؛ فجعَل عَينَ ما وجَد في الخارِجِ هو تأويلَ الرُّؤيا.
ومِن ذلك قولُ عائِشةَ رضِي اللهُ عنها: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ في رُكوعِه وسُجودِه: سُبحانَك اللَّهمَّ ربَّنا وبحَمدِك، اللَّهمَّ اغفِرْ لي، يتأوَّلُ القرآنَ )) [1186] أخرجه البُخاريُّ (817) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (484). ؛ يعني قولَ اللهِ تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 3] .
وكقولِ سُفيانَ بنِ عُيَينةَ: السُّنَّةُ هي تأويلُ الأمرِ والنَّهيِ، أي: عَملُه والقيامُ به في الحقيقةِ [1187] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (3/56). .
وقال ابنُ فارِسٍ: (أمَّا "‌التَّأويلُ" فآخِرُ الأمرِ وعاقبتُه؛ يُقالُ: "إلى أيِّ شيءٍ مآلُ هذا الأمرِ؟" أي: مَصيرُه وآخِرُه وعُقباه) [1188] ((الصاحبي في فقه العربية)) (ص: 145). .
الثَّالثُ: وقد ورَد عندَ المُتأخِّرينَ مِن المُتكلِّمينَ والأُصوليِّينَ، وهو: صرفُ اللَّفظِ عن ظاهِرِه إلى معنًى آخَرَ يحتمِلُه؛ لوُجودِ دليلٍ يقترِنُ به يمنَعُ مِن إجراءِ ظاهِرِ اللَّفظِ.
وهذا النَّوعُ هو الذي استخدمَته المُعتَزِلةُ في صرفِ آياتِ الصِّفاتِ، واستعمَله أكثَرُ المُتأخِّرينَ في تأويلِ نَفسِ الآياتِ [1189] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّة (3/56). .
والمُعتَزِلةُ زعَموا أنَّ قرينةَ التَّنزيهِ هي التي توجِبُ عَدمَ أخذِ تلك الآياتِ على ظاهِرِها، وإلَّا وقَعْنا في التَّشبيهِ!
وهذا المعنى للتَّأويلِ لم يستخدِمْه السَّلفُ، بل قد استُعمِلَت كَلِمةُ التَّأويلِ في المعنيَينِ الأوَّلَينِ فقط -أي التَّفسيرِ والمآلِ أو المصيرِ-؛ فتطبيقُ هذا المُصطلَحِ بهذا المعنى على آياتِ الصِّفاتِ بِدعةٌ ليس لها أصلٌ في أقوالِ السَّلفِ.
والتأويلُ -بالمُصطلَحِ الأخيرِ- قد يُستعمَلُ في آياتِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ، ويكونُ بمعنى تخصيصِ العامِّ في مِثلِ قولِ اللهِ تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ[ الطلاق: 4] ، وقولِه تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [ البقرة: 234] .
فظاهِرُ كُلِّ آيةٍ يتعارَضُ معَ ظاهِر الأخرى؛ إذ الأُولى تجعَلُ عِدَّةَ الحامِلِ وَضْعَ المولودِ، والثَّانيةُ ظاهِرُها أنَّ العِدَّةَ للمرأةِ عامَّةً أربعةُ أشهُرٍ وعَشرٌ، فينصرِفُ ظاهِرُها إلى المرأةِ غَيرِ الحامِلِ حسَبَ الآيةِ الأولى، ويُسمَّى تخصيصًا، وهو مِن أبوابِ التَّأويلِ الظَّاهِرةِ في الفِقهِ.
كذلك تقييدُ المُطلَقِ، كما في قولِه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [ المائدة: 3] ، وقولِه تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الأنعام : 145] ؛ فالدَّمُ الذي أُطلِق في الآيةِ الأولى قد قُيِّد في الثَّانيةِ بأن يكونَ مسفوحًا، وهو صرفٌ لظاهِرِ اللَّفظِ المُطلَقِ إلى المُقيَّدِ [1190] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي زهرة (ص: 137). .
وهذا التَّأويلُ -الذي هو صرفُ الظَّاهِرِ- في الأحكامِ الفِقهيَّةِ هو مِن التَّأويلِ الصَّحيحِ المطلوبِ للتَّوصُّلِ إلى الحُكمِ الشَّرعيِّ السَّليمِ، ويجِبُ أن تكونَ شُروطُه مُستوفاةً؛ حتَّى لا يكونَ تأويلًا فاسِدًا، وينتِجَ عنه حُكمٌ خاطِئٌ، ومِثالُ ذلك: في قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّما امرأةٍ نَكَحَت بغَيرِ إذنِ وليِّها فنِكاحُها باطِلٌ )) [1191] أخرجه أبو داود (2083)، والترمذي (1102) واللَّفظُ له، وابن ماجه (1879) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. صحَّحه يحيى بنُ مَعِينٍ كما في ((السنن الكبرى)) للبيهقي (7/105)، وابن حبان في ((صحيحه)) (4074)، والحاكم على شرط الشَّيخَين في ((المستدرك)) (2706)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (7/105). ؛ فقد ذهبَت طائِفةٌ مِن الفُقَهاءِ إلى أنَّ المقصودَ هو المرأةُ الصَّغيرةُ أو المرأةُ المُكاتَبةُ، وهذا تأويلٌ لا يُمكِنُ القولُ به لصرفِ هذا العُمومِ القويِّ المُقارِبِ للقَطعِ عن ظاهِرِه [1192] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/81). .
والتَّأويلُ بهذا المعنى قسيمٌ للظَّاهِرِ، والقاعِدةُ العامَّةُ في الشَّريعةِ هي العَملُ بالظَّاهِرِ وتقديمُه، بل إنَّها كُلِّيَّةُ الشَّريعةِ وعُمدةُ التَّكليفِ، ولا يصِحُّ صرفُ الظَّاهِر إلَّا بقرينةٍ قاطِعةٍ معَ عَدمِ أيِّ إمكانيَّةٍ لفَهمِ الدَّليلِ حسَبَ ظاهِرِه بأيِّ وَجهٍ مِن الأوجُهِ.
ويُشترَطُ لذلك أن يكونَ المعنى الجديدُ مُحتمِلًا، وأن يكونَ اللَّفظُ المُؤوَّلُ قابِلًا لاحتِمالِ هذا المعنى.
فمَثلًا مِن التَّأويلاتِ الفاسِدةِ: قولُ بيانَ بنِ سَمعانَ أنَّه هو المقصودُ في قولِه تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] [1193] يُنظر: ((الفَرق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 255). !
وكذلك مَن قال في قولِه تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] أي: فَقيرًا؛ لعَدمِ صحَّة هذا المعنى.
وبناءً على ذلك بنى أهلُ السُّنَّةِ وسَلفُ الأمَّةِ قولَهم في الصِّفاتِ فأثبَتوها بلا تمثيلٍ، ونزَّهوا اللهَ سُبحانَه بلا تعطيلٍ، وحمَلوا الآياتِ والأحاديثَ على ظاهِرِها، ولكن بلا تكييفٍ أو تمثيلٍ، وهو المذهَبُ الحقُّ الذي عليه إجماعُ الأئمَّةِ في أسماءِ اللهِ وصفاتِه سُبحانَه، وإنَّما قد خالَطَت أذهانَ هؤلاء المُعطِّلةِ المُؤوِّلةِ أنجاسُ التَّشبيهِ، فحاوَلوا صَرفَها بكُلِّ وسيلةٍ، فلجؤوا إلى التَّأويلِ؛ هُروبًا ممَّا اعتقَدوه تشبيهًا، فوقَعوا فيما هو أشدُّ منه وأنكى!
وعلى ذلك كان اعتِقادُ مالِكٍ، والشَّافِعيِّ، وأبي حَنيفةَ، وأحمَدَ بنِ حَنبلٍ، والأوزاعيِّ، والثَّوريِّ، والحَسنِ، وجماهيرِ العُلَماءِ.
ونقَل اللَّالَكائيُّ عن مُحمَّدِ بنِ الحَسَنِ الشَّيبانيِّ قولَه: (اتَّفَق الفُقَهاءُ كُلُّهم مِن المشرِقِ إلى المغرِبِ على الإيمانِ بالقرآنِ والأحاديثِ التي جاء بها الثِّقاتُ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صفةِ الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، مِن غَيرِ تغييرٍ ولا وَصفٍ ولا تشبيهٍ) [1194] ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (3/432). .

انظر أيضا: