موسوعة الفرق

المطلَبُ الثَّالثُ: جَرائِمُ القَرامِطةِ


القَرامِطةُ من فِرَقِ الإسماعيليَّةِ الباطِنيَّةِ الذين ينتَسِبونَ إلى إسماعيلَ بنِ جَعفرٍ الصَّادِقِ، وهي إحدى الفِرَقِ المُنبَثِقةِ مِنَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ، وكانت بدايةُ ظُهورِهم في عامِ 278هـ، في عَهدِ الخَليفةِ العَبَّاسيِّ المُعتَضِدِ أحمَدَ بنِ الموفَّقِ [2367] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (6/ 363). .
وقد مَلك القَرامِطةُ الأحساءَ والبَحرينِ وعَمَّانَ وبَعضَ بلادِ الشَّامِ، وحاولوا مِلكَ مِصرَ، وحينَ قَوِيَت شَوكةُ القَرامِطةِ حارَبوا دَولةَ المُسلمينَ المُتَمَثِّلةَ حينَئِذٍ في الخِلافةِ العَبَّاسيَّةِ، وخاضوا ضِدَّها حُروبًا كثيرةً، وأكثَروا من قَطعِ طَريقِ الحُجَّاجِ وقَتلِهم وسَلبِهم، وتجرَّؤوا على المَسجِدِ الحَرامِ، وقَتَلوا الحُجَّاجَ يومَ التَّرويةِ في الحَرَمِ، وقَلعوا الحَجَرَ الأسودَ مِنَ الكعبةِ، وأخَذوه إلى بلادِهم، وضَعُف الخُلفاءُ العَبَّاسيُّونَ في عَهدِهم، واستَولى الرُّومُ على عامَّةِ الثُّغورِ، واحتَلَّ الشِّيعةُ الفاطِميُّونَ مِصرَ، وانقَطَعَتِ الدَّعوةُ العَبَّاسيَّةُ من مِصرَ والشَّامِ [2368] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/31)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/22)، ((السلوك لمعرفة دول الملوك)) للمقريزي (1/17- 19). .
واستَمَرَّت دَولةُ القَرامِطةِ في البَحرينِ إلى سَنةِ 466هـ حتَّى قَضى عليهم عَسكريًّا عَبدُ اللهِ بنُ عَليٍّ من بَني عَبدِ القَيسِ بمُساعَدةِ مَلِك شاه السُّلجوقيِّ، وبَقيت عَقائِدُهم في بَعضِ الفِرَقِ الباطِنيَّةِ؛ فقد اختَلطَ بَقايا القَرامِطةِ بفِرَقِ الباطِنيَّةِ الأُخرى كالنُّصَيريَّةِ والإسماعيليَّةِ [2369] يُنظر: ((موجز التاريخ الإسلامي)) للعسيري (ص: 210)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (5/ 42)، ((شرح التدمرية)) لمحمد التميمي (1/ 238). .
ومِن خياناتِ القَرامِطةِ ما فعَلوه في سَنةِ 294هـ من تَعَرُّضِهم للحُجَّاجِ أثناءَ رُجوعِهم من مَكَّةَ بَعدَ أداءِ المَناسِكِ، فلَقوا القافِلةَ الأولى فقاتَلوهم قتالًا شَديدًا، فلمَّا رَأى القَرامِطةُ شِدَّةَ القافِلةِ في القِتالِ قالوا: هل فيكم نائِبُ السُّلطانِ؟ فقالوا: ما مَعنا أحَدٌ، فقالوا: فلسْنا نُريدُكم، فاطمَأنُّوا وساروا، ثُمَّ غَدَروا بهم، وقَتَلوهم عن آخِرِهم. وتَعقَّبوا قَوافِلَ الحَجيجِ الأُخرى قافِلةً قافِلةً، يُعمِلونَ فيهمُ السَّيفَ، فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وجَمَعوا القَتلى كالتَّلِّ، وأرسَلوا خَلفَ الفارِّينَ مِنَ الحَجيجِ مَن يبذُلُ لهمُ الأمانَ، فعِندَما رَجَعوا قَتَلوهم عن آخِرِهم، وكانت نِساءُ القَرامِطةِ يطُفنَ بَينَ القَتلى والجَرحى يعرِضنَ على مَن كان حَيًّا الماءَ، فمَن كلَّمَهنَّ قَتَلنَه، فقيل: إنَّ عَدَدَ القَتلى بلغَ في هذه الحادِثةِ عِشرينَ ألفًا!
وكانوا يُغَوِّرونَ الآبارَ التي في طَريقِ قَوافِلِ الحُجَّاجِ، ويُفسِدونَ ماءَها بالجِيَفِ والتُّرابِ والحِجارةِ، وقيل: إنَّه بلغَ ما نَهَبوه مِنَ الحَجيجِ نَحوَ ألفَيْ ألفَيْ دينارٍ [2370] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (6/ 432). .
وفي سَنةِ 311هـ قَصَدَ أبو طاهرٍ القِرْمِطيُّ البَصرةَ فوصَلها ليلًا في ألفٍ وسَبعِمِائةِ رَجُلٍ، فوضَعَ السَّيفَ في أهلِ البَصرةِ، وهَرَبَ النَّاسُ، وحارَبَ بَعضُهم القَرامِطةَ عَشَرةَ أيَّامٍ، فظَفِرَ بهمُ القَرامِطةُ، وقَتَلوا خَلقًا كثيرًا، وطَرحَ النَّاسُ أنفُسَهم في الماءِ فغَرِقَ أكثَرُهم، وأقامَ أبو طاهرٍ سَبعةَ عَشَرٍ يومًا يحمِلُ مِنَ البَصرةِ ما يقدِرُ عليه مِنَ المالِ والأمتِعةِ والنِّساءِ والصِّبيانِ، ثُمَّ انصَرَف [2371] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/15)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/5-6). .
وفي سَنةِ 312هـ دَخَل أبو طاهرٍ القِرْمِطيُّ الكوفةَ، فخَرَجَ إليه واليها جَعفرُ بنُ وَرقاءَ الشَّيبانيُّ فقاتَله، واجتَمَعَ له أمدادٌ من هنا وهناك، ولكِنْ ظَفِرَ بهمُ القَرامِطةُ، وتَبعوهم إلى بابِ الكوفةِ، فانهَزَمَ عَسكرُ الخَليفةِ، وأقامَ أبو طاهرٍ سِتَّةَ أيَّامٍ يدخُلُ البلدَ نَهارًا ثُمَّ يخرُجُ فيبيتُ في عَسكرِه، وحَملَ منها ما قدَرَ على حَملِه مِنَ الأموالِ والثِّيابِ وغَيرِ ذلك [2372] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/22). .
وفي آخِرِ سَنةِ 312هـ سارَ أبو طاهرٍ الشِّيعيُّ القِرْمِطيُّ في عَسكرٍ عَظيمٍ ليلقى الحَجيجَ في رُجوعِهم من مَكَّةَ، فأوقَعَ بقافِلةٍ تَقدَّمَت مُعظَمَ الحُجَّاجِ، وكان فيها خَلقٌ كثيرٌ من أهلِ بَغدادَ، فنَهَبهم، ثُمَّ هَجَمَ القَرامِطةُ على باقي الحُجَّاجِ، فأوقَعوا بهم، وأخَذوا دَوابَّهم وما أرادوا مِنَ الأمتِعةِ والأموالِ والنِّساءِ والصِّبيانِ، وقَتَلوا مَن قَتَلوا، وتَرَكوا الباقينَ في أماكِنِهم مُنهَكينَ، فماتَ أكثَرُهم جوعًا وعَطَشًا في حَرِّ الشَّمسِ، وانقَلبَت بَغدادُ، واجتَمَعَ حَرَمُ المَنكوبينَ إلى حَرَمِ المَأخوذينَ، وجَعَلنَ يُنادينَ: القِرْمِطيُّ الصَّغيرُ أبو طاهرٍ قَتل المُسلمينَ في طَريقِ مَكَّةَ، والقِرْمِطيُّ الكبيرُ ابنُ الفُراتِ قَتَل المُسلمينَ ببَغدادَ، وجاءَ ابنُ الفُراتِ الوزيرُ الرَّافِضيُّ القِرْمِطيُّ إلى الخَليفةِ العَبَّاسيِّ المُقتَدِرِ ليأخُذَ رَأيَه فيما يفعَلُه، فانبَسَطَ لسانُ المُقتَدِرِ على ابنِ الفُراتِ، وقال له: السَّاعةَ تقولُ لي: أيَّ شَيءٍ نَصنَعُ؟ وما هو الرَّأيُ؟ بَعدَ أن زَعزَعتَ أركانَ الدَّولةِ، وإبعادِك رِجالي إلى الرَّقَّةِ وهم سُيوفُ الدَّولةِ، فمَن يدفعُ الآنَ؟! ومَن الذي سَلَّمَ النَّاسَ إلى القِرْمِطيِّ غَيرُك؟!
ولمَّا توجَّه الخَليفةُ المُقتَدِرُ إلى الكوفةِ ليلقى القَرامِطةَ قامَ المُحسِنُ ابنُ الوزيرِ ابنِ الفُراتِ الشيعيِّ بقَتلِ كُلِّ مَن كان مَحبوسًا عِندَه مِنَ المُصادَرينَ؛ لأنَّه أخَذَ منهم أموالًا، ولم يوصِلْها إلى المُقتَدِرِ، فخاف أن يُقِرُّوا عليه [2373] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/ 312). .
وفي سَنةِ 315هـ خَرَجَ القَرامِطةُ نَحوَ الكوفةِ أيضًا، وسَيَّرَ لهمُ الخَليفةُ العَبَّاسيُّ جَيشًا، ودارَت بَينَهم وقائِعُ في واسِطٍ والأنبارِ، وكانت سِجالًا، وقُتِل فيها من عَسكرِ الخَليفةِ عَدَدٌ كثيرٌ وانهَزَموا، وأصابَ النَّاسَ الذُّعرُ مِنَ القَرامِطةِ، وخَرَجَ ناسٌ بأموالِهم من بَغدادَ لمَّا سَمِعوا بتَوجُّهِ القَرامِطةِ إليها [2374] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/ 31- 33). .
وفي سَنةِ 316هـ عاثَ أبو طاهرٍ القِرْمِطيُّ في الأرضِ فسادًا، فدَخَل الرَّحبةَ وقَتَل من أهلِها خَلقًا، وطَلبَ منه أهلُ قَرْقِيسيا الأمانَ، فأمَّنَهم، وبَعَثَ سراياه إلى ما حَولَها مِنَ الأعرابِ، فقَتَل منهم خَلقًا حتَّى صارَ النَّاسُ يَهرُبونَ من سَماعِ اسمِه، وفرضَ على الأعرابِ إتاوةً يحمِلونَها إلى هَجَرٍ في البَحرينِ كُلَّ سَنةٍ؛ عن كُلِّ رَأسٍ دينارَينِ، وعاثَ في نواحي الموصِلِ فسادًا، وفي سِنجارَ ونَواحيها، وخَرَّب بَعضَ تلك الدِّيارِ، وقَتل وسَلَب ونَهَب [2375] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/31). .
وفي سَنةِ 317هـ خَرَجَ القَرامِطةُ إلى مَكَّةَ في يومِ التَّرويةِ، فقَتَلوا الحَجيجَ في رِحابِ مَكَّةَ وشِعابِها، وفي المَسجِدِ الحَرامِ وفي جَوفِ الكعبةِ، وجَلسَ أميرُهم أبو طاهرٍ على بابِ الكعبةِ والحُجَّاجُ صَرعى حَولَه والسُّيوفُ تَعمَلُ في النَّاسِ في المَسجِدِ الحَرامِ في الشَّهرِ الحَرامِ في يومِ التَّرويةِ، فقال:
أنا باللهِ وباللهِ أنا
يخلُقُ الخَلقُ وأُفنيهم أنا
وكان الحُجَّاجُ يفِرُّونَ منهم فيتَعَلَّقونَ بأستارِ الكعبةِ، فلا يُجدي ذلك عنهم شَيئًا، بل يُقتَلونَ وهم مُتَعَلِّقونَ بها، ولمَّا قَضى القِرْمِطيُّ أبو طاهرٍ أمرَه، أمر بإلقاءِ القَتلى في بئرِ زَمزَمَ، وهَدمَ قُبَّتَها، وأمرَ بقَلعِ بابِ الكعبةِ، ونَزعَ كِسوتَها عنها، وشَقَّقها بَينَ أصحابِه، ثُمَّ أمر رجلًا من رِجالِه بأن يقلعَ الحَجَرَ الأسودَ، فضَرَبَه بمُثقَلٍ كان في يدِه وقال: أينَ الطَّيرُ الأبابيلُ؟ أينَ الحِجارةُ من سِجِّيلٍ؟
ثُمَّ قَلعَ الحَجَرَ الأسودَ، وأخَذوه حينَ راحوا مَعَهم إلى بلادِهم، فمَكثَ عِندَهم ثِنتَينِ وعِشرينَ سَنة، حتَّى رَدُّوه في سَنةِ 339هـ مُقابِلَ مالٍ عَظيمٍ [2376] يُنظر: ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (7/53)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (15/37). .
وفي العَصرِ الحاضِرِ قامَ حُجَّاجُ الشِّيعةِ مِنَ الإيرانيِّينَ وغَيرِهم بإحداثِ مُظاهَراتٍ وشَغبٍ في مَكَّةَ يومَ الجُمعةِ السَّادِسَ من شَهرِ ذي الحِجَّةِ سَنةَ 1407ه، وقُتِل في تلك الأحداثِ 400 شَخصٍ، وأُصيبَ نَحوُ 650 شَخصًا، ووقَعَت أضرارٌ مادِّيَّةٌ عَديدةٌ [2377] يُنظر: ((الإلحاد الخميني في أرض الحرمين)) للوادعي (ص: 14 - 191)، ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام)) للعواجي (1/ 459). .

انظر أيضا: