موسوعة الفرق

الفَرعُ الثَّاني: مَناسِكُ المَشاهِدِ


مِنَ الفرائِضِ المُهمَّةِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ زيارةُ الأضرِحةِ [1212] يُنظر: ((تهذيب الأحكام)) للطوسي (2/14)، ((كامل الزيارات)) لابن قولويه (ص: 194)، ((وسائل الشيعة)) للحر العاملي (10/333-337). ، بل صَرَّحوا بأنَّ تارِكَ زيارَتِها في النَّارِ؛ فعن هارونَ بنِ خارِجةَ عن أبي عَبدِ اللهِ قال: سَألتُه عَمَّن تَرَك زيارةَ قَبرِ الحُسَينِ عليه السَّلامُ مِن غَيرِ عِلَّةٍ، فقال: (هذا رَجُلٌ مِن أهلِ النَّارِ) [1213] يُنظر: ((كامل الزيارات)) لابن قولويه (ص: 193). .
وقد عَقدَ المَجلِسيُّ لذلك بابًا بعُنوانِ: (بابُ أنَّ زيارَتَه [1214] يعني: زيارةَ الحُسَينِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما. واجِبةٌ مُفتَرَضةٌ مَأمورٌ بها، وما ورَدَ مِنَ الذَّمِّ والتَّأنيبِ والتَّوعُّدِ على تَركِها، وذَكرَ فيه 40 حَديثًا مِن أحاديثِهم [1215] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (101/ 1-11). .
وقد وضَعوا لها مَناسِكَ كمَناسِكِ الحَجِّ إلى بَيتِ اللهِ الحَرامِ!
قال ابنُ تَيميَّةَ: (قد صَنَّف شَيخُهمُ ابنُ النُّعمانِ -المَعروفُ عِندَهم بالمُفيدِ- كِتابًا سَمَّاه «مَناسِكَ المُشاهدِ» جَعَل قُبورَ المَخلوقينَ تُحَجُّ كما تُحَجُّ الكعبةُ البَيتُ الحَرامُ الذي جَعَله اللهُ قيامًا للنَّاسِ، وهو أوَّلُ بَيتٍ وُضِعَ للنَّاسِ، فلا يُطافُ إلَّا به، ولا يُصَلَّى إلَّا إليه، ولم يأمُرْ إلَّا بحَجِّه) [1216] ((منهاج السنة)) (1/175). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (17/498). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (حَدَّثَني الثِّقاتُ أنَّ فيهم مَن يرى الحَجَّ إلى المَشاهدِ أعظَمَ مِنَ الحَجِّ إلى البَيتِ العَتيقِ) [1217] ((منهاج السنة)) (2/124). .
وقد رَوى الشِّيعةُ عن جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال في زيارةِ قَبرِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه: (لو أنِّي حَدَّثتُكم بفضلِ زيارَتِه وبفضلِ قَبرِه لتَرَكتُم الحَجَّ رَأسًا، وما حَجَّ مِنكم أحَدٌ، ويحكَ! أما عَلِمتَ أنَّ اللهَ اتَّخَذَ كربَلاءَ حَرَمًا آمِنًا مُبارَكًا قَبل أن يتَّخِذَ مَكَّةَ حَرَمًا؟) [1218] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (101/33)، ((كامل الزيارات)) لابن قولويه (ص: 266). .
وقد ذَكرَ الشِّيعيُّ أغا بزرك الطِّهرانيُّ أنَّ ما صَنَّفه شُيوخُهم في مَناسِكِ حَجِّ قُبورِ الأئِمَّةِ وزيارَتها بَلغَ سِتِّينَ كِتابًا [1219] يُنظر: ((الذريعة إلى تصانيف الشيعة)) (20/316-326). ، عَدا ما اشتَمَلت عليه كُتُبُ الأخبارِ المُعتَمَدةُ عِندَهم مِن أبوابٍ خاصَّةٍ بالمَشاهِدِ.
ومن هذه المناسِكِ ما يلي:
أوَّلًا: الطَّوافُ بها
اتَّفقَ المُسلمونَ على أنَّه لا يُشرَعُ الطَّوافُ إلَّا بالكعبةِ المُشَرَّفةِ [1220] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تَيميَّةَ (4/521). ، ولكِنَّ شُيوخَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ شَرَعوا لأتباعِهم الطَّوافَ بأضرِحةِ المَوتى مِنَ الأئِمَّةِ، ووضَعوا مِنَ الرِّواياتِ على آلِ البَيتِ ما يُسنِدونَ به هذا الفِعلَ، ومِن ذلك أنَّ الرِّضا كان يطوفُ بقَبرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1221] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/126). ، وأخَذوا مِن ذلك شَرعيَّةَ هذا النُّسُكِ في مَذهَبِهم، دونَ التِفاتٍ إلى نُصوصِ القُرآنِ الصَّريحةِ الواضِحةِ في النَّهيِ عن الشِّركِ، والوعيدِ عليه بنارِ جَهَنَّمَ.
والعَجيبُ أنَّه قد جاءَ في بَعضِ رِواياتِهم عن الأئِمَّةِ النَّهيُ عن الطَّوافِ بالقُبورِ، مِثلُ رِوايتِهم عن الحَلبيِّ، عن أبي عَبدِ اللهِ قال: (لا تَشرَبْ وأنت قائِمٌ ولا تَطُفْ بقَبرٍ) [1222] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/126). ، وقد أوَّل المَجلِسيُّ هذه الرِّوايةَ في أكثَرَ مِن مَوضِعٍ مِن كِتابِه، ومِن ذلك قَولُه: (يُحتَمَلُ أن يكونَ النَّهيُ عن الطَّوافِ بالعَدَدِ المَخصوصِ الذي يُطافُ بالبَيتِ) [1223] ((بحار الأنوار)) (100/126). .
ثانيًا: الصَّلاةُ عِندَها
مِن مَناسِكِ المَشاهِدِ والأضرِحةِ صَلاةُ رَكعَتَينِ أو أكثَرَ عِندَ قُبورِ الأئِمَّةِ، ومِمَّا جاءَ في أخبارِهم عن الصَّلاةِ في حَرَمِ الحُسَينِ: (لك بكُلِّ رَكعةٍ تركَعُها عِندَه كثَوابِ مَن حَجَّ ألفَ حَجَّةٍ، واعتَمَرَ ألفَ عُمرةٍ، وأعتَقَ ألفَ رَقَبةٍ، وكأنَّما وقَف في سَبيلِ اللهِ ألفَ ألفِ مَرَّةٍ مَعَ نَبيٍّ مُرسَلٍ) [1224] يُنظر: ((الوافي)) للكاشاني (8/234). .
وليس هذا خاصًّا بقَبرِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه، بل كُلُّ قُبورِ أئِمَّتِهم كذلك؛ ففي بَعضِ الرِّواياتِ: (مَن زارَ الرِّضا [1225] يُعَدُّ مرقَدُ عَليٍّ الرِّضا أهَمَّ الأماكِنِ المقدَّسةِ عِندَ الشِّيعةِ في إيرانَ، وعليه قُبَّةٌ ضَخمةٌ مكسوَّةٌ بالذَّهَبِ. يُنظر: ((مشاهداتي في إيران)) لعبد اللهِ فياض (ص: 102). أو واحِدًا مِنَ الأئِمَّةِ فصَلَّى عِندَه، فإنَّه يُكتَبُ له بكُلِّ خُطوةٍ مِائةُ حَجَّةٍ، ومِائةُ عُمرةٍ، وعِتقُ مِائةِ رَقَبةٍ في سَبيلِ اللهِ، وكُتبَ له مِائةُ حَسَنةٍ، وحُطَّ عنه مِائةُ سَيِّئةٍ) [1226] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/137) باختصارٍ. .
وهذا كُلُّه مُخالفٌ لِما جاءَ على لسانِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَيثُ قال: ((لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ)) [1227] أخرجه البخاري (435، 436)، ومسلم (531) من حديثِ عائشةَ وابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهم. .
وعن عائِشةَ أنَّ أُمَّ سَلمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّها ذَكرَت لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كنيسةً رَأتها بأرضِ الحَبَشةِ يُقال لها ماريةُ، فذَكرَت له ما رَأت فيها مِنَ الصُّورِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أولئِك قَومٌ إذا ماتَ فيهم العَبدُ الصَّالحُ، أو الرَّجُلُ الصَّالحُ، بَنَوا على قَبرِه مَسجِدًا، وصَوَّروا فيه تلك الصُّورَ، أولئِك شِرارُ الخَلقِ عِندَ اللهِ)) [1228] أخرجه البخاري (434) واللفظ له، ومسلم (528). .
وقد ثَبَتَ أيضًا النَّهيُ عن اتِّخاذِ القُبورِ مَساجِدَ في كُتُبِ الاثنَي عَشريَّة نَفسِها، ولكِنَّ شُيوخَهم يُؤَوِّلونَها ويحمِلونَها على التَّقيَّةِ أحيانًا [1229] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (80/313). .
ثالثًا: اتِّخاذُ القُبورِ قِبلةً
قال المَجلِسيُّ: (إنَّ استِقبالَ القَبرِ أمرٌ لازِمٌ، وإنْ لم يكُن موافِقًا للقِبلةِ، واستِقبالُ القَبرِ للزَّائِرِ بمَنزِلةِ استِقبالِ القِبلةِ، وهو وَجهُ اللهِ، أي: جِهَتُه التي أمَرَ النَّاسَ باستِقبالِها في تلك الحالةِ) [1230] ((بحار الأنوار)) (101/369). .
وقد ذَكرَ المَجلِسيُّ رِوايتَينِ مُتَعارِضَتَينِ عن بَعضِ أئِمَّتِهم، فأوَّلَ ما يُخالفُ مَذهَبَهم، وقَبِلَ الرِّوايةَ التي توافِقُ آراءَهم، وهما:
1- عن أبي جَعفرٍ مُحَمَّدٍ الباقِرِ أنَّه قال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: (لا تَتَّخِذوا قَبري قِبلةً ولا مَسجِدًا؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لعنَ الذينَ اتَّخَذوا قُبورَ أنبيائِهم مَساجِدَ) [1231] يُنظر: ((علل الشرائع)) لابن بابويه (ص: 358)، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/128). .
2- أنَّه كَتَب الحِميريُّ [1232] عبدُ اللهِ بنُ جعفَرِ بنِ مالِكٍ الحِميريُّ، أحدُ الذين كانوا يزعُمون مكاتبةَ المهديِّ المنتظَرِ، وهو عِندَ الشِّيعةِ من الثِّقاتِ. يُنظر: ((الفهرست)) للطوسي (ص: 132)، ((رجال الحلي)) (ص: 106). إلى النَّاحيةِ المُقدَّسةِ [1233] النَّاحيةُ المقدَّسةُ رمزٌ عندَهم على مهديِّهم المنتَظَرِ. يسألُ عن الرَّجُلِ يزورُ قُبورَ الأئِمَّةِ عليهم السَّلامُ، هَل يجوزُ لمَن صَلَّى عِندَ بَعضِ قُبورِهم عليهم السَّلامُ أن يقومَ وراءَ القَبرِ، ويجعَلَ القَبرَ قِبلةً، أم يقومُ عِندَ رَأسِه أو رِجلَيه؟ وهَل يجوزُ أن يتَقدَّمَ القَبرَ ويُصَلِّيَ ويجعَلَ القَبرَ خَلفَه أم لا؟ فأجابَ: (... أمَّا الصَّلاةُ فإنَّها خَلفَه، ويجعَلُ القَبرَ أمامَه، ولا يجوزُ أن يُصَلِّي بَيْنَ يدَيه ولا عن يمينِه ولا عن يسارِه؛ لأنَّ الإمامَ صَلَّى اللهُ عليه لا يُتَقدَّمُ عليه، ولا يُساوى) [1234] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/128). .
وقد رَجَّحَ المَجلِسيُّ العَمَلَ بالنَّصِّ الثَّاني، فقال: (يُمكِنُ حَملُ الخَبَرِ السَّابقِ على التَّقيَّةِ أو على أنَّه لا يجوزُ أن يجعَلَ قُبورَهم بمَنزِلةِ الكعبةِ يتَوجَّه إليها مِن كُلِّ جانِبٍ [1235] أي إنَّها قبلةٌ من جهةٍ واحدةٍ، وليست كالكعبةِ قِبلةً من كلِّ الجِهاتِ. ، ومِنَ الأصحابِ مَن حَمَل الخَبَرَ الأوَّلَ على الصَّلاةِ جَماعةً، والخَبَرَ الثَّانيَ على الصَّلاةِ فُرادى، وسَتَأتي الأخبارُ المُؤَيِّدةُ للخَبَرِ الثَّاني «يعني في اتِّخاذِ القَبرِ قِبلةً» في أبوابِ الزِّياراتِ) [1236] ((بحار الأنوار)) (100/128). !
وقد جاءَ في كُتُبِهم رِوايةٌ عن أبي عَبدِ اللهِ، وفيها إرشادٌ إلى طَريقةٍ تُعادِلُ زيارةَ قَبرِ الحُسَينِ إن لم يستَطِعْ زيارَتَه بنَفسِه: (اغتَسِلْ يومَ الجُمعةِ أو أيِّ يومٍ شِئتَ، والبَسْ أطهَرَ ثيابِك، واصعَدْ إلى أعلى مَوضِعٍ في دارِك أو الصَّحراءِ، فاستَقبِلِ القِبلةَ بوجهِك بَعدَما تبَيَّنُ أنَّ القَبرَ هنالِك...، وتَوقَّف المَجلِسيُّ عِندَ هذا النَّصِّ؛ لأنَّ استِقبالَ القَبر عِندَهم أمرٌ لازِمٌ، فقال: (قَولُه عليه السَّلامُ: «فاستَقبِلِ القِبلةَ بوَجهِك» لعَلَّه عليه السَّلامُ إنَّما قال ذلك لمَن أمكنَه استِقبالُ القَبرِ والقِبلةِ مَعًا، ولَمَّا ظَهَرَ مِن قَولِه: «بَعدَ ما تَبَيَّنُ أنَّ القَبرَ هنالك» أنَّ استِقبالَ القَبرِ أمرٌ لازِمٌ، وإن لم يكُنْ موافِقًا للقِبلةِ، استَشهَدَ بقَولِه تعالى: أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ [البقرة: 115] أي: نِسبَتُه تعالى إلى جَميعِ الأماكِنِ على السَّواءِ، واستِقبالُ القَبرِ للزَّائِرِ بمَنزِلةِ استِقبالِ القِبلةِ، وهو وَجهُ اللهِ، أي جِهَتُه التي أمَرَ النَّاسَ باستِقبالِها في تلك الحالةِ، والقَرينةُ عليه قَولُه عليه السَّلامُ: ثُمَّ تَتَحَوَّلُ على يسارِك؛ فإنَّ قَبرَ عَليِّ بنِ الحُسَينِ إنَّما يكونُ على يسارِ مَن يستَقبلُ القَبرَ والقِبلةَ مَعًا. ويُحتَمَلُ أن يكونَ المُرادُ بالقِبلةِ هنا جِهةَ القَبرِ مَجازًا، ويُحتَمَلُ أيضًا أن يكونَ المُرادُ استِقبالَ القِبلةِ على أيِّ حالٍ، ويكونَ المُرادُ بقَولِه: بَعدَ ما تَبَيَّنُ أنَّ القَبرَ هنالك، تَخَيُّلَ القَبرِ في تلك الجِهةِ، والاستِشهادُ بالآيةِ بناءً على أنَّ المُرادَ بوجهِ اللهِ هم الأئِمَّةُ عليهم السَّلامُ، ونِسبَتُهم أيضًا إلى الأماكِنِ على السَّويَّةِ؛ لإحاطةِ عِلمِهم ونورِهم بجَميعِ الآفاقِ، ويكونُ التَّحَوُّلُ إلى اليسارِ؛ لأنَّ في تَخَيُّلِ القَبرِ للمُستَقبِلِ يكونُ قَبرُ عَليِّ بنِ الحُسَينِ عليه السَّلامُ على يسارِ المُستَقبِلِ، كما إذا كان عِندَ القَبرِ واستَقبلَ القِبلةَ يكونُ كذلك. ولا يبعُدُ أن يكونَ القِبلةُ تَصحيفَ القَبرِ، والأظهَرُ هو الوَجهُ الأوَّلُ... وهو الموافِقُ للأخبارِ الأُخَرِ الوارِدةِ في زيارةِ البَعيدِ) [1237] ((بحار الأنوار)) (101/369). .
رابعًا: الانكِبابُ على القَبرِ
مِن مَناسِكِ المَشاهدِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ الانكِبابُ على القَبرِ، ووَضعُ الخَدِّ عليه، وتَقبيلُ الأعتابِ، ومُناجاةُ صاحِبِ القَبرِ حتَّى ينقَطِعَ النَّفَسُ، كما ورَدَ لدَيهم.
قال المَجلِسيُّ: (بابُ ما يُستَحَبُّ فِعلُه عِندَ قَبرِه عليه السَّلامُ مِنَ الصَّلاةِ والاستِخارةِ وغَيرِهما، أي: قَبرِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما)، ثُمَّ ذَكرَ المَجلِسيُّ أنَّ الطُّوسيَّ قال في عَرضِه لأعمالِ يومِ الجُمعةِ: (يُستَحَبُّ أن يدعوا بدُعاءِ المَظلومِ عِندَ قَبرِ أبي عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ، وهو: اللهمَّ إنِّي أعتَزُّ بدينِك، وأكرُمُ بهدايتِك، وفُلانٍ يُذِلُّني بشَرِّه، ويُهينُني بأذيَّتِه، ويَعيبُني بولاءِ أوليائِك، ويَبهَتُني بدَعواه، وقد جِئتُ إلى مَوضِعِ الدُّعاءِ، وضَمانُك الإجابةُ، اللهمَّ صَلَّ على مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وأعدني أي: انصُرْني وأعِنِّي عليه السَّاعةَ السَّاعةَ، ثُمَّ تَنكَبُّ على القَبرِ وتَقولُ: "مَولاي إمامي، مَظلومٌ استَعدى على ظالمِه، النَّصرَ النَّصرَ"، حتَّى ينقَطِعَ النَّفَسُ) [1238] يُنظر: ((بحار الأنوار)) (101/285). .
وفي أكثَرِ زياراتِهم يُؤَكِّدونَ في أثنائِها وخاتِمَتِها على الانكبابِ على القَبرِ ودُعائِه، ومِن ذلك رِوايةٌ عن جَعفرٍ الصَّادِقِ أمر فيها قَبلَ بَدءِ زيارةِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنه بصيامِ ثَلاثةِ أيَّامٍ، ثُمَّ الاغتِسالِ، ولُبسِ ثَوبَينِ طاهرَينِ، ثُمَّ صَلاةِ رَكعَتَينِ، ثُمَّ قال: (فإذا أتَيتَ البابَ فقِفْ خارِجَ القُبَّةِ، وأومِ بطَرفِك نَحوَ القَبرِ، وقُلْ: يا مَولاي، يا أبا عَبدِ اللهِ، يا ابنَ رَسولِ اللهِ، عَبدُك وابنُ عَبدِك وابنُ أمَتِك، الذَّليلُ بَيْنَ يدَيك، المُقَصِّرُ في عُلوِّ قَدْرِك، المُعتَرِفُ بحَقِّك، جاءَك مُستَجيرًا بذِمَّتِك، قاصِدًا إلى حَرَمِك، مُتَوجِّهًا إلى مَقامِك... ثُمَّ انكبَّ على القَبرِ، وقُلْ: يا مَولاي أتَيتُك خائِفًا فآمنِّي، وأتَيتُك مُستَجيرًا فأجِرْني، ثُمَّ انكَبَّ على القَبرِ ثانيةً) [1239] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (101/257-261). .
وقال المُفيدُ: (فإذا أرَدتَ الخُروجَ فانكبَّ على القَبرِ وقَبِّلْه... ثُمَّ ارجِعْ إلى مَشهَدِ الحُسَينِ وقُل: السَّلامُ عليك يا أبا عَبدِ اللهِ، أنتَ لي جُنَّةٌ مِنَ العَذابِ) [1240] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (101/257-261). .
فيُسَمُّونَ السُّجودَ على القَبرِ أو لصاحِبِ القَبرِ الانكِبابَ، ويدعونَ المَيِّتَ الذي لا يملِكُ لنَفسِه نَفعًا ولا ضَرًّا، واللهُ تعالى يقولُ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] ، وهم يَعُدُّونَ هذا مِن أفضَلِ القُرُباتِ! ويَروونَ أنَّ ذلك (يوجِبُ غُفرانَ الذُّنوبِ، ودُخولَ الجَنَّةِ، والعِتقَ مِنَ النَّارِ، وحَطَّ السَّيِّئاتِ، ورَفعَ الدَّرَجاتِ، وإجابةَ الدَّعَواتِ) [1241] هذا من عناوينِ ((بحار الأنوار))، وقد ضمَّ (37) روايةً. يُنظر فيه: (101/ 21-28). ! وأنَّها أعمالٌ (توجِبُ طولَ العُمرِ، وحِفظَ النَّفسِ والمالِ، وزيادةَ الرِّزقِ، وتَنَفُّسَ الكَربِ، وقَضاءَ الحَوائِجِ) [1242] هذا أحدُ عناوينِ ((بحار الأنوار))، وضمَّ (17) روايةً. يُنظر فيه: (101/ 45-48). ! وأنَّها (تَعدِلُ الحَجَّ والعُمرةَ والجِهادَ والإعتاقَ) [1243] هذا من عناوين ((بحار الأنوار)) وضمَّ (84) روايةً. يُنظر فيه: (101/ 28-44). !
وقال المَجلِسيُّ: (وأمَّا تَقبيلُ الأعتابِ فلم نَقِفْ على نَصٍّ يُعتَدُّ به، ولكِنْ عليه الإماميَّةُ) [1244] ((بحار الأنوار)) (100/136). ويُنظر: ((عمدة الزائر)) لحيدر الحسيني (ص: 29). . أي: أنَّهم يتَعَبَّدونَ بذلك مُجاراةً لأسلافِهم وتَقليدًا لهم، إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف: 23] .
وللمَهديِّ المُنتَظَرِ لدَيهم قَوانينُ مُعَيَّنةٌ في هذا البابِ؛ منها: استِقبالُ القَبرِ في الصَّلاةِ، واستِدبارُ الكعبةِ، ووَضعُ الخَدِّ على القَبرِ، فقد خَرَجَتِ الرِّوايةُ فيها -كما يقولونَ- مِنَ النَّاحيةِ المُقدَّسةِ، أي: مِن قِبَلِ المَهديِّ المُنتَظَرِ بواسِطةِ سُفرائِه؛ حَيثُ قال: (... الذي عليه العَمَلُ أن يضَعَ خَدَّه الأيمَنَ على القَبرِ) [1245] يُنظر: ((عمدة الزائر)) لحيدر الحسيني (ص: 31). .
ولهذا قَرَّرَ بَعضُ شُيوخِهم أنَّ مِن آدابِ زيارةِ هذه الأضرِحةِ: (وضْعَ الخَدِّ الأيمَنِ عِندَ الفراغِ مِنَ الزِّيارةِ والدُّعاءِ) [1246] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/134). .
وقالوا: (لا كراهةَ في تَقبيلِ الضَّرايحِ، بل هو سُنَّةٌ عِندَنا، ولو كان هناك تَقيَّةٌ فتَركُه أَولى) [1247] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (100/136). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (قد اتَّفقَ المُسلمونَ على أنَّه لا يُشرَعُ الاستِلامَ والتَّقبيلُ إلَّا للرُّكنَينِ اليَمانيينِ، فالحَجَرُ الأسوَدُ يُستَلمُ ويُقَبَّلُ، واليَماني يُستَلَمُ، وقد قيل: إنَّه يُقبَّلُ، وهو ضَعيفٌ، وأمَّا غَيرُ ذلك فلا يُشرَعُ استِلامَه ولا تَقبيلُه، كجَوانِب البَيتِ، والصَّخرةِ، والحُجرةِ النَّبَويَّةِ، وسائِرِ قُبورِ الأنبياءِ والصَّالحينَ) [1248] ((مجموع الفتاوى)) (4/521). .
هذا بَعضُ ما جاءَ في مَصادِرِهم المُعتَمَدةِ حَولَ المَشاهدِ، وهو قَليلٌ مِن كثيرٍ؛ حَيثُ إنَّ لهمُ اهتِمامًا واسِعًا بأمرِ المَشاهدِ ومَناسِكِها كاهتِمامِهم بمَسألةِ الإمامةِ، وقد خَصَّصت مَصادِرُهم المُعتَمَدةُ له قِسمًا خاصًّا، ومِن ذلك:
في (بحارِ الأنوارِ) للمَجلسيِّ كِتابٌ مُستَقِلٌّ سَمَّاه (كُتُبَ المَزارِ) يتَضَمَّنُ أبوابًا كثيرةً، اشتَمَلت على مِئاتِ الرِّواياتِ، وقد استَغرَقَ ذلك حَوالي ثَلاثةِ مُجَلَّداتٍ [1249] هي المجلَّدات (100، 101، 102). .
وفي (وسائِل الشِّيعةِ) للحُرِّ العامِليِّ 106 أبوابٍ بعُنوان: (أبواب المَزارِ) [1250] يُنظر: ((وسائل الشيعة)) (10/251) وما بعدها. .
وفي (الوافي) للكاشانيِّ الجامِعِ لأُصولِهم الأربَعةِ عَقدَ 33 بابًا بعُنوانِ: (أبواب المَزاراتِ والمَشاهدِ) [1251] يُنظر: ((الوافي)) (8/193) وما بعدها. .
وفي كِتابِ (مَن لا يحضُرُه الفقيهُ) لابنِ بابَويهِ أبوابٌ عِدَّةٌ حَولَ المَشاهدِ وتَعظيمِها، كبابِ تُربةِ الحُسَينِ، وحَريمِ قَبرِه، وأبوابِ زيارةِ الأئِمَّةِ وفَضلِها [1252] يُنظر: ((من لا يحضره الفقيه)) (2/338) وما بعدها. .
وفي (تَهذيب الأحكام) للطُّوسيِّ مَجموعةٌ كبيرةٌ مِنَ الأبوابِ تَتَضَمَّنُ تَعظيمَ المَشاهِدِ والقُبورِ، ومُناجاةَ الأئِمَّةِ بأدعيةٍ خاصَّةٍ [1253] يُنظر: ((تهذيب الأحكام)) (6/3) وما بعدها. .
وفي (مُستَدرك الوسائِلِ) للنُّوريِّ الطَّبَرسيِّ 86 بابًا حَوت 276 رِوايةً في الزِّياراتِ والمَشاهِدِ [1254] يُنظر: ((مستدرك الوسائل)) (2/189-234). .
هذا عَدا ما اشتَمَلت عليه كُتُبُهم الأُخرى التي هي في مَنزِلةِ المَصادِرِ الثَّمانيةِ، ككِتابِ (ثَواب الأعمال) لابنِ بابَويهِ وغَيرِه.
وهذا غَيرُ ما أُلِّف في المَزاراتِ مِن كُتُبٍ خاصَّةٍ به في الماضي والحاضِرِ، مِثلُ: (كامِل الزِّياراتِ) لابنِ قولوَيهِ، و(مَفاتيح الجِنانِ) لعَبَّاسٍ القُمِّيِّ، و(عُمدة الزَّائِر) لحَيدَر الحُسَينيِّ، و(ضياء الصَّالحينَ) للجَوهَريِّ، وغَيرِها.
وكُلُّها تَتَحَدَّثُ عن فضائِلِ مَن شَدَّ الرِّحالَ لزيارةِ أضرِحةِ الأئِمَّةِ وطاف بها، ودَعا في رِحابِها، واستَغاثَ بمَن فيها، وتَذكُرُ مِئاتِ الأدعيةِ في هذا الشَّأنِ.

انظر أيضا: