موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّابعُ: مُناظَرةُ ابنِ تيميَّةَ للرِّفاعيَّةِ


قال ابنُ تيميَّةَ: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ. الحَمدُ للَّهِ رَبِّ العالَمينَ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّماواتِ والأرَضينَ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا عَبدُه ورَسولُه خاتَمُ النَّبيِّينَ، صَلَّى اللهُ تعالى عليه وعلى آلِه وسَلَّمَ تسليمًا دائمًا إلى يَومِ الدِّينِ.
أمَّا بَعدُ، فقد كَتَبتُ ما حَضَرَني ذِكرُه في المَشهَدِ الكَبيرِ بقَصرِ الإمارةِ والمَيدانِ بحَضرةِ الخَلقِ منَ الأمَراءِ والكُتَّابِ والعُلماءِ والفُقَراءِ العامَّةِ وغَيرِهم في أمرِ البطائحيَّةِ يَومَ السَّبتِ تاسِعَ جُمادى الأولى سَنةَ خَمسٍ «أي بَعدَ السَّبعمِائةِ» لتَشَوُّفِ الهمَمِ إلى مَعرِفةِ ذلك، وحِرصِ النَّاسِ على الاطِّلاعِ عليه؛ فإنَّ مَن كان غائبًا عن ذلك قد يَسمَعُ بَعضَ أطرافِ الواقِعةِ، ومَن شَهدَها فقد رَأى وسَمِعَ ما رَأى وسَمِعَ، ومنَ الحاضِرينَ من سَمعَ ورَأى ما لم يَسمَعْ غَيرُه ويَرَه لانتِشارِ هذه الواقِعةِ العَظيمةِ، ولما حَصَل بها من عِزِّ الدِّينِ، وظُهورِ كَلمَتِه العُليا، وقَهرِ النَّاسِ على مُتابَعةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وظُهورِ زَيفِ مَن خَرَجَ عن ذلك من أهلِ البِدَعِ المُضِلَّةِ والأحوالِ الفاسِدةِ والتَّلبيسِ على المُسلمينَ.
وقد كَتَبتُ في غَيرِ هذا المَوضِعِ صِفةَ حالِ هؤلاء «البطائِحيَّةِ» وطَريقَتَهم وطَريقَ «الشَّيخِ أحمَدَ بنِ الرِّفاعيِّ» وحالَه، وما وافقوا فيه المُسلمينَ وما خالفوهم؛ ليَتَبَيَّنَ ما دَخَلوا فيه من دينِ الإسلامِ وما خَرَجوا فيه عن دينِ الإسلامِ؛ فإنَّ ذلك يَطولُ وصفُه في هذا المَوضِعِ، وإنَّما كَتَبتُ هنا ما حَضَرَني ذِكرُه من حِكايةِ هذه الواقِعةِ المَشهورةِ في مُناظَراتِهم ومُقابلتِهم.
وذلك أنِّي كُنتُ أعلمُ من حالهم بما قد ذَكرَتُه في غَيرِ هذا المَوضِعِ -وهو أنَّهم وإن كانوا مُنتَسِبينَ إلى الإسلامِ، وطَريقةِ الفَقرِ والسُّلوكِ، ويوجَدُ في بَعضِهمُ التَّعَبُّدُ والتَّألُّهُ والوَجدُ والمَحَبَّةُ والزُّهدُ والفَقرُ والتَّواضُعُ، ولِينُ الجانِبِ والمُلاطَفةُ في المُخاطَبةِ والمُعاشَرةِ، والكَشفُ والتَّصَرُّفُ ونَحوُ ذلك ما يوجَدُ- فيوجَدُ أيضًا في بَعضِهم منَ الشِّركِ وغَيرِه من أنواعِ الكُفرِ، ومنَ الغُلوِّ والبدَعِ في الإسلامِ والإعراضِ عن كَثيرٍ ممَّا جاءَ به الرَّسولُ، والاستِخفافِ بشَريعةِ الإسلامِ، والكَذِبِ والتَّلبيسِ وإظهارِ المخارِقِ الباطِلةِ وأكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، والصَّدِّ عن سَبيلِ اللهِ ما يوجَدُ.
وقد تَقدَّمَت لي مَعَهم وقائِعُ مُتَعَدِّدةٌ بَيَّنتُ فيها لمَن خاطَبتُه منهم ومن غَيرِهم بَعضَ ما فيهم من حَقٍّ وباطِلٍ، وأحوالَهمُ التي يُسَمُّونَها الإشاراتِ، وتابَ منهم جَماعةٌ، وأُدِّب منهم جَماعةٌ من شُيوخِهم، وبَيَّنتُ صورةَ ما يُظهرونَه منَ المخاريقِ: مِثلِ مُلابَسةِ النَّارِ والحَيَّاتِ، وإظهارِ الدَّمِ، واللَّاذنِ والزَّعفرانِ وماءِ الوردِ والعَسَلِ والسُّكَّرِ وغَيرِ ذلك، وأنَّ عامَّةَ ذلك عن حيَلٍ مَعروفةٍ وأسبابٍ مَصنوعةٍ، وأرادَ غَيرَ مَرَّةٍ منهم قَومٌ إظهارَ ذلك، فلمَّا رَأوا مُعارَضَتي لهم رَجَعوا ودَخَلوا على أن أستُرَهم فأجَبتُهم إلى ذلك بشَرطِ التَّوبةِ، حتَّى قال لي شَيخٌ منهم في مَجلسٍ عامٍّ فيه جَماعةٌ كَثيرةٌ ببَعضِ البَساتينِ لمَّا عارَضتُهم بأنِّي أدخُلُ مَعَكُمُ النَّارَ بَعدَ أن نَغتَسِلَ بما يُذهِبُ الحيلةَ، ومَنِ احتَرَقَ كان مغلوبًا، فلمَّا رَأوا الصِّدقَ أمسَكوا عن ذلك!
وحَكى ذلك الشَّيخُ أنَّه كان مَرَّةً عِندَ بَعضِ أمَراءِ التَّتَرِ بالمَشرِقِ، وكان له صَنَمٌ يَعبُدُه، قال: فقال لي: هذا الصَّنَمُ يَأكُلُ من هذا الطَّعامِ كُلَّ يَومٍ ويبقى أثَرُ الأكلِ في الطَّعامِ بيِّنًا يُرى فيه! فأنكَرتُ ذلك، فقال لي: إن كان يَأكُلُ أنتَ تَموتُ؟ فقُلتُ: نَعَم، قال: فأقَمتُ عِندَه إلى نِصفِ النَّهارِ ولم يَظهَرْ في الطَّعامِ أثَرٌ! فاستَعظَمَ ذلك التَّتَريُّ وأقسَمَ بأيمانٍ مُغَلَّظةٍ أنَّه كُلَّ يَومٍ يَرى فيه أثَرَ الأكلِ، لكِنَّ اليَومَ بحُضورِك لم يَظهَرْ ذلك. فقُلتُ لهذا الشَّيخِ: أنا أبَيِّنُ لك سَبَبَ ذلك. ذلك التَّتَريُّ كافِرٌ مُشرِكٌ، ولصَنَمِه شَيطانٌ يُغويه بما يُظهِرُه منَ الأثَرِ في الطَّعامِ، وأنتَ كان مَعَك من نورِ الإسلامِ وتَأييدِ اللهِ تعالى ما أوجَبَ انصِرافَ الشَّيطانِ عن أن يَفعَلَ ذلك بحُضورِك، وأنتَ وأمثالُك بالنِّسبةِ إلى أهلِ الإسلامِ الخالِصِ كالتَّتَريِّ بالنِّسبةِ لأمثالِك! فالتَّتَريُّ وأمثالُه سودٌ، وأهلُ الإسلامِ المَحضِ بِيضٌ، وأنتُم بُلقٌ فيكُم سَوادٌ وبَياضٌ. فأعجَبَ هذا المَثَلُ مَن كان حاضرًا!
وقُلتُ لهم في مَجلسٍ آخَرَ لمَّا قالوا: تُريدُ أن تَظهَرَ هذه الإشاراتُ؟ قُلتُ: إن عَمِلتُموها بحُضورِ مَن ليس من أهلِ الشَّأنِ منَ الأعرابِ والفلَّاحينَ، أوِ الأتراكِ أوِ العامَّةِ أو جُمهورِ المُتَفقِّهةِ والمُتَفرِّقةِ والمُتَصَوِّفةِ لم يُحسَبْ لكُم ذلك؛ فمن مَعَه ذَهَبٌ فليَأتِ به إلى سوقِ الصَّرفِ إلى عِندِ الجَهابذةِ الذينَ يَعرِفونَ الذَّهَبَ الخالصَ منَ المَغشوشِ ومنَ الصُّفرِ، لا يَذهَبُ إلى عِندِ أهلِ الجَهلِ بذلك! فقالوا لي: لا نَعمَلُ هذا إلَّا أن تَكونَ همَّتُك مَعنا، فقُلتُ: همَّتي ليست مَعَكُم، بل أنا مُعارِضٌ لكم مانِعٌ لكُم؛ لأنكُم تَقصِدونَ بذلك إبطالَ شَريعةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإن كان لكُم قُدرةٌ على إظهارِ ذلك فافعَلوا. فانقَلَبوا صاغِرينَ!
فلمَّا كان قَبلَ هذه الواقِعةِ بمُدَّةٍ كان يَدخُلُ منهم جَماعةٌ مَعَ شَيخٍ لهم من شُيوخِ البَرِّ. مُطَوَّقينَ بأغلالِ الحَديدِ في أعناقِهم، وهو وأتباعُه مَعروفونَ بأمورٍ، وكان يَحضُرُ عِندي مَرَّاتٍ فأخاطِبُه بالتي هي أحسَنُ؛ فلمَّا ذَكَرَ النَّاسُ ما يُظهرونَه منَ الشِّعارِ المُبتَدَعِ الذينَ يَتَمَيَّزونَ به عنِ المُسلمينَ، ويَتَّخِذونَه عِبادةً ودينًا يوهمونَ به النَّاسَ أنَّ هذا للَّهِ سِرٌّ من أسرارِهم، وأنَّه سيماءُ أهلِ المَوهبةِ الإلهيَّةِ السَّالِكينَ طَريقَهم -أعني طَريقَ ذلك الشَّيخِ وأتباعِه- خاطَبتُه في ذلك بالمَسجِدِ الجامِعِ، وقُلتُ: هذا بدعةٌ لم يَشرَعْها اللهُ تعالى ولا رَسولُه، ولا فَعَل ذلك أحَدٌ من سَلفِ هذه الأمَّةِ ولا منَ المَشايِخِ الذينَ يُقتَدى بهم، ولا يَجوزُ التَّعَبُّدُ بذلك، ولا التَّقَرُّبُ به إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ عِبادةَ اللهِ بما لم يَشرَعْه ضَلالةٌ، ولباسُ الحَديدِ على غَيرِ وَجهِالتَّعَبُّدِ قد كَرِهَه من كَرِهَه منَ العُلماءِ؛ للحَديثِ المَرويِّ في ذلك، وهو أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأى على رَجُلٍ خاتمًا من حَديدٍ، فقال: ((مالي أرى عَليك حِليةَ أهلِ النَّارِ؟)) [829] أخرجه أبو داود (4223)، والترمذي (1785)، والنسائي (5195) مطولًامن حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. قال النسائي في ((السنن الكبرى)) (9508): منكر، وضعَّفه ابن رجب في ((أحكام الخواتيم)) (2/663)، والألباني في ((ضعيف سنن أبي داود)) (4223)، وقال الترمذي: غريب. ، وقد وصَف اللَّهُ تعالى أهلَ النَّارِ بأنَّ في أعناقِهمُ الأغلالَ، فالتَّشَبُّهُ بأهلِ النَّارِ منَ المُنكَراتِ. وقال بَعضُ النَّاسِ: قد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عن أبي هرَيرةَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ الرُّؤيا قال في آخِرِه: ((أحِبُّ القَيدَ وأكرَهُ الغُلَّ. القَيدُ ثَباتٌ في الدِّينِ)) [830] أخرجه البخاري معلَّقًا بعد حديث (7017)، وأخرجه موصولًا مسلم (2263) واللفظ له؛ على الشَّكِّ في رفعِه ، فإذا كان مكروهًا في المَنامِ فكَيف في اليَقَظةِ؟!
فقُلت له في ذلك المَجلسِ ما تَقدَّمَ منَ الكَلامِ أو نحوًا منه مَعَ زيادةٍ، وخَوَّفتُه من عاقِبةِ الإصرارِ على البدعةِ، وأنَّ ذلك يوجِبُ عُقوبةَ فاعِلِه، ونَحوَ ذلك منَ الكَلامِ الذي نَسيتُ أكثَرَه لبُعدِ عَهدي به. وذلك أنَّ الأمورَ التي ليست مُستَحَبَّةً في الشَّرعِ لا يَجوزُ التَّعَبُّدُ بها باتِّفاقِ المُسلمينَ، ولا التَّقَرُّبُ بها إلى اللهِ ولا اتِّخاذُها طريقًا إلى اللهِ وسببًا لأن يَكونَ الرَّجُلُ من أولياءِ اللهِ وأحِبَّائِه، ولا اعتِقادُ أنَّ اللهَ يُحِبُّها أو يُحِبُّ أصحابَها كذلك، أو أنَّ اتِّخاذَها يَزدادُ به الرَّجُلُ خيرًا عِندَ اللهِ وقُربةً إليه، ولا أن يُجعَلَ شعارًا للتَّائِبينَ المُريدينَ وجهَ اللهِ، الذينَ هم أفضَلُ مِمَّن ليس مِثلَهم.
فهذا أصلٌ عَظيمٌ تَجِبُ مَعرِفتُه والاعتِناءُ به، وهو أنَّ المُباحاتِ إنَّما تَكونُ مُباحةً إذا جُعِلت مُباحاتٍ، فأمَّا إذا اتُّخِذَت واجِباتٍ أو مُستَحَبَّاتٍ كان ذلك دينًا لم يَشرَعْه اللهُ، وجَعْلُ ما ليس منَ الواجِباتِ والمُستَحَبَّاتِ منها بمَنزِلةِ جَعلِ ما ليس منَ المُحَرَّماتِ منها، فلا حَرامَ إلَّا ما حَرَّمَه اللهُ، ولا دينَ إلَّا ما شَرَعَه اللهُ؛ ولهذا عَظُمَ ذَمُّ اللهِ في القُرآنِ لمَن شَرَعَ دينًا لم يَأذَنِ اللهُ به، ولمَن حَرَّمَ ما لم يَأذَنِ اللهُ بتَحريمِه، فإذا كان هذا في المُباحاتِ فكَيف بالمَكروهاتِ أوِ المُحَرَّماتِ؟ ولهذا كانت هذه الأمورُ لا تَلزَمُ بالنَّذرِ، فلو نَذَرَ الرَّجُلُ فِعلَ مُباحٍ أو مَكروهٍ أو مُحَرَّمٍ، لم يَجِبْعليهفِعلُه كما يَجِبُ عليه إذا نَذَرَ طاعةَ اللهِ أن يُطيعَه، بل عليه كَفَّارةُ يَمينٍ إذا لميَفعَلْ، عِندَ أحمَدَ وغَيرِه، وعِندَ آخَرينَ لا شَيءَ عليه. فلا يَصيرُ بالنَّذرِ ما ليس بطاعةٍ ولا عِبادةٍ طاعةً وعِبادةً.
ونَحوُ ذلك العُهودُ التي تُتَّخَذُ على النَّاسِ لالتِزامِ طَريقةِ شَيخٍ مُعَيَّنٍ، كَعُهودِ أهلِ «الفُتوَّةِ» و«رُماةِ البُندُقِ» ونَحوِ ذلك ليس على الرَّجُلِ أن يَلتَزِمَ من ذلك على وَجهِ الدِّينِ والطَّاعةِ للَّهِ إلَّا ما كان دينًا وطاعةً للَّهِ ورَسولِه في شَرعِ اللهِ، لكِن قد يَكونُ عليه كَفَّارةٌ عِندَ الحِنثِ في ذلك؛ ولهذا أمَرتُ غَيرَ واحِدٍ أن يَعدِل عَمَّا أُخِذَ عليه منَ العَهدِ بالتِزامِ طَريقةٍ مَرجوحةٍ أو مُشتَمِلةٍ على أنواعٍ منَ البدَعِ إلى ما هو خَيرٌ منها من طاعةِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واتِّباعِ الكِتابِ والسُّنَّةِ؛ إذ كان المُسلمونَ مُتَّفِقينَ على أنَّه لا يَجوزُ لأحَدٍ أن يَعتَقِدَ أو يَقولَ عن عَمَلٍ: إنَّه قُربةٌ وطاعةٌ وبرٌّ وطَريقٌ إلى اللهِ واجِبٌ أو مُستَحَبٌّ، إلَّا أن يَكونَ ممَّا أمَرَ اللهُ به ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذلك يُعلمُ بالأدِلَّةِ المَنصوبةِ على ذلك، وما عُلمَ باتِّفاقِ الأمَّةِ أنَّه ليس بواجِبٍ ولا مُستَحَبٍّ ولا قُربةٍ لم يَجُزْ أن يُعتَقدَ أو يُقالَ: إنَّه قُربةٌ وطاعةٌ. فكذلك هم مُتَّفِقونَ على أنَّه لا يَجوزُ قَصدُ التَّقَرُّبِ به إلى اللهِ، ولا التَّعَبُّدُ به ولا اتِّخاذُه دينًا ولا عَمَلُه منَ الحَسَناتِ، فلا يَجوزُ جَعلُه منَ الدِّينِ لا باعتِقادٍ وقَولٍ، ولا بإرادةٍ وعَمَلٍ.
وبإهمالِ هذا الأصلِ غَلِطَ خَلقٌ كَثيرٌ منَ العُلماءِ والعُبَّادِ، يَرَونَ الشَّيءَ إذا لم يَكُنْ محرَّمًا لا يُنهى عنه، بل يُقالُ: إنَّه جائِزٌ، ولا يُفرِّقونَ بَينَ اتِّخاذِه دينًا وطاعةً وبرًّا، وبَينَ استِعمالِه كما تُستَعمَلُ المُباحاتُ المَحضةُ، ومَعلومٌ أنَّ اتِّخاذَه دينًا بالاعتِقادِ أوِ الاقتِصادِ أو بهما أو بالقَولِ أو بالعَمَلِ أو بهما من أعظَمِ المُحرِماتِ وأكبَرِ السَّيِّئاتِ، وهذا منَ البدَعِ المُنكَراتِ التي هي أعظَمُ منَ المَعاصي التي يُعلمُ أنَّها مَعاصٍ وسَيِّئاتٌ.
فلمَّا نَهَيتُهم عن ذلك أظهَروا الموافقةَ والطَّاعةَ ومَضَت على ذلك مُدَّةٌ والنَّاسُ يَذكُرونَ عنهمُ الإصرارَ على الابتِداعِ في الدِّينِ، وإظهارِ ما يُخالفُ شِرعةَ المُسلمينَ، ويَطلُبونَ الإيقاعَ بهم، وأنا أسلُكُ مَسلَكَ الرِّفقِ والأناةِ، وأنتَظِرُ الرُّجوعَ والفَيئةَ، وأؤَخِّرُ الخِطابَ إلى أن يَحضُرَ «ذلك الشَّيخُ» لمَسجِدِ الجامِعِ. وكان قد كَتَبَ إليَّ كتابًا بَعدَ كِتابٍ فيه احتِجاجٌ واعتِذارٌ، وعَتبٌ وآثارٌ، وهو كَلامٌ باطِلٌ لا تَقومُ به حُجَّةٌ، بل إمَّا أحاديثُ مَوضوعةٌ، أو إسرائيليَّاتٌ غَيرُ مَشروعةٍ، وحَقيقةُ الأمرِ الصَّدُّ عن سَبيلِ اللهِ وأكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ.
فقُلتُ لهم: الجَوابُ يَكونُ بالخِطابِ؛ فإنَّ جَوابَ مِثلِ هذا الكِتابِ لا يَتِمُّ إلَّا بذلك، وحَضَرَ عِندَنا منهم شَخصٌ فنَزَعْنا الغُلَّ من عُنُقِه.
وهؤلاء هم من أهلِ الأهواءِ الذينَ يَتَعَبَّدونَ في كَثيرٍ منَ الأمورِ بأهوائِهم لا بما أمرَ اللهُ تعالى ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] ؛ ولهذا غالِبُ وَجدِهم هَوًى مُطلَقٌ لا يَدرونَ مَن يَعبُدونَ، وفيهم شَبَهٌ قَويٌّ منَ النَّصارى الذينَ قال اللهُ تعالى فيهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] ؛ ولهذا كان السَّلَفُ يُسَمُّونَ أهلَ البدَعِ أهلَ الأهواءِ.
فحَمَلهم هَواهم على أن تَجَمَّعَ الأحزابُ، ودَخَلوا إلى المَسجِدِ الجامِعِ مُستَعِدِّينَ للحِرابِ، بالأحوالِ التي يُعِدُّونَها للغِلابِ، فلمَّا قَضَيتُ صَلاةَ الجُمعةِ أرسَلتُ إلى شَيخِهم لنُخاطِبَه بأمرِ اللَّهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونَتَّفِقُ على اتِّباعِ سَبيلِه، فخَرَجوا منَ المَسجِدِ الجامِعِ في جُموعِهم إلى قَصرِ الإمارةِ، وكأنَّهمُ اتَّفَقوا مَعَ بَعضِ الكِبارِ على مَطلوبِهم، ثمَّ رَجَعوا إلى مَسجِدِ الشاغو -على ما ذُكِرَ لي- وهم منَ الصِّياحِ والاضطِرابِ على أمرٍ من أعجَبِ العُجابِ.
فأرسَلتُ إليهم مَرَّةً ثانيةً لإقامةِ الحُجَّةِ والمَعذِرةِ، وطلَبًا للبَيانِ والتَّبصِرةِ، ورَجاءً للمَنَعةِ والتَّذكِرةِ. فعَمَدوا إلى القَصرِ مَرَّةً ثانيةً، وذُكِرَ لي أنَّهم قدِموا منَ النَّاحيةِ الغَربيَّةِ مُظهِرينَ الضَّجيجَ والعَجيجَ والإزبادَ والإرعادَ، واضطِرابَ الرُّؤوسِ والأعضاءِ، والتَّقَلُّبَ في نَهرِ بَرَدى، وإظهارَ التَّولُّهِ الذي يُخيِّلونَ به على الرَّدى، وإبرازَ ما يَدَّعونَه منَ الحالِ والمُحالِ، الذي يُسَلِّمُه إليهم مَن أضَلُّوا منَ الجُهَّالِ.
فلمَّا رَأى الأميرُ ذلك هاله ذلك المَنظَرُ، وسَأل عنهم، فقيل له: هم مُشتَكونَ، فقال: ليَدخُلْ بَعضُهم، فدَخل شَيخُهم، وأظهَر منَ الشَّكوى عَليَّ ودَعوى الاعتِداءِ منِّي عليهم كلامًا كثيرًا لم يَبلُغْني جَميعُه، لكِن حَدَّثَني مَن كان حاضرًا أنَّ الأميرَ قال لهم: فهذا الذي يَقولُه مِن عِندِه، أو يَقولُه عنِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقالوا: بل يَقولُه عنِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فأيُّ شَيءٍ يُقالُ له؟ قالوا: نَحنُ لنا أحوالٌ وطَريقٌ يُسَلَّمُ إلينا، قال: فنَسمَعُ كَلامَه، فمَن كان الحَقُّ مَعَه نَصَرناه، قالوا: نُريدُ أن تَشُدَّ منَّا، قال: لا، ولكِنْ أشُدُّ منَ الحَقِّ سَواءٌ كان مَعَكُم أو مَعَه، قالوا: ولا بُدَّ من حُضورِه؟ قال: نَعَم، فكَرَّروا ذلك فأمر بإخراجِهم، فأرسَل إليَّ بَعضُ خَواصِّه من أهلِ الصِّدقِ والدِّينِ مِمَّن يَعرِفُ ضَلالَهم، وعَرَّفني بصورةِ الحالِ وأنَّه يُريدُ كَشفَ أمرِ هؤلاء.
فلمَّا عَلِمتُ ذلك أُلقيَ في قَلبي أنَّ ذلك لأمرٍ يُريدُه اللهُ من إظهارِ الدِّينِ، وكَشفِ حالِ أهلِ النِّفاقِ المُبتَدِعينَ؛ لانتِشارِهم في أقطارِ الأرَضينَ، وما أحبَبتُ البَغيَعليهم والعُدوانَ، ولا أن أسلُكَ مَعَهم إلَّا أبلَغَ ما يُمكِنُ منَ الإحسانِ، فأرسَلتُ إليهم مَن عَرَّفهم بصورةِ الحالِ، وأنِّي إذا حَضَرتُ كان ذلك عَليكم منَ الوَبالِ، وكَثُرَ فيكُمُ القِيلُ والقالُ، وأنَّ مَن قَعَدَ أو قامَ قُدَّامَ رِماحِ أهلِ الإيمانِ فهو الذي أوقَعَ نَفسَه في الهَوانِ، فجاءَ الرَّسولُ وأخبَرَ أنَّهمُ اجتَمَعوا بشُيوخِهمُ الكِبارِ الذينَ يَعرفونَ حَقيقةَ الأسرارِ، وأشاروا إليهم بموافقةِ ما أُمِروا به منِ اتِّباعِ الشَّريعةِ، والخُروجِ عَمَّا يُنكَرُ عليهم منَ البدَعِ الشَّنيعةِ. وقال شَيخُهمُ الذي يَسيحُ بأقطارِ الأرضِ كَبلادِ التُّركِ ومِصرَ وغَيرِها: أحوالُنا تَظهَرُ عِندَ التَّتارِ لا تَظهَرُ عِندَ شَرعِ مُحَمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ. وأنَّهم نَزَعوا الأغلالَ منَ الأعناقِ، وأجابوا إلى الوِفاقِ.
ثمَّ ذُكِرَ لي أنَّه جاءَهم بَعضُ أكابرِ غِلمانِ المُطاعِ، وذَكَر أنَّه لا بُدَّ من حُضورِهم لمَوعِدِ الاجتِماعِ. فاستَخَرتُ اللهَ تعالى تلك اللَّيلةَ واستعَنْتُه واستَهدَيتُه، وسَلكتُ سَبيلَ عِبادِ اللهِ في مِثلِ هذه المَسالكِ، حتَّى أُلقيَ في قَلبي أن أدخَلَ النَّارَ عِندَ الحاجةِ إلى ذلك، وأنَّها تَكونُ بردًا وسلامًا على مَنِ اتَّبَعَ مِلَّةَ الخَليلِ، وأنَّها تُحرِقُ أشباهَ الصَّابئةِ أهلِالخُروجِ عن هذا السَّبيلِ. وقد كان بَقايا الصَّابئةِ أعداءَ إبراهيمَ إمامِ الحُنَفاءِ بنواحي البَطائِحِ مُنضَمِّينَ إلى مَن يُضاهيهم من نَصارى الدَّهماءِ.
وبَينَ الصَّابئةِ ومَن ضَلَّ منَ العِبادِ المُنتَسِبينَ إلى هذا الدِّينِ نَسَبٌ يَعرِفُه من عَرفَ الحَقَّ المُبينَ.
فالغاليةُ منَ القَرامِطةِ والباطِنيَّةِ-كالنُّصَيريَّةِ والإسماعيليَّةِ- يَخرُجونَ إلى مُشابَهةِ الصَّابئةِ الفلاسِفةِ، ثمَّ إلى الإشراكِ، ثمَّ إلى جُحودِ الحَقِّ تعالى. ومِن شِركِهمُ الغُلوُّ في البَشَرِ، والابتِداعُ في العاداتِ، والخُروجُ عنِ الشَّريعةِ له نَصيبٌ من ذلك بحَسَبِ ما هو لائِقٌ، كالمُلحِدينَ من أهلِ الاتِّحادِ، والغاليةِ من أصنافِ العِبادِ.
فلمَّا أصبَحْنا ذَهَبتُ إلى الميعادِ، وما أحبَبتُ أن أسَتصحِبُ أحدًا للإسعادِ، لكِنْ ذَهَب أيضًا بَعضُ مَن كان حاضرًا منَ الأصحابِ، واللهُ هو المُسَبِّبُ لجَميعِ الأسبابِ، وبلغَني بَعدَ ذلك أنَّهم طافوا على عَدَدٍ من أكابرِ الأمَراءِ، وقالوا أنواعًا ممَّا جَرَت به عادَتُهم منَ التَّلبيسِ والافتِراءِ، الذي استَحوذوا به على أكثَرِ أهلِ الأرضِ منَ الأكابرِ والرُّؤَساءِ، مِثلُ زَعمِهم أنَّ لهم أحوالًا لا يُقاوِمُهم فيها أحَدٌ منَ الأولياءِ، وأنَّ لهم طريقًا لا يَعرِفُه أحَدٌ منَ العُلماءِ، وأنَّ شَيخَهم هو في المَشايِخِ كالخَليفةِ، وأنَّهم يَتَقدَّمونَ على الخَلقِ بهذه الأخبارِ المُنيفةِ، وأنَّ المُنكِرَ عليهم هو آخِذٌ بالشَّرعِ الظَّاهرِ، غَيرُ واصِلٍ إلى الحَقائِقِ والسَّرائِرِ، وأنَّ لهم طريقًا وله طَريقٌ، وهمُ الواصِلونَ إلى كُنهِ التَّحقيقِ، وأشباهِ هذه الدَّعاوي ذاتِ الزُّخرُفِ والتَّزويقِ.
وكانوا لفَرطِ انتِشارِهم في البلادِ واستِحواذِهم على المُلوكِ والأمَراءِ والأجنادِ، لخَفاءِ نورِ الإسلامِ، واستِبدالِ أكثَرِ النَّاسِ بالنُّورِ الظَّلامَ، وطُموسِ آثارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أكثَرِ الأمصارِ، ودُروسِ حَقيقةِ الإسلامِ في دَولةِ التَّتارِ: لهم في القُلوبِ مَوقِعٌ هائِلٌ، ولهم فيهم منَ الاعتِقادِ ما لا يَزولُ بقَولٍ قائِلٍ.
قال المُخبِرُ: فغدا أولئك الأمَراءُ الأكابرُ، وخاطَبوا فيهم نائِبَ السُّلطانِ بتَعظيمِ أمرِهمُ الباهرِ، وذَكَر لي أنواعًا منَ الخِطابِ، واللهُ تعالى أعلَمُ بحَقيقةِ الصَّوابِ، والأميرُ مُستَشعِرٌ ظُهورَ الحَقِّ عِندَ التَّحقيقِ، فعادَ الرَّسولُ إليَّ مَرَّةً ثانيةً فبلَّغَه أنَّا في الطَّريقِ، وكان كَثيرٌ من أهلِ الاتِّحادِ مُجِدِّينَ في نَصرِهم بحَسَبِ مَقدورِهم، مُجَهِّزينَ لمَن يَعنيهم في حُضورِهم، فلمَّا حَضَرتُ وجَدتُ النُّفوسَ في غايةِ الشَّوقِ في هذا الاجتِماعِ، مُتَطَلِّعينَ إلى ما سيَكونُ طالِبينَ للاطِّلاعِ. فذَكَر لي نائِبُ السُّلطانِ وغَيرُه منَ الأمَراءِ بَعضَ ما ذَكَروه منَ الأقوالِ المُشتَمِلةِ على الافتِراءِ. وقال: إنَّهم قالوا: إنَّك طَلبتَ منهمُ الامتِحانَ، وأن يَحموا الأطواقَ نارًا ويَلبَسوها، فقُلتُ: هذا منَ البُهتانِ.
وها أنا ذا أصِفُ ما كان. قُلتُ للأميرِ: نَحنُ لا نَستَحِلُّ أن نَأمُرَ أحدًا بأن يَدخُلَ نارًا، ولا تَجوزُ طاعةُ مَن يَأمُرُ بدُخولِ النَّارِ. وفي ذلك الحَديثُ الصَّحيحُ [831] يَقصِدُ ابنُ تيميَّةَ حَديثَ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَ جَيشًا وأمَّر عليهم رَجُلًا. فأوقدَ نارًا. وقال: ادخُلوها. فأرادَ ناسٌ أن يَدخُلوها. وقال الآخَرونَ: إنَّا قد فرَرْنا منها. فذُكرَ ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال للَّذينِ أرادوا أن يدخُلوها: ((لو دَخَلتُموها لم تَزالوا فيها إلى يَومِ القيامةِ))، وقال للآخَرينَ قَولًا حَسَنًا. وقال ((لا طاعةَ في مَعصيةِ اللهِ، إنَّما الطَّاعةُ في المَعروفِ)). أخرجه البخاري (7257)، ومسلم (1840) واللفظ له. . وهؤلاء يَكذِبونَ في ذلك، وهم كَذَّابونَ مُبتَدِعونَ قد أفسَدوا من أمرِ دينِ المُسلمينَ ودُنياهم ما اللهُ به عَليمٌ. وذَكَرتُ تَلبيسَهم على طَوائِفَ منَ الأمَراءِ، وأنَّهم لبَّسوا على الأميرِ المَعروفِ بالأيدمريِّ [832] لعَلَّ المُرادَ به الأميرُ بَدرُ الدِّينِ بيليك بنُ عَبدِ اللَّهِ الصَّالحيِّ، المَعروفُ بالأيدمريِّ، أحَدُ مَماليكِ المَلكِ المَنصورِ قَلاوون وخَواصِّه، وكان من أعيانِ الأمَراءِ بالدِّيارِ المِصريَّةِ (ت: 686هـ). ووجَدَ المَلِكُ المَنصورُ عليه وَجدًا عظيمًا عِندَما ماتَ. يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (15/ 590، 568)، ((المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي)) لابن تغري بردي (3/ 515)، ((عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان)) للعيني (2/ 368). أوِ الأميرُ حُسامُ الدِّينِ لاجين الأيدمريُّ، الدَّاوادار، المُلقَّبُ بالدَّرفيل. (ت: 672هـ) قال الذَّهَبيُّ: (سَمع من سِبطِ السِّلَفيِّ، وكان مُحِبًّا للعُلماءِ، مُقَرِّبًا لهم، مُؤثِرًا للفُقَراءِ، خاضِعًا لهم. له مَعرِفةٌ وفضيلةٌ ومُشارَكةٌ وذَكاءٌ مُفرِطٌ وهمَّةٌ عاليةٌ ونَفسٌ شَريفةٌ، وكان السُّلطانُ يُحِبُّه ويَعتَمِدُ عليه في المُهمَّاتِ والمُكاتَباتِ وأمرِ القُصَّادِ). يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) (15/ 255). ويُنظر: ((ذيل مرآة الزمان)) لليونيني (3/ 67). ، وعلى قفجق [833]هو سَيفُ الدِّينِ قبجق، ويُقالُ قفجق، المَنصوريُّ، نائِبُ دِمَشقَ وحَماةَ وحَلبٍ، كان تركيًّا صاحِبَ فُروسيَّةٍ ودَهاءٍ، محبَّبًا إلى الرَّعيَّةِ (ت: 710هـ). يُنظر: ((أعيان العصر)) للصفدي (4/ 61)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (13/ 351) (14/ 8، 55)، ((الرد الوافر)) لابن ناصر الدين (ص: 41،42). نائِبِ السُّلطةِ وعلى غَيرِهما، وقد لبَّسوا أيضًا على المَلِكِ العادِل كتغا في مُلكِه، وفي حالةِ وِلايةِ حَماةَ، وعلى أميرِ السِّلاحِ أجَلِّ أميرٍ بديارِ مِصرَ، وضاقَ المَجلِسُ عن حِكايةِ جَميعِ تَلبيسِهم. فذَكَرتُ تَلبيسَهم على الأيدمريِّ، وأنَّهم كانوا يُرسِلونَ منَ النِّساءِ مَن يَستَخبرُ عن أحوالِ بَيتِه الباطِنةِ، ثمَّ يُخبرونَه بها على طَريقِ المُكاشَفةِ، ووعَدوه بالمُلكِ، وأنَّهم وعَدوه أن يُروه رِجالَ الغَيبِ. فصَنَعوا خَشَبًا طِوالًا وجَعَلوا عليها مَن يَمشي كَهَيئةِ الذي يَلعَبُ بأكرِ الزُّجاجِ، فجَعَلوا يَمشونَ على جَبلِ المزَّةِ وذاكَ يَرى من بَعيدٍ قومًا يَطوفونَ على الجَبلِ وهم يَرتَفِعونَ على الأرضِ، وأخَذوا منه مالًا كثيرًا، ثمَّ انكَشَف له أمرُهم.
قُلتُ للأميرِ: وولدُه هو الذي في حَلقةِ الجَيشِ يَعلمُ ذلك، وهو مِمَّن حَدَّثَني بهذه القِصَّةِ. وأمَّا قفجق؛ فإنَّهم أدخَلوا رجلًا في القَبرِ يَتَكَلَّمُ وأوهَموه أنَّ المَوتى تَتَكَلَّمُ، وأتَوا به في مَقابرِ بابِ الصَّغيرِ إلى رَجُلٍ زَعَموا أنَّه الرَّجُلُ الشَّعرانيُّ الذي بجَبَلِ لُبنانَ، ولم يُقَرِّبوه منه، بل من بَعيدٍ؛ لتَعودَعليه بَرَكَتُه، وقالوا: إنَّه طَلبَ منه جُملةً منَ المالِ، فقال قفجق: الشَّيخُ يُكاشِفُ وهو يَعلمُ أنَّ خَزائِني ليس فيها هذا كُلُّه! وتقَرَّب قفجق منه وجَذبَ الشَّعرَ فانقَلعَ الجِلدُ الذي ألصَقوه على جِلدِه من جِلدِ الماعِزِ. فذَكَرتُ للأميرِ هذا؛ ولهذا قيل لي: إنَّه لمَّا انقَضى المَجلِسُ وانكَشَف ما لهم للنَّاسِ كَتَب أصحابُ قفجق إليه كتابًا -وهو نائِبُ السَّلطَنةِ بحَماةَ- يُخبرُه صورةَ ما جَرى.
وذَكَرتُ للأميرِ أنَّهم مُبتَدِعونَ بأنواعٍ منَ البدَعِ، مِثلُ الأغلالِ ونَحوِها، وأنَّا نَهَيناهم عنِ البدَعِ الخارِجةِ عنِ الشَّريعةِ، فذَكَرَ الأميرُ حَديثَ البدعةِ، وسَألني عنه، فذَكَرتُ حَديثَ العِرباضِ بنِ ساريةَ [834]وهو حَديثُ ((وعظَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَوعِظةً ذَرَفت منها العُيونُ، ووجِلت منها القُلوبُ، فقُلنا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ هذه لمَوعِظةُ مودِّعٍ، فما تَعهَدُ إلينا؟ قال: قد تَرَكَتُكُم على البَيضاءِ ليلُها كَنَهارِها لا يَزيغُ عنها بَعدي إلَّا هالِكٌ، فمَن يَعِشْ منكم فسيَرى اختِلافًا كَثيرًا، فعَليكُم بما عَرَفتُم من سُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهديِّينَ ... وعَليكُم بالطَّاعةِ...)). أخرجه ابن ماجه (43) واللفظ له، وأحمد (17142). صحَّحه الشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/131) بلفظ: "الواضحة" بدلًا من "البيضاء"، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (43)، وشعيب الأرناؤوط بطرقه وشواهده في تخريج ((مسند أحمد)) (17142)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (1/68). ، وحديثَ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ [835]وهو أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ في خُطبَتِه: ((إنَّ أصدَقَ الكَلامِ كَلامُ اللَّهِ، وخَيرَ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ)). أخرجه مسلم (867). ، وقد ذَكرَتُهما بَعدَ ذلك بالمَجلسِ العامِّ كما سَأذكُرُه.
قُلتُ للأميرِ: أنا ما امتَحَنتُ هؤلاء، لكِن هم يَزعُمونَ أنَّ لهم أحوالًا يَدخُلونَ بها النَّارَ، وأنَّ أهلَ الشَّريعةِ لا يَقدِرونَ على ذلك، ويَقولونَ لنا: هذه الأحوالُ التي يَعجِزُ عنها أهلُ الشَّرعِ ليس لهم أن يَعتَرِضوا عَلينا، بل يُسَلَّمُ إلينا ما نَحنُ عليه -سَواءٌ وافقَ الشَّرعَ أو خالفَه- وأنا قدِ استَخَرتُ اللهَ سُبحانَه أنَّهم إن دَخَلوا النَّارَ أدخُلُ أنا وهم، ومَنِ احتَرَقَ منَّا ومنهم فعليه لعنةُ اللهِ، وكان مغلوبًا، وذلك بَعدَ أن نَغسِلَ جُسومَنا بالخَلِّ والماءِ الحارِّ.
فقال الأميرُ: ولمَ ذاكَ؟ قُلتُ: لأنَّهم يَطلُونَ جسومَهم بأدويةٍ يَصنَعونَها من دُهنِ الضَّفادِعِ، وباطِنِ قِشرِ النَّارنجِ، وحَجَرِ الطَّلَقِ [836]حَجَرُ الطَّلقِ: هو حَجَرٌ بَرَّاقٌ يَتَشَظَّى ويُظهِرُ أنوارًا إذا دُقَّ صَفائِحَ وشَظايا، قال الزَّبيديُّ: (قال الأصمَعيُّ: يُقالُ لضَربٍ منَ الدَّواءِ أو نَبتٍ: طَلَقَ. مُحَرَّكَ اللَّامِ، نَقله الأزهَريُّ، وقال غَيرُه: هو نَبتٌ تُستَخرَجُ عُصارَتُه، فيَتَطَلَّى بها الذينَ يَدخُلونَ النَّارَ). ((تاج العروس)) (13/ 305). ويُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1168). ، وغَيرِ ذلك منَ الحيَلِ المَعروفةِ لهم، وأنا لا أطلي جِلدي بشَيءٍ، فإذا اغتَسَلتُ أنا وهم بالخَلِّ والماءِ الحارِّ بَطَلتِ الحيلةُ وظَهَرَ الحَقُّ، فاستَعظَمَ الأميرُ هجومي على النَّارِ، وقال: أتفعَلُ ذلك؟ فقُلتُ له: نَعَم، قدِ استَخَرتُ اللهَ في ذلك وألقيَ في قَلبي أن أفعَلَه، ونَحنُ لا نَرى هذا وأمثالَه ابتِداءً؛ فإنَّ خَوارِقَ العاداتِ إنَّما تَكونُ لأمَّةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُتَّبعينَ له باطنًا وظاهرًا لحَجَّةٍ أو حاجةٍ؛ فالحُجَّةُ لإقامةِ دينِ اللهِ، والحاجةُ لِما لا بُدَّ منه منَ النَّصرِ والرِّزقِ الذي به يَقومُ دينُ اللهِ، وهؤلاء إذا أظهَروا ما يُسَمُّونَه إشاراتِهم وبَراهينَهمُ التي يَزعُمونَ أنَّها تُبطِلُ دينَ اللهِ وشَرعَه وجَبَ علينا أن نَنصُرَ اللَّهَ ورَسولَه صَلَّى اللهُ تعالى عليه وسَلَّمَ، ونَقومَ في نَصرِ دينِ اللهِ وشَريعَتِه بما نَقدِرُ عليه من أرواحِنا وجُسومِنا وأموالِنا، فلنا حينَئِذٍ أن نُعارِضَ ما يُظهرونَه من هذه المخاريقِ بما يُؤَيِّدُنا اللهُ به منَ الآياتِ!
وليُعلَمْ أنَّ هذا مِثلُ مُعارَضةِ موسى للسَّحَرةِ لمَّا أظهَروا سِحرَهم أيَّدَ اللهُ موسى بالعَصا التي ابتَلعَت سِحرَهم. فجَعَل الأميرُ يُخاطِبُ مَن حَضَرَه منَ الأمَراءِ على السِّماطِ بذلك، وفرِحَ بذلك، وكأنَّهم كانوا قد أوهَموه أنَّ هؤلاء لهم حالٌ لا يَقدِرُ أحَدٌ على رَدِّه، وسَمِعتُه يُخاطِبُ الأميرَ الكَبيرَ الذي قدِمَ من مِصرَ الحاجَّ بهادرَ، وأنا جالسٌ بَينَهما على رَأسِ السِّماطِ، بالتُّركيِّ، ما فهِمتُه منه، إلَّا أنَّه قال: اليَومَ تَرى حربًا عظيمًا، ولعَلَّ ذلك كان جوابًا لمَن كان خاطبَه فيهم على ما قيلَ.
وحَضَرَ شُيوخُهمُ الأكابِرُ، فجَعَلوا يَطلُبونَ منَ الأميرِ الإصلاحَ وإطفاءَ هذه القَضيَّةِ ويَتَرَفَّقونَ، فقال الأميرُ: إنَّما يَكونُ الصُّلحُ بَعدَ ظُهورِ الحَقِّ، وقُمْنا إلى مَقعَدِ الأميرِ بزاويةِ القَصرِ، أنا وهو وبهادِرُ، فسَمِعتُه يَذكُرُ له أيُّوبَ الحَمَّالَ بمِصرَ والمُولَّهينَ ونَحوَ ذلك، فدَلَّ ذلك على أنَّه كان عِندَ هذا الأميرِ لهم صورةٌ مُعَظَّمةٌ، وأنَّ لهم فيهم ظنًّا حسنًا، واللَّهُ أعلمُ بحَقيقةِ الحال؛ فإنَّه ذكرَ لي ذلك. وكان الأميرُ أحَبَّ أن يَشهَدَ بهادِرُ هذه الواقِعةَ ليَتَبَيَّن له الحَقُّ؛ فإنَّه من أكابرِ الأمَراءِ وأقدَمِهم وأعظَمِهم حُرمةً عِندِه، وقد قدِمَ الآنَ وهو يُحِبُّ تَأليفَه وإكرامَه، فأمَرَ ببساطٍ يُبسَطُ في المَيدانِ. وقد قدِمَ البطائحيَّةُ وهم جَماعةٌ كَثيرونَ، وقد أظهَروا أحوالهمُ الشَّيطانيَّةَ منَ الإزبادِ والإرغاءِ وحَرَكةِ الرُّؤوسِ والأعضاءِ، والظُّفرِ والحَبوِ والتَّقَلُّبِ، ونَحوِ ذلك منَ الأصواتِ المُنكَراتِ، والحَرَكاتِ الخارِجةِ عنِ العاداتِ، المُخالِفةِ لِما أمَرَ به لُقمانُ لابنِه في قَولِه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان: 19] .
فلمَّا جَلَسْنا وقد حَضَرَ خَلقٌ عَظيمٌ منَ الأمَراءِ والكُتَّابِ والعُلماءِ والفُقَراءِ والعامَّةِ وغَيرِهم، وحَضَر شَيخُهمُ الأوَّلُ المُشتَكي، وشَيخٌ آخَرُ يُسَمِّي نَفسَه خَليفةَ سَيِّدِه أحمَدَ، ويَركَبُ بعَلمَينِ، وهم يُسَمُّونَه: عبدَ اللهِ الكَذَّابَ، ولم أكُنْ أعرِفُ ذلك. وكان من مُدَّةٍ قد قدِمَ عَليَّ منهم شَيخٌ بصورةٍ لطيفةٍ وأظهَرَ ما جَرَت به عادَتُهم منَ المَسألةِ، فأعطيتُه طَلِبَتَه ولم أتَفطَّنْ لكَذِبِه حتَّى فارَقَني، فبَقيَ في نَفسي أنَّ هذا خَفِيَ عَليَّ تَلبيسُه إلى أن غاب، وما يَكادُ يَخفى عَليَّ تَلبيسُ أحَدٍ، بل أدرِكُه في أوَّلِ الأمرِ، فبَقيَ ذلك في نَفسي ولم أرَه قَطُّ إلى حينِ نَظرتُه، ذُكِرَ لي أنَّه ذاكَ الذي كان اجتَمَع بي قديمًا فتَعَجَّبتُ من حُسنِ صُنعِ اللَّهِ؛ أنَّه هَتكَه في أعظَمِ مَشهَدٍ يَكونُ حَيثُ كَتَمَ تَلبيسَه بَيني وبَينَه!
فلمَّا حَضَروا تَكَلَّمَ منهم شَيخٌ يُقالُ له حاتِمٌ بكَلامٍ مَضمونُه طَلَبُ الصُّلحِ والعَفوِ عنِ الماضي والتَّوبةِ، وإنَّا مُجيبونَ إلى ما طَلبَ مِن تَركِ هذه الأغلالِ وغَيرِها منَ البدَعِ، ومُتَّبعونَ للشَّريعةِ. فقُلتُ: أمَّا التَّوبةُ فمَقبولةٌ؛ قال اللهُ تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر: 3] ، وقال تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر: 49-50] .
فأخَذَ شَيخُهمُ المُشتَكي يَنتَصِرُ للُبسِهمُ الأطواقَ، وذَكَر أنَّ وهبَ بنَمُنَبِّهٍ رَوى أنَّه كان في بَني إسرائيلَ عابدٌ وأنَّه جَعَل في عُنُقِه طوقًا، في حِكايةٍ من حِكاياتِ بَني إسرائيلَ لا تَثبُتُ.
فقُلتُ لهم: ليس لنا أن نَتَعَبَّدَ في دينِنا بشَيءٍ منَ الإسرائيليَّاتِ المُخالِفةِ لشَرعِنا، ... وأنزل اللهُ تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] . فنحن لا يَجوزُ لنا اتِّباعُ موسى ولا عيسى فيما عَلِمْنا أنَّه أنزِلَ عليهما من عِندِ اللهِ إذا خالف شَرْعَنا، وإنَّما عَلينا أن نَتَّبعَ ما أُنزِل عَلينا من رَبِّنا ونَتَّبعَ الشِّرعةَ والمِنهاجِ الذي بَعَثَ اللهُ به إلينا رَسولَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما قال تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] . فكَيف يَجوزُ لنا أن نَتَّبعَ عُبَّادَ بَني إسرائيلَ في حِكايةٍ لا تُعلمُ صِحَّتُها؟! وما عَلينا من عُبَّادِ بَني إسرائيلَ؟! تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة: 134] ، هاتِ ما في القُرآنِ وما في الأحاديثِ الصِّحاحِ، كالبُخاريِّ ومُسلِمٍ، وذَكَرتُ هذا وشَبَهَه بكَيفيَّةٍ قَويَّةٍ.
فقال هذا الشَّيخُ منهم يُخاطِبُ الأميرَ: نَحنُ نُريدُ أن تَجمَعَ لنا القُضاةَ الأربَعةَ والفُقَهاءَ ونَحنُ قَومٌ شافِعيَّةٌ.
فقُلتُ له: هذا غَيرُ مُستَحَبٍّ ولا مَشروعٍ عِندَ أحَدٍ من عُلماءِ المُسلمينَ، بل كُلُّهم يَنهى عنِ التَّعَبُّدِ به ويَعُدُّه بِدعةً، وهذا الشَّيخُ كمالُ الدِّينِ ابنِ الزَّمَلكانيِّ مُفتي الشَّافِعيَّةِ ودَعَوتُه وقُلتُ: يا كمالَ الدِّينِ، ما تَقولُ في هذا؟ فقال: هذا بِدعةٌ غَيرُ مُستَحَبَّةٍ بل مَكروهةٌ. أو كما قال. وكان مَعَ بَعضِ الجَماعةِ فتوى فيها خُطوطُ طائِفةٍ منَ العُلماءِ بذلك.
وقُلتُ: ليس لأحَدٍ الخُروجُ عن شَريعةِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا الخُروجُ عن كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأشُكُّ هل تَكَلَّمتُ هنا في قِصَّةِ موسى والخَضِرِ؛ فإنِّي تَكَلَّمتُ بكَلامٍ بَعُدَ عَهدي به.
فانتَدَبَ ذلك الشَّيخُ عبدُاللهِ ورَفعَ صَوتَه. وقال: نَحنُ لنا أحوالٌ وأمورٌ باطِنةٌ لا يوقَفُ عليها، وذَكَرَ كلامًا لم أضبِطْ لفظَه: مِثلَ المَجالِسِ والمَدارِسِ والباطِنِ والظَّاهِرِ، ومَضمونُه أنَّ لنا الباطِنَ ولغَيرِه الظَّاهرُ، وأنَّ لنا أمرًا لا يَقِفُ عليه أهلُ الظَّاهِرِ فلا يُنكِرونَه عَلينا.
فقُلتُ له -ورَفعتُ صَوتي وغَضِبتُ-: الباطِنُ والظَّاهرُ والمَجالِسُ والمَدارِسُ، والشَّريعةُ والحَقائِقُ، كُلُّ هذا مَردودٌ إلى كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ليس لأحَدٍ الخُروجُ عن كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لا منَ المَشايِخِ والفُقَراءِ، ولا منَ المُلوكِ والأمَراءِ، ولا منَ العُلماءِ والقُضاةِ وغَيرِهم، بل جَميعُ الخَلقِ عليهم طاعةُ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وذَكَرتُ هذا ونَحوَه.
فقال -ورَفعَ صَوتَه-: نَحنُ لنا الأحوالُ وكَذا وكَذا. وادَّعى الأحوالَ الخارِقةَ كالنَّارِ وغَيرِها، واختِصاصَهم بها، وأنَّهم يَستَحِقُّونَ تَسليمَ الحالِ إليهم لأجْلِها.
فقُلتُ -ورَفعتُ صَوتي وغَضِبتُ-: أنا أخاطِبُ كُلَّ أحمَديٍّمن مَشرِقِ الأرضِ إلى مَغرِبِها، أيُّ شَيءٍ فعلوه في النَّارِ فأنا أصنَعُ مِثلَ ما تَصنَعونَ، ومَنِ احتَرَقَ فهو مَغلوبٌ، ورُبَّما قُلتُ: فعليه لعنةُ اللهِ، ولكِنْ بَعدَ أن نَغسِلَ جُسومَنا بالخَلِّ والماءِ الحارِّ، فسَألني الأمَراءُ والنَّاسُ عن ذلك؟ فقُلتُ: إنَّ لهم حِيَلًا في الاتِّصالِ بالنَّارِ يَصنَعونَها من أشياءَ: من دُهنِ الضَّفادِعِ، وقِشرِ النَّارنجِ، وحَجَرِ الطَّلقِ، فضَجَّ النَّاسُ بذلك، فأخَذَ يُظهرُ القُدرةَ على ذلك، فقال: أنا وأنتَ نُلَفُّ في باريَّةٍ بَعدَ أن تُطلى جسومُنا بالكِبريتِ. فقُلتُ: فقُمْ.
وأخَذتُ أكَرِّرُ عليه في القيامِ إلى ذلك، فمَدَّ يَدَه يُظهِرُ خَلعَ القَميصِ، فقُلتُ: لا! حتَّى تَغتَسِلَ في الماءِ الحارِّ والخَلِّ، فأظهَرَ الوَهمَ على عادَتِهم، فقال: مَن كان يُحِبُّ الأميرَ فليُحضِرْ خَشَبًا أو قال حُزمةَ حَطَبٍ. فقُلتُ: هذا تَطويلٌ وتَفريقٌ للجَمعِ، ولا يَحصُلُ به مَقصودٌ، بل قِنديلٌ يُوقَدُ وأُدخِلُ إصبَعي وإصبَعَك فيه بَعدَ الغَسلِ، ومَنِ احتَرَقَت إصبَعَه فعليه لعنةُ اللهِ، أو قُلتُ: فهو مَغلوبٌ. فلمَّا قُلتُ ذلك تَغَيَّر وذَلَّ. وذُكِرَ لي أنَّ وجهَه اصفَرَّ.
ثمَّ قُلتُ لهم: ومَعَ هذا فلو دَخَلتُمُ النَّارَ وخَرَجتُم منها سالِمينَ حَقيقةً، ولو طِرتُم في الهَواءِ، ومَشَيتُم على الماءِ، ولو فعَلتُم ما فعَلتُم لم يَكُنْ في ذلك ما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما تَدَّعونَه من مُخالفةِ الشَّرعِ، ولا على إبطالِ الشَّرعِ؛ فإنَّ الدَّجَّالَ الأكبَرَ يَقولُ للسَّماءِ: أمطِري، فتُمطِرُ، وللأرضِ: أنبِتي، فتُنبِتُ، وللخَرِبةِ: أخرِجي كُنوزَك، فتَخرُجُ كُنوزُها تَتبَعُه، ويَقتُلُ رجلًا ثمَّ يَمشي بَينَ شِقَّيه، ثمَّ يَقولُ له: قُم، فيَقومُ [837] أخرجه مسلم (2937) من حديثِ النَّوَّاسِ بنِ سمعانَ الكلابيِّ رَضِيَ اللهُ عنه بلفظِ: ((غيرُ الدَّجَّالِ أخوَفُني عليكم. إن يخرُجْ وأنا فيكم فأنا حجيجُه دونَكم ... فيأمرُ السَّماءَ فتُمطِرُ، والأرضَ فتُنبِتُ، فتروحُ عليهم سارحتهُم أطوَلَ ما كانت ذُرًا، وأسبَغَه ضُروعًا، وأمَدَّه خواصِرَ، ثمَّ يأتي القوَم فيدعوهم فيرُدُّون عليه قولَه، فينصَرِفُ عنهم، فيُصبِحون مُمحِلينَ ليس بأيديهم شيءٌ من أموالِهم. ويمرُّ بالخَرِبةِ فيقولُ لها: أخرجي كُنوزَك. فتتبَعُه كُنوزُها كيعاسيبِ النَّحلِ، ثمَّ يدعو رجلًا ممتَلِئًا شبابًا، فيضرِبُه بالسَّيفِ فيَقطَعُه جزلَتَينِ رميةَ الغرَضِ، ثمَّ يدعوه فيُقبِلُ ويتهَلَّلُ وَجهُه، يَضحَكُ ...)). ، ومَعَ هذا فهو دَجَّالٌ كَذَّابٌ مَلعونٌ، لعنه اللهُ، ورَفعتُ صَوتي بذلك، فكان لذلك وقعٌ عَظيمٌ في القُلوبِ.
وذَكَرتُ قَولَ أبي يَزيدَ البِسطاميِّ: لو رَأيتُمُ الرَّجُلَ يَطيرُ في الهَواءِ ويَمشي على الماءِ، فلا تَغتَرُّوا به حتَّى تَنظُروا كَيف وُقوفُه عِندَ الأوامِرِ والنَّواهي، وذَكَرتُ عن يونُسَ بنِ عبدِ الأعلى أنَّه قال للشَّافِعيِّ: أتدري ما قال صاحِبُنا، يَعني اللَّيثَ بنَسَعدٍ؟ قال: لو رَأيتَ صاحِبَ هَوًى يَمشي على الماءِ فلا تَغتَرَّ به. فقال الشَّافِعيُّ: لقد قَصَّرَ اللَّيثُ، لو رَأيتَ صاحِبَ هَوًى يَطيرُ في الهَواءِ فلا تَغتَرَّ به، وتَكَلَّمتُ بهذا ونَحوِه بكَلامٍ بَعُدَ عَهدي به. ومَشايِخُهم يَتَضَرَّعونَ عِندَ الأميرِ في طَلَبِ الصُّلحِ وجَعَلتُ ألحُّعليه في إظهارِ ما ادَّعَوه منَ النَّارِ مَرَّةً بَعدَ مَرَّةٍ، وهم لا يُجيبونَ، وقدِ اجتَمَعَ عامَّةُ مَشايِخِهمُ الذين في البلدِ والفُقَراءُ المولَّهونَ منهم، وهم عَدَدٌ كَثيرٌ، والنَّاسُ يَضِجُّونَ في المَيدانِ، ويَتَكَلَّمونَ بأشياءَ لا أضبِطُها.
فذَكَرَ بَعضُ الحاضِرينَ أنَّ النَّاسَ قالوا ما مَضمونُه: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [الأعراف: 118-119] ، وذَكَروا أيضًا أنَّ هذا الشَّيخَ يُسَمَّى عبدَ اللهِ الكَذَّابَ، وأنَّه الذي قَصَدَك مَرَّةً فأعطَيتَه ثَلاثينَ درهمًا، فقُلتُ: ظَهَرَ لي حينَ أخَذَ الدَّراهمَ وذَهَبَ أنَّه مُلبِّسٌ، وكان قد حَكى حِكايةً عن نَفسِه مَضمونُها أنَّه أدخَل النَّارَ في لحيَتِه قُدَّامَ صاحِبِ حَماةَ، ولمَّا فارَقَني وقَعَ في قَلبي أنَّ لحيَتَه مَدهونةٌ، وأنَّه دَخَل إلى الرُّومِ واستَحوذَ عليهم.
فلمَّا ظَهَرَ للحاضِرينَ عَجزُهم وكَذِبُهم وتَلبيسُهم، وتَبَيَّنَ للأمَراءِ الذينَ كانوا يَشُدُّونَ منهم أنَّهم مُبطِلونَ رَجَعوا، وتخاطَبَ الحاجُّ بهادِرُ ونائِبُ السُّلطانِ وغَيرُهما بصورةِ الحالِ، وعَرَفوا حَقيقةَ المُحالِ، وقُمْنا إلى داخِلٍ ودَخَلْنا، وقد طَلبوا التَّوبةَ عَمَّا مَضى، وسَألني الأميرُ عَمَّا تَطلُبُ منهم، فقُلتُ: مُتابَعةَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، مِثلُ: أن لا يعتَقِدَ أنَّه لا يَجِبُ عليه اتِّباعُهما، أو أنَّه يسوغُ لأحَدٍ الخُروجُ من حُكمِهما، ونَحوِ ذلك، أو أنَّه يَجوزُ اتِّباعُ طَريقةٍ تُخالفُ بَعضَ حُكمِهما، ونَحوِ ذلك من وُجوهِ الخُروجِ عنِ الكِتابِ والسُّنَّةِ التي توجِبُ الكُفرَ، وقد توجِبُ القَتلَ دونَ الكُفرِ، وقد توجِبُ قِتالَ الطَّائِفةِ المُمتَنِعةِ دونَ قَتلِ الواحِدِ المَقدورِ عليه.
فقالوا: نَحنُ مُلتَزِمونَ الكِتابَ والسُّنَّةَ. أتُنكِرُ عَلينا غَيرَ الأطواقِ؟ نَحنُ نَخلعُها. فقُلت: الأطواقُ وغَيرُ الأطواقِ، ليس المَقصودُ شيئًا مُعَيَّنًا، وإنَّما المَقصودُ أن يَكونَ جَميعُ المُسلمينَ تَحتَ طاعةِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال الأميرُ: فأيُّ شَيءٍ الذي يَلزَمُهم منَ الكِتابِ والسُّنَّةِ؟ فقُلتُ: حُكمُ الكِتابِ والسُّنَّةِ كَثيرٌ لا يُمكِنُ ذِكرُه في هذا المَجلسِ، لكِنَّ المَقصودَ أن يَلتَزِموا هذا التزامًا عامًّا، مَن خَرَجَ عنه ضُرِبَت عُنُقُه، وكَرَّرَ ذلك وأشارَ بيَدِه إلى ناحيةِ المَيدانِ، وكان المَقصودُ أن يَكونَ هذا حُكمًا عامًّا في حَقِّ جَميعِ النَّاسِ؛ فإنَّ هذا مَشهَدٌ عامٌّ مَشهورٌ قد تَوفَّرَتِ الهمَمُ عليه، فيَتَقَرَّرُ عِندَ المُقاتِلةِ، وأهلِ الدِّيوانِ، والعُلماءِ والعُبَّادِ، وهؤلاء، ووُلاةِ الأمورِ: أنَّه مَن خَرَجَ عنِ الكِتابِ والسُّنَّةِ ضُرِبَت عُنُقُه.
قُلتُ: ومن ذلك الصَّلَواتُ الخَمسُ في مَواقيتِها كما أمر اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ مِن هؤلاء مَن لا يُصَلِّي، ومنهم مَن يَتَكَلَّمُ في صَلاتِه، حتَّى إنَّهم بالأمسِ بَعدَ أنِ اشتَكَوا عَليَّ في عَصرِ الجُمُعةِ جَعَل أحَدُهم يَقولُ في صُلبِ الصَّلاةِ: يا سَيِّدي أحمَدُ، شيئًا للَّهِ! وهذا مَعَ أنَّه مُبطِلٌ للصَّلاةِ فهو شِركٌ باللهِ، ودُعاءٌ لغَيرِه في حالِ مُناجاتِه التي أمَرَنا أن نَقولَ فيها: إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَستَعينُ [الفاتحة: 5] ، وهذا قد فُعِل بالأمسِ بحَضرةِ شَيخِهم، فأَمَرَ قائِلَ ذلك لمَّا أنكَرَ عليه المُسلِمونَ بالاستِغفارِ، على عادَتِهم في صَغيرِ الذُّنوبِ، ولم يَأمُرْه بإعادةِ الصَّلاةِ. وكذلك يَصيحونَ في الصَّلاةِ صياحًا عظيمًا، وهذا مُنكَرٌ يُبطِلُ الصَّلاةَ.
فقال: هذا يَغلبُ على أحَدِهم كما يَغلبُ العُطاسُ!
فقُلت: العُطاسُ منَ اللهِ، واللهُ يُحِبُّ العُطاسَ ويَكرَهُ التَّثاؤُبَ، ولا يَملكُ أحَدُهم دَفعَه، وأمَّا هذا الصِّياحُ فهو منَ الشَّيطانِ، وهو باختيارِهم وتَكَلُّفِهم، ويقدِرونَ على دَفعِه، ولقد حَدَّثَني بَعضُ الخَبيرينَ بهم بَعدَ المَجلسِ أنَّهم يَفعَلونَ في الصَّلاةِ ما لا تَفعَلُه اليهودُ والنَّصارى، مِثلُ قَولِ أحَدِهم: أنا على بَطنِ امرَأةِ الإمامِ، وقَولِ الآخَرِ كَذا وكَذا منَ الإمامِ، ونَحوِ ذلك منَ الأقوالِ الخَبيثةِ، وأنَّهم إذا أنكَرَ عليهمُ المُنكِرُ تَركَ الصَّلاةِ يُصَلُّونَ بالنوبةِ، وأنا أعلمُ أنَّهم مُتَولُّونَ للشَّياطينِ ليسوا مَغلوبينَ على ذلك كما يُغلَبُ الرَّجُلُ في بَعضِ الأوقاتِ على صَيحةٍ أو بُكاءٍ في الصَّلاةِ أو غَيرِها.
فلمَّا أظهَروا التِزامَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وجُموعُهم بالمَيدانِ بأصواتِهم وحَرَكاتِهمُ الشَّيطانيَّةِ يُظهرونَ أحوالَهم، قُلتُ له: أهذا موافِقٌ للكِتابِ والسُّنَّةِ؟ فقال: هذا منَ اللهِ حالٌ يَرِدُ عليهم! فقُلتُ: هذا منَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، لم يَأمُرِ اللهُ به ولا رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أحَبَّه اللهُ ولا رَسولُه، فقال: ما في السَّماواتِ والأرضِ حَرَكةٌ ولا كَذا ولا كَذا إلَّا بمَشيئَتِه وإرادَتِه! فقُلت له: هذا من بابِ القَضاءِ والقَدَرِ، وهَكَذا كُلُّ ما في العالمِ من كُفرٍ وفُسوقٍ وعِصيانٍ هو بمَشيئَتِه وإرادَتِه، وليس ذلك بحُجَّةٍ لأحَدٍ في فِعلِه، بل ذلك ممَّا زَيَّنَه الشَّيطانُ وسَخِطَه الرَّحمَنُ!
فقال: فبأيِّ شَيءٍ تُبطِلُ هذه الأحوالَ؟ فقُلتُ: بهذه السِّياطِ الشَّرعيَّةِ! فأُعجِب الأميرُ وضَحِكَ، وقال: إي واللَّهِ! بالسِّياطِ الشَّرعيَّةِ تَبطُلُ هذه الأحوالُ الشَّيطانيَّةُ، كما قد جَرى مِثلُ ذلك لغَيرِ واحِدٍ، ومَن لم يُجِبْ إلى الدِّينِ بالسِّياطِ الشَّرعيَّةِ فبالسُّيوفِ المُحَمَّديَّةِ. وأمسَكتُ سَيفَ الأميرِ وقُلتُ: هذا نائِبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغُلامُه، وهذا السَّيفُ سَيفُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فمَن خَرَجَ عن كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه ضَرَبْناه بسَيفِ اللهِ، وأعادَ الأميرُ هذا الكَلامَ، وأخَذَ بَعضُهم يَقولُ: فاليهودُ والنَّصارى يُقَرُّون ولا نُقَرُّ نَحنُ؟ فقُلتُ: اليهودُ والنَّصارى يُقَرُّونَ بالجِزيةِ على دينِهمُ المَكتومِ في دُورِهم، والمُبتَدِعُ لا يُقَرُّ على بدعَتِه؛ فأُفحِموا لذلك!
وحَقيقةُ الأمرِ أنَّ مَن أظهَرَ منكَرًا في دارِ الإسلامِ لم يُقَرَّ على ذلك، فمَن دَعا إلى بدعةٍ وأظهَرَها لا يُقَرُّ، ولا يُقَرُّ مَن أظهَرَ الفُجورَ، وكذلك أهلُ الذِّمَّةِ لا يُقَرُّونَ على إظهارِ مُنكَراتِ دينِهم، ومَن سِواهم، فإن كان مسلِمًا أُخِذَ بواجِباتِ الإسلامِ وتَركِ مُحرَّماتِه، وإن لم يَكُنْ مُسلِمًا ولا ذِمِّيًّا فهو إمَّا مُرتَدٌّ، وإمَّا مُشرِكٌ، وإمَّا زِنديقٌ ظاهِرُ الزَّندَقةِ.
وذَكَرتُ ذَمَّ المُبتَدِعةِ، فقُلتُ: رَوى مُسلِمٌ في صَحيحِه عن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عن أبيه أبي جَعفَرٍ الباقِرِ عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقولُ في خُطبَتِه: ((إنَّ أصدَقَ الكَلامِ كَلامُ اللَّهِ، وخَيرَ الهَديِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وشَرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ)) [838] أخرجه مسلم (867) بلفظ: "فإنَّ خيرَ الحديثِ كِتابُ اللهِ". . وفي السُّنَنِ عنِ العِرباضِ بنِ ساريةَ، قال: ((خَطَبَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُطبةً ذَرَفت منها العُيونُ، ووجِلَت منها القُلوبُ، فقال قائِلٌ: يا رَسولَ اللهِ، كأنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ، فماذا تَعهَدُ إلينا؟ فقال: أوصيكُم بالسَّمعِ والطَّاعةِ؛ فإنَّه مَن يَعِشْ منكُم بَعدي فسَيَرى اختلافًا كثيرًا، فعَليكُم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهديِّينَ من بَعدي، تَمَسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بِدعةٍ ضَلالةٌ)) [839] أخرجه أبو داود (4607) واللفظ له، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42). صحَّحه الترمذي، والبزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5)، وابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/83)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/582). وفي رِوايةٍ: ((وكُلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ)) [840] أخرجها النسائي (1578)، وابن خزيمة (1785)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (137) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/220) من حديثِ محمَّدِ بن عليٍّ، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1578)، وصحَّح إسنادَه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (18/57). فقال لي: البدعةُ مِثلُ الزِّنا، ورَوى حديثًا في ذَمِّ الزِّنا، فقُلتُ: هذا حَديثٌ مَوضوعٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والزِّنا مَعصيةٌ، والبِدعةُ شَرٌّ منَ المَعصيةِ، كما قال سُفيانُ الثَّوريُّ: البدعةُ أحَبُّ إلى إبليسَ منَ المَعصيةِ؛ فإنَّ المَعصيةَ يُتابُ منها، والبدعةُ لا يُتابُ منها. وكان قد قال بَعضُهم: نَحنُ نُتَوِّبُ النَّاسَ [841] أي: نَنصَحُ العاصينَ ونَعِظُهم حتَّى يَتوبوا ويَرجِعوا إلى اللهِ، ويَترُكوا المَعاصيَ. ، فقُلتُ: ممَّاذا تتوبونَهم؟ قال: من قَطعِ الطَّريقِ، والسَّرِقةِ، ونَحوِ ذلك. فقُلتُ: حالُهم قَبلَ تتويبِكم خَيرٌ من حالِهم بَعد تتويبِكم؛ فإنَّهم كانوا فُسَّاقًا يَعتَقِدونَ تَحريمَ ما هم عليه، ويَرجونَ رَحمةَ اللهِ، ويَتوبونَ إليه، أو يَنوونَ التَّوبةَ، فجَعَلتُموهم بتتويبِكم ضالِّينَ مُشرِكينَ خارِجينَ عن شَريعةِ الإسلامِ، يُحِبُّونَ ما يُبغِضُه اللهُ، ويُبغِضونَ ما يُحِبُّه اللهُ! وبَيَّنتُ أنَّ هذه البدَعَ التي هم وغَيرُهم عليها شَرٌّ منَ المَعاصي.
قُلتُ مخاطبًا للأميرِ والحاضِرينَ: أمَّا المَعاصي فمِثلُ ما رَوى البُخاريُّ في صَحيحِه عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ((أنَّ رجلًا يُدعى حِمارًا، وكان يَشرَبُ الخَمرَ، وكان يُضحِكُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان كُلَّما أتيَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَلَدَه الحَدَّ، فلعنه رَجُلٌ مَرَّةً. وقال: لعَنَه اللهُ! ما أكثَرَ ما يُؤتى به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَلعَنْه؛ فإنَّه يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه)) [842] أخرجه البخاري (6780) عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ ((أنَّ رَجُلًا على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان اسمُه عَبدَ اللَّهِ، وكان يُلقَّبُ حِمارًا، وكان يُضحِكُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد جَلدَه في الشَّرابِ، فأُتي به يَومًا فأمَرَ به فجُلدَ، فقال رَجُلٌ منَ القَومِ: اللَّهمَّ العَنْه! ما أكثَرَ ما يُؤتى به! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَلعنوه، فواللهِ ما عَلِمتُإنَّه يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه)). قُلتُ: فهذا الرَّجُلُ كَثيرُ الشُّربِ للخَمرِ، ومَعَ هذا فلمَّا كان صَحيحَ الاعتِقادِ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَه شَهدَ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فنَهى عن لعنِه.
وأمَّا المُبتَدِعُ فمِثلُ ما أخرَجا في الصَّحيحَينِ عن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ وغَيرِهما -دَخل حَديثُ بَعضِهم في بَعضٍ- ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَقسِمُ، فجاءَه رَجُلٌ ناتِئٌ الجَبينِ كَثُّ اللِّحيةِ، مَحلوقُ الرَّأسِ، بَينَ عَينَيه أثَرُ السُّجودِ، وقال ما قال. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَخرُجُ من ضِئضِئِ هذا قَومٌ يَحقِرُ أحَدُكم صَلاتَه مَعَ صَلاتِهم، وصيامَه مَعَ صيامِهم، وقِراءَتَه مَعَ قِراءَتِهم، يقرؤون القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهم، يَمرُقونَ منَ الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ منَ الرَّميَّةِ، لئِن أدرَكتُهم لأقتُلَنَّهم قَتلَ عادٍ -وفي رِوايةٍ- لو يَعلَمُ الذينَ يُقاتِلونَهم ماذا لهم على لسانِ مُحَمَّدٍ لنَكَلوا عنِ العَمَلِ -وفي رِوايةٍ- شَرُّ قَتلى تَحتَ أديمِ السَّماءِ، خَيرُ قَتلى مَن قَتَلوا)) [843] أخرجه البخاري (7432)، ومسلم (1064)باختِلاف يَسير من حَديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ورِوايةُ: (لو يعلمُ الذينَ يُقاتِلونَهم ماذا لهم على لسانِ مُحَمَّدٍ لنَكَلوا عنِ العَمَلِ). أخرَجَها مُسلم (1066) من حَديثِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظ: (لو يَعلمُ الجَيشُ الذينَ يُصيبونَهم ما قُضيَ لهم على لسانِ نَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لاتَّكَلوا عنِ العَمَلِ). أخرجها الترمذي (3000)، وابن ماجه (176)، وأحمد (22183) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي أُمامةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3000)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22183)، وجوده الوادعي في ((الفتاوى الحديثية)) (1/425).
قُلتُ: فهؤلاء مَعَ كَثرةِ صَلاتِهم وقيامِهم وقِراءَتِهم وما هم عليه منَ العِبادةِ والزَّهادةِ، أمر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَتلِهم، وقَتَلَهم عَليُّ بنُأبي طالبٍ ومن مَعَه من أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ وذلك لخُروجِهم عن سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشَريعَتِه، وأظُنُّ أنِّي ذَكَرتُ قَولَ الشَّافِعيِّ: لئِن يُبتَلى العَبدُ بكُلِّ ذَنبٍ ما خَلا الشِّركَ باللهِ خَيرٌ من أنَّ يُبتَلى بشَيءٍ من هذه الأهواءِ. فلمَّا ظَهَرَ قُبحُ البدَعِ في الإسلامِ وأنَّها أظلمُ منَ الزِّنا والسَّرِقةِ وشُربِ الخَمرِ، وأنَّهم مُبتَدِعونَ بِدَعًا مُنكَرةً، فيَكونُ حالُهم أسوأَ من حالِ الزَّاني والسَّارِقِ وشارِبِ الخَمرِ، أخَذَ شَيخُهم عبدُ اللهِ يَقولُ: يا مَولانا، لا تَتَعَرَّضْ لهذا الجانِبِ العَزيزِ -يَعني أتباعَ أحمَدَ بنِ الرِّفاعيِّ- فقُلتُ منكِرًا بكَلامٍ غَليظٍ: ويحك! أيُّ شَيءٍ هو الجانِبُ العَزيزُ، وجَنابُ مَن خالفه أولى بالعِزِّ يا ذا الزَّرْجَنةِ [844] الزَّرْجَنةُ: التَّخارُجُ، والخبُّ، والخديعةُ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1553). ؟تُريدونَ أن تُبطِلوا دينَ اللهِ ورَسولِه؟ فقال: يا مَولانا، يُحرِقُك الفُقَراءُ بقُلوبِهم، وقُلتُ: مِثلَ ما أحرَقَني الرَّافِضةُ لَمَّا قَصَدتُ الصُّعودَ إليهم وصارَ جَميعُ النَّاسِ يُخَوِّفوني منهم ومن شَرِّهم! ويَقولُ أصحابُهم: إنَّ لهم سِرًّا مَعَ اللهِ، فنَصَرَ اللَّهُ وأعانَ عليهم! وكان الأمَراءُ قد عَرَّفوه بَرَكةَ ما يَسَّرَه اللهُ في أمرِ غَزوِ الرَّافِضةِ في الجَبَلِ.
وقُلتُ لهم: يا شَبَهَ الرَّافِضةِ يا بَيتَ الكَذِبِ؛ فإنَّ فيهم منَ الغُلوِّ والشِّركِ والمُروقِ عنِ الشَّريعةِ ما شارَكوا به الرَّافِضةَفي بَعضِ صِفاتِهم. وفيهم منَ الكَذِبِ ما قد يُقارِبونَ به الرَّافِضةَ في ذلك، أو يُساوونَهم، أو يَزيدونَ عليهم؛ فإنَّهم من أكذَبِ الطَّوائِفِ، حتَّى قيل فيهم: لا تَقولوا: أكذَبُ منَ اليهودِ على اللهِ، ولكِن قولوا: أكذَبُ منَ الأحمَديَّةِ على شَيخِهم، وقُلتُ لهم: أنا كافِرٌ بكم وبأحوالِكم فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ [هود: 55] .
ولمَّا رَدَدتُ عليهمُ الأحاديثَ المَكذوبةَ أخَذوا يَطلُبونَ منِّي كتبًا صَحيحةً ليهتَدوا بها، فبَذَلتُ لهم ذلك، وأعيدَ الكَلامُ: مَن خَرَجَ عنِ الكِتابِ والسُّنَّةِ ضُرِبَت عُنُقُه، وأعادَ الأميرُ هذا الكَلامَ واستَقَرَّ الكَلامُ على ذلك. والحَمدُ للَّه الذي صَدَقَ وعدَه، ونَصَر عَبدَه، وهَزَمَ الأحزابَ وَحدَه) [845] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 445- 475). .

انظر أيضا: