موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: سَماعُ المَوتى


يَتَعَلَّقُ بمَسألةِ الاستِغاثةِ والاستِعانةِ بغَيرِ اللهِ تعالى، ومَسألةِ قُدرةِ الأنبياءِ والأولياءِ واختياراتِهم: مَسألةُ سَماعِ المَوتى؛ لأنَّ الجُهَّالَ الذينَ يُنادونَ الأنبياءَ والرُّسُلَ والأولياءَ والصَّالحينَ بَعدَ مَوتِهم ويَدعونَهم من دونِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، لا يَدعونَهم ولا يُنادونَهم إلَّا لاعتِقادِهم بأنَّ المَوتى يَسمَعونَ ويَستَجيبونَ نِداءَهم ودُعاءَهم مَعَ امتِلاكِهمُ القُدرةَ على ذلك.
ولأجلِ هذا قالوا: (إنَّ الأولياءَ والصَّالحينَ يَسمَعونَ ويُبصِرونَ في قُبورِهم أكثَرَ ممَّا كانوا يَسمَعونَ ويُبصِرونَ في حَياتِهم) [1521] يُنظر: ((بهار شريعت)) لأمجد علي (ص: 56). .
ذلك لأنَّهم في مُعتَقَدِهم قَبلَ مَوتِهم كانوا عاجِزينَ، وبالأسبابِ الكَونيَّةِ مُقَيَّدينَ، فإذا ماتوا انطَلقوا وتَفلَّتوا من تلك الأسبابِ بزَعمِهم، وعلى ذلك قال أحَدُ البَريلَويِّين: (إنَّ النُّفوسَ القُدسيَّةَ إذا تَجَرَّدَت عنِ العَلائِقِ البَدَنيَّةِ اتَّصَلت بالمَلأِ الأعلى، وتَرى وتَسمَعُ الكُلَّ كالمَشاهِدِ) [1522] يُنظر: ((بهار شريعت)) لأمجد علي (ص: 18- 19). .
وممَّا قالوه: (إنَّ المَوتى يَسمَعونَ، وإنَّ المُقَرَّبينَ بَعدَ مَوتِهم ليُغيثونَ) [1523] يُنظر: ((علم القرآن)) لأحمد يار (ص: 189). .
وقالوا: (إنَّ الشَّيخَ الجيلانيَّ يَرى في كُلِّ حينٍ، ويَسمَعُ نِداءَ الجَميعِ) [1524] يُنظر: ((إزالة الضلالة)) لعبدالقادر (ص: 6). .
وقال بَريلَويٌّ آخَرُ: (يَجوزُ النِّداءُ بعَليٍّ وغَوثٍ؛ لأنَّ هؤلاء المَحبوبينَ لدى اللهِ يَسمَعونَ بَعدَ مَوتِهم) [1525] يُنظر: ((الفتاوى النورية)) للقادري (ص: 527). .
وأمَّا البَريلَويُّ نَفسُه فقد قال: (إنَّ الأمواتَ ليسمَعون؛ إذ لا يُخاطَبُ إلَّا مَن يَسمَعُ) [1526] يُنظر: ((الفتاوى الرضوية)) (4/327). .
وكَتَبَ رِسالةً مُستَقِلَّةً باسم (الوِفاقُ المُبين بَينَ سَماعِ الدَّفينِ وجَوابِ اليَمينِ) التي طُبعَت ضِمنَ الرَّسائِلِ المُندَرِجةِ في (الفتاوى الرَّضويَّة).
وقد رَوى عِدَّةَ حِكاياتٍ ليُثبِتَ بها أنَّ المَوتى يَسمَعونَ، بل أكثَرُ من ذلك أنَّهم يَتَكَلَّمونَ أيضًا، ومنها: أنَّ إسماعيلَ الحَضرَميَّ مَرَّ على المَقابرِ ومَعَه أصحابُه، فوقَف على أربَعينَ قَبرًا وقفةً طَويلةً، وبَدَأ يَبكي حتَّى انتَصَف النَّهارُ فضَحِكَ، فسُئِل عن أسبابِ بُكائِه وضَحِكِه، فقال: مَرَرتُ على هذه القُبورِ؛ لأنَّ أصحابَها الأربَعينَ كانوا يُعَذَّبونَ فبَدَأت أشفعُ لهم عِندَ الرَّبِّ وأبكي على عَذابهِم حتَّى رَفعَ عنهمُ العَذابَ، ولمَّا انتَهَيتُ سَمِعتُ امرَأةً تُناديني من آخِرِ المَقابرِ وتَقولُ: يا سَيِّدي، أنا مُغنِّية فُلانة، فشَفعتَ لهم وحَرَمتَني عنها! فضَحِكتُ من قَولها وقُلتُ لها: أنتِ منهم، ورُفِعَ عنها العَذابُ [1527] يُنظر: ((الحكايات الرضوية)) (ص: 57). .
وقال البَريلَويُّ: (إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا نَزَل به الصَّحابةُ إلى قَبرِه كان يَتَكَلَّمُ، ويَقولُ: أمَّتي أمَّتي) [1528] رسالة ((نفي الفيء عمن أنار بنوره كل شيء)) للبريلوي المندرجة في ((مجموعة رسائل رضوية)) (1/221)، ((حياة النبي)) للكاظمي (ص: 47). .
وقال أيضًا: (إنَّ حَضَراتِ الأولياءِ أحياءٌ بَعدَ وِصالِهم -أي وفاتِهم-، ولهم تَصَرُّفاتٌ وكَراماتٌ باقيةٌ، وفيوضُهم جاريةٌ، وإعانَتُهم وإغاثَتُهم ثابتةٌ) [1529] ((الفتاوى الرضوية)) (4/236). .
وقال أيضًا: (إنَّ الأولياءَ أحياءٌ في قُبورِهم بالحَياةِ الدَّائِميَّةِ، ويَكونُ عِلمُهم وإدراكُهم وسَمعُهم وبَصَرُهم أقوى من قَبلُ) [1530] ((الحكايات الرضوية)) (ص: 44). .
وتلك عَقيدةٌ مُخالِفةٌ لِما قاله اللهُ عَزَّ وجَلَّ وقاله رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُنافيةٌ لشَريعةِ الإسلامِ النَّقيَّةِ الصَّافيةِ عن شَوائِبِ الشِّركِ والوثَنيَّةِ والأوهامِ المُشابهةِ لعَمَلِ أهلِ الجاهليَّةِ الأولى، الذينَ قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ فيهم: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] .
وقال اللهُ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف: 191-194] .
وقد حَكى اللهُ سُبحانَه عن مُشرِكي قُرَيشٍ عَقيدَتَهم في الاستِغاثةِ باللهِ والاستِعانةِ بغَيرِ اللهِ في قَوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس: 22] .
يَعني أنَّهم على الأقَلِّ في أسفارِهمُ البَحريَّةِ لا يُنادونَ إلَّا اللَّهَ؛ لاعتِقادِهم أنَّ غَيرَ اللهِ تعالى لا يَستَطيعُ نَصرَهم في البحارِ ولا يَقدِرُ عليه. خِلافًا لهؤلاء القَومِ فإنَّهم لا يَستَغيثونَ لا في البرِّ ولا في البَحرِ إلَّا بغَيرِ اللهِ سُبحانَه، ولا يُنادونَ إلَّا غَيرَه!
وقد قال الآلوسيُّ في تَفسيرِ الآيةِ السَّابقةِ: (الآيةُ دالَّةٌ على أنَّ المُشرِكينَ لا يَدعونَ غَيرَه تعالى في تلك الحالِ، وأنتَ خَبيرٌ بأنَّ النَّاسَ اليَومَ إذا اعتَراهم أمرٌ خَطيرٌ وخَطبٌ جَسيمٌ في بَرٍّ أو بَحرٍ دَعَوا مَن لا يَضُرُّ ولا يَنفعُ ولا يَرى ولا يَسمَعُ؛ فمنهم مَن يَدعو الخَضِرَ وإلياسَ، ومنهم مَن يُنادي أبا الخَميسِ والعَبَّاسَ، ومنهم مَن يَستَغيثُ بأحَدِ الأئِمَّةِ، ومنهم مَن يَضرَعُ إلى شَيخٍ من مَشايِخِ الأمَّةِ، ولا تَرى فيهم أحَدًا يَخُصُّ مَولاه بتَضَرُّعِه ودُعاه، ولا يَكادُ يَمُرُّ له ببالٍ أنَّه لو دَعا اللهَ تعالى وحدَه يَنجو من هاتيك الأهوالِ؛ فباللهِ تعالى عليك قُلْ لي: أيُّ الفريقَينِ من هذه الحَيثيَّةِ أهدى سَبيلًا، وأي الدَّاعيَينِ أقومُ قيلًا؟ وإلى اللهِ تعالى المُشتَكى من زَمانٍ عَصَفت فيه ريحُ الجَهالةِ، وتَلاطَمَت أمواجُ الضَّلالةِ، وخُرِقَت سَفينةُ الشَّريعةِ، واتُّخِذَت الاستِغاثةُ بغَيرِ اللهِ تعالى للنَّجاةِ ذَريعةً، وتَعَذَّرَ على العارِفينَ الأمرُ بالمَعروفِ، وحالت دونَ النَّهيِ عنِ المُنكَرِ صُنوفُ الحُتوفِ!) [1531] ((روح المعاني)) (6/ 93). .
وقال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (في هذه الآيةِ وأمثالِها بَيانٌ صَريحٌ لكَونِ المُشرِكينَ كانوا لا يَدعونَ في أوقاتِ الشَّدائِدِ وتَقَطُّعِ الأسبابِ بهم إلَّا اللَّهَ رَبَّهم، ولكِنَّ مَن لا يُحصى عَدَدُهم من مُسلِمي هذا الزَّمانِ بزَعمِهم لا يَدعونَ عِندَ أشَدِّ الضِّيقِ إلَّا مَعبوديهم منَ المَيِّتينَ، كالبَدَويِّ والرِّفاعيِّ والدُّسوقيِّ والجيلانيِّ والمَتبولي وأبي سَريعٍ وغَيرِهم مِمَّن لا يُحصى عَدَدُهم، وتَجِدُ من حَمَلةِ العَمائِمِ الأزهَريِّينَ وغَيرِهم -ولا سيَّما سَدَنةِ المَشاهِدِ المَعبودةِ الذينَ يَتَمَتَّعونَ بأوقافِها ونُذورِها- مَن يُغريهم بشِركِهم، ويتأوَّلُه بتَسميَتِه بغَيرِ اسمِه في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ، كالتَّوسُّلِ وغَيرِه!
وقد سَمِعتُ من كَثيرينَ منَ النَّاسِ في مِصرَ وسوريةَ حِكايةً يَتَناقَلونَها، ورُبَّما تَكَرَّرَت في القُطرَينِ لتُشابُهِ أهلِهما وأكثَرِ مُسلِمي هذا العَصرِ في خُرافاتِهم، مُلخَّصًا: إنَّ جَماعةً رَكِبوا البَحرَ، فهاجَ بهم حتَّى أشرَفوا على الغَرَقِ، فصاروا يَستَغيثونَ مُعتَقَديهم؛ فبَعضُهم يَقولُ: يا سَيِّد يا بَدَوي! وبَعضُهم يَصيحُ: يا رِفاعي! وآخَرُ يهتِفُ: يا عَبدَ القادِرِ يا جِيلاني!... إلخ، وكان فيهم رَجُلٌ مُوحِّدٌ ضاقَ بهم ذَرعًا فقال: يا رَبِّ أغرِقْ أغرِقْ، ما بَقيَ أحَدٌ يَعرِفُك!) [1532] ((تفسير المنار)) (11/ 338- 339). .

انظر أيضا: