موسوعة الفرق

المَسألةُ الرَّابعةُ: قَولُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بالبَداءِ على اللهِ سُبحانَه


البَداءُ: مَعناه في الجُملةِ: الظُّهورُ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47] أي: ظهَر.
ومَعناه أيضًا: حُدوثُ رَأيٍ جَديدٍ لم يكُنْ مِن قَبلُ، كما في قَولِه تعالى: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: 35] .
وهذا يلزَمُ منه سَبقُ الجَهلِ، وحُدوثُ العِلمِ تبعًا لحُدوثِ المُستَجَدَّاتِ؛ لقُصورِ العُقولِ عن إدراكِ المُغَيَّباتِ، وإذا أُطلِقَت هذه المَعاني على الإنسانِ فلا مَحذورَ فيها، وأمَّا إذا أُطلِقَت على اللهِ عَزَّ وجَلَّ فلا شَكَّ أنَّها كُفرٌ؛ ذلك لأنَّ اللهَ تعالى عالمُ الغَيبِ والشَّهادةِ، فيَعلَمُ السِّرَّ وأخفى، ويعلمُ ما ظَهَرَ وما سَيظهَرُ على حَدٍّ سَواءٍ، ومُحالٌ عليه عَزَّ وجَلَّ حُدوثُ الجَهلِ بالشَّيءِ [1447] يُنظر: ((فرق معاصرة)) لغالب عواجي (1/ 443). .
فاعتِقادُ البَداءِ على اللهِ سُبحانَه بهذا المَعنى مَعلومٌ بُطلانُه مِنَ الدِّينِ بالضَّرورةِ لدى كافَّةِ المُسلمينَ، ولا يصِفُ اللهَ تعالى بذلك مَن له أدنى مَعرِفةٍ برَبِّه سُبحانَه.
وقد عُرِف عن اليهودِ القَولُ بالبَداءِ على اللهِ تعالى؛ فقد ورَدَ في تَوراتِهم المُحَرَّفةِ أنَّ اللهَ تعالى خَلق الخَلقَ، ولم يكُنْ يَعلمُ هَل يكونُ فيهم خَيرٌ أو شَرٌّ، وهَل تَكونُ أفعالُهم حَسَنةً أم قَبيحةً؟! فقد جاءَ في التَّوراةِ ما نَصُّه: (رَأى الرَّبُّ أنَّ شَرَّ الإنسانِ قد كثُرَ في الأرضِ، وأنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أفكارِ قَلبِه إنَّما هو شِرِّيرٌ كُلَّ يومٍ؛ فحَزِنَ الرَّبُّ أنَّه عَمِل الإنسانَ في الأرضِ، وتَأسَّف في قَلبِه جِدًّا، فقال الرَّبُّ: أمحو عن وَجهِ الأرضِ الإنسانَ الذي خَلقتُه؛ لأنِّي حَزِنتُ أنِّي عَمِلتُهم) [1448] ((سفر التكوين)) الإصحاح السادس، فقرة 5 - 8. !
قال ابنُ القَيِّمِ: (مِنَ العَجائِبِ حَجرُهم على اللهِ أن ينسَخَ ما شَرَعَ؛ لئَلَّا يلزَم البَداءُ، ثُمَّ يقولونَ: "إنَّه نَدِمَ وبَكى على الطُّوفانِ، وعادَ في رَأيِه، ونَدِمَ على خَلقِ الإنسانِ!") [1449] ((هداية الحيارى)) (2/ 431). .
وذَكرَ بَعضُ العُلماءِ أنَّ أوَّلَ مَن أظهَرَ القَولَ بالبَداءِ في الإسلامِ المُختارُ بنُ أبي عبيدٍ الثَّقَفيُّ تَغطيةً لكَذِبِه.
قال البَغداديُّ عن المُختارِ: (أمَّا سَبَبُ قَولِه بجَوازِ البَداءِ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ فهو أنَّ إبراهيمَ بنَ الأشتَرِ لَمَّا بَلغَه أنَّ المُختارَ قد تَكهَّنَ وادَّعى نُزولَ الوَحيِ عليه قَعَدَ عن نُصرَتِه، واستَولى لنَفسِه على بلادِ الجَزيرةِ، وعَلِم مُصعَبُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّ إبراهيمَ بنَ الأشتَرِ لا ينصُرُ المُختارَ، فطَمِعَ عِندَ ذلك في قَهرِ المُختار، ولحِقَ به عَبيدُ اللهِ بنُ الحُرِّ الجَعفيُّ ومُحَمَّدُ بنُ الأشعَثِ الكنديُّ وأكثَرُ ساداتِ الكوفةِ غيظًا منهم على المُختارِ لاستيلائِه على أموالِهم وعَبيدِهم، وأطمَعوا مُصعبًا في أخذِ الكوفةِ قَهرًا، فخَرَجَ مُصعَبٌ مِنَ البَصرةِ في سَبعةِ آلافِ رَجُلٍ مِن عِندِه سِوى مَن انضَمَّ إليه مِن ساداتِ الكوفةِ، وجَعَل على مُقدِّمَتِه المُهَلَّبَ بنَ أبي صُفرةَ مَعَ أتباعِه مِنَ الأزدِ، وجَعَل أعِنَّةَ الخَيلِ إلى عُبَيدِ اللهِ بنِ معمرٍ التَّيميِّ، وجَعَل الأحنَفَ بنَ قَيسٍ على خَيلِ تَميمٍ، فلمَّا انتَهى خَبَرُهم إلى المُختارِ أخرج صاحِبَه أحمَدَ بنَ شُمَيطٍ إلى قَتلِ مُصعَبٍ في ثَلاثةِ آلافِ رَجُلٍ مِن نُخبةِ عَسكرِه، وأخبَرَهم بأنَّ الظَّفرَ يكونُ لهم، وزَعَمَ أنَّ الوَحيَ قد نَزَل عليه بذلك، فالتَقى الجَيشانِ بالمَدائِنِ، وانهَزَمَ أصحابُ المُختارِ، وقُتِل أميرُهمُ ابنُ شُمَيطٍ، وأكثَرُ قوَّادِ المُختارِ، ورَجَعَ فُلولُهم إلى المُختارِ، وقالوا له: ألم تَعِدْنا بالنَّصرِ على عَدوِّنا وقد انهَزَمْنا؟! فقال: إنَّ اللهَ تعالى كان قد وعَدَني بذلك، لكِنَّه بَدا له! واستَدَلَّ على ذلك بقَولِه عَزَّ وجَلَّ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] ، فهذا كان سَبَبَ قَولِ الكَيسانيَّةِ بالبَداءِ) [1450] ((الفَرْق بَيْنَ الفِرَق)) (ص: 50-52). .
وقال الشَّهرَستانيُّ: (إنَّما صارَ المُختارُ إلى اختيارِ القَولِ بالبَداءِ؛ لأنَّه كان يدَّعي عِلمَ ما يَحدُثُ مِنَ الأحوال، إمَّا بوحيٍ يُوحى إليه، وإمَّا برِسالةٍ مِن قِبَلِ الإمامِ، فكان إذا وعَدَ أصحابَه بكونِ شَيءٍ وحُدوثِ حادِثةٍ، فإن وافقَ كونُه قَولَه جَعَله دليلًا على صِدقِ دَعواه، وإن لم يوافِقْ قال: قد بَدا لرَبِّكم! وكان لا يُفرِّقُ بَيْنَ النَّسخِ والبَداءِ، قال: إذا جازَ النَّسخُ في الأحكامِ جازَ البَداءُ في الأخبارِ) [1451] ((الملل والنحل)) (1/ 149). .
وقال الشَّهرَستانيُّ أيضًا: (البَداءُ له مَعانٍ: البَداءُ في العِلمِ، وهو أن يظهَرَ له خِلافُ ما عَلِمَ، ولا أظُنُّ عاقِلًا يعتَقِدُ هذا الاعتِقادَ.
والبَداءُ في الإرادةِ، وهو أن يظهَرَ له صَوابٌ على خِلافِ ما أرادَ وحَكمَ.
والبَداءُ في الأمرِ: وهو أن يأمُرَ بشَيءٍ، ثُمَّ يأمُرَ بشَيءٍ آخَرَ بَعدَه بخِلافِ ذلك. ومَن لم يُجَوِّزِ النَّسخَ ظَنَّ أنَّ الأوامِرَ المُختَلفةَ في الأوقاتِ المُختَلفةِ مُتَناسِخةٌ) [1452] (الملل والنحل)) (1/148). .
والشِّيعةُ الإماميَّةُ مُتَّفِقونَ جَميعًا مُتَقدِّموهم ومُتَأخِّروهم ومُعاصِروهم على القَولِ بالبَداءِ، وإن كانوا قد صَرَّحوا بأنَّهم لا يعنونَ البَداءَ المُستَلزِمَ للجَهلِ.
قال المُفيدُ: (اتَّفقَتِ الإماميَّةُ على وُجوبِ رَجعةِ كثيرٍ مِنَ الأمواتِ إلى الدُّنيا قَبلَ يومِ القيامةِ، وإن كان بَينَهم في مَعنى الرَّجعةِ اختِلافٌ، واتَّفقوا على إطلاقِ لفظِ البَداءِ في وصفِ اللهِ تعالى، وإن كان ذلك مِن جِهةِ السَّمعِ دونَ القياسِ) [1453] ((أوائل المقالات)) (ص: 48). .
عن زُرارةَ بنِ أعيَنَ عن الباقِرِ أو الصَّادِقِ، قال: (ما عُبِدَ اللهُ بشَيءٍ مِثلِ البَداءِ) [1454] يُنظر: ((الكافي)) (1/146). .
وعن هشامِ بنِ سالمٍ عن أبي عَبدِ اللهِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ قال: (ما عُظِّمَ اللهُ بمِثلِ البَداءِ) [1455] يُنظر: ((الكافي)) (1/ 111). .
وعن أبي عَبدِ اللهِ قال: (لو عَلمَ النَّاسُ ما في القَولِ بالبَداءِ مِنَ الأجرِ ما فتَروا عن الكلامِ فيه) [1456] يُنظر: ((الكافي)) (1/ 115). .
وعن مِرزامِ بنِ حَكيمٍ قال: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ يقولُ: (ما تَنَبَّأ نَبيٌّ قَطُّ حتَّى يُقِرَّ للهِ بخَمسٍ: بالبَداءِ، والمَشيئةِ، والسُّجودِ، والعُبوديَّةِ، والطَّاعةِ) [1457] يُنظر: ((الكافي)) (1/ 115). .
وعن الرَّيَّانِ بنِ الصَّلتِ قال: سَمِعتُ الرِّضا عليه السَّلامُ يقولُ: (ما بَعَثَ اللهُ نبيًّا إلَّا بتَحريمِ الخَمرِ، وأن يُقِرَّ للهِ بالبَداءِ) [1458] يُنظر: ((الكافي)) (1/115). .
وعن جَعفرٍ الصَّادِقِ قال: (يُبعَثُ عَبدُ المُطَّلِبِ أُمَّةً وحدَه، عليه بهاءُ المُلوكِ، وسيماءُ الأنبياءِ؛ وذلك أنَّه أوَّلُ مَن قال بالبَداءِ) [1459] يُنظر: ((الكافي)) (15/158). .
ذَكرَ أبو الحَسَنِ الأشعَريُّ في مَقالاتِ الإسلاميِّينَ أنَّ الشِّيعةَ الإماميَّةَ في هذه المَسألةِ ليسوا على رَأيٍ واحِدٍ، فقال: (افتَرَقَتِ الرَّافِضةُ هَل البارئ يجوزُ أن يبدوَ له إذا أرادَ شيئًا أم لا، على ثَلاثِ مَقالاتٍ:
فالفِرقةُ الأولى منهم يقولونَ: إنَّ اللهَ تَبدو له البداواتُ، وأنَّه يُريدُ أن يفعَلَ الشَّيءَ في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ، ثُمَّ لا يُحدِثُه لِما يحدُثُ له مِنَ البَداءِ، وأنَّه إذا أمَرَ بشَريعةٍ ثُمَّ نَسَخَها فإنَّما ذلك لأنَّه بَدا له فيها، وأنَّ ما عَلِمَ أنَّه يكونُ ولم يُطلِعْ عليه أحدًا مِن خَلقِه فجائِزٌ عليه البَداءُ فيه، وما اطَّلعَ عليه عِبادُه فلا يجوزُ عليه البَداءُ فيه.
والفِرقةُ الثَّانيةُ منهم يزعُمونَ أنَّه جائِزٌ على اللهِ البَداء فيما عَلمَ أنَّه يكونُ حتَّى لا يكونَ، وجوَّزوا ذلك فيما اطَّلعَ عليه عِبادُه، وأنَّه لا يكونُ كما جَوَّزوه فيما لم يطَّلعْ عليه عِبادُه.
والفِرقةُ الثَّالثةُ منهم يزعُمونَ أنَّه لا يجوزُ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ البَداءُ، وينفونَ ذلك عنه تعالى) [1460] ((مقالات الإسلاميين)) (1/113). .
وقال الآمِديُّ: (لمَّا خَفيَ الفَرْقُ بَيْنَ البَداءِ والنَّسخِ على اليهودِ والرَّافِضةِ، مَنَعَتِ اليهودُ مِنَ النَّسخِ في حَقِّ اللهِ تعالى، وجَوَّزَتِ الرَّوافِضُ البَداءُ عليه؛ لاعتِقادِهم جَوازَ النَّسخِ على اللهِ تعالى مَعَ تَعَذُّرِ الفَرقِ عليهم بَيْنَ النَّسخِ والبَداءِ، واعتضدوا في ذلك بما نَقَلوه عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: "لولا البَداءُ لحَدَّثتُكم بما هو كائِنٌ إلى يومِ القيامةِ"... ونَقَلوا عن موسى بنِ جَعفرٍ أنَّه قال: "البَداءُ دينُنا ودينُ آبائِنا في الجاهليَّةِ"، وتَمَسَّكوا أيضًا بقَولِه تعالى: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] ، وفي ذلك قال شاعِرُهم:
ولولا البَداءُ سَمَّيتُه غَيرَ هائِبٍ
وذِكرُ البَدا نَعتٌ لِمَن يتَقَلَّبُ
ولولا البَدا ما كان فيه تَصرُّفٌ
وكان كنارٍ دَهرَه يتَلهَّبُ
وكان كضَوءٍ مُشرِقٍ بطَبيعةٍ
وباللهِ عن ذِكرِ الطَّبائِع يَرغَبُ
فلزِمَ اليهودَ على ذلك إنكارُ تَبَدُّلِ الشَّرائِعِ، ولزِمَ الرَّوافِضَ على ذلك وصفُ الباري تعالى بالجَهلِ، مَعَ النُّصوصِ القَطعيَّةِ والأدِلةِ العَقليَّةِ الدَّالَّةِ على استِحالةِ ذلك في حَقِّه، وأنَّه لا يخفى عليه شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ.
أمَّا النُّصوصُ الكِتابيَّةُ فكقَولِه تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] ، وقَولِه تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [التغابن: 18] ، وقَولِه: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] ، وقَولِه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد: 22] إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
وأمَّا الأدِلةُ العَقليَّةُ فما استَقصَيناه في كُتُبِنا الكلاميَّةِ.
وما نَقَلوه عن عليٍّ وعن أهلِ بَيتِه فمِنَ الأحاديثِ التي انتَحَلها الكذَّابُ الثَّقَفيُّ) [1461] ((الإحكام في أصول الأحكام)) (3/ 109). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (قد نَصَّ الأئِمَّةُ على أنَّ مَن أنكرَ العِلمَ القديمَ فهو كافِرٌ، ومِن هؤلاء غُلاةُ القدَريَّةِ الذين يُنكرونَ عِلمَه بأفعالِ العِبادِ قَبل أن يعمَلوها، والقائِلونَ بالبَداءِ مِنَ الرَّافِضةِ ونَحوِهم) [1462] ((درء تعارض العقل والنقل)) (9/ 396). .
وقال أيضًا: (كثيرٌ مِن شُيوخِ الرَّافِضةِ مَن يصِفُ اللهَ تعالى بالنَّقائِصِ كما تَقدَّمَ حِكايةُ بَعضِ ذلك؛ فزُرارةُ بنُ أعيَنَ وأمثالُه يقولونَ: يجوزُ البَداءُ عليه وأنَّه يحكمُ بالشَّيءِ ثُمَّ يتَبَيَّنُ له ما لم يكُنْ عَلِمَه، فينتَقِضُ حُكمُه لِما ظَهَرَ له مِن خَطَئِه! فإذا قال مِثلُ هؤلاء بأنَّ الأنبياءَ والأئِمَّةَ لا يجوزُ أن يخفى عليهم عاقِبةُ فِعْلِهم، فقد نَزَّهوا البَشَرَ عن الخَطَأِ مَعَ تجويزِهم الخَطَأَ على اللهِ! وكذلك هشامُ بنُ الحَكَمِ وزُرارةُ بنُ أعيَنَ وأمثالُهما مِمَّن يقولُ: إنَّه يعلمُ ما لم يكُنْ عالِمًا به. ومَعلومٌ أنَّ هذا مِن أعظَمِ النَّقائِصِ في حَقِّ الرَّبِّ) [1463] ((منهاج السنة النبوية)) (2/ 394). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (لا يُعلَمُ أحَدٌ يُجَوزُ النَّاسِخَ في أخبارِ اللهِ غَيرُ صِنفٍ مِنَ الرَّوافِضِ يَصِفونَه بالبَداءِ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا! فلم يزَلِ اللهُ سُبحانَه عالما بما يكونُ، ومُريدًا لِما عَلِمَ أنَّه سَيكونُ، لم يستَحدِثْ عِلمًا لم يكُنْ، ولا إرادةً لم تَكُنْ، فإذا أخبَرَ عن شَيءٍ أنَّه كائِنٌ فغَيرُ جائِزٍ أن يُخبرَ أبَدًا عن ذلك الشَّيءِ أنَّه لا يكونُ؛ لأنَّه لم يُخبِرْ أنَّه كائِنٌ إلَّا وقد عَلمَ أنَّه كائِنٌ، وأرادَ أن يكونَ، وهو الفاعِلُ لما يُريدُ، العالمُ بعَواقِبِ الأُمورِ، لا تَبدو له البَدَواتُ، ولا تَحُلُّ به الحَوادِثُ، ولا تَعتَقِبُه الزِّيادةُ والنُّقصانُ) [1464] ((أحكام أهل الذمة)) (2/ 1049). .
ولكِنَّ عُلماءَ الشِّيعةِ قديمًا وحَديثًا ينفونَ هذا المَعنى تَمامًا عن اللهِ تعالى؛ لأنَّه يستَلزِمُ الجَهلَ المُنَزَّهَ عنه رَبُّ العِزَّةِ سُبحانَه، ويُصَرِّحونَ بأنَّ حَقيقةَ البَداءِ عِندَهم بمَعنى النَّسخِ في الجُملةِ، وأنَّ استِعمالَ لَفظِ البَداءِ إنَّما هو مَجازيٌّ فقَط، أو بمَعنى إظهارِ شَيءٍ للعِبادِ بحَيثُ يتَوهَّمونَ مَعَه خِلافَ ما يُريدُ اللهُ تعالى وُقوعَه، كما سَيأتي بَيانُه.
وقد ألَّفوا رَسائِلَ في الرَّدِّ على مَن نَسبَ إليهم القَولَ بالبَداءِ على مَعنى أنَّ اللهَ تعالى لم يكُنْ يعلمُ ثُمَّ عَلِمَ. وبَعضُ الباحِثينَ مِن أهل السُّنَّةِ يرَونَ هذا تَحايُلًا وتَقيَّةً مِنَ الشِّيعةِ لإخفاءِ مُرادِهم الحَقيقيِّ في البَداءِ؛ كي لا يُنكِرَ عليهم ذلك مُنكِرٌ، فاللهُ تعالى أعلَمُ.
قال الصَّدوقُ ابنُ بابَويهِ القُمِّيُّ (ت 381ه) عن جَعفرٍ الصَّادِقِ: (أمَّا قَولُه: "ما بَدا للهِ في شَيءٍ كما بَدا له في إسماعيلَ ابني"؛ فإنَّه يقولُ: ما ظَهَرَ للهِ أمرٌ كما ظَهَرَ له في إسماعيلَ ابني؛ إذ اختَرَمَه في حَياتي ليُعلمَ بذلك أنَّه ليس بإمامٍ بعدي. وعِندَنا مَن زَعم أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يبدو له اليومَ في شَيءٍ لم يعلَمْه أمسِ فهو كافِرٌ، والبَراءةُ منه واجِبةٌ، كما رُويَ عن الصَّادِقِ عليه السَّلامُ. حَدَّثَنا أبي رَضِيَ اللهُ عنه، عن مُحَمَّدِ بنِ يحيى العَطَّارِ، عن مُحَمَّدِ بنِ أحمَدَ بنِ يحيى بن عَرمانَ الأشعَريِّ، قال: حَدَّثَنا أبو عَبدِ اللهِ الرَّازيُّ، عن الحَسَنِ بنِ الحُسَينِ اللُّؤلئيِّ عن مُحَمَّدِ بنِ سِنانٍ، عن عَمَّارٍ، عن أبي بَصيرٍ وسماعةَ، عن أبي عَبدِ اللهِ الصَّادِقِ عليه السَّلامُ قال: "مَن زَعَمَ أنَّ اللهَ يبدو له في شَيءٍ اليومَ لم يعلَمْه أمسِ فابرَؤوا منه". وإنَّما البَداءُ الذي يُنسَبُ إلى الإماميَّةِ القَولُ به هو ظُهورُ أمرِه. يقولُ العَرَبُ: بَدا لي شَخصٌ، أي: ظَهَرَ لي، لا بَداءُ نَدامةٍ، تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا [1465] ((كمال الدين)) (ص: 75). .
وقال الصَّدوقُ أيضًا: (ليسَ البَداءُ كما يظُنُّه جُهَّالُ النَّاسِ بأنَّه بداءُ نَدامةٍ -تعالى اللهُ عن ذلك-، ولكِن يجِبُ علينا أن نُقِرَّ للهِ عَزَّ وجَلَّ بأنَّ له البَداءَ، مَعناه أنَّ له أن يبدَأ بشيءٍ مِن خَلقِه فيخلُقُه قَبلَ شيءٍ، ثُمَّ يُعدِمُ ذلك الشَّيء ويبدأُ بخَلقِ غَيرِه، أو يأمُرُ بأمرٍ ثُمَّ ينهى عن مِثلِه، أو ينهى عن شيءٍ ثُمَّ يأمُرُ بمِثلِ ما نَهى عنه، وذلك مِثلُ نَسخِ الشَّرائِعِ، وتَحويلِ القِبلةِ، وعِدَّةِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها، ولا يأمُرُ اللهُ عِبادَه بأمرٍ في وقتٍ ما إلَّا وهو يعلَمُ أنَّ الصَّلاحَ لهم في ذلك الوقتِ في أن يأمُرَهم بذلك، ويعلمُ أنَّ في وقتٍ آخَرَ الصَّلاحُ لهم في أن ينهاهم عن مِثلِ ما أمَرَهم به، فإذا كان ذلك الوقتُ أمرَهم بما يُصلِحُهم، فمَن أقَرَّ للهِ عَزَّ وجَلَّ بأنَّ له أن يفعَلَ ما يشاءُ، ويُعدِمَ ما يشاءُ ويخلُقَ مَكانَه ما يشاءُ، ويُقدِّمَ ما يشاءُ ويُؤَخِّرَ ما يشاءُ، ويأمُرَ بما شاءَ كيف شاءَ؛ فقد أقَرَّ بالبَداءِ، وما عُظِّمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ بشيءٍ أفضَلَ مِنَ الإقرارِ بأنَّ له الخَلقَ والأمرَ، والتَّقديمَ والتَّأخيرَ، وإثباتَ ما لم يكُنْ، ومَحوَ ما قد كان، والبَداءُ هو رَدٌّ على اليهودِ لأنَّهم قالوا: إنَّ اللهَ قد فرَغَ مِنَ الأمرِ، فقُلنا: إنَّ اللهَ كُلَّ يومٍ في شَأنٍ، يُحيي ويُميتُ، ويرزُقُ، ويفعَلُ ما يشاءُ، والبَداءُ ليس مِن نَدامةٍ، وإنَّما هو ظُهورُ أمرٍ، تَقولُ العَرَبُ: بَدا لي شَخصٌ في طَريقي، أي: ظَهر، قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47] أي: ظَهَرَ لهم، ومتى ظَهَرَ للهِ تعالى ذِكرُه مِن عَبدٍ صِلةٌ لرَحِمِه زادَ في عُمرِه، ومتى ظَهَرَ له منه قَطيعةُ رَحِمٍ نَقص مِن عُمُرِه، ومتى ظَهَرَ له مِن عَبدٍ إتيانُ الزِّنا نَقَص مِن رِزقِه وعُمُرِه، ومتى ظَهَرَ له منه التَّعَفُّفُ عن الزِّنا زاد في رِزقِه وعُمُرِه) [1466] ((التوحيد)) (ص: 326). .
وقال المُفيدُ: (ت 413ه): (أقولُ في مَعنى البَداءِ ما يقولُ المُسلمونَ بأجمَعِهم في النَّسخِ وأمثالِه مِنَ الإفقارِ بَعد الإغناءِ، والإمراضِ بَعدَ الإعفاءِ، والإماتةِ بَعدَ الإحياءِ، وما يذهَبُ إليه أهلُ العَدلِ خاصَّةً مِنَ الزِّيادةِ في الآجالِ والأرزاقِ والنُّقصانِ منها بالأعمالِ.
فأمَّا إطلاقُ لفظِ البَداءِ فإنَّما صِرتُ إليه بالسَّمعِ الوارِدِ عن الوسائِطِ بَيْنَ العِبادِ وبَينَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولو لم يرِدْ به سَمعٌ أعلمُ صِحَّتَه ما استَجَزتُ إطلاقَه، كما أنَّه لو لم يَرِدْ على سَمعٍ بأنَّ اللهَ تعالى يغضَبُ ويرضى ويُحِبُّ ويَعجَبُ لَما أطلَقْتُ ذلك عليه سُبحانَه، ولكِنَّه لمَّا جاءَ السَّمعُ به صِرتُ إليه على المَعاني التي لا تَأباها العُقولُ، وليسَ بَيني وبَينَ كافَّةِ المُسلمينَ في هذا البابِ خِلافٌ، وإنَّما خالف مَن خالفَهم في اللَّفظِ دونَ ما سِواه، وقد أوضَحتُ عن عِلَّتي في إطلاقِه بما يَقصُرُ مَعَه الكلامُ، وهذا مَذهَبُ الإماميَّةِ بأسْرِها، وكُلُّ مَن فارَقَها في المَذهَبِ يُنكِرُه على ما وصَفتُ مِنَ الاسمِ دونَ المَعنى، ولا يرضاه [1467] ((أوائل المقالات)) (ص: 80). .
وقال الطُّوسيُّ (ت 460ه): (عن عُثمانَ النَّوا قال: سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ يقولُ: "كان هذا الأمرُ فيَّ فأخَّرَه اللهُ، ويفعَلُ بَعدُ في ذُرِّيَّتي ما يشاءُ".
فالوجهُ في هذه الأخبارِ أن نَقولَ -إن صَحَّت-: إنَّه لا يمتَنِعُ أن يكونَ اللهُ تعالى قد وقَّتَ هذا الأمرَ في الأوقاتِ التي ذُكِرت، فلمَّا تَجَدَّد ما تَجَدَّد تَغَيَّرَتِ المَصلحةُ واقتَضت تَأخيرَه إلى وقتٍ آخَرَ، وكذلك فيما بَعدُ، ويكونُ الوقتُ الأوَّلُ، وكُلُّ وقتٍ يجوزُ أن يُؤَخَّرَ مَشروطًا بألَّا يتَجَدَّدَ ما يقتَضي المُصلحةُ تَأخيرَه إلى أن يجيءَ الوقتُ الذي لا يُغَيِّرُه شيءٌ، فيكونُ مَحتومًا.
وعلى هذا يُتَأوَّلُ ما رُوِيَ في تَأخيرِ الأعمارِ عن أوقاتِها، والزِّيادةِ فيها عِندَ الدُّعاءِ والصَّدَقاتِ وصِلةِ الأرحامِ، وما رُوِيَ في تَنقيصِ الأعمارِ عن أوقاتِها إلى ما قَبلَه عِندَ فِعلِ الظُّلمِ وقَطعِ الرَّحِمِ وغَيرِ ذلك، وهو تعالى وإن كان عالمًا بالأمرَينِ، فلا يمتَنِعُ أن يكونَ أحَدُهما مَعلومًا بشَرطٍ، والآخَرُ بلا شَرطٍ، وهذه الجُملةُ لا خِلافَ فيها بَيْنَ أهلِ العَدلِ.
وعلى هذا يُتَأوَّلُ أيضًا ما روي مِن أخبارِنا المُتَضَمِّنةِ للفظِ البَداءِ، ويُبَيِّنُ أنَّ مَعناها النَّسخُ على ما يُريدُه جَميعُ أهلِ العَدلِ فيما يجوزُ فيه النَّسخُ، أو تُغَيَّرُ شُروطُها إن كان طَريقُها الخَبَرَ عن الكائِناتِ؛ لأنَّ البَداءَ في اللُّغةِ هو الظُّهورُ، فلا يمتَنِعُ أن يظهَرَ لنا مِن أفعالِ اللهِ تعالى ما كُنَّا نَظُنُّ خِلافَه، أو نَعلمُ ولا نَعلمُ شَرطَه... فأمَّا مَن قال: بأنَّ اللهَ تعالى لا يعلمُ بشيءٍ إلَّا بَعدَ كونِه، فقد كفَرَ وخَرَجَ عن التَّوحيدِ) [1468] ((الغيبة)) (ص: 264). .
وقال ابنُ المُطَهَّرِ الحليُّ (ت 726هـ): (البَداءُ هو الظُّهورُ، يُقالُ: بَدا لنا سورُ القَريةِ: إذا ظَهَرَ بَعدَ خَفائِه، وليسَ الأمرُ والنَّهيُ عن البَداءِ بسَبيلٍ، لكِنَّهما قد يدُلَّانِ عليه، وذلك بأن يتَّحِدَ الأمرُ والنَّهيُ في جَميعِ ما يتَعَلَّقانِ به، فيكونُ الأمرُ واحِدًا، وكذا المَأمورُ به والزَّمانُ والوَجهُ.
ولمَّا كان النَّسخُ يتَضَمَّنُ الأمرَ بما نُهي عنه، والنَّهيَ بما أُمِرَ به، وحَصَل الوهمُ لبَعضِ النَّاسِ بأنَّ المُصلحةَ والمَفسدةَ لازِمانِ لا يتَعاقَبانِ على فِعلٍ واحِدٍ، ظنَّ أنَّ الأمرَ بَعدَ النَّهيِ وبالعَكسِ إنَّما يكونُ لخَفاءِ المَصلحةِ أوَّلًا وظُهورِها ثانيًا.
ولمَّا خَفِي الفَرْقُ بَيْنَ النَّسخِ والبَداءِ على بَعضِ اليهودِ، مَنَعوا مِنَ النَّسخِ، كما امتَنَعَ البَداءُ عليه تعالى، والفَرقُ ظاهرٌ؛ فإنَّ شَرائِطَ البَداءِ إذا اختَلَّ بَعضُها انتَفى البَداءُ دونَ النَّسخِ.
والنَّسخُ جائِزٌ على اللهِ تعالى؛ لأنَّ حُكمَه تابعٌ للمَصالحِ، وهي مِمَّا يتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ الأزمانِ والأشخاصِ والأحوالِ، فيتَغَيَّرُ الحُكمُ حينَئِذٍ، وهو مَعنى النَّسخِ.
والبَداءُ لا يجوزُ عليه؛ لأنَّ أمرَه ونَهيَه إذا اتَّحَدَ مُتَعَلِّقُهما مِن كُلِّ وَجهٍ دَلَّ على الجَهلِ أو على فِعلِ القَبيحِ، وهما مُحالانِ في حَقِّه تعالى [1469] ((نهاية الوصول)) (2/595). .
وقال المَجلِسيُّ (ت 1111هـ): (اعلَمْ أنَّ البَداءَ مِمَّا ظُنَّ أنَّ الإماميَّةَ قد تَفرَّدت به، وقد شَنَّعَ عليهم بذلك كثيرٌ مِنَ المُخالفينَ، والأخبارُ في ثُبوتِها كثيرةٌ مُستَفيضةٌ... اعلَمْ أنَّه لمَّا كان البَداءُ -مَمدودًا- في اللُّغةِ بمَعنى ظُهورِ رَأيٍ لم يكُنْ، يُقالُ: بَدا الأمرُ بُدُوًّا: ظَهَرَ، وبَدا له في هذا الأمرِ بَداءٌ، أي: نَشَأ له فيه رَأيٌ، كما ذَكرَه الجَوهَريُّ وغَيرُه؛ فلذلك يُشكلُ القَولُ بذلك في جَنابِ الحَقِّ تعالى؛ لاستِلزامِه حُدوثَ عِلمِه تعالى بشيءٍ بَعدَ جَهلِه، وهذا مُحالٌ؛ ولهذا شَنَّعَ كثيرٌ مِنَ المُخالفينَ على الإماميَّةِ في ذلك نَظَرًا إلى ظاهرِ اللَّفظِ مِن غَيرِ تَحقيقٍ لمَرامِهم... وقد ورَدَ في أخبارِهم ما يدُلُّ على البَداءِ بالمَعنى الذي قالت به الشِّيعةُ أكثَرَ مِمَّا ورَدَ في أخبارِنا، كخَبَرِ دُعاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه على اليهوديِّ، وإخبارِ عيسى على نَبيِّنا وآلِه وعليه السَّلامُ، وأنَّ الصَّدَقةَ والدُّعاءَ يُغَيِّرانِ القَضاءَ، وغَيرِ ذلك. وقال ابنُ الأثيرِ في النِّهايةِ: في حَديثِ الأقرَعِ والأبرَصِ والأعمى: بَدَا للهِ عَزَّ وجَلَّ أن يبتَليَهم، أي: قَضى بذلك، وهو مَعنى البَداءِ هاهنا؛ لأنَّ القَضاءَ سابقٌ، والبَداءَ استِصوابُ شَيءٍ عُلمَ بَعدَ أنْ لم يُعلَمْ، وذلك على اللهِ غَيرُ جائِزٍ. انتَهى... واعلَمْ أنَّ هذا البابَ فيه مَجالٌ عَظيمٌ، فإن قال قائِلٌ: ألستُم تَزعُمونَ أنَّ المَقاديرَ سابقةٌ قد جَفَّ بها القَلمُ، فكيف يستَقيمُ مَعَ هذا المَعنى المَحوُ والإثباتُ؟ قُلنا: ذلك المَحوُ والإثباتُ أيضًا مِمَّا قد جَفَّ به القَلمُ، فلا يمحو إلَّا ما سَبَقَ في عِلمِه وقَضائِه مَحوُه، ثُمَّ قال: "قالتِ الرَّافِضةُ: البَداءُ جائِزٌ على اللهِ تعالى، وهو أن يعتَقِدَ شَيئًا ثُمَّ يظهَرَ له أنَّ الأمرَ بخِلافِ ما اعتَقدَه، وتَمَسَّكوا فيه بقَولِه تعالى: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ [الرعد: 39] "... ولا أدري مِن أينَ أَخذَ هذا القَولَ الذي افتَرى عليهم مَعَ أنَّ كُتُبَ الإماميَّةِ المُتَقدِّمينَ عليه، كالصَّدوقِ والمُفيدِ والشَّيخِ، والمُرتَضى، وغَيرهم رِضوانُ اللهِ عليهم، مَشحونةٌ بالتَّبَرِّي عن ذلك... وقد قيل فيه وُجوهٌ أُخَرُ:
الأوَّلُ: ما ذَكرَه السَّيِّدُ الداماد قدَّسَ اللهُ رُوحَه في نِبراسِ الضِّياءِ؛ حَيثُ قال: البَداءُ مَنزِلتُه في التَّكوينِ مَنزِلةُ النَّسخِ في التَّشريعِ، فما في الأمرِ التَّشريعيِّ والأحكامِ التَّكليفيَّةِ نَسخٌ فهو في الأمرِ التَّكوينيِّ والمُكوَّناتِ الزَّمانيَّةِ بداءٌ؛ فالنَّسخُ كأنَّه بداءٌ تَشريعيٌّ، والبَداءُ كأنَّه نَسخٌ تَكوينيٌّ، ولا بداءَ في القَضاءِ ولا بالنِّسبةِ إلى جَنابِ القُدسِ...
الثَّاني: ما ذَكرَه بَعضُ الأفاضِلِ في شَرحِه على الكافي وتَبِعَه غَيرُه مِن مُعاصِرينا، وهو أنَّ القوى المُنطَبعةَ الفلكيَّةَ لم تُحِطْ بتَفاصيلِ ما سَيقَعُ مِنَ الأُمورِ دُفعةً واحِدةً؛ لعَدَمِ تَناهي تلك الأُمورِ، بل إنَّما ينتَقِشُ فيها الحَوادِثُ شَيئًا فشَيئًا وجُملةً فجُملةً، مَعَ أسبابِها وعِلَلِها على نَهجٍ مُستَمِرٍّ ونِظامٍ مُستَقِرٍّ، فإنَّ ما يَحدُثُ في عالمِ الكونِ والفسادِ فإنَّما هو مِن لوازِمِ حَرَكاتِ الأفلاكِ المُسَخَّرةِ للهِ تعالى ونَتائِجِ بَرَكاتِها، فهي تُعلمُ أنَّه كُلَّما كان كذا، كان كذا، فمَهما حَصَل لها العِلمُ بأسبابِ حُدوثِ أمرٍ ما في هذا العالمِ حَكمتَ بوُقوعِه فيه، فينتَقِشُ فيها ذلك الحُكمُ، ورُبَّما تَأخَّرَ بَعضُ الأسبابِ الموجِبُ لوُقوعِ الحادِثِ على خِلافِ ما يوجِبُه بَقيَّةُ الأسبابِ لولا ذلك السَّبَبُ، ولم يحصُلْ لها العِلمُ بذلك بَعدُ؛ لعَدَمِ اطِّلاعِها على سَبَبِ ذلك السَّبَبِ، ثُمَّ لمَّا جاءَ أوانُه واطَّلعت عليه حَكَمت بخِلافِ الحُكمِ الأوَّلِ، فيُمحى عنها نَقشُ الحُكمِ السَّابقِ، ويَثبُتُ الحُكمُ الآخَرُ... وأمَّا نِسبةُ ذلك كُلِّه إلى اللهِ تعالى فلأنَّ كُلَّ ما يجري في العالَمِ الملَكوتيِّ إنَّما يجري بإرادةِ اللهِ تعالى، بل فِعلُهم بعَينِه فِعلُ اللهِ سُبحانَه؛ حَيثُ إنَّهم لا يعصونَ اللهَ ما أمَرَهم ويفعَلونَ ما يُؤمَرونَ...
الثَّالثُ: ما ذَكرَه بَعضُ المُحَقِّقينَ؛ حَيثُ قال: تَحقيقُ القَولِ في البَداءِ أنَّ الأُمورَ كُلَّها عامَّها وخاصَّها، ومُطلَقَها ومُقَيَّدَها، وناسِخَها ومَنسوخَها، ومُفرَداتِها ومُرَكَّباتِها، وإخباراتِها وإنشاءاتِها، بحَيثُ لا يشِذُّ عنها شيءٌ مُنتَقَشةٌ في اللَّوحِ، والفائِضُ منه على المَلائِكةِ والنُّفوسِ العُلويَّةِ والنُّفوسِ السُّفليَّةِ قد يكونُ الأمرَ العامَّ المُطلَقَ أو المَنسوخَ حَسَبَ ما تَقتَضيه الحِكمةُ الكامِلةُ مِنَ الفيضانِ في ذلك الوقتِ، ويتَأخَّرُ المُبيِّنُ إلى وقتٍ تَقتَضي الحِكمةُ فيضانَه فيه، وهذه النُّفوسُ العُلويَّةُ وما يُشبِهُها يُعَبَّرُ عنها بكِتابِ المَحوِ والإثباتِ، والبَداءُ عِبارةٌ عن هذا التَّغييرِ في ذلك الكِتابِ.
الرَّابعُ: ما ذَكرَه السَّيِّدُ المُرتَضى رِضوانُ اللهِ عليه في جَوابِ مَسائِلِ أهلِ الرَّيِّ، وهو أنَّه قال: المُرادُ بالبَداءِ النَّسخُ، وادَّعى أنَّه ليس بخارِجٍ عن مَعناه اللُّغَويِّ. أقولُ: هذا ما قيل في هذا البابِ، وقد قيل فيه وُجوهٌ أُخَرُ، لا طائِلَ في إيرادِها) [1470] ((بحار الأنوار)) (4/122- 130). .
وقال مُحَمَّد حُسَين كاشِف الغِطاء (ت 1373ه): (يحسَبُ عامَّةُ المُسلمينَ -جَمَعَ اللهُ كلمَتَهم- أنَّ هذه الكَلِمةَ مِمَّا انفرَدت بها الإماميَّةُ، واعتدُّوها شَناعةً كُبرى عليهم. ولو تَمَحَّصَتِ الحَقائِقُ واستَوضَحَتِ المَقاصِدُ وزالت أغشيةُ الأوهامِ التي تَحولُ بَيْنَ الحَقيقةِ والأفهامِ، لانكسَرَتِ السَّورةُ وانكبحَت الشِّرَّةُ، ولعَرفَ الجَميعُ أنَّهم مُتَّفِقونَ على مَقالةٍ واحِدةٍ، وأنَّ النِّزاعَ بَينَهم لم يكُن إلَّا لفظيًّا...
أمَّا مَسألةُ البَداءِ فهي مِن أوائِلِ الأُمورِ المَعقولةِ، وأجلى الحَقائِقِ الرَّاهنةِ، وأبينِ النَّواميسِ الإسلاميَّةِ، وأشرَفِ النُّعوتِ الإلهيَّةِ، وأعَزِّ الصِّفاتِ القُدسيَّةِ. هَل البَداءُ إلَّا ثَمَرُ حُرِّيَّةِ الإرادةِ ونِتاجُ إطلاقِ الاختيارِ والمَشيئةِ الذي هـو حَقٌّ خُصوصيٌّ لذاتِ العِزَّةِ ومالِكِ المُلكِ على الحَقيقةِ؟! هَل البَداءُ إلَّا أن لا تَكونَ يدُ اللهِ مَغلولةً، وأن يكونَ كُلَّ يومٍ في شَأنٍ، وأن يتَصَرَّفَ في مُلكِه كيف ما شاءَ وحَيثُ ما أرادَ، وأن يكونَ الفيضُ منه دائمًا والتَّصَرُّفُ متتاليًا، فلا يكونُ فارغًا معطَّلًا ولا منبوذًا مُهمَلًا. تعالى اللهُ عَمَّا يقولونَ علوًّا كبيرًا؟!
يُريدُ الإنسانُ أن تَسلمَ له حُرِّيَّةُ إرادَتِه وطَلاقةُ اختيارِه وتَمشيةُ مَشيئتِه، ولا يكونُ ذلك للمالكِ الذي وهَبَه هذه الرُّوحَ الحَيويَّةَ التي هي إحدى مُقَوِّماتِ الحَقيقةِ الإنسانيَّةِ!
يُريدُ الإنسانُ أن يجعَل نَفسَه حقيقًا بالتَّصَرُّفِ، حَريًّا بحُرِّيَّةِ الاختيارِ، مُطلقَ الإرادةِ، ويجعَلَ باريَه مقيَّدًا محدودًا لا فُسحةَ له في التَّصَرُّفِ ولا حِصَّةَ له في التَّكوينِ والتَّدبيرِ، ولا سَبيلَ له إلى الإحداثِ والتَّجديدِ والتَّغييرِ والتَّبديلِ، ذاهلًا عن صَراحةِ قَولِه في كِتابِه الكريمِ: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد: 39] ، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، وما لا يُحصى مِن نَظائِرِ ذلك! ولكِنْ حَسِبَ المُنكِرونَ للبَداءِ المُؤَلِّبون بالشَّناعةِ على مَن يقولُ به أنَّ هذه المَزعَمةَ تَستَلزِمُ الجَهلَ في حَقِّه تعالى وتَقضي بمُشارَكتِه لخَلقِه فـي ظُهورِ الشَّيءِ لهم بَعدَ خَفائِه، وبُروزِه بَعدَ استِتارِه، حَيثُ يتَعاورُ عليهم العِلمُ والجَهلُ، ويتَمَشَّى فيهم الحُدوثُ والتَّجَدُّدُ، وتلك خاصَّةُ المُمكِناتِ وصِفةُ المُحدَثاتِ، يتَقدَّسُ ويتعالى عنها الواجِبُ بالذَّاتِ. يا هل تُرى أنَّ البَدائيِّين أرادوا -مَعاذَ اللهِ- أن يُثبتوا الجَهلَ لحَضرَتِه، وينسُبوا النَّقصَ إلى كمالِه ويبخَسوا أقدَسَ صِفاتِه، أم أنَّهم جَهِلوا هذا الاستِلزامَ الجَليَّ ومفسَدةَ التَّالي، ومَضَلَّةَ هذه الغايةِ؟ كَلَّا، فإنَّ الأمرَ أوضَحُ وأَجلى) [1471] ((الدين والإسلام)) (ص: 401). .
وقال المازندرانيُّ (ت 1391هـ) في شَرحِ بابِ البَداءِ مِن أُصولِ الكافي للكُلينيِّ: (البَداءُ بالفتحِ والمَدِّ في اللُّغةِ: ظُهورُ الشَّيءِ بَعدَ الخَفاءِ، وحُصولُ العِلمِ به بَعدَ الجَهلِ، واتَّفقَتِ الأُمَّةُ على امتِناعِ ذلك على اللهِ سُبحانَه، إلَّا مَن لا يُعتَدُّ به، ومَن افتَرى ذلك على الإماميَّةِ فقد افتَرى كذِبًا، والإماميَّةُ منه بَراءٌ) [1472] ((شرح أصول الكافي)) (4/236). .
وقال الخُمينيُّ (ت 1409هـ): (كانت مَسألةُ البَداءِ ولسِنينَ طَويلةٍ مَثارَ جَدَلٍ بَيْنَ السُّنَّةِ والشِّيعةِ، وهي مِن مَسائِلِ الفلسَفةِ التي قيلت فيها الكَلِماتُ وجَرَتِ المُحاوراتُ... إنَّ البَداءَ بمَعنى أن يتَّخِذَ اللهُ تصميمًا على فِعلٍ، ثُمَّ يعدِلَ عنه: أمرٌ مُحالٌ غَيرُ مُمكِنٍ، وقد ذَكرَ عُلماؤُنا أنَّ مَن يعتَقِدُ ذلك في حَقِّ اللهِ كافِرٌ، ولا يوجَدُ بَيْنَ الشِّيعةِ طُرًّا مَن يقولُ بذلك كما تُوُهِّم، ونحن بافتِخارٍ كامِلٍ واطمِئنانٍ نَقولُ: إنَّه لا يوجَدُ بَيْنَ المَذاهِبِ الإسلاميَّةِ والفِرَقِ البَشَريَّةِ مِثلُ مَذهَبِ الشِّيعةِ في تَقديسِ اللهِ وتَنزيهِه عن الأشياءِ غَيرِ الجائِزةِ عليه، ومَن يُنكِرُ ذلك فليُراجِعْ كُتُبَ عُلمائِنا الكِبارِ ابتِداءً مِن زَمانِ الغَيبةِ حتَّى الآنَ، ككُتُبِ السَّيِّدِ المُرتَضى، والشَّيخِ المُفيدِ، والشَّيخِ الطُّوسيِّ، والخَواجةِ نصيرِ الدِّينِ الطُّوسيِّ، والصَّدوقِ، ومِنَ المُتَأخِّرينَ المُحَقِّقُ الداماد، وصَدرُ المُتَألِّهينَ، والفيضُ الكاشانيُّ، والمجلسيَّانِ الأوَّلُ والثَّاني، وسائِرُ عُلماءِ هذه الطَّائِفةِ؛ فإنَّ جَميعَ هؤلاء المُحَقِّقينَ والعُلماءِ جَزَموا بعَدَمِ إمكانِ ذلك في حَقِّه تعالى. فماذا يجِبُ أن نَفعَل إن كان هؤلاء الثَّرثارون يَنسُبون إلينا أنَّنا نَدُلُّ على إلهٍ يتَّخِذُ تصميمًا على أمرٍ ويتَراجَعُ عنه، ويُفسِّرونَ رِوايةً كما يحلو لهم وينسُبونَ هذا التَّفسيرَ للمُؤمِنينَ، وهو تَفسيرٌ واهٍ؟!... البَداءُ في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ بمَعنى الظُّهورِ، فاللهُ تعالى يُظهرُ أحيانًا ولمَصالحَ معيَّنـةٍ يَقصُرُ إدراكُ البَشَرِ عن فهمِها، يُظهرُ شيئًا بحَيثُ يظُنُّ الإنسانُ أنَّ هذا العَمَلَ مُرادُ اللهِ، لكِن لا يفعَلُ اللهُ ذلك، ولم يكُنْ يُريدُه مِن أوَّلِ الأمرِ، ففي أيـَّامِ مزوردين يكونُ الرَّعدُ والبَرقُ وتُغَطِّي الغُيومُ الشَّمسَ، فيظهَرُ للجَميعِ مُقدِّماتُ المَطَرِ، فيقولُ النَّاسُ: أرسَل اللهُ المَطَرَ، وهذا رَحمةٌ منه، فلا يمضي وقتٌ حتَّى تَتَفرَّقَ الغُيومُ وتَنكشِفَ الشَّمسُ مِن بَيْنَ الغُيومِ دونَ أن تُمطِرَ، واللهُ مِن أوَّلِ الأمرِ لم يكُنْ يُريدُ للسَّماءِ أن تُمطِرَ... المَعنى الآخَرُ للبَداءِ: هو أنَّ بَعضَ الأُمورِ تَرتَبطُ ببَعضِها البَعض بحَيثُ إذا لم يوجَدْ أحـدُهـا يثبُتُ للآخَرِ حُكمٌ، وإذا وُجِدَ ثَبت له حُكمٌ آخَرُ. فالحَربُ الأوروبِّيَّةُ المُميتةُ إن لم تَحصُلْ لكانتِ المَوادُّ الغِذائيَّةُ في إيرانَ مُتَوفِّرةٌ وبسِعرٍ مُنخَفِضٍ، لكِن لمَّا اندَلعَتِ الحَربُ حَصَل الغَلاءُ، وقَلَّتِ المَوادُّ. فهذانَ الأمرانِ مُتَرابطانِ... وماذا تَقولونَ فيما ورَدَ في الآياتِ حَولَ استِجابةِ الدُّعاءِ وقَبولِ التَّوبةِ مثلًا في سورةِ المُؤمِن الآية 62: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ؟... هنا أيضًا يجِبُ أن يقولوا: ما هو الإلهُ الكثيرُ الخَيالِ، يُقَرِّرُ اليومَ شيئًا كأن يُمرِضَ شخصًا أو يُميتَه، ثُمَّ يعدِلُ عن قَرارِه؟! بل قولوا أكثَرَ مِن ذلك: مَن هو هذا الإلهُ الكثيرُ الخَيالِ الذي ينشُرُ بَيْنَ النَّاسِ يومًا دينَ موسى ويجعَلُ التَّوراةَ كِتابَ البَشَر الدِّينيَّ، ثُمَّ يعدِلُ عن ذلك وينشُرُ دينَ الإسلامِ؟ فعانِدوا وقولوا: هذه الأديانُ ليست مِنَ اللهِ. أكثَرَ مِن ذلك قولوا: إنَّ اللهَ يخلُقُ اليــومَ جَماعةً، فيَندَمُ غدًا فيخلُقُ خلقًا آخَرَ ويُميتُ الأوائِلَ، فأيُّ إلـهٍ هذا الذي يُمرِضُ أحيانًا ويُعافي أحيانًا أُخرى؟! يُقَرِّرُ أن يُعَذِّبَ المُذنِبينَ فيتوبونَ ويُدخِلُهم الجَنَّة؟ يجعَلُ يومًا فـلانًا ملِكًا ويُسَلِّطُه على النَّاسِ ثُمَّ يُذِلُّه! ويأمُرُ إبراهيمَ الخَليلَ بأن يذبَحَ إسماعيلَ لكِن عِندَما يُريدُ أن يُقدِمَ على ذلك يُرسِلُ اللهُ الفِداءَ! ويعِدُ موسى بنَ عِمرانَ بثَلاثينَ يومًا وعِندَما تَنتَهي يُضيفُ إليها عَشَرةَ أيَّامٍ أُخرى!
إنَّ العالمَ كُلَّه مَبنيٌّ على هذه التَّغييراتِ والتَّبديلاتِ، والزَّمانُ دائمًا عُرضةٌ للحَوادِثِ اليوميَّةِ. فهَل تَقولونَ: إنَّ اللهَ لا عَلاقةَ له بهذه الأُمورِ بل ذَهَبَ واستَراحَ؟ أم تَقولونَ: إنَّ التَّصَرُّفَ في جَميعِ الأُمورِ حَقُّه؟ والحَجَرُ لا يتَحَرَّكُ مِن مَكانِه إلَّا بإرادَتِه؟) [1473] ((كشف الأسرار)) (ص: 98). .
وقال مُحَمَّد عَلي الحَكيمُ: (... لو أنَّهم كلَّفوا أنفُسَهم جُهدًا قَليلًا بَحَثوا فيما كتَبَه عُلماءُ الإماميَّةِ في البَداءِ ومَفهومِه، لوجَدوا أنَّ الحَقَّ مَعَهم؛ ولذلك انبَرى عُلماءُ الإماميَّةِ للرَّدِّ على افتِراءاتِ المُفتَرينَ وشُبُهاتِ المُبطِلينَ، فأودَعوا مَوسوعاتِهم الحديثيَّةَ ما ورَدَ في البَداءِ مِن رِواياتٍ عن العِترةِ الطَّاهرةِ عليهم السَّلامُ، وكتَبوا فيه فُصولًا ومَباحِثَ خاصَّةً في كُتُبِهم الكلاميَّةِ والعَقائِديَّةِ وغَيرِها، كما أفرَدوا له كتُبًا ورَسائِلَ خاصَّةً، فلا يكادُ يخلو أيُّ كِتابٍ ألِّفَ في العَقائِدِ أو الكلامِ -ورُبَّما في غَيرِها- مِنَ البَحثِ في البَداءِ.
فقد أحصى الشَّيخُ آقا بزرك الطِّهرانيُّ رَحِمَه اللهُ في مَوسوعَتِه القَيِّمةِ "الذَّريعة" نَحوًا مِن 30 كِتابًا أو رِسالةً مُستَقِلَّةً صُنِّفت في هذا المَجالِ، تَوضيحًا لمَفهومِه العَقائِديِّ وما المُرادُ منه، أو دِفاعًا عن الاعتِقادِ به ورَدًّا للشُّكوكِ والشُّبُهاتِ المُحاكةِ حَولَه. وإذا أضَفنا إلى ما تَقدَّمَ كُتُبًا ورَسائِلَ أُخرى قد أُلِّفت في نَفسِ المَوضوعِ في الفترةِ التي تَلت إتمامَ تَأليفِ "الذَّريعة" أو مِمَّا فاتَ الشَّيخَ الطِّهرانيَّ تَسجيلُه فيها، لكان العَدَدُ المُحصى غَيرَ هذا.
أمَّا إذا حاوَلْنا استِقصاءَ ما كُتِبَ عن البَداءِ -كفُصولٍ وبُحوثٍ- ضِمنَ الكُتُبِ المُختَلفةِ، لكان إحصاءُ ذلك أمرًا عَسيرًا. مِن ذلك كُلِّه يظهَرُ مَدى اهتِمامِ عُلَمائِنا بأمرِ البَداءِ لدِقَّةِ مَطلَبِه وحَساسيتِه) [1474] مقدمة ((رسالتان في البداء)) (ص: 8). .

انظر أيضا: