موسوعة الفرق

المبحَثُ الرَّابِعُ: المبادئُ والأفكارُ


كانتِ المَذاهِبُ الصُّوفيَّةُ في الأصلِ عِبارةً عن مَدارِسَ تَربَويَّةٍ تَدعو إلى تَزكيةِ النَّفسِ وإلى الزُّهدِ في الدُّنيا والعَمَلِ الصَّالحِ، إلَّا أنَّ هذه المَدارِسَ دَخَلتها الفلسَفةُ اليونانيَّةُ والفلسَفةُ الهنديَّةُ، وحتَّى النَّصرانيَّةُ واليهوديَّةُ وغَيرُها منَ الأديانِ والفلسَفاتِ، فتَأثَّرَتِ الصُّوفيَّةُ بها، وبَدَأ الانحِرافُ عنِ الطَّريقِ المُستَقيمِ.
فقد أخَذَتِ الصُّوفيَّةُ منَ الفلسَفةِ الهنديَّةِ -مَثَلًا- مَراحِلَ تَرَقِّي الإنسانِ إلى الفَناءِ أوِ النِّرفانا، وذلك بتَطهيرِ نَفسِه بالجوعِ والزُّهدِ وتَركِ الدُّنيا حتَّى يَصِلَ إلى السَّعادةِ الحَقيقيَّةِ، وأخَذَتِ الصُّوفيَّةُ الرَّهبانيَّةَ منَ النَّصرانيَّةِ المُنحَرِفةِ، وهو الانقِطاعُ عنِ النَّاسِ والعُزلةُ عنِ الخَلقِ.
هذا بالإضافةِ إلى وُجودِ العَديدِ منَ المُصطَلحاتِ والمَعارِفِ البَعيدةِ عن تَعاليمِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ الواضِحةِ.
إنَّ كُلَّ الطُّرُقِ الصُّوفيَّةِ تَشتَرِكُ من حَيثُ الجُملةُ في أفكارٍ ومُعتَقَداتٍ وأهدافٍ واحِدةٍ، وإن كانت تَختَلفُ في أسلوبِ سُلوكِ المُريدِ أوِ السَّالِكِ وطُرُقِ تَربيَتِه والأورادِ التي يَتَلقَّاها، ويُمكِنُ إجمالُ مَبادِئِ الطَّريقةِ الشَّاذِليَّةِ -وهي تَشتَرِكُ فيها مَعَ غَيرِها منَ الطُّرُقِ- في الآتي:
1- التَّوبةُ: وهي نُقطةُ انطِلاقِ المُريدِ أوِ السَّالكِ إلى اللهِ تعالى.
2- الإخلاصُ: ويَنقَسِمُ لدَيها إلى قِسمَينِ:
 إخلاصُ الصَّادِقينَ.
 إخلاصُ الصِّدِّيقينَ.
3- النِّيَّةُ: وتُعَدُّ أساسَ الأعمالِ والأخلاقِ والعِباداتِ.
4- الخَلوةُ: أي اعتِزالُ النَّاسِ، فهذا من أسُسِ التَّربيةِ الصُّوفيَّةِ. وفي الطَّريقةِ الشَّاذِليَّةِ يَدخُلُ المُريدُ الخَلوةَ لمُدَّةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ قَبلَ سُلوكِ الطَّريقِ.
5- الزُّهدُ: وللزُّهدِ تَعاريفُ مُتَعَدِّدةٌ عِندَ الصُّوفيَّةِ؛ منها:
 فراغُ القَلبِ ممَّا سِوى اللهِ، وهذا هو زُهدُ العارِفينَ.
 وهو أيضًا عِندَهم الزُّهدُ في الحَلالِ وتَركُ الحَرامِ.
6- النَّفسُ: رَكَّزَتِ الشَّاذِليَّةُ على أحوالٍ للنَّفسِ هي:
 النَّفسُ مَركَزُ الطَّاعاتِ إن زَكَت واتَّقَت.
 النَّفسُ مَركَزُ الشَّهَواتِ في المُخالَفاتِ.
 النَّفسُ مَركَزُ المَيلِ إلى الرَّاحاتِ.
 النَّفسُ مركَزُ العَجزِ في أداءِ الواجِباتِ.
لذلك يَجِبُ تَزكيَتها حتَّى تَكونَ مَركَزًا للطَّاعاتِ فقَط.
7- الوَرَعُ: وهو العَمَلُ للَّهِ وباللهِ على البَيِّنةِ الواضِحةِ والبَصيرةِ الكامنةِ.
8- التَّوكُّلُ: وهو صَرفُ القَلبِ عن كُلِّ شَيءٍ إلَّا اللَّهَ.
9- الرِّضا: وهو رِضا اللهِ عنِ العَبدِ.
10- المحبَّةُ: وهي في تَعريفِهم: سَفَرُ القَلبِ في طَلَبِ المَحبوبِ، ولهجُ اللِّسانِ بذِكرِه على الدَّوامِ.
وللحُبِّ دَرَجاتٌ لدى الشَّاذِليَّةِ، وأعلى دَرَجاتِه ما وصَفَته رابعةُ العَدَويَّةُ بقَولِها:
أحِبُّك حُبَّينِ حُبَّ الهَوى
وحُبًّا لأنَّك أهلٌ لذاكَ
11- الذَّوقُ: ويُعَرِّفونَه بأنَّه تَلقِّي الأرواحِ للأسرارِ في الكَراماتِ وخَوارِقِ العاداتِ، ويَعُدُّونَه طَريقَ الإيمانِ باللهِ والقُربِ منه والعُبوديَّةِ له.
لذلك يُفضِّلُ الصُّوفيَّةُ العُلومَ التي تَأتي عن طَريقِ الذَّوقِ على العُلومِ الشَّرعيَّةِ منَ الفِقهِ والأصولِ وغَيرِ ذلك؛ إذ يَقولونَ: عِلمُ الأذواقِ لا عِلمُ الأوراقِ، ويَقولونَ: إنَّ عِلمَ الأحوالِ يَتِمُّ عن طَريقِ الذَّوقِ، ويَتَفرَّعُ منه عُلومُ الوَجدِ والعِشقِ والشَّوقِ.
12- عِلمُ اليَقينِ: وهو مَعرِفةُ اللهِ تعالى مَعرِفةً يَقينيَّةً، ولا يَحصُلُ هذا إلَّا عن طَريقِ الذَّوقِ، أوِ العِلمِ اللَّدُنِّيِّ أوِ الكَشفِ ونَحوِ ذلك [1074] يُنظر: ((التحرير والتحبير لشرح الحزب الكبير للقطب الشَّاذلي)) للبهي (ص: 9، 10). .
والشَّاذليُّ يَقولُ بأنَّ التَّمَسُّكَ بالكِتابِ والسُّنَّةِ هو أساسُ طَريقَتِه، فمن أقوالِه: (إذا عارَضَ كَشفُك الكِتابَ والسُّنَّةَ فتَمَسَّكْ بالكِتابِ والسُّنَّةِ ودَعِ الكَشفَ، وقُلْ لنَفسِك: إنَّ اللهَ تعالى قد ضَمنَ لي العِصمةَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ، ولم يَضمَنْها لي في جانِبِ الكَشفِ ولا الإلهامِ ولا المُشاهَدةِ) [1075] يُنظر: ((الطبقات الكبرى)) للشعراني (2/ 4). .
ويَقولُ أيضًا: (كُلُّ عِلمٍ يَسبقُ إليك فيه الخاطِرُ، وتَميلُ إليه النَّفسُ وتَلَذُّ به الطَّبيعةُ، فارمِ به وإن كان حَقًّا، وخُذْ بعِلمِ اللهِ الذي أنزَله على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واقتَدِ به وبالخُلفاءِ والصَّحابةِ والتَّابعينَ مِن بَعدِه) [1076] يُنظر: ((روضة الناظرين)) للوتري (ص: 89). .
وعامَّةُ الصُّوفيَّةِ -ومنهمُ الشَّاذِليَّةُ- يَرَونَ أنَّ عِلمَ الكِتابِ والسُّنَّةِ لا يُؤخَذانِ إلَّا عن طَريقِ شَيخٍ مُرشِدٍ، ولا يَتَحَقَّقُ للمُريدِ العِلمُ الصَّحيحُ حتَّى يُطيعَ شَيخَه طاعةً عَمياءَ، كالمَيِّتِ بَينَ يَدَيْ مُغَسِّلِه؛ لذلك يُنظَرُ إلى الشَّيخِ نَظرةً تقديسيَّةً خاصَّةً.
13- السَّماعُ: وهو سَماعُ الأناشيدِ والأشعارِ الغَزَليَّةِ الصُّوفيَّةِ.
نُقِل عنِ الحارِثِ المُحاسبيِّ قَولُه: (ممَّا يَتَمَتَّعُ به الفُقَراءُ سَماعُ الصَّوتِ الحَسَنِ)، و(إنَّه من أسرارِ اللهِ تعالى في الوُجودِ) [1077] يُنظر: ((الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية)) للشعراني (ص: 130). .
وقد أفرَدَ كِتابُ (التَّصَوُّفِ) للسَّماعِ أبوابًا مُنفصِلةً في مُؤَلَّفاتِهم؛ لِما له من أهَمِّيَّةٍ خاصَّةٍ عِندَهم.
ويوجَدُ في السَّماعِ الصُّوفيِّ أشعارٌ يَصِلُ بَعضُها إلى دَرَجةِ الشِّركِ، كَرَفعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى مَرتَبةٍ فوقَ مَنزِلتِه التي جَعلها اللهُ تعالى له، والاستِغاثةِ به أو ببَعضِ الصَّالحينَ [1078] يُنظر: ((لطائف الأذواق القلبية)) للكيالي والدرقاوي (ص: 164). .
قال أحمَد النَّقشَبَنديُّ الخالديُّ عن أبي الحَسَنِ الشَّاذِليِّ: (وأمَّا طَريقُه فجاءَ في طَريقِ اللهِ بالأسلوبِ العَجيبِ والمنهَجِ الغَريبِ والمَسلَكِ العَزيزِ القَريبِ، وجَمَعَ في ذلك بَينَ العِلمِ والعَمَلِ، والحالِ والمَقامِ والهمَّةِ والمَقالِ.
واشتَمَلت طَريقَتُه على الجَذبِ والمُجاهَدةِ والعِنايةِ.
واحتَوت على الأدَبِ والقُربِ والتَّسليمِ والرِّعايةِ.
وشُيِّدَت على العَمَلينِ الظَّاهِرِ والباطِنِ، وسائِرِ الهِدايةِ والأسرارِ والكَرامةِ والقُرَبِ.
وكانت طَريقَتُه مَبنيَّةً على طَلَبِ العِلمِ وكَثرةِ الذِّكْرِ والحُضورِ.
وكانت بهذا الاستِحضارِ الذي هو الجَميعُ أسهَلَ الطُّرُقِ وأقرَبَها بَعد النَّقْشَبَنديَّةِ.
وليس فيها كَثرةُ المُجاهَدةِ؛ لأنَّ ما في النَّفسِ منَ النُّورِ الأصليِّ يَتَعاضَدُ ويَقوى بنورِ العِلمِ وببُلوغِ سَدادِ طَريقِهم وقوَّةِ يَقينِهم وكَثرةِ عِرفانِهم وفتحِهم وكَثرةِ أنوارِهم وذَكاءِ قُلوبِهم مَعَ غَرَقِ كثيرِهم في الأسبابِ وتَلبُّسِهم ظاهرًا بأحوالِ العَوامِّ، فتَراهم أبَدًا مَحظوظينَ في أحوالِهم، مُحافِظينَ على أعمالِهم، وقدِ انفتَقَ في قُلوبِهم أسرارُ العُلومِ، ولاحَ لهم حَقائِقُ الحِكَمِ والمَفهومِ. فتَرى أحَدَهم في صورةِ العاصي وهو يُلهمُهم بالحَقائِقِ ويَنطِقُ بالحِكَمِ والدَّقائِقِ ممَّا يَعِزُّ وُجودُها لأربابِ الانقِطاعِ والخَلواتِ وأهلِ التَّجَلِّي والمُشاهَداتِ) [1079] يُنظر: ((جامع الأصول في الأولياء)) (2/42). !

انظر أيضا: