موسوعة الفرق

المَسألةُ الأولى: القَولُ بأنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ


القُرآنُ كلامُ اللهِ مُنزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ، وعلى هذا دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ وإجماعُ السَّلَفِ [1399] يُنظر في تقريرِ مذهَبِ السَّلَفِ في هذه المسألةِ والرَّدِّ على المخالِفين: ((الرد على الزنادقة والجهمية)) لأحمد بن حنبل، ((خلق أفعال العباد)) للبخاري، ((الرد على الجهمية)) للدارمي، ((رد عثمان بن سعيد على المريسي العنيد))، ((الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة)) لابن قتيبة، ((الرد على من يقول القرآن مخلوق)) للنجاد، ((الرد على الجهمية)) لابن منده، وغيرها من كتُبِ المتقَدِّمين. .
وأمَّا الشِّيعةُ الإماميَّةُ فمَذهَبُهم القَولُ بخَلقِ القُرآنِ، وقد عَقدَ شَيخُ الشِّيعةِ في زَمَنِه المَجلِسيُّ في كِتابِه (بحار الأنوارِ) بابًا بعُنوانِ: (بابُ أنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ) [1400] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (92/ 117-121). أورَدَ فيه 11 رِوايةً، ومُعظَمُ هذه الرِّواياتِ تُخالفُ ما ذَهَبَ إليه، ولكِن لشُيوخِ الشِّيعةِ مَسلكٌ آخَرُ في تَأويلِها.
وقال آيةُ اللهِ العُظمى لدى الشِّيعةِ مُحسِن الأمينِ العامِليُّ: (قالتِ الشِّيعةُ والمُعتَزِلةُ: القُرآنُ مَخلوقٌ) [1401] ((أعيان الشيعة)) (1/461). .
وهذا بناءً على إنكارِهم صِفةَ الكلامِ للهِ سُبحانَه، وزَعمِهم أنَّ اللهَ (يوجِدُ الكلامَ في بَعضِ مَخلوقاتِه كالشَّجَرةِ حينَ كلَّمَ موسى، وكجبرائيلَ حينَ أُنزِل بالقُرآنِ) [1402] ((أعيان الشيعة)) لمحسن الأمين (1/453). .
إنَّ مَسألةَ خَلقِ القُرآنِ مِن عَقائِدِ أهلِ الاعتِزالِ، كما قال القاضي عَبدُ الجَبَّارِ: (أمَّا مَذهَبُنا في القُرآنِ فهو أنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ تعالى ووَحيُه، وهو مَخلوقٌ مُحدَثٌ) [1403] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 528)، ويُنظر: ((المحيط بالتكليف)) لعبد الجبار (ص: 331). .
وأوَّلُ مَن قال بهذه المَقالةِ هو الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ [1404] قال الذَّهبيُّ: (الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ عدادُه في التَّابعينَ مبتدِعٌ ضالٌّ، زعم أنَّ اللهَ لم يتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا، ولم يكَلِّمْ موسى، فقُتِل على ذلك بالعِراقِ يومَ النَّحرِ). ((ميزان الاعتدال)) (1/ 399). وقال ابنُ حَجَرٍ: (وللجَعدِ أخبارٌ كثيرةٌ في الزَّندقةِ) ((لسان الميزان)) (2/105). .
قال عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ أبي حاتِمٍ: سَمِعتُ أبي يقولُ: (أوَّلُ مَن أتى بخَلقِ القُرآنِ الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ) [1405] رواه اللالكائي في ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (ص: 382)‍. .
ثُمَّ تَلقَّى ذلك عنه الجَهمُ بنُ صَفوانَ [1406] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/127)، ((مجموع الفتاوى)) (5/20)، ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/244) جميعها لابن تَيميَّةَ، ((سرح العيون)) لابن نباتة (ص: 293). .
وقد ذَكرَ بَعضُ العُلماءِ أنَّ الجَعدَ أخَذَ القَولَ بخَلقِ القُرآنِ عن أبانَ بنِ سَمعانَ، وأخَذَه أبانُ عن طالوتَ ابنِ أُختِ لَبيدِ بنِ الأعصَمِ اليهوديِّ الذي سَحَرَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه كان يقولُ بخَلقِ التَّوراةِ، وكان طالوتُ زِنديقًا، وهو أوَّلُ مَن صَرَّحَ بذلك، ثُمَّ أظهَره الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ، واللهُ أعلَمُ [1407] يُنظر: ((الكامل)) لابن الأثير (5/294)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (5/20)، ((سرح العيون)) لابن نباتة (ص: 293)، ((لوامع الأنوار)) للسفاريني (1/23). .
وقد كان الجَعدُ بنُ دِرهَمٍ مِن أهلِ حرَّانَ، وكان فيهم مِن بَقايا الصَّابئينَ والفلاسِفةِ خُصومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فأنكرَ تَكليمَ موسى، وخُلَّةَ إبراهيمَ عليهما السَّلامُ؛ بناءً على أصلِ هؤلاء النُّفاةِ، وهو أنَّ الرَّبَّ تعالى لا يقومُ به كلامٌ ولا مَحَبَّةٌ لغَيرِه، ثُمَّ انتَشَرت مَقالتُه [1408] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تَيميَّةَ (7/175). .
ومِنَ العَجيبِ أنَّ أكثَرَ الرِّواياتِ التي ينقُلُها الشِّيعةُ عن آلِ البَيتِ في هذه المَسألةِ يُخالفُ ما ذَهَبوا إليه! فمِن ذلك: ما رَوَوه عن الرِّضا أنَّه سُئِل عن القُرآنِ، فقال: (إنَّه كلامُ اللهِ غَيرُ مَخلوقٍ) [1409] ((تفسير العياشي)) (1/8). .
وفي رِوايةٍ أنَّه قيل لأبي الحَسَنِ موسى الكاظِمِ: (يا ابنَ رَسولِ اللهِ، ما تَقولُ في القُرآنِ؛ فقد اختَلف فيه مَن قَبلنا، فقال قَومٌ: إنَّه مَخلوقٌ، وقال قَومٌ: إنَّه غَيرُ مَخلوقٍ؟ فقال رَضِيَ اللهُ عنه: أمَا إنِّي لا أقولُ في ذلك ما يقولونَ، ولكِنِّي أقولُ: إنَّه كلامُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ) [1410] يُنظر: ((التوحيد)) لابن بابويه (ص: 224). .
وفي هذا المعنى رواياتٌ كثيرةٌ عِندَهم [1411] يُنظر: ((التوحيد)) لابن بابويه (ص: 223-229)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (92/117-121). .
وقد أوَّل شَيخُ الشِّيعةِ في زَمَنِه ابنُ بابَويهِ القُمِّيُّ هذه النُّصوصَ بأنَّ قَولَ الأئِمَّةِ: القُرآنُ غَيرُ مَخلوقٍ، يعني أنَّه: (غَيرُ مَكذوبٍ، لا يعني به أنَّه غَيرُ مُحدَثٍ) [1412] ((التوحيد)) (ص: 225). ويُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (92/119). . وقال: (إنَّما امتَنَعنا مِن إطلاقِ المَخلوقِ عليه؛ لأنَّ المَخلوقَ في اللُّغةِ قد يكونُ مَكذوبًا، ويُقال: كلامٌ مَخلوقٌ، أي: مَكذوبٌ) [1413] ((التوحيد)) (ص: 225). ويُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (92/119). .
ولا شَكَّ أنَّ هذا التَّأويلَ لا يُسَلَّمُ له؛ لأنَّه مِنَ الواضِحِ أنَّ النُّصوصَ السَّابقةَ تَرِدُ على ما ذَهَبَ إليه أهلُ الاعتِزالِ مِنَ القَولِ بأنَّ القُرآنَ مَخلوقٌ، فقال السَّلَفُ رَدًّا عليهم: إنَّه غَيرُ مَخلوقٍ، ولم يُريدوا بذلك أنَّه غَيرُ مَكذوبٍ، كما زَعَمَ ابنُ بابَويهِ وغَيرُه؛ فإنَّ أحَدًا مِنَ المُسلمينَ لم يقُلْ: إنَّه مَكذوبٌ، وإنَّما قال بَعضُهم: إنَّه مَخلوقٌ خَلقَه في غَيرِه، فرَدَّ السَّلفُ هذا القَولَ، كما تَواتَرَتِ الآثارُ عنهم بذلك، وصَنَّف فيه العُلماءُ مُصَنَّفاتٍ مُتَعَدِّدةً [1414] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (12/301). .
وعن ابنِ بابَويهِ تَأويلٌ آخَرُ، وهو أن تُحملَ تلك النُّصوصُ الصَّريحةُ عن الأئِمَّةِ في أنَّ القُرآنَ غَيرُ مَخلوقٍ، على التَّقيَّةِ، قال: (ولعَلَّ المَنعَ مِن إطلاقِ الخَلقِ على القُرآنِ إمَّا للتَّقيَّةِ مُماشاةً مَعَ العامَّةِ، أو لكونِه موهِمًا لمَعنًى آخَرَ أطلقَه الكفَّارُ عليه بهذا المَعنى في قَولِهم: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ [ص: 7] ) [1415] يُنظر: ((تفسير الصّراط المستقيم)) للبروجردي (1/304). .
والرِّواياتُ المَنقولةُ في كُتُبِهم عن أهلِ البَيتِ بأنَّ كلامَ اللهِ مُنزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ توافِقُ ما في كُتُبِ أهلِ السُّنَّةِ؛ فقد أخرَجَ البُخاريُّ في كِتابِ أفعالِ العِبادِ [1416] ((خلق أفعال العباد)) (ص: 36). ، وابنُ أبي حاتمٍ [1417] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تَيميَّةَ (2/187). ، وأبو سعيدٍ الدَّارميُّ [1418] يُنظر: ((الرد على الجهمية)) (ص: 101). ، والآجُرِّيُّ [1419] يُنظر: ((الشريعة)) (ص: 77). ، والبَيهقيُّ [1420] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 36)، ((الأسماء والصفات)) (ص: 247). ، واللَّالَكائيُّ في شَرحِ أصولِ اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ [1421] ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة)) (2/238، 241). ، وأبو داودَ [1422] ((مسائل الإمام أحمد)) (ص: 265). عن جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال حينَما سُئِل عن القُرآنِ: (ليسَ بخالقٍ ولا مَخلوقٍ).
قال البَيهَقيُّ: (هو عن جَعفرٍ صَحيحٌ مَشهورٌ، وقد رُوِيَ ذلك عن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ عن أبيه عَليِّ بنِ الحُسَينِ، ورُوِيَ عن الزُّهريِّ عن عَليِّ بنِ الحُسَينِ، ورُوِّيناه مِن أوجِهٍ عن مالكِ بنِ أنَسٍ، وهو مَذهَبُ كافَّةِ أهلِ العِلمِ قديمًا وحَديثًا) [1423] ((الاعتقاد)) (ص: 39). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (إنَّه قد استَفاضَ ذلك عن جَعفَرٍ) [1424] ((منهاج السنة)) (1/278). .
فالاعتِقادُ بأنَّ القُرآنَ مُنزَّلٌ غَيرُ مَخلوقٍ هو الثَّابتُ عن أهلِ البَيتِ؛ فليسَ مِن أئِمَّةِ أهلِ البَيتِ مَن يقولُ بخَلقِ القُرآنِ، ولكِنَّ الإماميَّةَ تُخالفُ أهلَ البَيتِ في عامَّةِ أُصولِهم [1425] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تَيميَّةَ (1/296). .
أمَّا قَولُ الشِّيعةِ مُتابَعةً للمُعتَزِلةِ بأنَّ كلامَ اللهِ لموسى خَلقَه في شَجَرةٍ؛ فهو مُخالفٌ لصَريحِ قَولِه سُبحانَه: وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ، فالتَّأكيدُ بالمَصدَرِ (تَكليمًا) ينفي التَّأويلُ الذي يُشيرونَ إليه؛ ولذا قال غَيرُ واحِدٍ مِنَ العُلماءِ: التَّوكيدُ بالمَصدَرِ ينفي المَجازَ [1426] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (12/515). ، ولو كان الأمرُ على ما يدَّعونَ لم يكُنْ في ذلك مَزيَّةٌ لموسى عليه السَّلامُ، ولا فضيلةٌ اختَصَّ بها؛ فإنَّ (مَن سَمِعَ كلامَ اللهِ مِن مَلَكٍ أو مِن نَبيٍّ أتاه به مِن عِندِ اللهِ أفضَلُ مَرتَبةً في سَماعِ الكلامِ مِن موسى؛ لأنَّهم سَمِعوه مِن نَبيٍّ، وموسى سَمِعَه مِن شَجَرةٍ، ويلزَمُهم أن تَكونَ الشَّجَرةُ هي التي قالت: إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه: 14] ! وهذا ظاهرُ الفسادِ) [1427] يُنظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 33). .
والعَجَبُ أنَّهم حينَ يُنكِرونَ مُناجاةَ اللهِ لموسى ومُناداتَه، وزَعمِهم أنَّ الشَّجَرةَ هي التي كلَّمت موسى عليه السَّلامُ، لم يأخُذوا بهذا المَنهَجِ فيما يتَّصِلُ بحَديثِهم عن فضائِل الأئِمَّةِ؛ ففي كِتابِ (بحار الأنوارِ) بابٌ بعُنوانِ (بابُ أنَّ اللهَ تعالى ناجاه صَلواتُ اللهِ عليه) [1428] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (39/151). ، وساقَ فيه المَجلِسيُّ مَجموعةً مِن رِواياتِهم في هذا المَعنى!
وفي إحدى رِواياتِهم: (لمَّا بَعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَراءةَ مَعَ أبي بَكرٍ، وأنزَل اللهُ عليه: تَترُكُ مَن ناجَيتُه غَيرَ مَرَّةٍ، وتَبعَثُ مَن لم أُناجِه؟! [1429] لاحِظْ هنا أنَّ اللهَ -بزعمِهم- عاتَب رسولَ اللهِ، وبيَّن خطأَه، وهذا يناقِضُ دعوى العِصمةِ المُطلَقةِ التي يَصِفون بها الرَّسولَ والأئمَّةَ.    ، أرسَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخَذَ بَراءةَ منه، ودَفعَها إلى عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه! فقال له عليٌّ: أوصِني يا رَسولَ اللهِ، فقال له: إنَّ اللهَ يوصيك ويُناجيك، قال: فناجاه يومَ بَراءةَ قَبلَ صَلاةِ الأولى إلى صَلاةِ العَصرِ) [1430] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (39/155). .
وفي رِوايةٍ أُخرى: (إنَّ اللهَ ناجى عَليًّا يومَ الطَّائِفِ، ويومَ عَقَبةِ تَبوكَ، ويومَ حُنَينٍ) [1431] يُنظر: ((الاختصاص)) للمفيد (ص: 328). .

انظر أيضا: