موسوعة الفرق

المَطلبُ الرَّابعُ: ادِّعاءُ عِلمِ الغَيبِ


من أبرَزِ مُعتَقَداتِ البَريلَويَّةِ اعتِقادُهم أنَّ الأنبياءَ عليهمُ السَّلامُ والصَّالحينَ من عِبادِه والأولياءَ يَعلمونَ الغَيبَ، مُخالفينَ النُّصوصَ الصَّريحةَ منَ الكِتابِ والسُّنَّةِ وحتَّى الفِقهِ الحَنَفيِّ أيضًا مَعَ انتِسابهم إلى الحَنَفيَّةِ؛ فاللهُ تَبارَكَ وتعالى يَقولُ في مُحكَمِ كِتابِه: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] ، وقال اللهُ سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر: 38] ، وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 18] ، وقال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] .
وأمر اللهُ عَزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَقولَ: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ [يونس: 20] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام: 59] .
وقال وهو أصدقُ القائلينَ: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] .
وبمِثل هذا ورَدت الأحاديثُ النَّبَويَّةُ؛ فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد نَفى عِلمَ الغَيبِ عنه وعن غَيرِه، وبَيَّن أنَّه مُختَصٌّ بالرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ وحدَه، فلا يُشارِكُه أحَدٌ في العِلمِ به، كما ورَدَ في حَديثِ جِبريلَ المَشهورِ: ((قال: مَتى السَّاعةُ؟ قال: ما المسؤولُ عنها بأعلمَ منَ السَّائِلِ، وسَأخبرُك عن أشراطِها: إذا ولدَتِ الأَمَةُ رَبَّها، وإذا تَطاول رُعاةُ الإبِلِ البُهمُ في البُنيانِ، في خَمسٍ لا يَعلمُهنَّ إلَّا اللهُ. ثمَّ تَلا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ... الآية [لقمان: 34] )) [1533] أخرجه البخاري (50) واللفظ له، ومسلم (9) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَفاتيحُ الغَيبِ خَمسٌ لا يَعلمُهنَّ إلَّا اللهُ: لا يَعلمُ ما تَغيضُ الأرحامُ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ ما في غَدٍ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ مَتى يَأتي المَطَرُ إلَّا اللهُ، ولا تَدري نَفسٌ بأيِّ أرضٍ تَموتُ إلَّا اللهُ، ولا يَعلمُ مَتى تَقومُ السَّاعةُ إلَّا اللهُ)) [1534] أخرجه البخاري (7379) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما .
وقال جابرٌ رَضِيَ اللهُ عنه: ((سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ قَبلَ أن يَموتَ بشَهرٍ: تَسألوني عنِ السَّاعةِ؟ وإنَّما عِلمُها عِندَ اللهِ)) [1535] أخرجه مسلم (2538). .
ولكِنَّ البَريلَويَّ يَعتَقِدُ عَكسَ ذلك فقال: (لم يَخرُجْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا بَعدَ أن أعلمَه اللهُ تعالى بهذه الغُيوبِ الخَمسِ) [1536] ((خالص الاعتقاد)) (ص: 53). .
وقال أيضًا: (إنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أوتيَ عِلمَ الخَمسِ في آخِرِ الأمرِ، لكِنَّه أُمِرَ فيها بالكِتمانِ) [1537] ((خالص الاعتقاد)) (ص: 56). .
وقال أيضًا: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ يَعلمُ هذه الغُيوبَ الخَمسةَ فحَسبُ، بل كان يُعطي هذه العُلومَ مَن شاءَ مِن خَدَمِه) [1538] ((خالص الاعتقاد)) (ص: 14). .
ثمَّ هذه الغُيوبُ الخَمسةُ لم يَعلمْها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحدَه، بل يَعلمُها كَثيرٌ منَ النَّاسِ، كما صَرَّحَ بذلك البَريلَويُّ؛ حَيثُ قال ناقِلًا عن أمثالِه: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَخفى عليه شَيءٌ منَ الخَمسِ المَذكورةِ في الآيةِ الشَّريفةِ، وكَيف يَخفى عليه ذلك والأقطابُ السَّبعةُ من أمَّتِه الشَّريفةِ يَعلمونَها وهم دونَ الغَوثِ؟! فكَيف بسَيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، الذي هو سَبَبُ كُلِّ شَيءٍ ومنه كُلُّ شَيءٍ؟) [1539] ((خالص الاعتقاد)) (ص: 53- 54). .
وممَّا قاله البَريلَويَّةُ: (إنَّ الأنبياءَ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَعلمونَ بل يَرَونَ ويُشاهدونَ جَميعَ ما كان وما يَكونُ من أوَّلِ يَومٍ إلى آخِرِه) [1540] وهو نصُّ ما قاله أحمد رضا البريلوي في رسالته ((الدولة المكية بالمادة الغيبة)) (ص: 58). . و(إنَّ الأنبياءَ يَعلمونَ الغَيبَ مُنذُ وِلادَتِهم) [1541] يُنظر: ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار (ص: 192). . وأمَّا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقد حَصَّل بزَعمِهم جَميعَ العُلومِ الجُزئيَّةِ والكُلِّيَّةِ وأحاطَ بها [1542] يُنظر: ((الدولة المكية)) للبريلوي (ص: 230). .
و(إنَّ عِلمَ اللَّوحِ وعِلمَ القَلَمِ وعِلمَ ما كان وما يَكونُ جُزءٌ واحِدٌ من عُلومِ النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1543] يُنظر: ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (ص: 38). .
و(إنَّ عُلومَه -أي النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تَتَنَوَّعُ إلى الجُزئيَّاتِ والكُلِّيَّاتِ، وحَقائِقَ ودَقائِقَ وعَوارِضَ ومَعارِفَ تَتَعَلَّقُ بالذَّاتِ والصِّفاتِ، وعِلمُ اللَّوحِ والقَلَمِ إنَّما يَكونُ سطرًا من سُطورِ عِلمِه ونَهرًا من بُحورِ حِلمِه، ثمَّ مَعَ هذا ببَرَكةِ وجودِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو وسِعَ العالَمينِ عِلمًا وحِلمًا) [1544] يُنظر: ((خالص الاعتقاد)) للبريلوي (ص: 38). .
و(إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليمٌ بجَميعِ الأشياءِ من شُؤوناتِ الإلهيَّةِ وأحكامِ صِفاتِ الحَقِّ والأسماءِ والأفعالِ والآثارِ، وأحاطَ بجَميعِ العُلومِ الظَّاهرةِ والباطِنةِ والأولى والآخِرةِ) [1545] يُنظر: ((الدولة المكية)) (ص: 210). .
(ولم يُحجَبْ عن روحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَيءٌ منَ العالمِ، فهو مُطَّلعٌ على عَرشِه وعُلوِّه وسُفلِه ودُنياه وآخِرَتِه ونارِه وجَنَّتِه؛ لأنَّ جَميعَ ذلك خُلِقَ لأجلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1546] يُنظر: ((الكلمة العليا لإعلاء علم المصطفى)) للمراد آبادي (ص: 14). .
و(إنَّ عِلمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحيطٌ بجَميعِ المَعلوماتِ الغَيبيَّةِ الملكوتيَّةِ) [1547] يُنظر: ((الكلمة العليا لإعلاء علم المصطفى)) للمراد آبادي (ص: 56). .
و(إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلمُ جَميعَ المَخلوقاتِ والمَوجوداتِ وجَميعَ أحوالِهم تَمامًا وكمالًا من ماضيهم وحالِهم ومُستَقبَلِهم، ولا يَخفى عليه خافيةٌ، كما أنَّه يَعلمُ خالِقَهم وبارِئَهم) [1548] يُنظر: ((تسكين الخواطر في مسألة الحاضر والناظر)) للكاظمي (ص: 65). .
و(إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو وضَعَ قدَمَه على حَيَوانٍ لعَلِمَ الحاضِرَ والغائِبَ، فالوليُّ الذي يَضَعُ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَه كَيف لا يَصيرُ عالِمًا للشَّاهدِ والغائِبِ؟) [1549] يُنظر: ((مواعظ نعيمية)) لأحمد يار (ص: 364- 365). .
و(إنَّ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جازِمونَ باطِّلاعِه على الغَيبِ) [1550] يُنظر: ((خالص الاعتقاد)) (ص: 28). .
فهذه هي عقيدةُ القومِ في عِلمِ الغَيبِ الذي يُثبِتونه لغيرِ اللهِ تعالى، وقد قال اللهُ عزَّ وجَلَّ آمِرًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] وقُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: 50]
ونفى عنه الغيبَ في قَولِه: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] ، وقال جَلَّ وعلا: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43] .
كما نَفى الغَيبَ عنِ الرُّسُلِ قاطِبةً؛ حَيثُ قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109] .
كما نَفى الغَيبَ عن مَلائِكَتِه بقَولِه: قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32] .
والوقائِعُ والشَّواهدُ في هذا كَثيرةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، والسِّيرةُ النَّبَويَّةُ وأحوالُها مَليئةٌ بالأمورِ التي تَقطَعُ جَزمًا بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَكُنْ يَعلمُ الغَيبَ وإلَّا لم تَحدُثْ تلك الحَوادِثُ التي وقَعَت، كقَتلِ القُرَّاءِ في بئرِ مَعونةَ [1551] لفظُ الحَديثِ: عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه رِعلٌ وذَكوانَ وعُصَيَّةُ وبَنو لحيانَ، فزَعَموا أنَّهم قد أسلموا، واستَمَدُّوه على قَومِهم، فأمَدَّهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بسَبعينَ من الأنصارِ، قال أنَسٌ: كُنَّا نُسَمِّيهم القُرَّاءَ، يَحطِبونَ بالنَّهارِ ويُصَلُّونَ باللَّيلِ، فانطَلَقوا بهم حَتى بلَغوا بئرَ مَعونةَ غَدَروا بهم وقَتَلوهم، فقَنَتَ شَهرًا يَدعو على رِعلٍ وذَكوانَ وبني لحيانَ. قال قتادةُ: وحَدَّثَنا أنَسٌ أنَّهم قَرَؤوا بهم قُرآنًا: ألَّا بلِّغوا عنَّا قَومَنا بأنَّا قد لَقِينا رَبَّنا فرَضيَ عنَّا وأرضانا. ثمَّ رُفعَ ذلك بَعدُ. أخرجه البخاري (3064) واللفظ له، ومسلم (677). ، وبيعةِ الرِّضوانِ [1552] لفظه: قال ابنُ إسحاقَ: حَدَّثَني عَبدُ اللَّهِ بنُ أبي بكرٍ: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال حينَ بلغَه أنَّ عُثمانَ قد قُتِل: لا نَبرَحُ حتَّى نناجِزَ القَومَ، فدَعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ إلى البَيعةِ، فكانت بَيعةُ الرِّضوانِ تَحتَ الشَّجَرةِ ... ثمَّ أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ الذي ذُكِرَ من أمرِ عُثمانَ باطِلٌ. أخرجه محمد بن إسحاق كما في ((السيرة)) لابن هشام (2/315) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) بعد حديث (5771)، والبيهقي في ((دلائل النبوة)) (4/135). وأصلُ حَديثِ بَيعةِ الرِّضوانِ في صَحيح البُخاريِّ (3699) ولفظُه: جاءَ رَجُلٌ من أهلِ مِصرَ حَجَّ البَيتَ فرَأى قَومًا جُلوسًا، فقال: مَن هؤلاء القَومُ؟ قال: هؤلاء قُرَيشٌ. قال: فمَنِ الشَّيخُ فيهم؟ قالوا: عَبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ. قال: يا ابنَ عُمَرَ، إنِّي سائِلُك عن شَيءٍ فحَدِّثْني، هَل تَعلمُ أنَّ عُثمانَ فرَّ يَومَ أحُدٍ؟ قال: نَعَمْ ... تعلَمُ أنَّه تغيَّبَ عن بيعةِ الرِّضوانِ فلم يشهَدْها؟ قال: نعم. قال: اللهُ أكبَرُ. قال ابنُ عُمَرَ: تعالَ أُبَيِّنْ لك، أمَّا فِرارُه يومَ أحُدٍ فأشهَدُ أنَّ اللهَ عفا عنه وغَفَر له، وأمَّا تغيُّبُه عن بدرٍ فإنَّه كانت تحته بنتُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكانت مريضةً، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ لك أجرَ رَجُلٍ ممَّن شَهِد بدرًا وسَهْمَه. وأمَّا تغَيُّبُه عن بيعةِ الرِّضوانِ، فلو كان أحدٌ أعَزَّ ببَطنِ مكَّةَ من عُثمانَ لبعَثَه مكانَه، فبعث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عُثمانَ، وكانت بيعةُ الرِّضوانِ بَعدَ ما ذهب عثمانُ إلى مكَّةَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيَدِه اليُمنى: هذه يدُ عُثمانَ. فضرب بها على يَدِه، فقال: هذه لعُثمانَ. ، ووَقعةِ الإفكِ [1553] لفظُ الحَديثِ: عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ قال لها أهلُ الإفكِ ما قالوا فبَرَّأها اللهُ منه ... دَخَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجَلسَ، ولم يَجلِسْ عِندي من يَومِ قيلَ في ما قيلَ قَبْلَها، وقد مَكَثَ شَهرًا لا يوحى إليه في شَأني شَيءٌ. قالت: فتَشهَّدُ ثمَّ قال: يا عائِشةُ، فإنَّه بلَغَني عنك كَذا وكَذا، فإن كُنتِ بَريئةً فسيُبَرِّئُك اللهُ، وإن كُنتِ ألمَمتِ بذَنبٍ فاستَغفِري اللهَ وتوبي إليه؛ فإنَّ العَبدَ إذا اعتَرَف بذَنبِه ثمَّ تابَ، تابَ اللَّهُ عليه ... فقُلتُ: إنِّي واللَّهِ لقد عَلِمتُ أنَّكُم سَمِعتُم ما يَتَحَدَّثُ به النَّاسُ، ووقَرَ في أنفُسِكُم وصَدَّقتُم به، ولئِنْ قُلتُ لكُم: إنِّي بَريئةٌ -واللَّهُ يَعلمُ إنِّي لبَريئةٌ- لا تُصَدِّقوني بذلك، ولئِنِ اعتَرَفتُ لكُم بأمرٍ -واللَّهُ يَعلمُ أنِّي بَريئةٌ- لتُصَدِّقُنِّي، واللَّهِ ما أجِدُ لي ولكُم مَثَلًا إلَّا أبا يوسُفَ إذ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسُف: 18] ، ثمَّ تَحَوَّلتُ على فِراشي وأنا أرجو أن يُبَرِّئَني اللهُ، ولكِنْ واللهِ ما ظَنَنتُ أن يُنزِلَ في شَأني وحيًا، ولأنا أحقَرُ في نَفسي من أن يُتَكَلَّمَ بالقُرآنِ في أمري، ولكِنِّي كُنتُ أرجو أن يَرى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّومِ رُؤيا يُبَرِّئُني اللهُ، فواللهِ ما رامَ مَجلِسَه، ولا خَرَجَ أحَدٌ من أهلِ البَيتِ حتَّى أُنزَل عليه الوحيُ، فأخَذَه ما كان يَأخُذُه منَ البُرَحاءِ، حتَّى إنَّه ليَتَحَدَّرُ منه مِثلُ الجُمانِ منَ العَرَقِ في يَومٍ شاتٍ، فلمَّا سُرِّيَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَضحَكُ، فكان أوَّلَ كَلمةٍ تَكَلَّم بها أن قال لي: يا عائِشةُ، احمدي اللَّهَ؛ فقد بَرَّأك اللهُ. فقالت لي أمِّي: قومي إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقُلتُ: لا واللَّهِ لا أقومُ إليه، ولا أحمَدُ إلَّا اللهَ. أخرجه البخاري (2661) واللفظ له، ومسلم (2770). ، وتأبيرِ النَّخلِ [1554] لفظُ الحَديثِ: عن رافِعِ بنِ خَديجٍ قال: قدِمَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ، وهم يأبُرون النَّخلَ، يَقولونَ: يُلقِّحونَ النَّخلَ، فقال: ما تَصنَعونَ؟ قالوا: كُنَّا نَصنَعُه. قال: لعَلَّكُم لو لم تَفعَلوا كان خَيرًا. فتَرَكوه. فنَفضَت أو فنَقَصَت. قال: فذَكَروا ذلك له؟ فقال: إنَّما أنا بَشَرٌ، إذا أمَرتُكُم بشَيءٍ من دينِكُم فخُذوا به، وإذا أمَرتُكُم بشَيءٍ من رَأيٍ فإنَّما أنا بَشَرٌ. أخرجه مسلم (2362). ، وحادثةِ العُرَنيِّينَ [1555] لفظُ الحَديثِ: عن أنَسِ بنِ مالكٍ: ((أنَّ ناسًا من عُرَينةَ اجتَوَوا المدينةَ، فرَخَّص لهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يأتوا إبِلَ الصَّدَقةِ، فيَشْرَبوا من ألبانِها وأبوالِها، فقَتَلوا الرَّاعيَ واستاقوا الذَّودَ، فأرسَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأُتِيَ بهم، فقَطَّع أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَر أعيُنَهم، وتركَهم بالحَرَّةِ يَعَضُّون الحِجارةَ)). أخرجه البخاري (1501) واللفظ له، ومسلم (1671). ، وغَيرِها منَ الوقائِعِ والحَوادِثِ الكَثيرةِ، ولكِنَّ القَومَ يُصِرُّونَ على أنَّ الأنبياءَ والأولياءَ يَعلمونَ الغَيب، وحتَّى البَريلَويُّ كَذلك يُعلمُه بزَعمِهم؛ حَيثُ قالوا: (إنَّ أحمَد رِضا البَريلَويَّ كان يَعرِفُ يَومَ مَوتِه ووقتَ مَوتِه بالتَّحديدِ) [1556] يُنظر: ((وصايا البريلوي)) (ص: 7). .
وهم بهذا يُؤَلِّهونَ البَشَرَ ويَرفعونَهم إلى حَدٍّ ليس لهم أن يَرفعوهم إليه؛ لأجلِ ذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: ((ما أحِبُّ أن تَرفعوني فوقَ مَنزِلتي التي أنزَلني اللهُ)) [1557] أخرجه أحمد (12551)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10077)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن الكبرى)) (536) من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عنه صححه الألباني في ((غاية المرام)) (127)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (132)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12551)، وصحح إسنادَه محمد بن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (459) وقال: على شرط مسلم، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/611). .
وقال: ((لا تُطْروني كما أطرَتِ النَّصارى ابنَ مَريَمَ)) [1558] أخرجه البخاري (3445) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. . ولمَّا قالت جاريةٌ: وفينا نَبيٌّ يَعلمُ ما في غَدٍ، أنكَرَ عليها وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعي هذه، وقولي ما كُنتِ تَقولينَ)) [1559] أخرجه البخاري (5147) من حديثِ الرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذِ بنِ عَفراءَ رَضِيَ اللهُ عنها. .
صَدَقَ اللهُ جَلَّ وعَلا وصَدَقَ رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكَذَبَ مَن قال خِلافَ ذلك، كما قالتِ الصِّدِّيقةُ بنتُ الصِّدِّيقِ زَوجةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمُّ المُؤمنينَ عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: (مَن حَدَّثَك أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَعلمُ الغَيبَ فقد كَذَبَ، وهو يَقولُ: لا يَعلمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ) [1560] رواه البخاري (7830) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .

انظر أيضا: