موسوعة الفرق

المَطلبُ الثَّالثُ: عَقيدةُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ في عِصمةِ الأئِمَّةِ


يرى الشِّيعةُ الإماميَّةُ أنَّ الأئِمَّةَ مَعصومونَ عن الخَطَأِ، وإلَّا ما جازَ قَبولُ الشَّرعِ عنهم.
قال مُحَمَّد الريشهريُّ في بابِ (شَرائِطِ الإمامةِ وخَصائِصِ الإمامِ): (الإمامُ المُستَحِقُّ للإمامةِ له عَلاماتٌ؛ فمنها: أن يَعلمَ أنَّه مَعصومٌ مِنَ الذُّنوبِ كُلِّها صَغيرِها وكبيرِها، لا يزِلُّ عن الفُتَيا، ولا يُخطِئُ في الجَوابِ، ولا يسهو ولا ينسى، ولا يلهو بشَيءٍ مِن أمرِ الدُّنيا... وله العِصمةُ مِن جَميعِ الذُّنوبِ، وبذلك يتَمَيَّزُ عن المَأمومينَ الذينَ هم غَيرُ المَعصومينَ؛ لأنَّه لو لم يكُن مَعصومًا لم يُؤمَنْ عليه أن يدخُلَ فيما يدخُلُ النَّاسُ فيه مِن موبقاتِ الذُّنوبِ المُهلكاتِ، والشَّهَواتِ واللَّذَّاتِ) [1822] ((ميزان الحكمة)) (1/174). ويُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (25/164). .
ورَوى الكُلينيُّ عن جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (نحن خُزَّانُ عِلمِ اللهِ، نحن تراجمةُ أمرِ اللهِ، نحن قَومٌ مَعصومونَ، أمَر اللهُ تَبارَك وتعالى بطاعَتِنا، ونَهى عن مَعصيتِنا، نحن الحُجَّةُ البالغةُ على مَن دَونَ السَّماءِ وفوقَ الأرضِ) [1823] يُنظر: ((الكافي)) (1/269). .
وقال ابنُ بابَويهِ القُمِّيُّ: (نَعتَقِدُ أنَّ الإمامَ كالنَّبيِّ، يجِبُ أن يكونَ مَعصومًا مِن جَميعِ الرَّذائِلِ ما ظَهَرَ منها وما بَطنَ، كما يجِبُ أن يكونَ مَعصومًا مِنَ السَّهوِ والخَطَأِ والنِّسيانِ؛ لأنَّ الأئِمَّةَ حَفَظةُ الشَّرعِ والقَوَّامونَ عليه، حالُهم في ذلك حالُ النَّبيِّ) [1824] ((عقائد الشيعة الإمامية)) (ص: 51). .
قال ابنُ تَيميَّةَ عن كونِ الأئِمَّة مَعصومينَ لدَيهم كالأنبياءِ: (هذه خاصَّةُ الرَّافِضةِ الإماميَّةِ التي لم يَشرَكْهم فيها أحَدٌ لا الزَّيديَّةُ الشِّيعةُ، ولا سائِرُ طَوائِفِ المُسلمينَ إلَّا مَن هو شَرٌّ منهم كالإسماعيليَّةِ الذينَ يقولونَ بعِصمةِ بَني عُبَيدٍ المُنتَسِبينَ إلى مُحَمَّدِ بنِ إسماعيلَ بنِ جَعفَرٍ) [1825] ((منهاج السنة)) (2/452). .
وقال أبو حامِدٍ المَقدِسيُّ: (العِصمةُ مِن أهَمِّ الأُمورِ الدِّينيَّةِ عِندَ الشِّيعةِ، بل هي شَرطٌ في الإمامةِ عِندَهم، حتَّى صارت وصفًا لازِمًا، واعتَقدوا العِصمةَ في الأئِمَّةِ بناءً على أنَّهم خُلفاءُ المَعصومِ، وأفضَلُ مِنَ الأنبياءِ بناءً على أنَّهم نوَّابُ أفضَلِ الأنبياءِ) [1826] ((رسالة في الرد على الرافضة)) (ص: 79). .
ومِنَ المَعلومِ عِندَ العُقَلاءِ أنَّ المَقصودَ مِن تَنصيبِ الإمامِ هو تَنفيذُ الأحكامِ ودَرءُ المَفاسِدِ، وحِفظُ الأمنِ، والنَّظَرُ في مَصالحِ العامَّةِ، وغَيرُ ذلك، وليسَ مِن شَرطِ بَقائِه في الحُكمِ أن يكونَ معصومًا، ولم يُطالِبْه الشَّرعُ بإصابةِ عَينِ الحَقِّ حَتمًا في كُلِّ قَضيَّةٍ، وإنَّما المَطلوبُ منه أن يتَحَرَّى العَدلَ بقدرِ الإمكانِ، ولا مانِعَ بَعدَ ذلك أن يُخطِئَ ويُصيبَ كبَقيَّةِ النَّاسِ.
والقُرآنُ الكريمُ لم يُصَرِّحْ بعِصمةِ أحَدٍ، بل أثبَتَ أنَّ المَعصيةَ مِن شَأنِ الإنسانِ، فقد صَدَرت مِن آدَمَ عليه السَّلامُ الذي هو أبو البَشَرِ، وأخبَرَ عن موسى عليه السَّلامُ بأنَّه قَتَل، وعن يونُسَ عليه السَّلامُ أنَّه ذَهَبَ مغاضِبًا، وفي القُرآنِ عِتابٌ مِنَ اللهِ تعالى لبَعضِ أنبيائِه ورُسُلِه عليهم السَّلامُ. وقد أخبَرَ اللهُ تعالى عن نَبيِّه داوُدَ عليه السَّلامُ الذي جَعَله خَليفةً في الأرضِ أنَّه أخطَأ في مَسألةٍ، وأصابَ فيها ابنُه سُليمانُ عليه السَّلامُ، قال اللهُ تعالى: وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 78 - 79] .
وقال اللهُ تعالى لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] .
وصَرَّحَ أئِمَّةُ أهلِ البَيتِ بعَدَمِ عِصمَتِهم في كثيرٍ مِنَ المُناسَباتِ، وقد رَوى الشِّيعةُ بَعضَ ذلك في كُتُبِهم، ومِن ذلك ما رَوَوه عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يَكرهُ التَّسليمَ على الشَّابَّةِ منهنَّ، ويقولُ: (أتخَوَّفُ أن يُعجِبَني صَوتُها، فيدخُلَ عَليَّ أكثَرُ مِمَّا أطلُبُ مِنَ الأجرِ) [1827] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (2/473). .
وكان عَليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه يقولُ لأصحابِه: (لا تَكُفُّوا عن مَقالةٍ بحَقٍّ، أو مَشورةٍ بعَدلٍ؛ فإنِّي لستُ في نَفسي بفوقِ ما أن أُخطِئَ، ولا آمَنُ ذلك مِن فِعلي إلَّا أن يكفيَ اللهُ مِن نَفسي ما هو أملَكُ به مِنِّي، فإنَّما أنا وأنتُم عَبيدٌ مَملوكونَ) [1828] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (8/356). وجاء في هامشِ هذه الرِّوايةِ تأويلٌ لهذا الكلامِ: (هذا من قَبيلِ هَضمِ النَّفسِ، ليس بنفيِ العِصمةِ، مع أنَّ الاستثناءَ يكفينا مَؤونةَ ذلك). .
إنَّ دَعوى عِصمةِ أحَدٍ مِنَ النَّاسِ -إلَّا ما ورَدَ فيه الخِلافُ في عِصمةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ- دَعوى تُعارِضُ الطَّبيعةَ البَشَريَّةَ المُرَكَّبةَ مِنَ الشَّهَواتِ، ولا يُمدَحُ الإنسانَ بأنَّه مَعصومٌ، بل يُمدَحُ بأنَّه يُجاهِدُ نَفسَه على فِعلِ الخَيرِ وتَركِ الشَّهَواتِ، كما أخبرَ اللهُ بذلك في كِتابِه الكريمِ؛ ولهذا رَتَّبَ اللهُ الجَزاءَ على حَسَبِ قيامِ الشَّخصِ بما كلَّفه اللهُ به؛ فقد أعطاه القُدرةُ والإرادةُ ليكونَ بَعدَ ذلك طائعًا أو عاصيًا، فاعلًا أو تاركًا، ولو لم يكُنِ الإنسانُ مَحَلًّا للطَّاعةِ والعِصيانِ لما كان للتَّكليفِ مَعنًى [1829] ((فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام)) لغالب عواجي (1/378 - 380). .

انظر أيضا: