موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّالثُ: حُكمُ الزِّيارةِ الشِّيعيَّةِ لقُبورِ الأئِمَّةِ ومَشاهِدِهم


إنَّ للمُسلمينَ كعبةً واحِدةً يتَّجِهونَ إليها في صَلاتِهم ودُعائِهم، ويحُجُّونَ إليها، ويطوفونَ بها، أمَّا الشِّيعةُ فلهم مَزاراتٌ ومَشاهدُ وكَعباتٌ هي عِبارةٌ عن أضرِحةِ المَوتى مِن أئِمَّتِهم [1255] بعضُ القُبورِ المنسوبةِ للأئمَّةِ لم يُدفَنْ فيها من ينسُبونها إليهم؛ فلا يُعرَفُ قبرُ أميرِ المُؤمِنين عليٍّ رضي اللهُ عنه في النَّجَفِ، ولا مكانُ قبرِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه في كَربلاءَ وغيرِها، وهذه حقائقُ معلومةٌ في التَّاريخِ، ويقرِّرُها أهلُ العِلمِ، وإن كابَرَ فيها مَن كابَرَ. قال ابنُ تَيميَّةَ: (وأصلُ ذلك أنَّ عامَّةَ أمرِ هذه القُبورِ والمشاهِدِ مضطَرِبٌ مختَلَقٌ لا يكادُ يوقَفُ منه على العِلمِ إلَّا في قليلٍ منها بعدَ بحثٍ شديدٍ، وهذا لأنَّ معرفتَها وبناءَ المساجدِ عليها ليس من شريعةِ الإسلامِ) ((مجموع الفتاوى)) (27/447). وغيرِهم [1256] غُلُوُّ الرَّافضةِ بالمشاهِدِ تجاوَزَ مشاهِدَ أئمَّتِهم إلى آخَرينَ. يُنظر: بابُ فضلِ زيارةِ عبدِ العظيمِ الحَسَنيِّ من ((بحار الأنوار)) (102/268)، وممَّا جاء فيه أنَّ الحَسَنَ العَسكريَّ قال: (من زار قبرَ عبدِ العظيمِ كان كمن زار قبرَ الحُسَينِ). ويُنظر: ((ثواب الأعمال)) لابن بابويه (ص: 89)، ((كامل الزيارات)) لابن قولويه (ص: 324)، وكذلك عقد المجلسيُّ بابًا في زيارةِ قبرِ فاطمةَ بنتِ موسى بنِ جعفرٍ الصَّادِقِ بقُمٍّ. يُنظر: ((بحار الأنوار)) (102/265). ، وهي قُبورٌ تُنافِسُ عِندَ الشِّيعةِ الكعبةَ المُشَرَّفةَ بل تَفضُلُ عليها، ويُقامُ فيها الشِّركُ ويُهدَم التَّوحيدُ!
وقد يُقال: إنَّ الشِّركَ والمَشاهدَ مُنتَشِرةٌ في كثيرٍ مِن بلادِ السُّنَّةِ، والجَوابُ: أنَّ هذا كُلَّه باطِلٌ، سَواءٌ فعَله مَن ينتَسِبُ إلى الشِّيعةِ أو مَن ينتَسِبُ إلى السُّنَّةِ كالصُّوفيَّةِ، قال ابنُ تَيميَّةَ: (فإن قيل: ما وصَفتَ به الرَّافِضةَ مِنَ الغُلوِّ والشِّركِ والبِدَعِ مَوجودٌ كثيرٌ منه في كثيرٍ مِنَ المُنتَسِبينَ إلى السُّنَّةِ... قيل: هذا كُلُّه مِمَّا نَهى اللهُ عنه ورَسولُه، وكُلُّ ما نَهى اللهُ عنه ورَسولُه فهو مَذمومٌ مَنهيٌّ عنه، سَواءٌ كان فاعِلُه مُنتَسِبًا إلى السُّنَّةِ أو التَّشَيُّعِ، ولكِنْ ما عِندَ الرَّافِضةِ مِن هذه الأُمورِ المُخالفةِ للكِتابِ والسُّنَّةِ أكثرُ مِمَّا عِندَ أهلِ السُّنَّةِ) [1257] ((منهاج السنة)) (1/177). .
وأيضًا مِنَ الفُروقِ بَيْنَ الشِّيعةِ وأهلِ السُّنَّةِ في ذلك أنَّ ما أصابَ بَعضُ أهلِ السُّنَّةِ هو انحِرافٌ في واقِعِهم تُنكِرُه أُصولُهم، وأمَّا ما عِندَ الشِّيعةِ فهو يتَّفِقُ أساسًا مَعَ أُصولِهم، وتَدعو إليه كُتُبُهم المُعتَمَدةُ، وتُحِثُّ عليه أحاديثُهم ورِواياتُهم، فهو مَعروفٌ في أُصولِ الشِّيعةِ مُنكَرٌ في أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ.
ونَتيجةَ هذا الفَرْقِ أنَّ ما عِندَ أهلِ السُّنَّةِ قابِلٌ للإصلاحِ، وما عِندَ الشِّيعةِ غَيرُ قابلٍ حتَّى تُغَيَّرَ أُصولُهم أوَّلًا، وهذه النَّتيجةُ ظَهَرت بشَكلٍ واقِعٍ في تَأثيرِ حَرَكةِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوهَّابِ في العالَمِ الإسلاميِّ في مُحارَبةِ الشِّركِ، واستِعصاءِ الشِّيعةِ على هذا الإصلاحِ.
وقد شَهدَ بهذه الحَقيقةِ العالمُ الإيرانيُّ أحمَدُ الكسرويّ؛ حَيثُ قال: (مِمَّا يُرى مِن لَجاجِ الشِّيعةِ أنَّه قد انقَضى مُنذُ ظُهورِ الوهَّابيِّينَ أكثَرُ مِن مِائةٍ وخَمسينَ عامًا، وجَرت في تلك المُدَّةِ مُباحَثاتٌ ومُجادَلاتٌ كثيرةٌ بَينَهم وبَينَ الطَّوائِفِ الأُخرى مِنَ المُسلمينَ، وانتَشَرت رِسالاتٌ وطُبِعت كُتُبٌ، وظَهر جَليًّا أنْ ليست زيارةُ القُبَبِ، والتَّوسُّلُ بالمَوتى، ونَذرُ النُّذورِ للقُبورِ وأمثالِها، إلَّا الشِّركَ، ولا فرقَ بَيْنَ هذه وبَينَ عِبادةِ الأوثانِ التي كانت جاريةً بَيْنَ المُشرِكينَ مِنَ العَرَبِ، فقامَ الإسلامُ يُجادِلُها ويبغي قَلعَ جُذورِها، يُبَيِّنُ ذلك آياتٌ كثيرةٌ مِنَ القُرآنِ، فأثَّرَتِ الوهَّابيَّةُ في سائِرِ طَوائِفِ المُسلمينَ غَيرَ الرَّوافِضِ أو الشِّيعةِ الإماميَّةِ؛ فإنَّ هؤلاء لم يكتَرِثوا بما كان، ولم يعتَنوا بالكُتُبِ المُنتَشِرةِ والدَّلائِل المَذكورةِ أدنى اعتِناءٍ، ولم يكُنْ نَصيبُ الوهَّابيِّينَ منهم إلَّا اللَّعنَ والسَّبَّ كالآخَرينَ) [1258] ((الشيعة)) (ص: 89). .
إنَّ الشِّركَ قد أُلبسُ في مَصادِرِ الشِّيعةِ المُعتَمَدةِ ثَوبَ الحَقِّ، وأصبَحَ هو الدِّينَ، فغَلتِ الرَّافِضةُ بالأئِمَّةِ وقُبورِهم، وصَنَعوا صَنيعَ النَّصارى في غُلوِّهم في المَسيحِ عيسى عليه السَّلامُ، فتَرَك الرَّوافِضُ عِبادةَ اللهِ وحدَه لا شَريكَ له، ودَعَوا أولئك الأمواتَ، وتراهم يُعَطِّلونَ المَساجِدَ التي أمَرَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها اسمُه، ويُعَظِّمونَ المَشاهدَ المَبنيَّةَ على القُبورِ، فيعكُفونَ عليها، ويحُجُّونَ إليها كما يحُجُّ الحاجُّ إلى البَيتِ العَتيقِ، ويحرِصونَ على السَّفرِ إليها، والطَّوافِ بها، والصَّلاةِ عِندَها، والانكِبابِ على الضَّريحِ والاستِغاثةِ به، وطَلَبِ الشِّفاءِ منه، أو التَّوسُّلِ به، وطَلبِ شَفاعَتِه، فهي عِندَهم مِن أفضَلِ القُرُباتِ وأعظَمِ الطَّاعاتِ.
وقد عُلمَ بالاضطِرارِ مِن دينِ الإسلامِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَثبتْ عنه شَيءٌ في شَأنِ تَعظيمِ تلك المشاهدِ الخاصَّةِ بالأئِمَّةِ، والعِبادةِ عِندَها، ولا أتى على مُجَرَّدِ ذِكرِها أصلًا، ولا شَرع لأُمَّتِه مَناسِكَ عِندَ قُبورِ عامَّةِ الأنبياءِ والصَّالحينَ [1259] ((منهاج السنة)) (1/175). ، بل هذا مِن دينِ المُشرِكينَ الذينَ قال اللهُ تعالى فيهم: وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح: 23] . قال ابنُ عَبَّاس: (أسماءُ رِجالٍ صالحينَ مِن قَومِ نوحٍ، فلمَّا هَلكوا أوحى الشَّيطانُ إلى قَومِهم أن انصِبوا إلى مَجالسِهم التي كانوا يجلسونَ أنصابًا وسَمُّوها بأسمائِهم، ففعَلوا، فلم تُعبَدْ، حتَّى إذا هَلك أولئِك وتَنسَّخَ العِلمُ عُبِدَت) [1260] أخرجه البخاري (4920). .
وقد قال أميرُ المُؤمِنينَ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه لأبي الهيَّاجِ الأسَديِّ: (ألا أبعَثُك على ما بَعَثَني عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ ألَّا تَدَعَ تمثالًا إلَّا طَمَسْتَه، ولا قَبرًا مُشرِفًا إلَّا سَوَّيتَه) [1261] أخرجه مسلم (969). .
وهذا المَعنى أقَرَّت به بَعضُ رِواياتِ الشِّيعةِ؛ فعن أبي عَبدِ اللهِ قال: قال أميرُ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ: (بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المَدينةِ، فقال: لا تَدعْ صورةً إلَّا مَحَوتَها، ولا قَبرًا إلَّا سَوَّيتَه) [1262] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (2/227). . وفي رِوايةٍ أُخرى: (بَعَثَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هَدمِ القُبورِ، وكَسرِ الصُّوَرِ) [1263] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (2/226). .
وعن أبي عَبدِ اللهِ قال: (نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُصَلَّى على قَبرٍ، أو يُقعَدَ عليه، أو يُبنى عليه) [1264] يُنظر: ((تهذيب الأحكام)) للطوسي (1/130). .
وعن أبي عَبدِ اللهِ قال: (لا تَبنوا على القُبورِ؛ فإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كرِهَ ذلك) [1265] يُنظر: ((تهذيب الأحكام)) للطوسي (1/130). .
وعنه أيضًا عن آبائِه عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (أنَّه نَهى أن يُجَصَّصَ المَقابرُ) [1266] يُنظر: ((من لا يحضره الفقيه)) لابن بابويه (2/194). .
ومِن تَأويلاتِ الشِّيعةِ لهذه الأحاديثِ والأخبارِ ما زَعَمَه الحُرُّ العامِليُّ أنَّ هذا النَّهيَ يشمَلُ كُلَّ قَبرٍ غَيرَ قَبرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ، وأنَّ هذا النَّهيَ لمُجَرَّدِ الكراهةِ [1267] يُنظر: ((وسائل الشيعة)) (2/869). !
وصيغةُ العُمومِ واضِحةٌ في هذه الرِّواياتِ، كما أنَّ دَلالةَ التَّحريمِ بَيِّنةٌ، ولا دَليلَ عِندَ العامِليِّ على ما ذَهَبَ إليه، ثُمَّ إنَّ الحِكمةَ التي ورَدَ مِن أجلِها النَّهيُ لا تُفرِّقُ بَيْنَ قَبرٍ وقَبرٍ، وقد يكونُ الخَطَرُ في قُبورِ الأئِمَّةِ أشَدَّ؛ لعَظيمِ الافتِتانِ بهم؛ ولهذا كان أصلُ الشِّركِ وسَبَبُ كُفرِ بَني آدَمَ وتَركِهم دينَهم هو الغُلوُّ في الصَّالحينَ [1268] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 305). .

انظر أيضا: