موسوعة الفرق

المَبحَثُ السَّادِسُ: العَلاقةُ بَينَ الرِّفاعيَّةِ والتَّتارِ


عَمِل الصَّيَّاديُّ على إعطاءِ الرِّفاعيَّةِ في عَهدِ دُخولِ التَّتارِ إلى بَغدادَ صورةً مُشَرِّفةً ودورًا بارزًا من غَيرِ إثباتٍ تاريخيٍّ يُدَعِّمُ هذا الادِّعاءَ، إلَّا أنَّ الوثائِقَ التَّاريخيَّةَ تَشهَدُ بخِلافِ ذلك؛ فقد بَيَّنَ الذَّهَبيُّ وغَيرُه أنَّ فسادَ الرِّفاعيَّةِ تَزامَنَ مَعَ دُخولِ التَّتارِ إلى العِراقِ بَعدَ أن سَقَطَت بأيديهم، فقال: (وقد كَثُرَ الزَّغلُ فيهم وتَجَدَّدَت لهم أحوالٌ شَيطانيَّةٌ مُنذُ أخَذَتِ التَّتارُ العِراقَ من دُخولِ النِّيرانِ ورُكوبِ السِّباعِ واللَّعِبِ بالحَيَّاتِ، وهذا ما عَرَفه الشَّيخُ ولا صُلحاءُ أصحابِه، فنعوذُ باللهِ منَ الشَّيطانِ) [818] ((العبر في خبر من غبر)) (3/ 75). ويُنظر: ((دراسات في التصوف)) لظهير (ص: 246، 247). .
وذَكرَ ابنُ شاكِرٍ الكُتبيُّ أنَّ الرِّفاعيَّةَ: (فسَدَت حالُهم مُنذُ مَجيءِ التَّتارِ، وأنَّهم بدؤوا يَفعَلونَ ما الشَّيخُ بَريءٌ منه حينَ دَخَل التَّتارُ العِراقَ) [819] ((فوات الوفيات)) (4/ 240). .
وما سَبَقَ يُؤَكِّدُ أنَّ ابتِداءَ تلك الخَوارِقِ إنَّما كان مُتَزامنًا مَعَ دُخولِ التَّتارِ العِراقِ؛ حَيثُ كان الرِّفاعيَّةُ يَتَودَّدونَ إليهم بها ليَدرؤوا شَرَّهم، أو ليَنالوا عِندَهمُ الحُظوةَ والمَكرُمةَ والمُكافأةَ على الخَوارِقِ التي كانوا يَفعَلونَها أمامَهم.
فقد رَوى المُؤَرِّخونَ عنهم أنَّهم كانوا يَتَرَدَّدونَ على التَّتارِ، ويَأوونَ عِندَهم ويَقبلونَ منهمُ الهَدايا والأعطيَّاتِ.
فذَكر ابنُ كَثيرٍ مَثَلًا أنَّ صالحًا الأحمَديَّ-وهو من أكابرِ مَشايِخِ الرِّفاعيَّةِ في وقتِه- كان يَأوي إلى نائِبِ التَّتارِ (قطلو شاه)، ويُقيمُ عِندَه، وكان هذا الأخيرُ يُكرِمُه جِدًّا. وهو الذي كان قد قال لابنِ تيميَّةَ أمامَ الأميرِ: (أحوالُنا لا تَتَّفِقُ إلَّا عِندَ التَّتارِ، وأمَّا عِندَ الشَّرعِ فلا) [820] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (14/ 47، 36). .
وقدِ اعتَرَف الوَتريُّ والصَّيَّاديُّ بمَنزِلةِ صالحٍ الأحمَديِّعِندَ التَّتارِ، وأنَّه كان يُقيمُ عِندَهم ويُكرِمونَه خِلالَ إقامَتِه عِندَهم [821] يُنظر: ((روضة الناظرين)) للوتري (ص: 141)، ((قلادة الجواهر)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 204). ويُنظر أيضًا: ((الدرر الكامنة)) لابن حجر (2/ 201). .
إنَّ خَوارِقَ الرِّفاعيَّةِ قد أكسَبَتهمُ الحُظوةَ والرِّضا عِندَ التَّتارِ، ومَنَعَت عنهمُ القَتلَ والتَّنكيلَ الذي أصابَ كَثيرًا منَ المُسلِمينَ آنَذاك، ولم تَكُنْ هذه الخَوارِقُ تَحَدِّيًا للتَّتارِ؛ إذ لو كان الأمرُ كذلك لشَمِلَهم القَتلُ والتَّنكيلُ. ولو كانت أحوالُهم كَراماتٍ من عِندِ اللهِ، فأين كانت هذه الكَراماتُ عِندَ دُخولِ التَّتارِ عَنوةً إلى بَغدادَ يَومَ قَتَلوا فيه أكثَرَ من مِليونَي مُسلمٍ؟! أينَ كان التَّصَرُّفُ في الأكوانِ؟ أينَ الأمانُ الذي يَزعُمونَ تَحَقُّقَه بهم؟ ولماذا لم يَرفَعوا البلاءَ الذي نَجِدُ في كُتُبِ الرِّفاعيَّةِ أنَّ مَشايِخَهم كانوا يَرفعونَه بالقَضيبِ والعَصا؟!
وقد أرادَ الصَّيَّاديُّ أن يَمحوَ هذه الصَّفحةَ المَشينةَ من حُسنِ العَلاقاتِ بَينَ الرِّفاعيَّةِ والتَّتارِ، وعَمِل على استِبدالِها بصَفحةٍ أخرى مُناقِضةٍ لها تَمامًا؛ فادَّعى أنَّ للرِّفاعيَّةِ الفَضلَ في دُخولِ التَّتارِ إلى الإسلامِ، وتَخليصِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ من شَرِّهم وفِتنَتِهم، وذَكرَ أنَّ اثنَينِ من كِبارِ زُعَماءِ التَّتارِ دَخلا الإسلامَ على أيدي الرِّفاعيَّةِ، هما: (هولاكو) و(غازان خان)!
أمَّا هولاكوُ فذَكرَ الصَّيَّاديُّ أنَّه أسلمَ فَزَعًا من عِزِّ الدِّينِ أحمَدَ بنِ مُحيي الفاروثيِّ بَعدَما رَأى بعَينِه دُخولَ النَّارِ وأكلَ الحَيَّاتِ! وادَّعى أنَّ ابنَ كَثيرٍ ذَكَرَ ذلك في تاريخِه وبالتَّحديدِ في حَوادِثِ سَنةِ أربَعٍ وتِسعينَ وسِتّمِائةٍ [822] يُنظر: ((روضة الناظرين)) للوتري (ص: 63)، ((خزانة الأمداد)) لأبي الهدى الصيادي (ص: 221، 222). . مَعَ أنَّ ابنَ كَثيرٍ لم يَذكُرْ عن عِزّ الدِّينِ هذا إلَّا أنَّه كان خَطيبًا فعَزَله السُّلطانُ عنِ الخَطابةِ، فألحَّ عليه ألَّا يَعزِلَه وأخبَرَه أنَّه يُصَلِّي كُلَّ ليلةٍ مِائةَ ألفِ رَكعةٍ، ويَقرَأُ في كُلِّ رَكعةٍ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ! وذَكَرَ ابنُ كَثيرٍ أنَّه خَرَجَ مَرَّةً في جَمعٍ منَ النَّاسِ ليستَسقيَ لهم فلم يُسقَوا، واستَسقى لهم ثانيةً فلم يُسقَوا، ثمَّ سُقُوا بَعدَ ذلك من غَيرِ دُعائِه [823] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (13/ 329، 330). .
ثمَّ إنَّ الصَّيَّاديَّ نَقَضَ ما قاله عن عِزّ الدِّينِ الفاروثيِّ، فزَعَمَ في مَوضِعٍ آخَرَ أنَّ إسلامَ هولاكو ورُجوعَه عنِ الكُفرِ والزَّندَقةِ كان على يَدِ الشَّيخَينِ (بندي ويَعقوب) اللَّذَينِ دَخَلا النَّارَ أمامَه وشَرِبا النُّحاسَ المُذابَ والسُّمَّ [824] يُنظر: ((قلادة الجواهر)) (ص: 218، 219). .
والقَولانِ على تَناقُضِهما يَرُدُّهما المُؤَرِّخونَ الذينَ أكَّدوا مَوتَ هولاكو كافِرًا مُصابًا بالصَّرَعِ، وأنَّه ماتَ على مِلَّةِ الكُفرِ.
قال الذَّهَبيُّ في أحداثِ سَنةِ (664هـ): (وهولاكو بنُقاآن بنِ جنكز خان المغلي مُقدَّمُ التَّتارِ... ماتَ على كُفرِه في هذه السَّنةِ بعِلَّةِ الصَّرعِ) [825] ((العبر في خبر من غبر)) (3/ 311). ويُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (49/ 182)، ((فوات الوفيات)) للكتبي (4/ 240). .
وقال ابنُ كَثيرٍ: (جاءَتِ الأخبارُ بأنَّ هولاكو هلكَ إلى لعنةِ اللهِ وغَضَبه بمَرَضِ الصَّرعِ... وكان مَلِكًا جَبَّارًا فاجرًا، لعنه اللهُ) [826] ((البداية والنهاية)) (13/ 245- 248). .
أمَّا (غازان خان) فقد زَعَمَ أبو الهدى الصَّيَّاديُّ أنَّه أسلمَ على يَدِ عُثمانَ سَيفِ الدِّينِ بنِ عِزِّ الدِّينِ الرِّفاعيِّ [827] يُنظر: ((خزانة الأمداد)) (ص: 212). .
وهذا مُخالِفٌ لِما ورَدَ من أنَّ إسلامَه كان بناءً على إشارةٍ من نائِبِه (نوروز) كما قال الذَّهَبيُّ: (شَرع نوروز يُلقِّنُ المَلِكَ غازانَ شَيئًا منَ القُرآنِ ويَجتَهدُ عليه. ودَخَل رَمَضانُ فصامه، ولولا هذا القَدرُ الذي حَصَل له منَ الإسلامِ، وإلَّا كان قدِ استَباحَ الشَّامَ لمَّا غَلبَ عليه؛ فللَّه الحَمدُ والمنَّةُ) [828] ((تاريخ الإسلام)) (52/ 38). .
إنَّ هذا الذي ذَكرَه الصَّيَّاديُّ لم تَشهَدْ به كُتُبُ التَّاريخِ، بل ولا طَبَقاتُ التَّصَوُّفِ المُتَقدِّمةُ، ولم يَكُنْ مَعروفًا حتَّى جاءَ هو وطَرَحَ دَعواه التي لا دَليلَعليها، وإنَّما يُمكِنُ الشَّهادةُ بضِدِّها استِنادًا إلى كُتُبِ التَّاريخِ والطَّبَقاتِ التي بَيَّنَت أنَّهم كانوا يَتَولَّونَ التَّتارَ ويَتَقَرَّبونَ إليهم.

انظر أيضا: