موسوعة الفرق

تمهيدٌ: البابيَّةُ والبَهائيَّةُ وليدةُ الباطِنيَّةِ القديمةِ


ليست هذه النِّحلةُ بالمُحدَثةِ في عَقائِدِها وتَعاليمِها، بل هي وليدةُ الباطِنيَّةِ القديمةِ التي تَغَذَّت مِن دياناتٍ سابقةٍ، وآراءٍ فلسَفيَّةٍ، ونَزَعاتٍ وأهواءٍ سياسيَّةٍ، هذا بالإضافةِ إلى التَّشابُهِ الكبيرِ القائِمِ بَينَها وبَين المبادئِ والأفكارِ الماسونيَّةِ. ومِمَّا يُبَيِّنُ هذا الأمرَ:
أوَّلًا: في الباطِنيَّةِ مَن يدَّعي النُّبوَّةَ لنَفسِه أو يدَّعيها لغَيرِه، وميرزا عَلي الشِّيرازيُّ المُلَقَّبُ بالبابِ يَدَّعي أنَّه رَسولٌ للنَّاسِ مِن قِبَلِ اللَّهِ تعالى، وله كِتابٌ اسمُه "البَيانُ" ادَّعى أنَّه مُنَزَّلٌ عليه مِن عِندِ اللَّهِ تعالى. وقد جاءَ في رِسالةٍ بَعَثَ بها البابُ إلى الألوسيِّ صاحِبِ التَّفسيرِ المَعروفِ، يدعوه فيها إلى الإيمانِ به: (إنَّني أنا عَبدُ اللَّهِ، قد بَعَثَني بالهُدى مِن عِندِه) وسَمَّى في هذه الرِّسالةِ مَذهَبَه "دينَ اللَّهِ"! فقال: (ومَن لم يدخُلْ في دينِ اللَّهِ مَثَلُه كمَثَلِ الذين لم يدخُلوا في الإسلامِ) [3805] ذكَر هذه القِصَّةَ محمد الخضر حسين، كما في ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (9/ 3/ 79)، ونقلها عنه محمد حسين الذهبي في ((التفسير والمفسرون)) (2/ 191). . والألوسيُّ تَعَرَّضَ لهذه الطَّائِفةِ عِندَ تَفسيرِ قَولِ اللَّهِ تعالى: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، فقال: (قد ظَهَرَ في هذا العَصرِ عِصابةٌ من غُلاةِ الشِّيعةِ لَقَّبوا أنفُسَهم بالبابيَّةِ، لهم في هذا البابِ فصولٌ يَحكُمُ بكُفرِ مُعتَقِدِها كُلُّ مَنِ انتَظَمَ في سِلكِ ذَوي العُقولِ، وقد كادَ يتمَكَنَّ عِرقُهم مِنَ العِراقِ لَولا همَّةُ واليه النَّجيبِ الذي وقَعَ على همَّتِه وديانَتِه الاتِّفاقُ؛ حَيثُ خَذَلهم -نَصَرَه اللَّهُ- وشَتَّتَ شَملَهم، وغَضِبَ عليهم رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه، وأفسَدَ عَمَلَهم؛ فجَزاه اللَّهُ تعالى عنِ الإسلامِ خيرًا، ودَفعَ عنه في الدَّارَينِ ضَيمًا وضَيرًا) [3806] ((روح المعاني)) (11/ 219). .
وكذلك ادَّعى زَعيمُهمُ الثَّاني المُلَقَّبُ ببَهاءِ اللَّهِ أنَّه رَسولٌ مِن عِندِ اللَّهِ، جاءَ لتَأسيسِ الإسلامِ على الأرضِ، ومِمَّا قاله: (لَعَمْرُ اللَّهِ إنَّ البَهاءَ ما نَطَقَ عنِ الهَوى، قد أنطَقَه الذي أنطَقَ الأشياءَ بذِكرِه وثَنائِه، لا إلهَ إلَّا هو الفَردُ الواحِدُ المُقتَدِرُ المُختارُ) [3807] ((الكتاب)) (ص: 7). .
وقال أيضًا: (لَعَمْري ما أظهَرتُ نَفسي، بل اللَّهُ أظهَرَني كيف أرادَ، إنِّي كُنتُ كأحَدٍ مِنَ العِبادِ، وراقِدًا على المِهادِ، مَرَّت عليَّ نَسائِمُ السُّبحان، وعَلَّمَني عِلمَ ما كان. ليس هذا مِن عِندي بل مِن لَدُنْ عَزيزٍ عَليمٍ. وأمَرَني بالنِّداءِ بَينَ الأرضِ والسَّماءِ، بذلك ورَد عليَّ ما ذَرَفت به دُموعُ العارِفينَ. ما قَرَأتُ ما عِندَ النَّاسِ مِنَ العِلمِ، وما دَخَلتُ المَدارِسَ؛ فاسألِ المَدينةَ التي كُنتُ فيها لتوقِنَ بأنِّي لَستُ مِنَ الكاذِبينَ) [3808] ((الكتاب)) (ص: 9). .
ومِمَّا قاله كذلك: (قُل قد أتى المُختارُ في ظِلِّ الأنوارِ؛ ليُحييَ الأكوانَ، مِن نَفحاتِ اسمِه الرَّحمَنِ، ويتَّحِدَ العالَمُ، ويجتَمِعوا على هذه المائِدةِ التي نَزَلَت مِنَ السَّماءِ) [3809] ((الكتاب)) (ص: 35). .
ثانيًا: مَنعُ الحَسَنِ بنِ الصَّبَّاحِ وغَيرِه مِن زُعَماءِ الباطِنيَّةِ العَوامَّ مِن دِراسةِ العُلومِ، والخَواصَّ مِنَ النَّظَرِ في الكُتُبِ المُتَقدِّمةِ، وفعَلَ البابُ مِثلَ ذلك، فحَرَّمَ في كِتابِه "البَيانُ" التَّعليمَ وقِراءةَ كُتُبٍ غَيرِ كُتُبِه، فكان مِن وراءِ ذلك أن حَرق أتباعُه القُرآنَ الكريمَ، وما في أيديهم مِن كُتُبِ العِلمِ. ولَكِنَّ بَهاءَ اللَّهِ أدرَك أنَّ هذا التَّحجيرَ قد يصرِفُ بَعضَ النَّاسِ عن دَعوتِه، فنَسَخَ ذلك التَّحجيرَ، وذلك حَيثُ يقولُ في كِتابِه المُسَمَّى بـ "الأقدَس": (قد عَفا اللَّهُ عنكم ما نَزَلَ في البَيانِ مِن مَحوِ الكُتُبِ، وآذَنَّا بكم بأن تقرؤوا مِنَ العُلومِ ما ينفعُكم) [3810] يُنظر: ((البهائية في إيران)) لسعيد زاهداني- ترجمة كمال السيد (ص: 134). .
ثالثًا: مِنَ الباطِنيَّةِ مَن يَدَّعي إمَّا حُلولَ الإلهِ في بَعضِ الأشخاصِ، أو يرَونَ أنَّهم مَظاهرُ خاصَّةٌ لتجَلِّي صِفاتِ اللَّهِ تعالى فيهم، ومِثلُ هذه الدَّعوى مُتَجَلِّيةٌ في بَعضِ مَقالاتِ البَهائيَّةِ؛ فابنُ البَهاءِ عَبَّاس المُلَقَّبُ بعَبدِ البَهاءِ يقولُ: (وقد أخبَرَنا بهاءُ اللَّهِ بأنَّ مَجيءَ رَبِّ الجُنودِ والأبِ الأزَليِّ، ومُخَلِّصِ العالَمِ الذى لا بُدَّ مِنه في آخِرِ الزَّمانِ، كما أنذَرَ جَميعُ الأنبياءِ، عِبارةٌ عن تَجَلِّيه في الهَيكَلِ البَشَريِّ، كما تَجَلَّى في هَيكَلِ عيسى النَّاصِريِّ، إلَّا أنَّ تَجَلِّيَه في هذه المَرَّةِ أتَمُّ وأكمَلُ وأبهى؛ فعيسى وغَيرُه مِنَ الأنبياءِ هيَّؤوا الأفئِدةَ والقُلوبَ لاستِعدادِ هذا التَّجَلِّي الأعظَمِ) [3811] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (9/ 3/ 80). .
وهذا أبو الفَضلِ الإيرانيُّ أحَدُ دُعاتِهم يقولُ: (... فكُلُّ ما توصَفُ به ذاتُ اللَّهِ ويُضافُ ويُسنَدُ إلى اللَّهِ مِنَ العِزَّةِ والعَظَمةِ، والقُدرةِ والعِلمِ والحِكمةِ، والإرادةِ والمَشيئةِ... وغَيرِها مِنَ الأوصافِ، إنَّما يرجِعُ بالحَقيقةِ إلى مَظاهرِ أمرِه، ومَطالعِ نورِه، ومَهابطِ وحيِه، ومَواقِعِ ظُهورِه) [3812] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (9/ 3/ 80- 81). . ومِثلُ هذا كثيرٌ في كلامِ زُعَمائِهم ودُعاتِهم.
رابعًا: الحِرصُ على كِتمانِ المُعتَقَداتِ
قال أبو الفَضائِل البَهائيُّ: (الحَقُّ يُقالُ: إنَّك نَسيتَ وصيَّةَ روحِ اللَّهِ الوارِدةَ في سِفرِ مَتَّى: "لا تُلقوا جَواهِرَكم تَحتَ أرجُلِ الخَنازيرِ"؛ حَيثُ تُجاهرُ بجَواهِرِ الأسرارِ ومَعالي المَعاني عِندَ مَن لا يستَحِقُّ أن تُخاطِبَه وتُلاطِفَه، وتُجالِسَه وتُؤانِسَه، فكيف أنَّه يكونُ مُستَودَعَ الحِكمةِ الإلهيَّةِ، والأسرارِ الرَّبَّانيَّةِ؟ فتَمَسَّكْ بالحِكمةِ، وكُنْ على جانِبٍ عَظيمٍ مِنَ الفِطنةِ) [3813] ((رسائل أبي الفضائل)) (ص: 126، 127). .
وقال في رِسالةٍ أرسَلها إلى الشَّيخِ فرَح اللَّه زَكي الكُرديِّ أحَدِ أتباعِهم في مِصرَ: (اعلَمْ يا حَبيبي أنَّه سيدخُلُ عليكم كثيرونَ، ويتَظاهَرونَ بنَوايا المُتَفحِّصِ الباحِثِ، ويُظهِرونَ السِّلمَ والوِفاقَ، وهم أهلُ النِّفاقِ وأصلُ الشِّقاقِ، ومَقصودُهم مَعرِفةُ أهلِ الإيمانِ، واضطِهادُ أصحابِ الإيقانِ، كما تُصَرِّحُ وتُنادي آيُ الفُرقانِ، مِنها قَولُه تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد: 13] … إلى آخِرِ الآياتِ، فتَحكُمُ الآيةُ المُبارَكةُ أنَّه لا بُدَّ مِن دُخولِ أهلِ النِّفاقِ على أصحابِ الوِفاقِ؛ للاستِطلاعِ والاستِراقِ، فلا يَغُرَّنَّك تَحَبُّبُهم وتَرَفُّقُهم، ولا يخدَعَنَّك مُلاينَتُهم وتَمَلُّقُهم؛ فإنَّ التَّهَوُّرَ والتَّعَجُّلَ يوجِبُ النَّدَمَ والافتِضاحَ، والتَّرَوِّي يكفُلُ النَّجاحَ والفلاحَ. ومِنَ الحِكَمِ المَأثورةِ: "العَجَلةُ مِنَ الشَّيطانِ، والتَّأنِّي مِنَ الرَّحمَنِ") [3814] ((رسائل أبي الفضائل)) (ص: 138، 139). .

انظر أيضا: