موسوعة الفرق

المَسألةُ الأولى: حُكمُ نِكاحِ المُتعةِ


شُرِعَ النِّكاحُ في الإسلامِ لمَقاصِدَ أساسيَّةٍ، قد نَصَّ القُرآنُ الكريمُ عليها صَراحةً، وجَميعُها يهدُفُ إلى تَكوينِ الأُسرةِ الفاضِلةِ.
قال اللهُ تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] فقد أشارَتِ الآيةُ الكريمةُ إلى أنَّ مَناطَ السَّكَنِ إنَّما هو الزَّوجةُ لا مُطلقُ المَرأةِ، وبذلك يُمكِنُ القَولُ بأنَّ الزَّوجةَ الدَّائِمةَ هي التي جَرت سُنَّةُ اللهِ تعالى بجَعلِها سَكنًا للرَّجُلِ، وجَعَل بَينَها وبَينَ زَوجِها مَودَّةً ورَحمةً، بحُكمِ العَلاقةِ الزَّوجيَّةِ الصَّحيحةِ الدَّائِمةِ في أُسرةٍ تُنجِبُ البَنينَ والحَفَدةَ على ما ينُصُّ عليه قولُ اللهِ تعالى: وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل: 72] ، وحينَما يربُطُ اللهُ تعالى الزَّواجَ بغَريزةِ الجِنسِ لم يكُنِ المَقصودُ مُجَرَّدَ قَضاءِ الشَّهوةِ، بل المُرادُ أن يكونَ على النَّحوِ الذي يُحَقِّقُ تلك المَقاصِدَ مِن تَكوينِ الأُسرةِ التي شَرَعَ أحكامَها التَّفصيليَّةَ القُرآنُ الكريمُ مِنَ الخِطبةِ فالزَّواجِ، فالطَّلاقِ إذا لم يتَّفِقِ الزَّوجانِ، ثُمَّ الرَّضاعةِ، والحَضانةِ، والنَّفَقةِ... إلخ.
أمَّا مُجَرَّدُ قَضاءِ الشَّهوةِ والاستِمتاعِ مجرَّدًا عن الإنجابِ وبناءِ الأُسرةِ، فمُخالِفٌ لمَقصَدِ الشَّارِعِ مِن أصلِ تَشريعِ النِّكاحِ؛ لذلك أطلقَ عليه القُرآنُ الكريمُ السِّفاحَ، وحَذَّرَ اللهُ مِنِ اتِّباعِ هذا السَّبيلِ، فقال تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ [النساء: 24] ، ومَعنى الآيةِ الكريمةِ صَريحٌ؛ إذ مُؤَدَّاه أن تَتَزَوَّجوا النِّساءَ بالمُهورِ، قاصِدينَ ما شَرع اللهُ النِّكاحَ لأجلِه مِنَ الإحصانِ وتَحصيلِ النَّسلِ دونَ مُجَرَّدِ سَفحِ الماءِ، وقَضاءِ الشَّهوةِ، كما يفعَلُ الزُّناةُ!
وعن مَعقِلِ بنِ يَسارٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّمَ فقال: إنِّي أصَبتُ امرَأةً ذاتَ حَسَبٍ ومَنصِبٍ إلَّا أنَّها لا تَلِدُ، فأتَزَوَّجُها؟ فنَهاه، ثُمَّ أتاه الثَّانيةَ فنَهاه، ثُمَّ أتاه الثَّالثةَ فنَهاه، فقال: ((تَزَوَّجوا الوَلودَ الوَدودَ؛ فإنِّي مُكاثِرٌ بكم))  [2049] أخرجه أبوداود (2050) واللفظ له، والنسائي (3227).  صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (4056)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (8/423)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2050)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1143). ؛ إذ ليس المَقصودُ مُجَرَّدَ الاستِمتاعِ، ففي ذلك دَلالةٌ واضِحةٌ على ما ذُكِرَ مِنَ المَقاصِدِ الرَّفيعةِ التي لا يُمكِنُ تَحَقُّقُها إلَّا عن طَريقِ زَواجٍ صَحيحٍ دائِمٍ وَفقَ شَرعِ اللهِ تعالى [2050] يُنظر: ((الأصل في الأشياء الإباحة ولكن المتعة حرام)) للسائح علي حسين (ص: 8 - 12)، ((تحريم المتعة في الكتاب والسنة)) ليوسف المحمدي (ص: 3). .
وأمَّا نِكاحُ المُتعةِ فما هو إلَّا وَجهٌ آخَرُ للزِّنا، فهو نِكاحٌ بلا وليٍّ ولا شُهودٍ، وللرَّجُلِ الحُرِّيَّةُ أن يتَمَتَّعَ بما شاءَ مِنَ النِّساءِ، وللمَرأةِ حُرِّيَّةٌ أن تُلبِّيَ داعيَ الجِنسِ مَعَ مَن تَشاءُ وبما تَشاءُ، وفي المُدَّةِ التي تَرتَضيها؛ لتُجَدِّدَ المُدَّةَ مَرَّةً أُخرى، أو لتَبحَثَ عن رَجُلٍ آخَرَ وأجرٍ آخَرَ لمُدَّةٍ أُخرى في سوقِ المُتعةِ، ولا نَفقةَ فيه، بل أجرٌ كالجُعلِ والهَديَّةِ التي يُقدِّمُها الرَّجُلُ لخَليلتِه وصَديقَتِه نَظيرَ مُتعَتِه، والعَلاقةُ مادِّيَّةٌ صِرفةٌ، فلو أخَلَّت ببَعضِ المُدَّةِ أخذَ منها بَعضَ الأجرِ، ولا طَلاقَ ولا ميراثَ، إذًا لا زَوجيَّةَ! ولا حَدَّ لمَن يُريدُ أن يستَمتِعَ بهنَّ في مُدَّةٍ واحِدةٍ، ولا حُرمةَ بَيْنَ المَرأةِ وعَمَّتِها أو خالتِها إذا أرادَ أن يجمَعَ بَينَهما! ولا نَسَبَ يلتَحِقُ إجبارًا، ولا عَلاقاتِ إنسانيَّةً، ولا التِزاماتِ أُسَريَّةً، ولا نَظَرَ إلى تَكوينِ لَبِنةٍ قَويَّةٍ مِن وراءِ هذه العَلاقةِ لمُجتَمَعٍ قَويٍّ، بل إباحيَّةٌ تَتَزَيَّا بزيِّ الشَّرعِ المُطَهَّرِ [2051] يُنظر: ((منهج السنة في الزواج)) لمحمد الأحمدي أبو النور (ص: 225). .
قال اللهُ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 27 - 28] .
ومِنَ الجَديرِ بالذِّكرِ أنَّ نِكاحَ المُتعةِ كان حَلالًا أوَّلَ الأمرِ ثُمَّ ثَبَتَ تَحريمُه [2052] يُنظر: ((الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار)) للحازمي (ص: 176). ، ومِنَ الأحاديثِ الوارِدةِ في ذلك:
1- عن الحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ وأخيه عَبدِ اللهِ، عن أبيهما أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه قال لابنِ عَبَّاس: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن المُتعةِ وعن لُحومِ الحُمرِ الأهليَّةِ زَمَنَ خَيبَر) [2053] أخرجه البخاري (5115) واللفظ له، ومسلم (1407). .
2- عن إياسِ بنِ سَلَمةَ عن أبيه قال: (رخَّص رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عامَ أوطاسٍ [2054] وادٍ بالطَّائفِ، وذلك سنةَ 8 للهِجرةِ. في المتعةِ ثلاثًا، ثمَّ نهى عنها) [2055] أخرجه مسلم (1405). .
3- عن الرَّبيعِ بنِ سَبرةَ الجُهنيِّ عن أبيه سَبرةَ أنَّه قال: أذِنَ لنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُتعةِ، فانطَلقتُ أنا ورَجُلٌ إلى امرَأةٍ مِن بَني عامِرٍ كأنَّها بَكرةٌ عَيطاءُ، فعَرَضْنا عليها أنفُسَنا، فقالت: ما تُعطي؟ فقُلتُ: رِدائي، وقال صاحِبي: رِدائي، وكان رِداءُ صاحِبي أجودَ مِن رِدائي، وكُنتُ أشَبَّ منه، فإذا نَظَرَت إلى رِداءِ صاحِبي أعجَبَها، وإذا نَظَرَت إليَّ أعجَبتُها، ثُمَّ قالت: أنتَ، ورِداؤُك يكفيني، فمَكثتُ مَعَها ثلاثًا، ثُمَّ إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن كان عِندَه شَيءٌ مِن هذه النِّساءِ التي يتَمَتَّعُ فليُخْلِ سَبيلَها)) [2056] أخرجه مسلم (1406). .
4- عن الرَّبيعِ بنِ سَبرةَ الجُهنيِّ أنَّ أباه حَدَّثَه أنَّه كان مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((يا أيُّها النَّاسُ إنِّي قد كُنتُ أذِنتُ لكم في الاستِمتاعِ مِنَ النِّساءِ، وإنَّ اللهَ قد حَرَّمَ ذلك إلى يومِ القيامةِ، فمَن كان عِندَه منهنَّ شَيءٌ فليُخلِ سَبيلَه، ولا تَأخُذوا مِمَّا آتَيتُموهنَّ شيئًا)) [2057] أخرجه مسلم (1406). .
5- عن عَبدِ المَلكِ بنِ الرَّبيعِ بنِ سَبرةَ الجُهنيِّ عن أبيه عن جَدِّه قال: أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمُتعةِ عامَ الفتحِ حينَ دَخَلْنا مَكَّةَ، ثُمَّ لم نَخرُجْ منها حتَّى نَهانا عنها [2058] أخرجه مسلم (1406). .
6- عن الرَّبيعِ بنِ سَبرةَ الجُهنيِّ عن أبيه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن المُتعةِ وقال: ((ألا إنَّها حَرامٌ مِن يومِكم هذا إلى يومِ القيامةِ، ومَن كان أعطى شيئًا فلا يأخُذْه)) [2059] أخرجه مسلم (1406). .
7- عن أبي نَضرةَ قال: كُنتُ عِندَ جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ، فأتاه آتٍ، فقال: ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ الزُّبَيرِ اختَلفا في المُتعَتَينِ يعني مُتعةَ الحَجِّ ومُتعةَ النِّساءِ، فقال جابرٌ: فعَلْناهما مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثُمَّ نَهانا عنهما عُمَرُ، فلم نَعُدْ لهما [2060] أخرجه مسلم (1249). .
8- عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ نُعَيمٍ الأعرَجيِّ قال: سَأل رَجُلٌ ابنَ عُمَرَ وأنا عِندَه عن مُتعةِ النِّساءِ فغَضِبَ وقال: (واللهِ ما كُنَّا على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَنَّائينَ ولا مُسافِحينَ) [2061] أخرجه أحمد (5808)، وأبو يعلى (5706) واللفظ لهما، وسعيد بن منصور في ((السنن)) (851) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (5808)، وحسَّن إسناده أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (8/110). .

انظر أيضا: