موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: انقِسامُ البَهائيَّةِ وأهَمُّ زُعَمائِها


بَعدَ وفاةِ المازَنْدرانيِّ خَلفَه ابنُه عَبَّاس أفندي المُلَقَّبُ بعبدِ البهاءِ، المَولودُ في سَنة 1844م، وكان قد لازَمَ والِدَه مُنذُ صِغَرِه في مَنفاه بالعِراقِ وتُركيا وفِلَسطينَ، وقد بَقي مَنفيًّا كأبيه في عَكَّا، ولا يستَطيعُ السَّفَرَ للخارِجِ إلى سَنةِ 1919م، وكان البَهاءُ قد أوصى بأن يتَولَّى الأمرَ بَعدَه ابنُه عَبَّاس، ثُمَّ مِن بَعدِه مُحَمَّد عَلي، فحَصَلَ بَينَهما شِقاقٌ وخِلافٌ شَديدٌ، وانقَسَمَ البَهائيُّونَ حينَئِذٍ إلى فِرقَتَينِ:
الفِرقةُ الأولى: وهي المواليةُ لعَبَّاس أفندي بنِ بَهاءِ اللَّهِ حُسَين المازَنْدرانيِّ، وتُسَمَّى العَبَّاسيَّةَ.
الفِرقةُ الثَّانيةُ: وهي المواليةُ لمُحَمَّد عَلي بنِ بَهاءِ اللَّهِ حُسَين المازَنْدرانيِّ، وتُسَمَّى الموحِّدينَ.
وقد دارَ بَينَ الأخَوينِ نِزاعٌ حتَّى أنَّ شَوقي أفندي حَفيدَ عبدِ البهاءِ اتَّهَمَ الميرزا مُحَمَّد عَلي بتَزييفِ النُّصوصِ المُقدَّسةِ عِندَهم، وبتَدبيرِ مُحاولةِ اغتيالِ عبدِ البهاءِ [3786] يُنظر: ((القرن البديع)) (ص: 287-293). . وذَكرَ شَوقي أيضًا أنَّه عِندَ قُدومِ عبدِ البهاءِ إلى جَبَلِ الكِرْمِلِ بفِلَسطينَ مِن أجلِ تَشييدِ ضَريحٍ للبابِ الشِّيرازيِّ قامَ الميرزا مُحَمَّد عَلي مَعَ بَعضِ أقارِبه بدَسائِسَ أسفرَت عن تَضييقِ الخِناقِ عليه [3787] يُنظر: ((القرن البديع)) (ص: 309). .
وكان عبدُ البهاءِ عَبَّاس أفندي مَعروفًا بدَهائِه وحَريصًا على نَشرِ البَهائيَّةِ جادًّا في ذلك، حتَّى قيلَ: إنَّه لَولا عَبَّاس أفندي لما قامَت للبَهائيَّةِ قائِمةٌ.
وقد داهَنَ عَبَّاس أفندي وتَزَلَّف في سَبيلِ نَشرِ دَعوتِه بَينَ كُلِّ الطَّوائِفِ والمِلَلِ والعِرقيَّاتِ، حتَّى أنَّه قال: (اعلَمْ أنَّ المَلَكوتَ ليس خاصًّا بجَمعيَّةٍ مَخصوصةٍ، فإنَّك يُمكِنُ أن تَكونَ بَهائيًّا مَسيحيًّا، وبَهائيًّا ماسونيًّا، وبَهائيًّا يهوديًّا، وبَهائيًّا مُسلِمًا)||hamish||3788||/hamish||!
ومِمَّا قاله في شَأنِ أمريكا والأمريكيِّينَ: (إنَّ قارَّةَ أمريكا عِندَ اللَّهِ هي مَيدانُ إشراقِ الأنوارِ، وقُطرُ ظُهورِ الأسرارِ، ومَنشَأُ الأبرارِ، ومَجمَعُ الأحرارِ"... "تُظهِرُ قارَّةُ أمريكا مِن عَلاماتِ التَّقدُّمِ الباهِرِ ما يَجعَلُ مُستَقبَلَها أكثَرَ إشراقًا وتَبشيرًا؛ لأنَّ نورَها وتَأثيرَها أبعَدُ مَدًى. ولسوف تَهدي كُلَّ الأُمَمِ في مَيادينِ الرُّوحانيَّةِ". بل إنَّ حَضرةَ عَبدِ البَهاءِ اختَصَّ جُمهوريَّةَ الغَربِ العُظمى -زَعيمةَ أُمَمِ القارَّةِ الأمريكيَّةِ- بعِنايتِه الخاصَّةِ بصورةٍ أوضَحَ حينَ قال: "إنَّ الشَّعبَ الأمريكيَّ جَديرٌ حَقًّا بأن يكونَ أوَّلَ مَن يضرِبُ خَيمةَ السَّلامِ الأعظَمِ، ويُعلنُ وَحدةَ الجِنسِ البَشَريِّ"، وحينَ قال مَرَّةً أُخرى: "هذه الأُمَّةُ الأمريكيَّةُ لها مِنَ الطَّاقةِ الكامِنةِ ما يُمَكِّنُها مِن أن تَقومَ بما سَوف يُزَيِّنُ صَفحاتِ التَّاريخِ، ويحسُدُها عليه العالَمُ، ويُهَنِّئُها أهلُ الشَّرقِ والغَربِ على ما نالَت مِن ظَفَرٍ". وحينَ قال زيادةً على ذلك: "أسألُ اللَّهَ أن يجعَلَ هذه الجُمهوريَّةَ الأمريكيَّةَ أوَّلَ أُمَّةٍ تَضَعُ أساسَ الصُّلحِ العُموميِّ، وأوَّلَ أُمَّةٍ تُعلنُ وَحدةَ الجِنسِ البَشَريِّ، وأوَّلَ أُمَّةٍ تَرفعُ رايةَ السَّلامِ الأعظَمِ"، وكَتَب أيضًا يقولُ: "فينهَضُ أهلُ تلك البلادِ مِن مُستَواهمُ المادِّيِّ الحاضِرِ إلى مُستَوياتٍ يَفيضُ فيها العِرفانُ السَّماويُّ مِن هذا المَركزِ إلى كُلِّ شُعوبِ العالَمِ". وخاطَبَ حَضرةُ عَبدِ البَهاءِ أحِبَّاءَ أمريكا الشَّماليَّةِ بقَولِه: "يا حَواريِّي بَهاءِ اللَّهِ رُوحي لكمُ الفِداءُ... تَدَبَّروا... أيُّ مَقامٍ عَظيمٍ سامٍ قُدِّرَ لكم، ما زالَ تَوفيقُكم مَحجوبًا وغَيرَ مَعروفٍ". وقال مَرَّةً أُخرى: "إنَّ مُهمَّتَكم مَجيدةٌ تَفوقُ الوصفَ، فإذا تَكلَّلَت مَساعيكم بالنَّجاحِ فلسوف تُصبحُ أمريكا مَركزًا تَفيضُ مِنه مَوجاتُ القوَّةِ الرُّوحيَّةِ، ويستَقِرُّ عَرشُ مَلَكوتِ اللَّهِ في كمالِ جَلالِه وأَوْجِ مَجدِه استِقرارًا مَكينًا". وأخيرًا إليكم هذا التَّأكيدَ المُثيرَ، قال: "حينَ يبلُغُ هذا النِّداءُ الإلهيُّ مِن أمريكا إلى أوروبَّا وآسيا وأفريقيا وأستراليا وجَزائِرِ الباسفيك... يجلسُ أحِبَّاءُ أمريكا على سَريرِ السَّلطَنةِ الأبَديَّةِ، ويُطبِقُ صِيتُ نورانيَّتِهم وهدايتِهمُ الآفاقَ، ويعُمُّ صَوتُ عَظَمَتهمُ الأطرافَ والأكنافَ") [3789] ((القرن البديع)) (ص: 296، 297). .
وكذلك داهَنَ اليهودَ وعَمِلَ لمَصلَحَتِهم، فزارَ سُويسرا وحَضَر المُؤتَمَراتِ الصِّهْيَونيَّةَ، ومِنها مُؤتَمَرُ بال 1911م، وبشَّر بإنشاءِ وطَنٍ قَوميٍّ لليهودِ في فِلَسطينَ، فقال: (وفي هذا الزَّمانِ وفي تلك الدَّورةِ سيجتَمِعُ بَنو إسرائيلَ في الأرضِ المُقدَّسةِ، ويمتلكونَ الأراضيَ والقُرى، ويَسكُنونَ فيها ويزدادونَ تَدريجيًّا إلى أن تَصيرَ فِلَسطينُ كُلُّها وطنًا لهم) [3790] ((الأقدس)) (ص: 188). ويُنظر: ((مفاوضات عبد البهاء)) للورا بارني (ص: 59)، ((العنصرية اليهودية)) للزغيبي (3/379- 381). .
وقال حَفيدُه وخَليفتُه مِن بَعدِه شَوقي أفندي: (لا حاجةَ بنا إلى إطالةِ الوُقوفِ عِندَ الخُطواتِ الحازِمةِ التي خَطاها المُؤمِنونَ الإنجِليزُ لتَأمينِ حَياةِ حَضرةِ عَبدِ البَهاءِ حالمًا أُعلِموا بالخَطَرِ الجَسيمِ الذي يتَهَدَّدُه، ولا عِندَ التَّدابيرِ المُستَقِلَّةِ التي اتُّخِذَت لإطلاعِ اللُّوردِ كرزون وآخَرينَ مِن مَجلسِ الوُزَراءِ البريطانيِّ على خُطورةِ المَوقِفِ في حَيفَا، ولا عِندَ التَّدَخُّلِ العاجِلِ للُّورد منجتون الذي كتَبَ فورًا إلى وِزارةِ الخارِجيَّةِ خِطابًا "ليشرَح أهَمِّيَّةَ مَقامِ حَضرةِ عَبدِ البَهاءِ" ولا عِندَ الرِّسالةِ التي أرسَلها اللُّوردُ بلفور وزيرُ الخارِجيَّةِ إلى الجِنِرالِ اللِّنبيِّ يومَ تَسَلَّم ذلك الخِطابَ، مُكلِّفًا إيَّاه أن "يمُدَّ كُلَّ حِمايةٍ وكُلَّ اعتِبارٍ لحَضرةِ عَبدِ البَهاءِ ولأُسرَتِه وأصدِقائِه"، ولا عِندَ البَرقيَّةِ التي أرسَلها الجِنِرالُ بَعدَ سُقوطِ حَيفَا إلى لَندَنَ طالبًا مِنَ السُّلُطاتِ أن "تُخطِرَ العالمَ بأنَّ حَضرةَ عَبدِ البَهاءِ في أمانٍ"، ولا عِندَ الأوامِرِ التي أصدرَها هذا الجِنِرالُ إلى القائِدِ العامِّ المُشرِفِ على عَمَليَّاتِ حَيفَا بتَأمينِ سَلامةِ حَضرةِ عَبدِ البَهاءِ، فقَضَت على نيَّةِ القائِدِ التُّركيِّ "وَفقًا للمَعلوماتِ التي بَلَغَت قَلمَ المُخابَراتِ السِّرِّيَّةِ البريطانيَّةِ" في أن "يُصلَبَ حَضرةُ عَبدِ البَهاءِ وأُسرَتُه على جَبَلِ الكِرْمِل"؛ إذِ اضطُرَّ الجَيشُ التُّركيُّ إلى إخلاءِ حَيفَا والانسِحابِ شَمالًا) [3791] ((القرن البديع)) (ص: 360، 361). .
وقدِ استَقبَلَ عَبَّاس عَبد البَهاءِ الجِنِرالَ اللِّنبيَّ حينَ أتى فِلَسطينَ بالتَّرحابِ، لدَرَجةِ أن كرَّمَتْه بريطانيا، والتي كانت تَحتَلُّ أكثَرَ العالَمِ الإسلاميِّ، ومَنَحته لَقَبَ "سِير" فضلًا عن أرفعِ الأوسِمةِ الأُخرى.
وبَعدَ أن ذَكرَ حَفيدُه شَوقي أفندي ما خَلَعَه عليه والِدُه البَهاءُ مِن ألقابٍ، قال: (وتَتويجًا لتلك الألقابِ والامتيازاتِ والعناياتِ الهاطِلةِ عليه باطِّرادٍ طيلةَ وِلايةِ والدِه التي دامَت أربَعينَ عامًا في بَغدادَ وأَدِرْنةَ وعَكَّا، ارتَقى إلى مَنصِبِ مَركزِ عَهدِ حَضرةِ بهاءِ اللَّهِ الرَّفيعِ وميثاقِه، وعُيِّنَ خَليفةً لمَظهَرِ اللَّهِ نَفسِه. وهو المَنصِبُ الذي يُمَكِّنُه مِن أن يهَبَ القوَّةَ الدَّافِعةَ الدَّافِقةَ العَجيبةَ لتَوسيعِ دينِ والدِه على النِّطاقِ العالَميِّ، وتَبَيُّنِ عَقيدَتِه، وتَحطيمِ كُلِّ عائِقٍ قد يعتَرِضُ سَبيلَ تَقدُّمِه، وتَأسيسِ وتَوضيحِ مَعالمِ النِّظامِ الإداريِّ، وليدِ العَهدِ والميثاقِ، والمُبَشِّرِ بالنِّظامِ العالَميِّ الذي تُشيرُ إقامَتُه إلى حُلولِ العَصرِ الذَّهَبيِّ مِنَ الدَّورةِ البَهائيَّةِ) [3792] ((القرن البديع)) (ص: 283، 284). .
وقد حَوَّرَ هذا الرَّجُلُ تَعاليمَ أبيه البَهاءِ بما يتَّفِقُ مَعَ العَقليَّةِ الغَربيَّةِ والثَّقافةِ الغَربيَّةِ، فاتَّجَهَ إلى النَّصرانيَّةِ واليهوديَّةِ يأخُذُ مِنهما والمَجوسِ في التُّركستانِ وأمريكا، وتَحَمَّسَ له كثيرٌ مِنَ الغَربيِّينَ، وأصبَحَت للبَهائيِّينَ عِدَّةُ مَراكِزَ ومَعابدَ في العالَمِ.
جاءَ عَبَّاس عَبد البَهاءِ إلى هذا المَذهَبِ المَصنوعِ، وأرادَ أن يكسوَه ثَوبًا جَديدًا فخَلَطَه بآراءٍ التَقَطَها مِمَّا يتَحَدَّثُ به بَعضُ النَّاسِ على أنَّها مِن مُقتَضَياتِ المَدَنيَّةِ أو مِمَّا كشَفه العِلمُ حَديثًا نَحوَ التَّساوي بَينَ الرِّجالِ والنِّساءِ في التَّعليمِ، ونَزعِ السِّلاحِ، وإتقانِ الأُمَمِ لُغةً واحِدةً تُدرَّسُ في العالَمِ كُلِّه، وتَأسيسِ مَحكمةٍ عُموميَّةٍ تَحُلُّ مُشكِلاتِ الأُمَمِ، وأنَّ الإنسانَ تَدرَّج بالارتِقاءِ مِن أبسَطِ الأنواعِ حتَّى وصَلَ إلى شَكلِه الحاليِّ (نَظَريَّةِ داروين) ولهَجوا بَعدَ ذلك بكَلِمةِ نَشرِ السَّلامِ العامِّ، ونَبذِ التَّعصُّباتِ الدِّينيَّةِ، وقد تَخَيَّلَ عَبَّاس أنَّه بإدخالِ مِثلِ هذه الآراءِ في مَذهَبِ البَهائيَّةِ يستَدرِجُ المولَعينَ بالجَديدِ مِنَ النَّابتةِ الحَديثةِ؛ ولهذا الطَّمَعِ يقولُ: (تَحتَوي تَعاليمُ بَهاءِ اللَّهِ على جَميعِ آمالِ ورَغائِبِ فِرَقِ العالَمِ، سَواءٌ كانت دينيَّةً أو سياسيَّةً أو أخلاقيَّةً، وسَواءٌ كانت مِنَ الفرقِ القديمةِ أوِ الحَديثةِ؛ فالجَميعُ يجِدونَ فيها دينًا عُموميًّا في غايةِ الموافَقةِ للعَصرِ الحاضِر، وأعظَمَ سياسةٍ للعالمِ الإنسانيِّ)، وصَرَّحَ أيضًا بأنَّه يُريدُ التَّوحيدَ بَينَ المُسلمينَ والنَّصارى واليهودِ وجَمْعَهم على أُصولِ نَواميسِ موسى عليه السَّلامُ، الذين يُؤمِنونَ به جَميعًا [3793] يُنظر: كتاب ((عبد البهاء والبهائية)) (ص: 87- 93). عن ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (9/ 3/ 83). .
قال بُروكلمانَ عن عبدِ البهاءِ: (الواقِعُ أنَّه ضَحَّى شَيئًا فشَيئًا بالعناصِرِ الإسلاميَّةِ والصُّوفيَّةِ في مَذهَبِه ابتِغاءَ جَعلِه دينًا إنسانيًّا عامًّا) [3794] ((تاريخ الشعوب الإسلامية)) (ص: 668). .
وزارَ عبدُ البهاءِ عَبَّاس أفندي عِدَّةَ دُوَلٍ حَولَ العالَمِ، مِثلَ بريطانيا وأمريكا والمَجَرِ والنِّمسا ومِصرَ، داعيًا إلى فِتنَتِه، وتَأسَّسَ في عَهدِه في شيكاغو أكبَرُ مَحفِلٍ للبَهائيَّةِ، ومَجَلَّةٌ باسِمِ نَجمة الغَربِ، صَدَرَت سَنةَ 1910م.
وقد توُفِّي في مَدينةِ حَيفَا عام 1921م ودُفِن في جَبَلِ الكِرْمِلِ عِندَ ضَريحِ البابِ الشِّيرازيِّ.
ولمَّا توُفِّي أبرَقَ ونستن تشِرْشِل وزيرُ المُستَعمَراتِ البريطانيَّةِ آنَذاك إلى هِرْبِرت صموئيل المَندوبِ السَّامي في فِلَسطينَ على الفورِ مُكلِّفًا إيَّاه أن "يُبَلِّغَ الجامِعةَ البَهائيَّةَ باسمِ حُكومةِ جَلالةِ المَلكِ عَزاءَها ومُشاطَرَتَها الأحزانَ". وأبرَقَ الفيكونت اللِّنبي المَندوبُ السَّامي في مِصرَ إلى المَندوبِ السَّامي في فِلَسطينَ راجيًا إيَّاه أن يُبَلِّغَ أقارِبَ السِّيرِ عَبدِ البَهاءِ عَبَّاس أفندي والجامِعةَ البَهائيَّةَ عَزاءَه الحارَّ في فِقدانِ الزَّعيمِ المُبَجَّلِ [3795] يُنظر: ((القرن البديع)) لشوقي (ص: 367). .
ولم يُخَلِّفْ عَبدُ البَهاءِ غَيرَ أربَعِ بَناتٍ (ضيائيَّةُ، وروحيَّةُ، ومنور، وطوبى) فلم يكُنْ له ابنٌ يعهَدُ إليه بالأمرِ مِن بَعدِه، فخَلفه شَوقي أفندي ابنُ ابنَتِه ضيائيَّةَ خانم، بوصيَّةٍ مِنه، ولَقَّبه وليَّ أمرِ اللَّهِ المُبارَكَ، ويُلَقَّبُ أيضًا بالغُصنِ المُمتازِ، فتولَّى زَعامةَ البَهائيَّةِ خَلَفًا لجَدِّه في عامِ 1912م وسارَ على نَهجِه زَعيمًا للبَهائيَّةِ بمُسانَدةِ والدتِه.
واسمُه شَوقي أفندي بنُ ميرزا هادي شيرازي أفنان، وعائِلةُ أفنانٍ هم من أقارِبِ البابِ الشِّيرازيِّ، وأقارِبِ زَوجَتِه خَديجةَ.
وُلدَ بحَيفا في فِلَسطينَ سَنةَ 1897م. ودَرَسَ في حَياةِ جَدِّه في الجامِعةِ الأمريكيَّةِ في بَيروتَ وفي جامِعةِ أكسفورد في بريطانيا.
وبَعدَ وفاةِ عَبدِ البَهاءِ "عَبَّاس أفندي" واجَهَ مُعارَضةَ جَماعةٍ مِنَ البَهائيِّينَ، ومِنهم طائِفةٌ مِن أقارِبه، فانشَقُّوا ونَشَأ كيانٌ آخَرُ يفتَرِقُ عنه، فيما قَرَّرَ آخَرونَ مِن كِبارِ دُعاةِ البَهائيَّةِ ونُشَطائِها تَركَ البَهائيَّةِ والعَودةَ إلى دينِهم، وفي طليعتِهم عَبدُ الحُسَين آيتي، المَعروفُ بآواره، وفيضُ اللَّهِ صُبحي كاتِبُ عَبدِ البَهاءِ، وميرزا حُسَين نيكو وغَيرُهم. وعِندَما هاجَمَهم شَوقي ونَعَتَهم بمُختَلِفِ الصِّفاتِ الذَّميمةِ، انبَرَوا إلى الرَّدِّ عليه وفضْحِ سيرَتِه والكَشفِ عن تاريخِه في كُتُبٍ مِن قَبيلِ "كَشْفُ الحِيَلِ" و"خاطِراتُ صُبحي" و"فلسَفةُ نيكو".
والميرزا أحمَد سهراب الذي كان سِكرِتيرًا ومُتَرجِمًا لعبدِ البهاءِ، وشَكَّل رابطةَ (قافِلةُ الشَّرقِ والغَربِ) كان مُعارِضًا لشَوقي أفندي في بَعضِ الشُّؤونِ البَهائيَّةِ، فتَمَّ طَردُه مِنها، ومَن يُخالفُهم يجري فصلُه مِمَّا يُسَمُّونَه جامِعةَ الاسمِ الأعظَمِ البَهائيِّ، ويُطلقونَ عليه ناقِضَ العَهدِ والميثاقِ.
وخِلالَ الفترةِ التي تَزعَّمُ فيها شَوقي الحَرَكةَ البَهائيَّةَ، نظَّم الحَرَكةَ في إطارٍ حِزبيٍّ، وعَمَد إلى انتِخابِ مَحافِلَ مَحَلِّيَّةٍ ووطَنيَّةٍ، وهَكذا تَأسَّسَت في بَعضِ الدُّولِ مَحافِلُ دينيَّةٌ، فإذا تَعَذَّرَ ذلك تَمَّ تَأسيسُ شَرِكاتٍ تِجاريَّةٍ تَكونُ واجِهةً للمَحفِلِ البَهائيِّ [3796] يُنظر: ((القرن البديع)) لشوقي أفندي (ص: 41، 42). . وفي هذا تَقولُ البَهائيَّةُ الكنَديَّةُ روحيَّة خانم زَوجةُ شَوقي أفندي، والمُلَقَّبةُ بأَمَة البَهاءِ: (كانت رَغبَتُه المُبارَكةُ... تَأسيسَ مَحفِلٍ باسمِ جَمعيَّةٍ دينيَّةٍ، فإذا تَعَذَّرَ ذلك فُتِحتَ عُنوان هَيئةٍ تِجاريَّةٍ) [3797] ((أمة البهاء)) لروحية خانم (ص: 384). .
ويبدو أنَّ هذه التَّشكيلاتِ الحِزبيَّةَ والإداريَّةَ هي التي مَكَّنَتِ البَهائيَّةَ مِنَ الاستِمرارِ والبَقاءِ؛ ذلك أنَّ هذا التَّنظيمَ الحِزبيَّ والإداريَّ وفَّرَ مَنظومةً للسَّيطَرةِ الاجتِماعيَّةِ، بحَيثُ يكونُ مَصيرُ كُلِّ مَن يُعارِضُ تَوجُّهاتِ شَوقي الطَّردَ الإداريَّ مِنَ التَّشكيلاتِ، ومِن ثَمَّ حَذفَه مِنَ الجَماعةِ نِهائيًّا إذا لم يَثُبْ إلى رُشدِه، ويُسَمَّى في الحالةِ الثَّانيةِ بالطَّردِ الرُّوحانيِّ أوِ الطَّردِ الدِّينيِّ.
وفي عَهدِ شَوقي أفندي تَأسَّسَت دَولةُ الكِيانِ الصِّهْيَونيِّ، وأُعلِنَ عن قيامِ ما يُسَمَّى "دَولة إسرائيلَ في فِلَسطينَ" التي أعلَنَتِ الاعتِرافَ رسميًّا بالبَهائيَّةِ تثمينًا لجُهودِها الكبيرةِ في بَثِّ الفُرقةِ الدِّينيَّةِ في قَلبِ المُجتَمَعِ الإسلاميِّ، وأصبَحَت مُمتلَكاتُ البَهائيَّةِ وأموالُها تَحتَ حِمايةِ إسرائيلَ [3798] يُنظر: ((توقيعات مباركة)) لشوقي أفندي (3/ 165). .
وسنَجِدُ البروفيسور نرمان نيويج، وهو مِنَ الشَّخصيَّاتِ السِّياسيَّةِ والقانونيَّةِ في دَولةِ إسرائيلَ، يُصَرِّحُ فيما بَعدُ بقَولِه: (لا يُمكِنُنا بَعدَ الآنَ أن نَعتَبرَ فِلَسطينَ في الواقِعِ أرضًا لدياناتٍ ثَلاثٍ؛ بل لأربَعِ دياناتٍ؛ ذلك أمرُ البَهائيَّةِ التي مَركزُها في حَيفَا وعَكَّا؛ حَيثُ هاتانِ المَدينَتانِ أصبَحَتا مَزارًا لأتباعِها. وقد تَقدَّمَت هذه الدِّيانةُ لتُصبِحَ إحدى الدِّياناتِ العالَميَّةِ والدَّوليَّةِ، وكذلك فإنَّ نُفوذَها يتَوسَّعُ في البلادِ المَذكورةِ يومًا بَعدَ آخَرَ، وهي تُسهمُ في إيجادِ حالةٍ مِن حُسنِ التَّفاهمِ والاتِّحادِ الدَّوليِّ للأديانِ المُختَلفةِ في العالَمِ، على نَحوٍ يُعَدُّ غايةً في التَّأثيرِ) [3799] يُنظر: ((القرن البديع)) لشوقي أفندي (ص: 162). .
وفي عامِ 1957م توُفِّي شَوقي أفندي في لَندَنَ بسَكتةٍ قَلبيَّةٍ، وقد دُفِنَ في المَدينةِ نَفسِها. وقدَّمَتِ الحُكومةُ البريطانيَّةُ الأرضَ التي دُفِنَ بها هَديَّةً للطَّائِفةِ البَهائيَّةِ. وكان جَدُّه عَبدُ البَهاءِ قد أوصى بإمامةِ البَهائيَّةِ إلى أولادِ شَوقي الذُّكورِ دونَ الإناثِ، لَكِنَّ شَوقي لم يُخلِّفْ لا ذُكورًا ولا إناثًا، وتَرَك وراءَه بَعضَ المُؤَلَّفاتِ؛ مِنها:
1- تَرجَمةُ كِتابِ (تاريخ نَبيل) إلى الإنجِليزيَّةِ، مَعَ كِتابةِ مُقدِّمةٍ وهَوامِشَ تَحتَ عُنوانِ (The Dawn Breakers).
2- (القَرن البَديع) باللُّغةِ الإنجِليزيَّةِ تَحتَ عُنوان: (God Passes by)، وقد تُرجِمَ هذا الكِتابُ إلى العَرَبيَّةِ والفارِسيَّةِ.
3- (تَوقيعاتٌ مُباركةٌ) في ثَلاثةِ مُجَلَّداتٍ.
4- (دَور بَهائي) ومُؤَلَّفاتٌ أُخرى.
وبَعدَ وفاةِ شَوقي أفندي كانت المُؤَسَّسةُ التي لها صَلاحيَّةُ قيادةِ وإدارةِ البَهائيِّينَ هي مُؤَسَّسةَ بَيتِ العَدلِ الأعظَمِ، والتي يجِبُ أن تُؤَسَّسَ بالانتِخابِ 1.
فهي الهيئةُ العالَميَّةُ العُليا القائِمةُ على إدارةِ شُؤونِ الدِّينِ البَهائيِّ، وتُشرِفُ على النِّظامِ الإداريِّ العالَميِّ للجامِعةِ البَهائيَّةِ [3800] يُنظر: ((الدين البهائي: بحث ودراسة)) لدوغلاس مارتن (ص: 103). .
أمَّا عن كيفيَّةِ اختيارِ أفرادِه، فإنَّه في كُلِّ بَلدةٍ يصِلُ عَدَدُ البَهائيِّينَ البالغينَ فيها تِسعةً أو أكثَرَ وجَبَ عليهم تَأسيسُ مَحفِلٍ رُوحانيٍّ مَحَلِّيٍّ مِن تِسعةِ أعضاءٍ. وعِندَما تَتَشَكَّلُ مَحافِلُ روحانيَّةٌ مَحَلِّيَّةٌ كافيةٌ في قُطرٍ ما ينتَخِبُ البَهائيُّونَ المُقيمونَ في كُلِّ مِنطَقةٍ أو إقليمٍ وُكلاءَ عنهم يُمَثِّلونَهم في مُؤتَمَرٍ مَركزيٍّ يضُمُّ جَميعَ الوُكلاءِ في هذا القُطرِ، وفيه ينتَخِبونَ أعضاءَ المَحفِلِ الرُّوحانيِّ المَركزيِّ التِّسعةَ مِن بَينِ البَهائيِّينَ في القُطرِ. فبَينَما يُديرُ المَحفِلُ الرُّوحانيُّ المَحَلِّيُّ شُؤونَ جامِعَتِه المَحَلِّيَّةِ، يُديرُ المَحفِلُ الرُّوحانيُّ المَركزيُّ شُؤونَ الجامِعةِ في كامِلِ القُطرِ.
وأعضاءُ المَحافِلِ الرُّوحانيَّةِ المَركزيَّةِ في العالَمِ يُعتَبَرونَ وُكلاءَ يُمَثِّلونَ جَميعَ البَهائيِّينَ في العالَمِ في مُؤتَمَرٍ عالَميٍّ يُعقدُ في المَركزِ البَهائيِّ العالَميِّ مَرَّةً كُلَّ خَمسِ سَنَواتٍ؛ لانتِخابِ تِسعةِ أفرادٍ مِن بَينِ بَهائيِّي العالمِ، وهم أعضاءُ بَيتِ العَدلِ الأعظَمِ؛ الهَيئةُ الإداريَّةُ العُليا التي تُعنى بشُؤونِ الجامِعةِ البَهائيَّةِ في العالَمِ [3801] يُنظر: ((تراثنا الروحي: من بدايات التاريخ إلى الأديان المعاصرة)) لسهيل بشروئي، ومسعود مردادي (ص: 568). .
فيُنتَخَبُ أعضاؤُه إذَن مَرَّةً واحِدةً كُلَّ خَمسِ سَنَواتٍ في مُؤتَمَرٍ عالَميٍّ يُعقَدُ في المَركزِ البَهائيِّ العالَميِّ في حَيفا بفِلَسطينَ. وقد أُجريت أوَّلُ انتِخاباتٍ لبَيتِ العَدلِ الأعظَمِ في سَنةِ 1963م2، وكانوا تِسعةَ أعضاءٍ: أربَعةٌ أمريكانٌ، وإنجِليزيَّانِ، وثَلاثةُ إيرانيِّينَ، وذلك برِئاسةِ فِرناندو سانَت، ثُمَّ تَولَّى رِئاسَتَها مِن بَعدِه اليهوديُّ الصِّهيَونيُّ ميسون الأمريكيُّ الجِنسيَّةِ.
وقدِ اشتَهَرَ مِنَ البَهائيِّينَ دُعاةٌ أمثالُ المُلَّا مُحَمَّدِ بنِ المُلَّا مُحَمَّد رِضا الكلبايكانيِّ المُلَقَّبِ بأبي الفَضلِ أوِ الفضائِلِ.
ومِنهم إبراهيم جورج خَير اللَّهِ الذي أسَّسَ مَركزَ البَهائيَّةِ في شيكاغو، ومِنهمُ البَهائيُّ جمشيد ماني صاحِبُ طائِفةِ السَّماويَّةِ البَهائيَّةِ، كما اشتَهَرَت بَعضُ النِّساءِ، ومِنهنَّ امرَأةٌ إنجِليزيَّةٌ تُسَمَّى (لورا كليفورد بارني) وقد ترجَمَت تَعاليمَ البَهاءِ إلى اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ والفرَنسيَّةِ، وصَحَفيَّةٌ أمريكيَّةٌ تُسَمَّى (مارثا روت)، كان لها جُهدٌ كبيرٌ في نَشرِ البَهائيَّةِ، ومِن مَشاهيرِ النِّساءِ اللَّواتي يُنسَبُ إليهنَّ اعتِناقُ البَهائيَّةِ المَلكةُ ماريا مَلكةُ رومانيا (ت: 1938م)، وكانت بَينَها وبَينَ شَوقي أفندي عِدَّةُ مُراسَلاتٍ بواسِطةِ مارثا روت [3802] يُنظر: ((الجوهرة الفريدة)) لروحية خانم (ص: 56) وما بعدها. .

انظر أيضا: