موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: التَّعريفُ بالبَهائيَّةِ وزعيمِها ونشأتُها


مُؤَسِّسُ هذه الطَّائِفةِ هو حُسَين عَلي بن عَبَّاس بُزُرْك النُّوريُّ المازَندرانيُّ. وقد وُلِدَ في قَريةٍ مِن قُرى مازَندرانَ في إيرانَ تُسَمَّى نور، وقيلَ: وُلدَ في طِهرانَ في سَنةِ 1233هـ.
وحينَ ظَهَرَتِ البابيَّةُ لم يكُنْ هذا الرَّجُلُ معتبَرًا كأخيه يحيى مِن حُروفِ (حي) التي نَظَمَها البابُ الشِّيرازيُّ، ولم يكُنْ له ذِكرٌ مَشهورٌ في أوَّلِ قيامِ البابيَّةِ، وقدِ اعتَنَقَ البابيَّةَ سَنةَ 1260هـ وهو في العِشرينيَّاتِ مَن عُمرِه.
وقد قيلَ: إنَّه ظَلَّ يتَحَيَّنُ الفُرَصَ للظُّهورِ، ووجَدَ فُرصتَه حينَما عَقدَ البابيُّونَ مُؤتَمَرَهم في صَحراءِ بدَشْت فظَهَرَ في آخِرِ المُؤتَمَرِ حينَ كانت قُرَّةُ العَينِ تُصِرُّ على نَسخِ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ بالشَّريعةِ البابيَّة. فلَمَّا تَأزَّمَتِ الأُمورُ بَينَها وبَينَ المُؤتَمِرينَ تَدَخَّل المازَنْدرانيُّ لصالحِها، وأخذ يقرَأُ سورةَ الواقِعةِ ويُفسِّرُها بتَفسيراتٍ باطِنيَّةٍ، ويزعُمُ لهم أنَّ القُرآنَ نَفسَه فيه إشارةٌ قَويَّةٌ لنَسخِ شَريعةِ الإسلامِ بشَريعةِ البابِ! فاجتَمَعَتِ الكَلِمةُ على طاعةِ قُرَّةِ العَينِ التي جَعَلَت نَفسَها بَعدَ ذلك طائِعةً للمازَنْدرانيِّ تَمامَ الطَّاعةِ، ولَقَّبَته -على أحَدِ الأقوالِ- ببَهاءِ اللَّهِ، أو لَقَّب نَفسَه هو بهذا اللَّقَبِ بَعدَ أن تَعاظَمَ في نَفسِه [3768] يُنظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) لعبد الحميد (ص: 105). ، أو لَقَّبَه اليهودُ لتَحقيقِ ما في كُتُبِهم مِن ذِكرِ بهاءِ اللَّهِ، ورَبِّ الجُنودِ الذي يُقيمُ دَولَتَهم [3769] يُنظر: ((البهائية تاريخها وعقيدتها)) للوكيل (ص: 324). . واللهُ تعالى أعلمُ.
وكان المازَنْدرانيُّ قد تَلقَّى العُلومَ الشِّيعيَّةَ والصُّوفيَّةَ وهو صَغيرٌ، وتَزعُمُ كُتُبُ البَهائيَّةِ أنَّه كان يتَكلَّمُ في أيِّ مَوضوعٍ، ويحُلُّ أيَّ مُعضِلةٍ تَعرِضُ له، ويتَباحَثُ في المَجامِعِ مَعَ العُلَماءِ، ويُفسِّرُ المَسائِلَ العَويصةَ الدِّينيَّةَ، وهو لم يتَجاوزِ الرَّابعةَ عَشرةَ مِن عُمرِه [3770] يُنظر: ((البهائية نقد وتحليل)) لظهير (ص: 8)، نقلًا عن ((بهاء الله والعصر الجديد)) لجون أسلمنت (ص: 32). .
وكان شَغوفًا بما يتَعَلَّقُ بالمَهديِّ وأخبارِه وقِراءةِ كُتُبِ الصُّوفيَّةِ والفلاسِفةِ والباطِنيَّةِ وأفكارِ البَراهمةِ والبوذيِّينَ والمانَويَّةِ، وغَيرِ ذلك مِنَ المَذاهبِ التي كان يغتَرِفُ مِنها، فلَمَّا عَظُمَ في نَفسِه وجاءَ بتَخريفاتِه الإلحاديَّةِ زَعَمَ أنَّه أُمِّيٌّ لا يعرِفُ شَيئًا، ولَكِنَّ اللَّهَ ألهَمَه العُلومَ والمَعرِفةَ جميعًا [3771] يُنظر: ((بهاء الله والعصر الجديد)) لجون أسلمنت (ص: 7-9). !
وكان هو وأخوه لأبيه -الميرزا يحيى عَلي المازَندرانيُّ المُلَقَّبُ بصُبح أزَل- مِن تَلاميذِ البابِ الشِّيرازيِّ، وكان البابُ الشِّيرازيُّ قد أوصى بالأمرِ مِن بَعدِه للميرزا يحيى النُّوريِّ، فشَقَّ ذلك على أخيه الميرزا حُسَين؛ مِمَّا أدَّى إلى نُشوبِ نِزاعٍ بَينَهما على خِلافةِ الشِّيرازيِّ، وادَّعى كُلٌّ مِنهما أنَّه وريثُ الشِّيرازيِّ وخَليفتُه، وأنَّه المُفسِّرُ الوحيدُ لتَعاليمِ البابِ.
لقد حاولَ الميرزا حُسَين بكُلِّ السُّبُلِ أن يستَلبَ خِلافةَ الشِّيرازيِّ مِن أخيه حتَّى ادَّعى أنَّ البابَ كان مُجَرَّدَ مُمَهِّدٍ لظُهورِه، وأنَّ كِتابَه البَيانَ كان للتَّبشيرِ به، فالبابُ وإن كان في زَعمِهم رَسولًا إلَّا أنَّ الميرزا حُسَينًا هو المَقصودُ الأعظَمُ مِن إرسالِه، بل ومِن إرسالِ كُلِّ الرُّسُلِ؛ لأنَّ ظُهورَ اللَّهِ لخَلقِه سَيكونُ مِن خِلالِه، وأطلقَ على نَفسِه اسمَ (بَهاءُ اللَّهِ).
وبذلك انقَسَمَ البابيُّونَ إلى ثَلاثِ فِرَقٍ هي:
- بابيُّونَ خُلَّصٌ: تَمَسَّكوا ببابيَّةِ الشِّيرازيِّ، ورَفضوا اتِّباعَ أيٍّ مِنَ الرَّجُلَينِ.
- بابيُّونَ أزليُّونَ: اتَّبَعوا يحيى على النُّوريَّ المازَندرانيَّ المُلَقَّبَ بـ (صُبح أزَل) تَمَسُّكًا بوصيَّةِ الشِّيرازيِّ.
- بَهائيُّونَ: اتَّبَعوا حُسَينًا النُّوريَّ المازَنْدرانيَّ الذي لقَّبَ نَفسَه بـ (بهاء اللَّهِ).
وكانتِ الحُكومةُ العُثمانيَّةُ في عَهدِ السُّلطانِ عبدِ الحميدِ قد أبعَدَتْه سَنةَ 1863م مِن بَغدادَ التي بَقيَ فيها عَشرَ سَنَواتٍ إلى مَدينةِ  أَدِرْنةَ التُّركيَّةِ، فبَقي فيها خَمسَ سَنَواتٍ، وفيها ادَّعى البَهاءُ أنَّه المَظهَرُ الأوَّلُ للإرادةِ الإلهيَّةِ وأنَّ البابَ كان مُجَرَّدَ مُبَشِّرٍ به [3772] يُنظر: ((تاريخ الشعوب الإسلامية)) لبروكلمان (ص: 668). ، وهنا احتَدَمَ النِّزاعُ بَينَه وبَينَ أخيه لأبيه الميرزا يحيى؛ مِمَّا دَفعَ الحُكومةَ إلى نَفيِ يحيى إلى فاماغوستا بقُبرُصَ وفرْضِ الإقامةِ على البَهاءِ في عَكَّا بفِلَسطينَ، وعاشَ فيه أربعًا وعِشرينَ سَنةً مُقيمًا في المَنزِلِ المُسَمَّى بقَصرِ البَهجةِ، وهو القَصرُ الذي دُفِنَ فيه بَعدَ ذلك، وأمَر البَهائيِّينَ أن يتَّخِذوه قِبلَتَهم في الصَّلاةِ ومَكانَ حَجِّهم. ولا يُستَبعَدُ أن يكونَ الماسونيُّونَ والصَّهايِنةُ خَلْفَه مُنذُ البدايةِ؛ فقد كان البَهاءُ وأمثالُه يسيرونَ وَفقَ مَنهَجٍ يخدُمُ مَصالحَ الصَّهايِنةِ في الدَّرَجةِ الأولى، كما أنَّ البَهاءَ وعائِلَتَه كانوا ذَوي صِلةٍ بالسِّفارةِ الرُّوسيَّةِ في إيرانَ، ومِن ذلك أنَّ زَوجَ أُختِه الميرزا مجيد كان سكرتيرًا للوزيرِ الرُّوسيِّ بطِهرانَ، والذي قيلَ: إنَّه طَلَبَ مِنَ السَّفيرِ الرُّوسيِّ التَّوسُّطَ لَدى السُّلُطاتِ الغيرانيَّةِ للإفراجِ عنِ البَهاءِ.
وقد ظَلَّ صُبحُ الأزَلِ يواصِلُ بَثَّ الدِّعايةِ ضِدَّ البَهائيَّةِ، وهو في مَنفاه في قُبرُصَ، ويُبَيِّنُ كذَبُ أخيه البَهاءِ حُسَين، إلَّا أنَّ الأُمورَ كانت تَسيرُ في غَيرِ صالحِه إلى أن هَلَك في سَنةِ 1912م عنِ اثنَتَينِ وثَمانينَ سَنةً، بَعدَ أن أوصى بالأمرِ مِن بَعدِه لابنِه الميرزا مُحَمَّد هادي، مَعَ أنَّه ما كان له ما يوصي به [3773] يُنظر: ((قراءة في وثائق البهائية)) لعائشة عبد الرحمن (ص: 69- 77)، ((البابية عرض ونقد)) لظهير (ص: 266 – 268). ! وقد تَفرَّقَ بَقيَّةُ أتباعِه بَعدَ ذلك وانتَهَتِ البابيَّةُ.
ومِمَّا قاله يحيى في شَأنِ أخيه حُسَين بَهاءِ اللَّه: (خُذوا ما أظهَرنا بقوَّةٍ وأعرِضوا عنِ الإثمِ لَعَلَّكم تُرحَمونَ، إنَّ الذين يتَّخِذونَ العِجلَ مِن بَعدِ نورِ اللَّهِ أولَئِك همُ المُشرِكونَ)، على أنَّ العِجلَ المَقصودَ به البَهاءُ حُسَين [3774] يُنظر: ((تاريخ البابية)) لميرزا محمد خان (ص: 367 -434) نقلًا عن ((البهائية)) للوكيل (ص: 132). .
وقد كان البَهاءُ يُخبرُ بأشياءَ عَديدةٍ مِنَ المُغَيَّباتِ التي زَعَمَ أنَّها ستَقَعُ كما أخبَرَ، فإذا بها تَأتي عَكسَ ما أخبَرَ، ومِن نُبوءاتِه [3775] يُنظر: ((البهائية نقد وتحليل)) لظهير (ص: 249- 308). :
1- أنَّ البَهائيَّةَ سيكونُ لها مُستَقبَلٌ مُشرِقٌ في العِراقِ، وسيفتَخِرونَ بها بَعدَ قَليلٍ مِنَ الزَّمَنِ. وقد كذَبَ في ذلك، فلم يَحدُثْ ما تَنَبَّأ به.
2- أنَّ طِهرانَ ستَكونُ بَهائيَّةً كُلَّها ويحكمُها بَهائيُّونَ، ويمتَدُّ حُكمُهم مِن طِهرانَ إلى ما ورائِها، ويعظُمُ شَأنُ البَهائيِّينَ بها جِدًّا. وقد كذَبَ في هذا أيضًا.
3- أنَّ دينَه سَيغلِبُ الأديانَ كُلَّها، ويعتَنِقُه أكثَرُ العالَمِ، وسيُهَيمِنُ هو على جَميعِ الأرضِ، وهذا كذِبٌ آخَرُ؛ فقد مَضَت سَنَواتٌ عَديدةٌ وتلك الأمانيُّ الفارِغةُ لم يتَحَقَّقْ مِنها شَيءٌ رَغمَ كُلِّ ما قامَ به اليهودُ والصَّليبيُّونَ، والاستِعمارُ الرُّوسيُّ والأمريكيُّ.
وقد صَرَّحَ ابنُ المازَنْدرانيِّ المُسَمَّى عَبدَ البَهاءِ عَبَّاس أفندي بوحيٍ مِن أبيه، حينَما سُئِلَ عن آخِرِ السَّنَواتِ التي تَعُمُّ فيها البَهائيَّةُ العالَمَ وتَنتَشِرُ في أرجائِه وأنحائِه، أجابَ بأنَّه -وحَسَبَ البِشاراتِ القديمةِ التي ذَكَرَها له والِدُه- أنَّه سيتِمُّ ذلك وبالتَّحديدِ أيضًا في 1957م. فماذا كانتِ النَّتيجةُ؟
لقد أظهَرَ اللَّهُ كَذِبَهم، فلم تَدخُلِ الدُّولُ في البَهائيَّةِ، ولم يظهَرْ نورُ اللَّهِ البَهاءُ في جَميعِ أقطارِ الأرضِ كما زَعَموا؛ إذ طُرِدَتِ البَهائيَّةُ مِن إيرانَ، والعِراقِ، وتُركيا، وطُرِدَت مِن مِصرَ وليبيا وسوريا، وقُضِيَ عليها في باكِستانَ وأفغانِستانَ، ولم يأبَهْ لها العالَمُ الغَربيُّ كما يُريدونَ، وكذلك طُرِدَت مِن أفريقيا، وظَلَّت طَريدةً لخُبثِها وخُبثِ مَبادِئِها وولائِها للاستِعمارِ في كُلِّ مَكانٍ، إلى أن آواها الإنكِليزُ إلى فِلَسطينَ وتَلَقَّفَتها اليهوديَّةُ، فأينَ نُبوءةُ حُسَين عَلي البَهاء المازَنْدرانيِّ وابنِه عَبَّاس أفندي مِن أنَّ البَهائيَّةَ ستَكتَسِحُ جَميعَ الأديانِ وستَعُمُّ البُلدانَ في المَوعِدِ الذي حَدَّدَه البَهائيُّونَ [3776] يُنظر: ((البهائية نقد وتحليل)) لظهير (ص: 254). ؟!
واستَمَرَّ البَهاءُ حُسَين المازَنْدرانيُّ في نَشرِ ضَلالاتِه وافتِراءاتِه، فلَمَّا بَلَغَ الخامِسةَ والسَّبعينَ مِنَ العُمرِ أصابَته الحُمَّى، حتَّى ماتَ في سَنةِ 1892م. وقد تَرَك وراءَه مِن زَوجَتَيه أربَعةَ أبناءٍ وثَلاثَ بَناتٍ، ودُفِنَ في باحةِ مَنزِلِه المُسَمَّى قَصرَ البَهجةِ في عَكَّا بفِلَسطينَ.       
قال البهائيُّ جون أسلمنت: (قَضى بهاءُ اللَّهِ أواخِرَ أيَّامِه على الدُّنيا بكُلِّ هدوءٍ وسُكونٍ، وصَعِدَ ولم يَقُلْ: ماتَ بَعدَ إصابَتِه بالحُمَّى في 28 مايو سَنة 1892م، في سِنِّ الخامِسةِ والسَّبعينَ).
وقال داعيةُ البَهائيِّينَ أبو الفضل الكلبايكانيُّ: (وصَعِدَ الرَّبُّ إلى مَقَرِّ عِزِّه الأقدَسِ الأعلى، وغابَت حَقيقَتُه المُقدَّسةُ في هويَّتِه الخَفيَّةِ القُصوى، وكانت هذه الحادِثةُ في ثاني شَهرِ ذي القَعدةِ سَنةَ 1309هـ، وسادِسَ عَشَرَ مِن شَهرِ مايو سَنةَ 1892م) [3777] يُنظر: ((الحجج البهية)) للجرفادقاني (ص: 13)، نقلًا عن ((البهائية نقد وتحليل)) لظهير (ص: 90). .
وكان الميرزا حُسَين (البَهاء) قد لقَّبَ ابنَه عَبَّاس أفندي عَبدَ البَهاءِ بالغُصنِ الأعظَمِ المُتَشَعِّبِ مِنَ الغُصنِ القديمِ. وكان البَهاءُ قَبلَ مَوتِه قد أضفى عليه وَصفَ الأُلوهيَّةِ؛ إذ كتَبَ له يقولُ: (مِنَ اللَّهِ العَزيزِ الحَكيمِ إلى اللَّهِ اللَّطيفِ الخَبيرِ)!
وقد أوصى بالخِلافةِ مِن بَعدِه لابنِه الأكبَرِ عَبَّاسٍ، وبَعدَه للأصغَرِ مِنه الميرزا مُحَمَّد علي، وكَتَب بذلك كتابًا وخَتَمه بخَتمِه، إلَّا أنَّ الأُمورَ لم تَسِرْ على هذا الوَجهِ؛ فنَشَبَت بَينَ الأخَوينِ خِلافاتٌ هائِلةٌ أعادَت إلى الأذهانِ تلك المُؤامَراتِ التي قامَ بها والدُهما مَعَ أخيه صُبح الأزَل، وما حَصَلَ بَينَهما مِن نِزاعاتٍ، فكان خَيرَ خَلَفٍ لتَنفيذِ خيانةِ سَلَفِه.
واللَّافِتُ للنَّظَرِ في سيرةِ البَهاءِ ومَسيرَتِه الدَّعويَّةِ أنَّ اليهودَ قد دَخَلوا في هذه النِّحلةِ أفواجًا مَعَ شِدَّةِ تَعَصُّبِ اليهودِ لدينِهم ولجِنسِهم واحتِقارِهمُ الآخَرينَ. لقد أدرَكوا وهم يسعَونَ حثيثًا لامتِلاكِ دَولةٍ باسمِهم أنَّ أيَّ دَعوةٍ تَقبَلُ فِكرةَ مَحوِ الجِهادِ في سَبيلِ اللَّهِ تعالى هي إحدى الرَّوافِدِ التي تَمُدُّهم بالقوَّةِ. فكيف إذا كانت تلك الدَّعوةُ إنَّما تَقومُ مِنَ الأساسِ على أكتافِ اليهودِ وعلى تَجَمُّعِهم في فِلَسطينَ؛ فإنَّ المازَنْدرانيَّ نَفسَه قال في الوَحيِ الذي زَعَمَه: (قُلْ تاللَّهِ الحَقِّ إنَّ الطُّورَ يطوفُ حَولَ مَطلَعِ الظُّهورِ، والرُّوحُ يُنادي مَن في المَلَكوتِ هَلُمُّوا وتَعالَوا يا أبناءَ الغُرورِ. هذا يومٌ فيه سِرُّ كرَمِ اللَّهِ شوقًا للقائِه، وصاحَ الصِّهْيَون قد أتى الوعدُ وظَهَرَ ما هو المَكتوبُ في ألواحِ اللَّهِ المُتَعالي)، وهذا النِّداءُ إنَّما هو موجَّهٌ إلى اليهودِ ليعودوا مِن كُلِّ مَكانٍ إلى امتِلاكِ فِلَسطينَ وغَيرِها، وإقامةِ دَولَتِهم، وجاءَ ابنُه أو عَبدُه -كما سَمَّى نَفسَه- عَبَّاس عَبد البَهاءِ، فأجلى الحَقيقةَ بما لا وُضوحَ بَعدَه، فقال: (وفي زَمانِ ذلك الغُصنِ المُمتازِ، وفي تلك الدَّورةِ سيجتَمِعُ بَنو إسرائيلَ في الأرضِ المُقدَّسةِ، وتَكونُ أُمَّةُ اليهودِ التي تَفرَّقَت في الشَّرقِ والغَربِ والجَنوبِ والشَّمالِ مُجتَمِعةً) [3778] يُنظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) لمحسن عبد الحميد (ص: 273). .
إنَّ هذا الكلامَ ليس إخبارًا بالمُغَيَّباتِ، ولَكِنَّه إخبارٌ عن مُؤامَراتٍ لعَودةِ اليهودِ وتَجَمُّعِهم في الأرضِ المُقدَّسةِ، وعاشَ عَبدُ البَهاءِ ووالِدُه مِن قَبلِه أوَّلَ خُيوطِ تَنفيذِها. لقد امتَزَجَت أفكارُ البَهائيَّةِ بأفكارِ اليهودِ وأصبَحَ لليهودِ فضلٌ كبيرٌ على عَميلهمُ البَهاءِ؛ فقد آزَروه وآوَوه وهَيَّؤوا السُّبُلَ لنَشرِ أفكارِه. وكان على البَهاءِ أن يرُدَّ جَميلَهم هذا بأن يضُمَّ فِكرَه إلى أفكارِهم، ويوجِّهَ لهم عُقولَ النَّاسِ لتَقبَلَهم وتَرضى باستِعمارِهم، وذلك يتَمَثَّلُ في أُمورٍ؛ مِنها: أنَّ اليهودَ قدِ ادَّعَوا أنَّ المَوجودَ بأيديهم مِنَ البشاراتِ بنَبيٍّ يُبعَثُ بَعدَ موسى وعيسى ليس هو محمَّدًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، بل إنَّ تلك البشاراتِ إنَّما تُشيرُ إلى نَبيٍّ يُبعَثُ في القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، القَرنِ الذي ظَهَرَ فيه البَهاءُ، وأنَّ تلك البشاراتِ انطَبَقَت تمامًا على البَهاءِ في زَمَنِه، وأنَّ نَصبَ خيامِ البَهاءِ على جَبَلِ الكِرْمِلِ قد أشارَت إليه التَّوراةُ والإنجيلُ. وقالوا: إنَّ اليهودَ الذين أسلَموا في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما أقَرُّوا له بالنُّبوَّةِ واعتَرَفوا بإثباتِ البشاراتِ به تملُّقًا واتِّقاءً له كما يفتَرونَ، وهذا بزَعمِهم هو السَّبَبُ الذي قَوَّى في الرَّسولِ عليه السَّلامُ الاعتِقادَ بأنَّ أهلَ الكِتابِ أخفَوا البشاراتِ التي جاءَت فيه. أي حينَما لم يُصارِحوه بأنَّ هذه البشاراتِ إنَّما تَنطَبقُ فقَط على رَجُلٍ سَيأتي فيما بَعدَ ذلك، وليس هو محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم!
قال المُستَشرِقُ اليهوديُّ جولد زيهر: (بَلَغَ الأمرُ ببَعضِ اليهودِ المُتَحَمِّسينَ للبَهائيَّةِ أنِ استَخلَصوا مِن دَفائِنِ العَهدِ القديمِ وتَنَبُّؤاتِ أسفارِه ما يُنبئُ بظُهورِ بَهاءِ اللَّهِ وعَبَّاس، وزَعَموا أنَّ كُلَّ آيةٍ تُشيدُ بمجدِ يَهُوه أنَّه تَعني ظُهورَ مُخلِّصٍ للعالمِ في شَخصِ بهاءِ اللَّهِ)، ثُمَّ قال: (وهذا فضلًا عن أنَّهم لم ينسَوا أن يستَخرِجوا مِمَّا يحتَويه سِفرُ دانيالَ مِنَ الرُّؤى ما يُنبئُ بقيامِ الحَرَكةِ التي أوجَدَها البابُ، وأن يلتَمِسوا بتَأويلِها ما يدُلُّ على وقتِ حُدوثِها) [3779] ((العقيدة والشريعة)) (ص: 280). .
وقد قامَ البَهاءُ بالدِّفاعِ عنِ اليهودِ والنَّصارى، فزَعَمَ أنَّ هذا الفهمَ لتَحريفِ أهلِ الكِتابِ إنَّما هو فهمُ الهَمَجِ والرَّعاعِ -يقصِدُ عُلَماءَ المُسلمينَ- وأنَّ التَّصحيحَ -كما يزعُمُ هو- أنَّ التَّحريفَ الذي وقَعَ فيه اليهودُ إنَّما هو تَفسيرُهم للَّفظِ الدَّالِّ على نُبوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السَّلامُ إلى تَفسيرٍ آخَرَ لا يدُلُّ عليه، وإلَّا فهم -حَسَبَ رَأيِه- لم يُغَيِّروا ولم يُبَدِّلوا. ثُمَّ شَبَّهَ حالَ اليهودِ في امتِناعِهم عنِ التَّسليمِ بصِفاتِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحالِ المُسلمينَ الذين لم يُؤمِنوا بدَعوةِ البَهاءِ، وفسَّروا النُّصوصَ لغَيرِ صالحِه وصالِحِ دَعَوتِه.
لقد دَعا البَهاءُ في كِتابِه (الأقدَس) إلى تَحريمِ الجِهادِ، وذلك بتَحريمِ حَملِ آلاتِ الحَربِ مُطلقًا، وأنَّ الشَّخصَ خَيرٌ له أن يكونَ مقتولًا لا قاتلًا، فلا جِهادَ في عَهدِه لليهودِ ولا لغَيرِهم. ولتَمييعِ شُعلةِ الجِهادِ في نُفوسِ الرِّجالِ أباحَ لهم لُبسَ الحَريرِ في نَصٍّ واحِدٍ دَلَّ على تَحريمِ الجِهادِ وإباحةِ لُبسِ الحَريرِ، وهذا النَّصُّ ظاهرُ الدَّلالةِ على الدَّعوةِ إلى المُيوعةِ والخُمولِ، فإذا كان الرَّجُلُ يلبَسُ الحَريرَ ويُظهِرُ النُّعومةَ ولا يُحَدِّثُ نَفسَه بالجِهادِ بل بالهَرَبِ مِنه، فأيُّ رُجولةٍ تَبقى له بَعدَ هذا وبَعدَ لُبسِه الحَريرَ [3780] يُنظر: ((قراءة في وثائق البهائية)) لعائشة عبد الرحمن (ص: 89). ؟
وكانت له ولعائِلَتِه صِلةٌ بالرُّوسِ، ولا أدَلَّ على ذلك مِن وقفةِ السِّفارةِ الرُّوسيَّةِ حينَ تَحَمَّسَت لحِمايتِه عِندَما عَزَمَتِ الحُكومةُ الإيرانيَّةُ على تَقديمِه للمُحاكمةِ، حينَ قامَت مُحاولةٌ مِن جانِبِ البابيِّينَ لقَتلِ الشَّاهِ؛ انتقامًا لقَتلِ زَعيمِهم عَلي مُحَمَّد الشِّيرازيِّ.
قال خَليفة عبد البهاء شَوقي أفندي: (كان حَضرةُ بَهاءِ اللَّهِ ضَيفًا على الصَّدرِ الأعظَمِ في لواسانَ حينَ مُحاولةِ اغتيالِ الشَّاهِ، وكان يُقيمُ في قَريةِ أفجه حينَ بَلَغَتِ الأنباءُ الخَطيرةُ. فنَصحَ له جَعفر قلي خان أخو الصَّدرِ الأعظَمِ الذي كان يقومُ على ضيافتِه بأن يتَوارى عنِ الأنظارِ بَعضَ الوقتِ في ناحيةٍ مِن تلك النَّواحي. ولكِنَّه لم يستَمِعْ للنَّصيحةِ وصَرَف الرَّسولَ الذي أرسَلَ مَعَه ليُؤَمِّنَ سَلامَتَه. ورَكِبَ في صَبيحةِ اليومِ التَّالي إلى مُعَسكرِ الجَيشِ الشَّاهانيِّ بجُرأةٍ ورِباطةِ جَأشٍ، وكان الجَيشُ في نياورانَ بمِنطَقةِ شميرانَ. وفي قَريةِ زركندة لَقيَه صِهرُه ميرزا مَجيد الذي كان آنَذاك سِكرِتيرًا للأميرِ دولجوروكي الوزيرِ الرُّوسيِّ، وصَحِبَه إلى مَنزِلِه المُتَّصِلِ بمَنزِلِ رَئيسِه، فلمَّا عَلمَت حاشيةُ حاجِبِ الدَّولةِ الحاجِّ عَلي خان بقُدومِ حَضرةِ بهاءِ اللَّهِ بادَروا بإخطارِ سَيِّدِهم، فرَفعَ هذا الأمرَ بدَورِه إلى مَسامِعِ الشَّاهِ، فتَعَجَّبَ الشَّاهُ وأرسَلَ ضُبَّاطَه ومُعتَمديه إلى السِّفارةِ يُطالبونَ بتَسليمِ المُتَّهَمِ إليهم. ولَكِنَّ السَّفيرَ الرُّوسيَّ رَفَض أن يُسَلِّمَه إليهم، وطَلَب إلى حَضرةِ بَهاءِ اللَّهِ أن يتَوجَّهَ إلى بَيتِ الصَّدرِ الأعظَمِ الذي سَبَقَ للسَّفيرِ أن أبدى له رَغبَتَه في تَأمينِ سَلامةِ الوديعةِ التي تَقومُ الحُكومةُ الرُّوسيَّةُ بتَسليمِها إليه. إلَّا أنَّ هذه الرَّغبةَ لم تَتَحَقَّق؛ نَظَرًا لأنَّ الصَّدرَ الأعظَمَ خاف على مَركزِه أن يضيعَ إذا هو شَمِلَ المُتَّهَمَ بالحِمايةِ المَطلوبةِ) [3781] ((القرن البديع)) (ص: 97، 98). .
وقال شَوقي أيضًا: (... أمَا وقد تزَوَّد أثَرُ ذلك الحِلمِ القَويِّ بما ينبَغي لرِسالَتِه الإلهيَّةِ مِن قوَّةٍ وسُلطانٍ فإنَّ خَلاصَه مِن فترةِ سَجنٍ حَقَّقَت غايتَها لم يعُدْ أمرًا مَحتومًا فحَسبُ، بل وضَرورةً مُلِحَّةً عاجِلةً؛ ذلك لأنَّه لَو طالَت مُدَّةُ هذا السَّجنِ لَما استَطاعَ الاضطِلاعَ بمُهمَّاتِه التي كُلِّف بها أخيرًا. والواقِعُ أنَّه لم تَعُدْ تُعوِزُه الوسائِلُ التي يتِمُّ بها خَلاصُه مِن تلك القُيودِ المُعَطِّلةِ؛ فقد تَدَخَّلَ الأميرُ دولجوروكي السَّفيرُ الرُّوسيُّ تدخُّلًا حازِمًا، ولم يترُكْ بابًا إلَّا طَرقه ليُقيمَ الدَّليلَ على بَراءةِ حَضرةِ بَهاءِ اللَّهِ) [3782] ((القرن البديع)) (ص: 132). .
وقال أيضًا: (قد شاءَتِ الحِكمةُ الإلهيَّةُ المَعصومةُ أن يكونَ ما تَمَتَّعَ به حَضرةُ بهاءِ اللَّهِ مِن سَلامٍ وهدوءٍ بَعدَ سَجنِه المُحزِنِ القاسي، قَصيرَ الأمَدِ جِدًّا؛ فما كادَ يعودُ إلى أهلِه وذَوي قُرباه حتَّى صَدَرَ إليه فرَمانٌ مِن ناصِرِ الدِّينِ شاهَ أن يُغادِرَ إيرانَ في ظَرفِ شَهرٍ، وتَرَك له حُرِّيَّةَ اختيارِ مَنفاه. وما كادَ السَّفيرُ الرُّوسيُّ يسمَعُ بفرَمانِ الشَّاهِ حتَّى عَبَّرَ عن رَغبَتِه في أن يشمَلَ حَضرةَ بهاءِ اللَّهِ بحِمايةِ حُكومَتِه، وعَرضَ أن يُقدِّمَ كُلَّ التَّسهيلاتِ اللَّازمةِ لسَفرِه إلى روسيا، ولَكِنَّ حَضرةَ بَهاءِ اللَّهِ رَفضَ هذه الدَّعوةَ التِّلقائيَّةَ، وفضَّلَ أن يتَّبعَ وحيَ فِطرَتِه المَعصومةِ، ويُقيمَ في الأراضي التُّركيَّةِ بمَدينةِ بَغدادَ. وبَعدَ سَنَواتٍ كتَبَ في لَوحِه إلى قَيصَرِ روسيا نيقولاويج إسكندَر الثَّاني: "قد نَصَرَني أحَدُ سُفرائِك إذ كُنتُ في سِجنِ الطَّاءِ (طِهران) تَحتَ السَّلاسِلِ والأغلالِ، بذلك كتَبَ اللَّهُ لَك مَقامًا لم يُحِطْ به عِلمُ أحَدٍ إلَّا هو. إيَّاك أن تُبَدِّلَ هذا المَقامَ العَظيمَ". وهذه شَهادةٌ مِن قَلَمِه أشَدُّ بَيانًا: "في الأيَّامِ التي سُجِنَ فيها هذا المَظلومُ بَذل وزيرُ الحُكومةِ الفخيمةِ روسيا -أيَّدَه اللَّهُ تَبارَك وتعالى- قُصارى جُهدِه ليُخَلِّصَني. وقد أُذِنَ بإطلاقِ سَراحي عِدَّةَ مَرَّاتٍ إلَّا أنَّ بَعضَ عُلَماءِ المَدينةِ كانوا يحولونَ دونَ تَنفيذِه، وأخيرًا نَجَوتُ بفَضلِ جُهودِ صاحِبِ السَّعادةِ الوزيرِ واهتِمامِه... ولقد حَماني حَضرةُ الإمبراطورِ الأعظَمِ -أيَّدَه اللَّهُ تَبارَك وتعالى- لوجهِ اللَّهِ، وكان مِن شَأنِ هذه الحِمايةِ ازديادُ غِلِّ الجاهِلينَ وبَغْضائِهم".
في غِرَّةِ رَبيعٍ الثَّاني 1269هـ (الموافِقِ 12 كانون الثَّاني 1853م) أي بَعدَ تِسعةِ أشهرٍ مِن عَودَتِه مِن كربَلاءَ، رَحَلَ حَضرةُ بَهاءِ اللَّهِ مَعَ بَعضِ أفرادِ أُسرَتِه إلى بَغدادَ يحرُسُهم ضابطٌ مِن حَرَسِ الشَّاهِ، ومَندوبٌ مِنَ السِّفارةِ الرُّوسيَّةِ) [3783] ((القرن البديع)) (ص: 134، 136). .
وذَكرَ شَوقي أوَّلَ مَعبَدٍ بَهائيٍّ شَيَّدَه جَدُّه عبدُ البهاءِ، فقال: (وبفعاليَّتِه الجَريئةِ شَيَّدَ في آسيا الوُسطى، في تُركستانَ الرُّوسيَّةِ، أوَّلَ "مشرق الأذكار" في العالمِ البَهائيِّ، وبتَشجيعِه الدَّائِمِ بَدَأت مُهمَّةٌ مُماثِلةٌ ولَكِنَّها على نِطاقٍ أكبَرَ، وبارَك لها أرضًا في قَلبِ قارَّةِ أمريكا الشَّماليَّةِ) [3784] ((القرن البديع)) (ص: 371). .
وقال أيضًا: (أمَّا المُنشَأةُ نَفسُها تلك التي وُضِعَ حَجَرُها الأساسيُّ بمَحضَرٍ مِنَ الجِنِرالِ كروبتكين حاكِمِ تُركستانَ، العامَ الذي انتَدَبَه القَيصَرُ لينوبَ عنه في حُضورِ الاحتِفالِ، فقد وصَفها زائِرٌ بَهائيٌّ مِنَ الغَربِ بكُلِّ دِقَّةٍ...) [3785] ((القرن البديع)) (ص: 354). .

انظر أيضا: