موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: عَقائِدُ الشَّيخيَّةِ أو الرَّشتيَّةِ


نَظَرًا لكونِ فِرقةِ الشَّيخيَّةِ تُعتَبَرُ تَطَوُّرًا مِن داخِلِ التَّيَّارِ الأخباريِّ في مَذهَبِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ؛ لذا فإنَّ عَقائِدَهم تَحمِلُ في الجُملةِ الصِّبغةَ الإماميَّةَ أو الاثنَي عَشريَّةِ، مَعَ اختِلافٍ في بَعضِ الجَوانِبِ الاعتِقاديَّةِ. وقد قامَ الدُّكتورُ مُحسِن عَبد الحَميدِ بدِراسةِ أفكارِ الشَّيخيَّةِ مِن كُتُبِهم، فظَهَرَ له أنَّها حَرَكةٌ باطِنيَّةٌ وأنَّ الأحسائيَّ يلجَأُ أحيانًا إلى التَّفاسيرِ الباطِنيَّةِ لتَأييدِ وِجهةِ نَظَرِه. وذَكرَ أنَّ جَماعةً مِن عُلماءِ الإماميَّةِ ذَهَبوا إلى أنَّ الأحسائيَّ كان فاسِدَ العَقيدةِ مُنحَرِفًا، أوجَدَ طَريقةً في مَذهَبِ الشِّيعةِ الاثنَي عَشَرَ، والتي سُمِّيت فيما بَعدُ بالشَّيخيَّةِ [3724] يُنظر: ((حقيقة البابية والبهائية)) (ص: 35- 42). ، وقد رَدَّ على الأحسائيِّ عُلماءُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بكُتُبٍ مُتَداولةٍ، مِنها ثَلاثةُ كُتُبٍ لمَشاهيرِ الشِّيعةِ: وهي كِتابُ (ظُهورُ الحَقيقةِ على فِرقةِ الشَّيخيَّةِ) لمُحَمَّدِ مَهدي الكاظِميِّ، وكِتابُ (هَديَّةُ النَّملةِ) للميرزا مُحَمَّد رِضا الهمدان، وكِتابُ (رِسالةُ الشَّيخيَّةِ والبَّابيةِ) لمُحَمَّد مَهدي الخالصيِّ.
قال مُحَمَّدُ حُسَين آل كاشِفِ الغِطاءِ: (أمَّا الشَّيخيَّةُ والكشفيَّةُ فالعَوامُّ منهم لا يعرِفونَ شَيئًا مِن تلك العَقائِدِ السَّخيفةِ المَسطورةِ في أمثال «إرشادُ العَوامِّ» للكَرْمانيِّ و«شَرحُ القَصيدةِ للرَّشتيِّ»، للكَرْمانيِّ، فهم على ظاهرِ الإسلامِ وتَجري عليهم تلك الأحكامُ مِن الطَّهارةِ وغَيرِها. وأمَّا قادَتُهم وشُيوخُهم فإن شَهدوا على أنفُسِهم واعتَرَفوا بظاهرِ تلك السَّفاسِفِ فهم خارِجونَ مِن الإسلامِ وإن أوَّلوها بما لا يُنافي التَّوحيدَ فيعامَلونَ على الظَّاهرِ، واللهُ أعلمُ بالسَّرائِرِ) [3725] ((نصيحة لعموم المسلمين)) (ص: 9). .
وقال مُحسِن الأمين عن الشَّيخيَّةِ: (أمَّا عَوامُّهم فلا يعرِفونَ مَعنى الشَّيخيَّةِ مَعَ التِزامِهم بالفُروضِ وكفِّهم عن المَنهيَّاتِ) [3726] ((أعيان الشيعة)) (8/ 293). .
وقال عَبدُ الكريمِ الماشِطة: (إذا كانُ بَعضُ آراءِ الأحسائيِّ يوجِبُ التَّكفيرَ فما هو ذَنبُ سائِرِ الشَّيخيَّةِ وعَوامِّهم مِمَّن لا يَفهَمُ مِن الدِّينِ غَيرَ ما يفهَمُه عَوامُّ الأُصوليِّينَ؟) [3727] يُنظر: ((مجلة البيان النجفية - السنة الأولى)) (ص: 600). .
وقال الطَّالقانيُّ: (وقد اتَّصَلتُ بفريقٍ مِنهم شَخصيًّا وعاشَرتُهم في عَينِ التَّمرِ فترةً، وسَألتُ العَديدَ منهم عن مُعتَقَداتِهم، فكان جَوابُ بَعضِ المُتَعَلِّمينَ مِنهم أنَّهم لا يعرِفونَ ذلك، وكُلُّ ما يَعلَمونَه أنَّهم شيخيَّةٌ، أمَّا ما هي الشَّيخيَّةُ، ولماذا سُمِّيت بذلك، وما هو الفرقُ بَينَها وبَينَ باقي الشِّيعةِ؟ فهذا ما لا عِلمَ لهم به مُطلقًا! وكُنتُ إذا دَخَلتُ إلى مَجالسِهم ومَآتِمِهم انهالُ العَوامُّ على يدي يُقبِّلونَها كما يُقَبِّلونَ يدَ سائِرِ رِجالِ الدِّينِ، وهم يرفعونَ في مَحَلَّاتِهم وبُيوتِهم صورَ المَراجِعِ مِن عُلماءِ النَّجَفِ وغَيرِها مِن الذين يَرجِعُ إليهم في التَّقليدِ سائِرُ الشِّيعةِ دونَ تَفريقٍ أو تَمييزٍ. ومِن أجلِ ذلك كُلِّه نَرى أنَّ التَّصَدِّيَ لعَوامِّهم والنَّيلَ مِنهم بأيِّ شَكلٍ كان مُخالفةٌ صَريحةً للشَّريعةِ الإسلاميَّةِ وتَعاليمِها السَّاميةِ، وخَرقٌ لأحكامِ الدِّينِ وعَدَمُ تَورُّعٍ فيها) [3728] ((الشَّيخيَّة)) (ص: 341). .
ومِن أهَمِّ مُعتَقَداتِ هذه الفِرقةِ:
1- الاعتِقادُ بأنَّ الأئِمَّةَ المَعصومينَ الأربَعةَ عَشَرَ [3729] وهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفاطِمةُ رَضِيَ اللهُ عنها والأئِمَّةُ الاثنا عَشَرَ عِندَهم. هم عِلَّةُ تَكوينِ العالمِ وسَبَبُ وُجودِه وهم القائِمونَ على تَدبيرِه.
فيعتَقِدونَ بأنَّ اللهَ تعالى قد تَكرَّم عن مُباشَرةِ الخَلقِ والرِّزقِ وغَيرِ ذلك مِن الأُمورِ بنَفسِه، فأوكَلَها إلى المَعصومينَ؛ حَيثُ جَعَلهم أسبابًا ووسائِطَ لأفعالِه، فهم -كما يعتَقِدُ الشَّيخيَّةُ- مَظاهرُ لأفعالِ اللهِ تعالى!
قال الرَّشْتيُّ: (لو قال قائِلٌ: إنَّ مُحَمَّدًا وآلَه مِن أعظَمِ الأسبابِ والشَّرائِطِ لإيجادِ العالمِ وأهلِه في خَلقِهم ورِزقِهم وحَياتِهم ومَماتِهم، كما أنَّ المَلائِكةَ كذلك في التَّدبيراتِ الجُزئيَّةِ على القَطعِ واليقينِ، فأيُّ ضَرَرٍ يخافُه؟ وأيُّ مَحذورٍ يخشاه؟ وأيُّ غُلوٍّ وكفرٍ يلزَمُه؟ وأيُّ ضَرورةٍ يُنكِرُها؟) [3730] ((كشف الحق)) (2/54). .
وقال عَلي الحائِريُّ، وهو مِن شيخيَّةَ تِبْريزَ، عن أئِمَّةِ آلِ البَيتِ: (... طَهُرَت بهم البلادُ وصَلَحَت العِبادُ، فجَعَلهم مَحالَّ مَشيئَتِه، وألسُنَ إرادَتِه، وأوعيةَ حِكمَتِه، وتِراجِمةَ وحيِه، ومَظاهرَ قُدرَتِه... فصَدَرَت مِنهم الكراماتُ والمُعجِزاتُ وخَوارِقُ العاداتِ، والأُمورُ العَجيبةُ والأسرارُ الغَريبةُ، وهم مَعَ ذلك حادِثونَ ومَخلوقونَ ومَربوبونَ مُحتاجونَ إلى مَدَدِ اللهِ في كُلِّ آنٍ، وغَيرُ مُستَغنينِ عنه، فلو انقَطَعَ الفيضُ عنهم لانعَدَموا وفَنُوا بأجمَعِهم... فالقَولُ بأنَّهم الخالِقونَ والرَّازِقونَ والمُحيونَ والمُميتونَ استِقلالًا هو الكُفرُ الصَّريحُ والغُلوُّ والتَّعطيلُ... نَعَم، لا يمنَعُنا مِن القَولِ بأنَّهم أعظَمُ الأسبابِ والآلاتِ أيُّ مانِعٍ... ومِن القَولِ بأنَّهم وسائِطُ مِن اللهِ ومَجاري فيضِ اللهِ...) [3731] ((عقيدة الشيعة)) (ص: 36، 37). .
وقال مُحَمَّد خان الكَرْمانيُّ: (هم الذين فوَّضَ اللهُ إليهم الأمرَ في النَّشأتينِ، لا بمَعنى أنَّه تعالى أخلى الأمرَ أو جَعَلهم شُرَكاءَه، نَعوذُ باللهِ، بَل بمَعنى أنَّهم أياديه في الصُّنعِ، فيفعَلونَ ما يشاؤونَ... فهم الذين يتَولَّونَ أمرَ الجَنَّةِ، ويُنزِلونَ كُلَّ أحَدٍ مَنزِلَه، ويُنَعِّمونَ كُلَّ أحَدٍ بما يُنَعِّمونَ) [3732] ((شرح الحديثين في فضائل فاطمة)) (ص: 141-143). .
وقد رَدَّ عَليهم بَعضُ عُلماءِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ، فقال مُرتَضى كاشِفُ الغِطاءِ: (وأمَّا من تَجاوزَ الحَدَّ في اعتِقادِه مِمَّن لا تَخلو أعصارُنا مِنه -يقصِدُ الشَّيخيَّةَ- حَيثُ فوَّضوا أمرَ الخَلقِ والرِّزقِ والحَياةِ والمَماتِ إلى النَّبيِّ والأئِمَّةِ، فإنَّهم إن أرادوا بتَفويضِ ذلك للنَّبيِّ والأئِمَّةِ تَسبيبًا ومُباشَرةً بنَحوِ الفاعِليَّةِ الحَقيقيَّةِ فلا إشكالَ في خُروجِهم عَمَّا عليه دينُ الإسلامِ، وإن أرادوا أنَّ اللهَ فوَّضَ ذلك إليهم بنَحوِ المُباشَرةِ كما فوَّضَ أمرَ مُباشَرةِ قَبضِ الأرواحِ لعَزرائيلَ، واللهُ هو المُسَبِّبُ -كما لعَلَّه يُستَشعَرُ مِن كلماتِ شَيخِهم- فهذا وإن كان أمرًا باطِلًا في نَفسِه إلَّا أنَّه لا يستَلزِمُ كُفرَ مُدَّعيه؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّ مِثلَ ذلك مِمَّا لا يقضي بنَقضِ أصلٍ دينيٍّ، ولكِنَّ الاحتياطَ لا يُترَكُ في اجتِنابِ القائِلِ بذلك واجتِنابِ مُقَلِّديه وأتباعِه) [3733] ((فوز العباد في المبدأ والمعاد)) (ص: 34-35).  .
وقال مُحَمَّدٌ الخالصيُّ: (رَوَّج مَذهَبَ التَّفويضِ في العَصرِ الأخيرِ ثَلاثةُ نَفرٍ: الشَّيخُ أحمَدُ الأحسائيُّ، والسَّيِّدُ كاظِمٌ الرَّشْتيُّ، والحاجُّ كريم خان الكَرْمانيُّ. وزادوا فيه وأوغَلوا في الغُلوِّ حتَّى زَعَموا استِحالةَ أن يكونَ اللهُ خالقًا ورازِقًا، وإنَّما الخَلقُ والرِّزقُ للحَقيقةِ المُحَمَّديَّةِ) [3734] ((الاعتصام بحبل الله)) (ص: 70). .
2- الاعتِقادُ بأنَّ المَعادَ روحانيٌّ ولا عَلاقةَ للجَسَدِ الدُّنيويِّ فيه.
قال الأحسائيُّ: (إنَّ الإنسانَ له جِسمانِ وجَسَدانِ؛ فأمَّا الجَسَدُ الأوَّلُ: فهو ما تَألَّف مِن العناصِرِ الزَّمانيَّةِ، وهذا الجَسَدُ كالثَّوبِ يلبَسُه الإنسانُ ويخلعُه، ولا لذَّةَ له ولا ألمَ ولا طاعةَ ولا مَعصيةَ... وأمَّا الجَسَدُ الثَّاني: فهو الجَسَدُ الباقي، وهو الطِّينةُ التي خُلقَ مِنها، ويبقى في قَبرِه إذا أكلَتِ الأرضُ الجَسَدَ العُنصُريَّ وتَفرَّقَ كُلُّ جُزءٍ مِنه ولحِقَ بأصلِه؛ فالنَّاريَّةُ تُلحَقُ بالنَّارِ، والهَوائيَّةُ تُلحَقُ بالهَواءِ، والمائيَّةُ تُلحَقُ بالماءِ، والتُّرابيَّةُ تُلحَقُ بالتُّرابِ... وهذا الجَسَدُ هو الإنسانُ الذي لا يزيدُ ولا يَنقُصُ، يبقى في قَبرِه بَعدَ زَوالِ الجَسَدِ العُنصُريِّ؛ ولهذا إذا كان رَميمًا وعُدِم لم يوجَدْ شَيءٌ، حتَّى قال بَعضُهم: إنَّه يُعدَمُ، وليسَ كذلك، وإنَّما هو في قَبرِه إلَّا أنَّه لا تَراه أبصارُ أهلِ الدُّنيا لِما فيها مِن الكثافةِ، فلا تَرى إلَّا ما هو مِن نَوعِها... وهذا الجَسَدُ الباقي هو مِن أرضِ هورقليا، وهو الجَسَدُ الذي فيه يُحشَرونَ، ويدخُلونَ به الجَنَّةَ أو النَّارَ) [3735] ((شرح الزيارة الجامعة)) (ص: 369-370). .
وقد اضطَرَبَ كلامُ الأحسائيِّ في هذه المَسألةِ في مَواضِعَ مِن كُتُبِه، ولكِن يرى الطَّالقانيُّ أنَّ خُلاصةَ القَولِ في مَسألةِ المَعادِ عِندَه أنَّه قال بالمعادِ الرُّوحانيِّ في الجَسَدِ الهورقليائيِّ||hamish||3736||/hamish||، وأنكرَ المَعادَ الجُسمانيَّ بالبَدَنِ العُنصُريِّ، فقَولُه في ذلك صَريحٌ لا يقبَلُ التَّأويلَ ولا يحتَمِلُ التَّعليلَ، غَيرَ أنَّه لمَّا انتُقدَ مِن قِبَلِ خُصومِه وشُهِرَ به وكُفِّرَ، أردَف الرَّأيَ الأوَّلَ بأقوالٍ مَفادُها القَولُ بالمعادِ الجُسمانيِّ، وأنَّ المُعادَ في المَعادِ هذا الجِسمُ الدُّنيويُّ المَرئيُّ المَحسوسُ بَعدَ تَصفيتِه وذَهابِ كُدوراتِه والأعراضِ الغَريبةِ التي لحِقَته في عالمِ الحَياةِ.
قال الطَّالقانيُّ: (وهو تَراجُعٌ صَريحٌ عن رَأيِه الأوَّلِ ومُداهَنةٌ جارى بها خُصومَه المُتَزَمِّتينَ خِلافًا لرَأيِه الأوَّلِ الذي اتَّبَعَ فيه من سَبَقَه مِن الفلاسِفةِ! والتَّعليلاتُ التي بَرَّرَ بها رَأيَه والاتِّهاماتُ التي ألصَقَها بغَيرِه مِن عَدَمِ فهمِ مَقصودِه واعتِذارُه بأنَّه اصطِلاحٌ غَيرُ مَأنوسٍ، أو أنَّه كتَبَ لأهلِه ونَحوُ ذلك مِن الأقوالِ الواهيةِ: إنَّما هي تمَحُّلٌ صِرْفٌ وتَهَرُّبٌ مِن واقِعٍ مَلموسٍ لا يقبَلُ الإنكارَ؛ فقد صَرَّحَ هو وغَيرُه مِن قُدامى ومُحدَثينَ أنَّ الجِسمَ يتَألَّفُ مِن العناصِرِ الأربَعةِ، وأنَّه إذا فارَقَته الحَياةُ تَلاشى وأكلَتْه الأرضُ ولحِقَ كُلُّ جُزءٍ بأصلِه مِن تُرابٍ وماءٍ ونارٍ وهَواءٍ، فما هو مَعنى التَّصفيةِ؟ وأيُّ جُزءٍ مِن هذه الأجزاءِ يُترَكُ وأيُّها يعودُ؟ وما هي الكُدورةُ والعَرَضُ؟ وما هو الجَوهَرُ؟... والمُلاحَظُ أنَّ الرَّشْتيَّ كان عِندَما يُسألُ عن المَعادِ الجُسمانيِّ أو يُضطَرُّ إلى ذِكرِه في بَعضِ المَواضِعِ في عِدادِ ما يجِبُ الاعتِقادُ به يتَناولُه على شَكلِ عُموميَّاتٍ، فلا يتَوسَّعُ ولا يبحَثُ الخُصوصيَّاتِ؛ تَفاديًا للخِلافِ وتَجَنُّبًا للرَّدِّ والنَّقدِ، فهو يقولُ: «وأنَّ الخَلقَ يومَ القيامةِ يُحشَرونَ بأبدانِهم وأجسادِهم الدُّنيويَّةِ المَرئيَّةِ المَحسوسةِ في الدُّنيا» [3737] ((دليل المتحيرين)) (ص: 79). ، ويقولُ في مَوضِعٍ آخَرَ: «فتَطيرُ الأرواحُ وتَدخُلُ في أجسادِها، كُلُّ رُوحٍ في جَسَدِها الذي كانت فيه دارَ الدُّنيا. وهذا مَعنى المَعادِ، يعني عَودةَ الأرواحِ إلى أجسادِها الدُّنيويَّةِ، ويجِبُ على كُلِّ أحَدٍ الإيمانُ بهذا المَعادِ» [3738] ((أصول العقائد)) (ص: 248). وتَراه في بَعضِ المَوارِدِ يُكرِّرُ كلمةَ الجَسَدِ الدُّنيويِّ في السَّطرِ مَرَّتَينِ أو ثَلاثةً، ولا يكتَفي بنَعتِه بصِفةٍ واحِدةٍ، بل يُعَدِّدُ المَحسوسةَ والمَلموسةَ والمَرئيَّةَ وغَيرَها إن وَجَدَ في قَواميسِ اللُّغةِ كلمةً بمَعناها، كُلُّ ذلك مُبالغةً في التَّعميةِ وإرضاءً للخُصومِ ودَفعًا للشُّبُهاتِ؛ فهو يقولُ مَثَلًا: «وأمَّا في المَعادِ فنعتَقِدُ أنَّ اللهَ سُبحانَه يحشُرُ الأجسادَ والأرواحَ ويجعَلُ الأرواحَ في الأجسادِ الدُّنيويَّةِ المَوجودةِ في الدُّنيا المَحسوسةِ المَرئيَّةِ المَلموسةِ، فيبعَثُها في القيامةِ ويُجري عَليها الثَّوابَ والعِقابَ، ومَن اعتَقدَ أنَّ هذا البَدَنَ الدُّنياويَّ المَوجودَ في الدُّنيا لا يُبعَثُ يومَ القيامةِ فهو كافِرٌ مَلعونٌ مَردودٌ» [3739] ((الحجة البالغة)) (2/321). !
أرَأيتَ كيف يُكرِّرُ الكلماتِ للتَّأكيدِ ويُعَدِّدُ العِباراتِ طَلبًا للسَّلامةِ وتَهَرُّبًا مِن العَلامةِ؟! فهو لا يكتَفي بالاعتِرافِ بذلك، بل يلعنُ من لا يقولُ به، ويَحكُمُ بكُفرِه! وله قَولٌ آخَرُ تَحَمَّسَ فيه ضِدَّ المُنكِرِ للمَعادِ الجُسمانيِّ أكثَرَ حَيثُ أفتى بقَتلِه) [3740] ((الشَّيخيَّة)) (ص: 262-264). .
وقال حَسَن جوهَر تِلميذُ الرَّشْتيِّ: (إنَّ الإنسانَ الذي يُعادُ هو بعَينِه الذي كان في الدُّنيا بلا زيادةٍ ونُقصانٍ، إلَّا أنَّه يُذهَبُ عنه الكثافاتُ العارِضيَّةُ التي عَرَّضَته في البَرزَخِ والدُّنيا... تُجمَعُ الأوصالُ المُتَفرِّقةُ فتَأتي الرُّوحُ فتَلِجُ في البَدَنِ المِثاليِّ، ثُمَّ يلجُ البَدَنُ المِثاليُّ في الجَسَدِ الأصليِّ الطَّبيعيِّ المُرَكَّبِ مِن الطَّبائِعِ الأربَعِ، كما كان في دارِ الدُّنيا خاليًا عن الكُدوراتِ والكثافاتِ... وبالجُملةِ فالذي يعودُ هو حَقيقةُ جِسمِ المُكلَّفِ الذي لا يطرَأُ عَليه الزِّيادةُ والنُّقصانُ في كونِه هو هو، فلا يُخرِجُه عَمَّا هو عَليه عُروضُ العَوارِضِ) [3741] ((المخازن)) (ص: 123، 124). .
وقال الطَّالقانيُّ: (لا نَرى لدى شيخيَّةِ تِبْريزَ في مَسألةِ المَعادِ الجُسمانيِّ أدنى اختِلافٍ مَعَ ما عليه باقي الشِّيعةِ الظاهريِّينَ مِن اعتِقادٍ؛ فأقوالُهم واحِدةٌ وآراؤُهم مُتَّفِقةٌ. نَعَم، تَواطَؤوا على إنكارِ ما نُسِبَ لشَيخِهم الأحسائيِّ ودافعوا عنه وأوَّلوا ألفاظَه ومُصطَلحاتِه، ورَدُّوا على ناقِديه بعُنفٍ وبدونِ هَوادةٍ، نافينَ قَولَه الأوَّلَ ومُؤَكِّدينَ أنَّ قَصْدَه في أقوالِه واحِدٌ وإن اختَلفت تَعابيرُه ومُصطَلحاتُه، مَعَ أنَّه صَريحٌ لا يقبَلُ التَّأويلَ. أمَّا مَدرَسةُ كَرْمانَ فهي مُتَّهَمةٌ بالقَولِ بالمَعادِ الرُّوحانيِّ وإنكارِ الجُسمانيِّ مِن قِبَلِ شيخيَّةِ تِبْريزَ مَرَّةً، ومِن قِبَلِ سائِرِ الشِّيعةِ الإماميَّةِ أُخرى) [3742] ((الشَّيخيَّة)) (ص: 268). .
3- الاعتِقادُ بالإمامِ النَّاطِقِ والرُّكنِ الرَّابعِ.
اختَصَّ أتباعُ كريم خان المَعروفونَ بالرُّكنيَّةِ باعتِقادِهم بأنَّه لا بُدَّ لكُلِّ زَمانٍ مِن إمامٍ غَيرِ الإمامِ الغائِبِ تَكونُ له الوساطةُ بَينَه وبَينَ رَعيَّتِه، ويجِبُ على العُلماءِ دَعوةُ الخَلقِ إليه، وليس لغَيرِه التَّصَدِّي للأُمورِ العامَّةِ إلَّا بأمرِه. وهذه العَقيدةُ خاصَّةٌ بشيخيَّةِ كَرْمانَ في إيرانَ الذين اعتَبَروا أُصولَ الدِّينِ أربَعةً: مَعرِفةُ اللهِ تعالى، والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإمامِ، والرُّكنِ.
وقد كتَبَ مُحَمَّد كريم خان الكَرْمانيُّ رِسالةً طَويلةً إلى كاظِمٍ الرَّشْتيِّ يظهَرُ في بَعضِ فِقراتِها ما يُؤَيِّدُ عَقيدةَ الرُّكنِ الرَّابعِ، ومِمَّا جاءَ فيها قَولُه: (اعتِقادي أنَّ مَن لم يعرِفِ السَّابقَ عَليه والبابَ الذي تَجري مِنه جَميعُ الفُيوضِ... لم يعرِفْ شَيئًا مِن التَّوحيدِ والنُّبوَّةِ والإمامةِ... وأنا عَبدُك الأثيمُ مُحَمَّد كريم قد انقَطَعتُ مِن الدُّنيا كُلِّها إليك... إنَّ الشَّيخَ الأجَلَّ الأمجَدَ كان قُطبَ زَمانِه لتَصريحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه: أنت القُطبُ... فالشَّيخُ الأكبَرُ هو الذي يُعبَدُ به الرَّحمَنُ وتُكتَسَبُ الجِنانُ؛ لأنَّه العَقلُ... وقد رَأينا أنَّ الأمرَ بَعدَه رَجَعَ إليك ظاهرًا... فأنتَ نائِبُه بالنَّصِّ الجَليِّ مِنه... فإذَن أنتَ الذي يُعبَدُ به الرَّحمَنُ ويُكسَبُ به الجِنانُ...) [3743] يُنظر: ((إحقاق الحق)) لموسى الإحقاقي (ص: 168-174). .
قال الطَّالقانيُّ بَعدَ استِعراضٍ طَويلٍ لنُقولاتٍ مِن كلامِ الأحسائيِّ والرَّشْتيِّ ومَشايِخَ مِن شيخيَّةِ كَرْمانَ: (والخُلاصةُ: أنَّ مَسألةَ الإمامِ النَّاطِقِ والرُّكنِ الرَّابعِ مِمَّا اختَصَّت به الشَّيخيَّةُ؛ فقد ظَهَرَت نَواتُها الأولى في مُؤَلَّفاتِ الشَّيخِ أحمَدَ الأحسائيِّ، وتَلقَّاها مِن بَعدِه خَليفتُه السَّيِّدُ كاظِمٌ الرَّشْتيُّ فوضَّحَها أكثَرَ مِن ذي قَبلُ وقَرَّبها إلى الأذهانِ بَعضَ الشَّيءِ. وقد تَنَكَّرَت للفِكرةِ شيخيَّةُ تِبْريزَ مُنذُ أن اختَلف اتِّجاهُها بَعدَ وفاةِ الرَّشْتيِّ، فلم يقُلْ بها أحَدٌ مِنهم إطلاقًا، بَل عَمَدوا إلى ما يدُلُّ عَليها في كُتُبِ الأحسائيِّ والرَّشْتيِّ ففسَّروه تَفسيرًا آخَرَ، وصَرفوه وأوَّلوه إلى مَعانٍ لا تَتَبادَرُ إلى الذِّهنِ.
ولمَّا قامَت مَدرَسةُ كَرْمانَ أقبَل عَميدُها الحاجُّ مُحَمَّد كريم خان على الفِكرةِ ففرَّعها ووَسَّعَها ودَوَّنَها بالتَّفصيلِ واستَدَلَّ على صِحَّتِها ووُجوبِ القَولِ بها مَعقولًا ومَنقولًا. وبَعدَ وفاتِه ورِثَها ولدُه الحاجُّ مُحَمَّد خان الذي خَلَفه على مَقامِه، فقال بها ودَوَّنَها في غَيرِ واحِدٍ مِن مُؤَلَّفاتِه وأجوِبةِ مَسائِلِه. ثُمَّ تَغَيَّرَ مَفهومُها وأبدِلَ مَعناها وظَهَرَت بَوادِرُ الرُّجوعِ عن القَولِ بها بَعدَ أن طَغَت على باقي عَقائِدِ القَومِ وغَطَّت كُلَّ خِلافاتِهم وما انفرَدوا به مِن أقوالٍ ومُعتَقَداتٍ، وبَلغَت مِن الشُّهرةِ حَدًّا صارَت فيه لقَبًا للقَومِ، فعادَ الكثيرُ مِن النَّاسِ يُسَمِّيهم بالرُّكنيَّةِ بَدَلًا مِن الشَّيخيَّةِ) [3744] ((الشَّيخيَّة)) (ص: 331، 332). .
4- الاتِّصالُ بأئِمَّةِ آلِ البَيتِ عن طَريقِ الكَشْفِ والأحلامِ.
ذَكرَ الأحسائيُّ أنَّ الإنسانَ إذا صَفت نَفسَه وتَخَلَّصَ مِن أكدارِ الدُّنيا يستَطيعُ أن يتَّصِلَ بأحَدِ الأئِمَّةِ مِن أهلِ البَيتِ عن طَريقِ الكَشْفِ والأحلامِ! فيوحي له الإمامُ بالعِلمِ الغَزيرِ، وكان الأحسائيُّ ينشَرِحُ وينبَسِطُ للأحلامِ التي كان يراها، كما كان يسُرُّه جِدًّا أن يحُلَّ بَعضَ مُشكِلاتِه في عالمِ الرُّؤيا؛ لأنَّه يتَصَوَّرُ أنَّها الرُّؤيةُ الصَّادِقةُ حينَ يُسألُ عَمَّا عنَّ له وأشكَلَ عَليه، فيُجابُ لأنَّه قَرَأ في الأخبارِ أنَّ الشَّيطانَ لا يتَشَبَّهُ بالأنبياءِ والأولياءِ مُطلقًا حتَّى في عالمِ الرُّؤيا، فكان ينتَظِرُ حَلَّ كُلِّ مُشكِلةٍ وجَوابَ كُلِّ سُؤالٍ يستَعصي عَليه فَهْمُه أو حَلُّه في عالمِ الأحلامِ، ولا سيَّما في الأُمورِ المَذهَبيَّةِ وفهمِ الحَديثِ النَّبَويِّ والمَسائِلِ الرُّوحيَّةِ، وكان يتَوسَّلُ بأرواحِ أئِمَّتِهم لكَشفِ مُشكِلاتِه، فيَسمَعُ في الحُلمِ أو يرى ما جَعَله قاعِدةَ آرائِه ومُعتَقداتِه! وكان يرى نَفسَه مُتَرَسِّمًا خُطى الأئِمَّةِ وتابعًا لهم ومُستَفيضًا مِن باطِنِهم، ومِمَّا قاله في هذا الشَّأنِ: (أخَذتُ تَحقيقاتِ ما عَلِمتُ عن أئِمَّةِ الهدى ولم يتَطَرَّقْ إلى كَلِماتي الخَطَأُ) [3745] ((شرح الفوائد)) (ص: 4). .
ويحكي هو ويروي خَواصُّه: أنَّه فُتِحَت في وجهِه أبوابُ الغَيبِ لإخلاصِه في اتِّباعِ الأئِمَّةِ، ويُكرِّرُ في مَواضِعَ عَديدةٍ مِن كُتُبِه أنَّه سَمِعَ مِن الإمامِ الصَّادِقِ، ويُصَرِّحُ في بَعضِها أنَّه سَمِعَه شَفاهةً يقولُ كذا وكذا في المَنامِ، ويُؤَكِّدُ على القِصَّةِ التي رَواها مِن أنَّه رَأى الأئِمَّةَ مُجتَمِعينَ في عالمِ الرُّؤيا، وطَلبَ مِن الإمامِ الحَسَنِ أن يُعَلِّمَه شَيئًا يتلوه إذا أرادَ أن يرى أحَدَ الأئِمَّةِ ليسألَه عَمَّا أشكَل عَليه، فأعطاه أبياتًا مِن الشِّعرِ، ويُؤَكِّدُ الأحسائيُّ أنَّه فهمَ أنَّ الغَرَضَ ليسَ المُداومةَ على تِلاوةِ ألفاظِها، وإنَّما هو الاتِّصافُ والتَّحَلِّي بمَضامينِها، وأنَّه جَرى على ذلك مُدَّةً، فكان يرى من يُريدُ مَتى شاءَ، قيل: حتَّى هَبَطَ إيرانَ واتَّصَل بالسُّلطانِ وأكل طَعامَه وطَعامَ أعوانِه مِن الأُمَراءِ والحُكَّامِ، وعِندَها فقدَ تلك المَزيَّةَ وذَهَبَت المَلَكةُ التي حَصَل عَليها بواسِطةِ الرِّياضاتِ الطَّويلةِ الشَّاقَّةِ [3746] يُنظر: ((سيرة الشيخ أحمد الأحسائي)) لمحفوظ (ص: 16-20)، ((الشَّيخيَّة)) للطالقاني (ص: 237-238)، ((المدرسة الشَّيخيَّة)) لزكي إبراهيم (ص: 203-205). !

انظر أيضا: