موسوعة الفرق

الفرْعُ الأوَّلُ: من الرُّواةِ الشِّيعةِ: لُوطُ بنُ يحيى أبو مِخْنَفٍ


وهو من الرُّواةِ المتقَدِّمين، تُوفِّيَ سنةَ 157ه، وكان من المُكثِرين في الرِّوايةِ، وأكثَرُ مرويَّاتِه تتعَلَّقُ بفَترةٍ مُهِمَّةٍ من فَتَراتِ التَّاريخِ الإسلاميِّ، من وفاةِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حتَّى سقوطِ الدَّولةِ الأمويَّةِ سَنةَ 132هـ [613] يُنظر: ((مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري)) ليحيى اليحيى (ص: 487). .
وهذا الرَّاوي غالٍ في التَّشيُّعِ، لا يجوزُ الاعتمادُ على مرويَّاتِه.
قال عنه يَحيى بنُ مَعِينٍ: (ليس بشيءٍ) [614] ((تاريخ يحي بن معين)) (2/500). .
وقال ابنُ عَدِيٍّ: (حدَّث بأخبارِ مَن تقَدَّم من السَّلَفِ الصَّالحين، ولا يَبعُدُ منه أن يتناوَلَهم، وهو شيعيٌّ محتَرِقٌ، صاحِبُ أخبارِهم، وإنَّما وصَفْتُه للاستغناءِ عن ذِكْرِ حديثِه؛ فإنِّي لا أعلَمُ من الأحاديثِ المُسنَدةِ ما أذكُرُه، وإنَّما له من الأخبارِ المكروهُ الذي لا أستجيزُ ذِكْرَه) [616] ((الكامل في ضعفاء الرجال)) (6/2110). .
وقال الذَّهبيُّ: (أخباريٌّ تالِفٌ، لا يُوثَقُ به) [617] ((ميزان الاعتدال)) (3/419، 430). ويُنظر: ((لسان الميزان)) لابن حجر (4/492). .
بعضُ مَرويَّاتِه التي يظهَرُ فيها كَذِبُه وطَعنُه في الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم
الرِّوايةُ الأولى في سقيفةِ بني ساعِدةَ
روى أبو مِخنَفٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا قُبِض اجتمعت الأنصارُ في سقيفةِ بني ساعِدةَ، فقالوا: نولِّي هذا الأمرَ بعدَ مُحمَّدٍ عليه السَّلامُ سَعدَ بنَ عُبادةَ، وأخرجوا سعدًا وهو مريضٌ، فلمَّا اجتمعوا تكلَّم فيهم بصوتٍ ضعيفٍ كان يبلِّغُ القومَ عنه ابنٌ له أو بعضُ بني عمِّه، وكان ممَّا قاله بعد أن ذَكَّرَهم سابقةَ الأنصارِ وجِهادَهم، وأنَّ لهم سابقةً في الدِّينِ وفضيلةً في الإسلامِ ليست لقبيلةٍ من العَرَبِ، وأنَّ العَرَبَ دانت لرسولِ اللَّهِ بأسيافِهم، وتوفَّى اللَّهُ رسولَه وهو راضٍ عنهم، ثمَّ إنَّ القومَ أجابوه بأجمَعِهم: أنْ قد وُفِّقْتَ في الرَّأيِ، وأصَبْتَ في القَولِ، ولن نَعدوَ ما رأيتَ، ونولِّيك هذا الأمرَ، ثمَّ ترادُّوا الكلامَ بَيْنَهم فقالوا: فإنْ أبَتِ مهاجِرةُ قُرَيشٍ فقالوا: نحن المهاجرون وصحابةُ رَسولِ اللَّهِ الأوَّلون، ونحن عشيرتُه وأولياؤه، فعلامَ تُنازِعوننا هذا الأمرَ بعدَه؟! فقالت طائفةٌ منهم: فإنَّا نقولُ إذًا: منَّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، ولن نرضى بدونِ هذا الأمرِ أبدًا، فقال سعدُ بنُ عُبادةَ حينَ سَمِعها: هذا أوَّلُ الوَهْنِ، وأتى عُمَرَ الخبَرُ، فأقبَلَ إلى منزِلِ النَّبيِّ، فأرسَل إلى أبي بَكرٍ، وأبو بكرٍ في الدَّارِ، وعَليُّ بنُ أبي طالبٍ دائبٌ في جهازِ رَسولِ اللَّهِ، وبعدَ مجيئِه تكَلَّم أبو بكرٍ، ثمَّ عُمَرُ، ثمَّ قام الحُبابُ بنُ المُنذِرِ فتكَلَّمَ، وممَّا قال: يا مَعشَرَ الأنصارِ، املِكوا على أيديكم، ولا تَسمَعوا مقالةَ هذا وأصحابِه فيَذهَبوا بنصيبِكم من هذا الأمرِ، فإنْ أبوا عليكم ما سألتُموه فأجْلوهم عن هذه البلادِ، فأنتم واللَّهِ أحقُّ بهذا الأمرِ منهم... إلى أن قال: أنا جُذَيِّلُها المُحَكَّكُ، وعُذَيِّقُها المُرَجَّبُ، أمَا واللَّهِ لئنْ شِئتُم لنُعيدَنَّها جَذعةً، فقال عمَرُ: إذًا يقتُلَك اللَّهُ، قال: بل إيَّاك يَقتُلُ...
فأقبل النَّاسُ من كُلِّ جانبٍ يبايعون أبا بكرٍ، وكادوا يطؤون سعدَ بنَ عُبادةَ، فقال ناسٌ من أصحابِ سَعدٍ: اتَّقوا سعدًا لا تطؤوه، فقال عُمَرُ: اقتلوه، قتَلَه اللَّهُ، ثمَّ قام على رأسِه، فقال: لقد همَمْتُ أن أطأَك حتَّى تندرَ عَضُدُك، فأخذ سعدٌ بلحيةِ عُمَرَ فقال: واللَّهِ لو حَصَصْتَ منه شعرةً ما رجَعْتَ وفي فيك واضِحةٌ! فقال أبو بكرٍ: مهلًا يا عُمَرُ، الرِّفقُ هاهنا أبلغُ، فأعرَض عنه عُمَرُ، وقال سعدٌ: أمَا واللَّهِ لو أنَّ بي قوَّةً لسَمِعتَ مني في أقطارِها وسِكَكِها زئيرًا يجحَرُك وأصحابَك، أمَا واللَّهِ إذًا لألحِقَنَّك بقومٍ كنتَ فيهم تابعًا غيرَ متبوعٍ، احمِلوني من هذا المكانِ، فحملوه فأدخَلوه في دارِه، وتُرِك أيَّامًا، ثمَّ بُعِث إليه أن أقبِلْ فبايِعْ؛ فقد بايع النَّاسُ وبايع قومُك، فقال: أمَا واللَّهِ حتَّى أرميَكم بما في كِنانتي من نَبلي، وأخضبَ سِنانَ رُمحي، وأضرِبَكم بسيفي ما ملَكَتْه يدي، وأقاتِلَكم بأهلِ بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعَلُ، وايمُ اللَّهِ لو أنَّ الجِنَّ اجتمَعَت لكم مع الإنسِ ما بايعْتُكم، حتَّى أُعرَضَ على ربِّي، وأعلَمَ ما حِسابي. فلمَّا أتى أبو بكرٍ بذلك، قال له عُمَرُ: لا تدَعْه حتَّى يبايِعَ، فقال له بَشيرُ بنُ سَعدٍ: إنَّه قد لَجَّ وأبى، وليس بمبايعِكم حتَّى يُقتَلَ، وليس بمقتولٍ حتى يُقتَلَ معه ولَدُه وأهلُ بَيتِه وطائفةٌ من عشيرتِه، فاترُكوه فليس تَركُه بضارِّكم، إنَّما هو رجُلٌ واحِدٌ، فتَرَكوه وقَبِلوا مشورةَ بشيرِ بنِ سَعدٍ، واستَنْصَحوه لِما بدا لهم منه، فكان سَعدٌ لا يُصَلِّي بصلاتِهم، ولا يُجمِّعُ معهم، ويحُجُّ ولا يُفيضُ معهم بإفاضتِهم، فلم يَزَلْ كذلك حتى هَلَك أبو بكرٍ [618] ((تاريخ الطبري)) (3/218 - 223). .
هذه مُقتَطَفاتٌ من روايةِ أبي مِخنَفٍ الطَّويلةِ في حادثةِ السَّقيفةِ التي تفَرَّد فيها بأشياءَ تخالِفُ ما ثبت في قِصَّةِ السَّقيفةِ في الرِّواياتِ الصَّحيحةِ، ويظهَرُ من روايةِ أبي مِخنَفٍ التَّعَدِّي على الصَّحابةِ، وتصويرُهم بصورةٍ لا تليقُ بمن هو أقَلُّ منهم من صالحي المُسلِمين، فكيف بخيارِ الأمَّةِ وأصحابِ رَسولِ اللَّهِ؟! فهو يصوِّرُ الأمرَ وكأنَّه صراعٌ على السُّلطةِ، يتناسى معه الصَّحابةُ كُلَّ فضيلةٍ وسابقةٍ في الدِّينِ لمن سِواهم، وهل يليقُ بالأنصارِ أن يَنسُبوا لأنفُسِهم فضلًا على المهاجِرين، ويعتَبِروا أنفُسَهم أصحابَ سابقةٍ في الدِّينِ وفضيلةٍ في الإسلامِ ليست لقبيلةٍ من العَرَبِ، وهم يَعلَمون تقديمَ المهاجِرين عليهم في القرآنِ الكريمِ، أو أن يستَبِدُّوا بهذا الأمرِ دونَ النَّاسِ؟! وهل يُعقَلُ أن يعتَبِرَ زُعماءُ الأنصارِ أنَّ اختيارَ أميرٍ من المهاجِرين وآخَرَ من الأنصارِ أوَّلُ الوَهنِ، وتمتلئُ الرِّوايةُ بألفاظِ المهاتَرةِ، والكَلِماتِ البذيئةِ، بل ربَّما وصَلَت إلى الاعتداءِ والضَّربِ بَيْنَ الصَّحابةِ؟! وتلك آفةُ الرِّواياتِ المختَلَقةِ، وهي أثرٌ من آثارِ معتَقَدِ الشِّيعةِ في سَبِّ الصَّحابةِ والطَّعنِ فيهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم [619] ذكر يحيى اليحيى أنَّ البخاريَّ أخرج في صحيحِه ثلاثَ رواياتٍ في السَّقيفةِ، وأخرج الإمامُ أحمدُ في مسندِه خمسَ رواياتٍ، والنَّسائيُّ روايةً واحدةً، وابنُ أبي شيبةَ أربعَ رواياتٍ، وابنُ سعدٍ ثلاثَ رواياتٍ، هذا فضلًا عن رواياتِ المؤرِّخين، كالبلاذريِّ، والذَّهبيِّ، وابنِ كثيرٍ، وغيرِهم، بل إنَّ الطَّبريَّ نفسَه ساق رواياتٍ أخرى ليس في سنَدِها أبو مِخنَفٍ، تخالِفُ ما تفرَّد به أبو مخنَفٍ في هذه الرِّوايةِ العجيبةِ، وقد قارن اليحيى بين تلك الرِّواياتِ وروايةِ أبي مِخنَفٍ. يُنظر: ((مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري)) (ص: 112، 126). .
الرِّوايةُ الثَّانيةُ: في قِصَّةِ الشُّورى
روى أبو مِخنَفٍ روايةً طويلةً في قِصَّةِ اختيارِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه لسِتَّةٍ من الصَّحابةِ ليكونَ أحَدُهم خليفةً مِن بَعدِه؛ إذ قال العبَّاسُ لعَليٍّ رَضيَ اللَّهُ عنهما: لا تدخُلْ معهم، فقال عليٌّ: أكرَهُ الخلافَ، فقال له العبَّاسُ: إذًا ترى ما تَكرَهُ. ثمَّ قال عليٌّ للعبَّاسِ حين تلقَّاه: عُدِلَت عنَّا، فقال: وما عِلْمُك؟ قال: قُرِنَ بي عُثمانُ، وقال: كونوا مع الأكثَرِ، فإنْ رَضِيَ رجلان رجُلًا، ورجُلانِ رَجُلًا، فكونوا مع الذين فيهم عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ، فسَعدٌ لا يخالِفُ ابنَ عَمِّه عبدَ الرَّحمنِ، وعبدُ الرَّحمنِ صِهرُ عُثمانَ، فلو كان الآخرانِ معي لم ينفعاني… فردَّ عليه العبَّاسُ مُذَكِّرًا بما قاله له حين سُمِّيَ في السِّتَّةِ ثمَّ أوصاه قائلًا: احفَظْ عني واحدةً: كُلَّما عَرَض عليك القومُ فقُلْ: لا، إلَّا أن يولُّوك، واحذَرْ هؤلاء الرَّهطَ؛ فإنَّهم لا يَبْرَحون يدفعونَنا عن هذا الأمرِ حتى يقومَ به غيرُنا... فقال عليٌّ: أمَا لئِنْ بقي عُثمانَ لأُذَكِّرَنَّه ما أتى، ولئن مات ليتداوَلُنَّها بَيْنَهم، ولئن فعلوا ليَجِدُنِّي حيثُ يكرهون... دعا عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ عَليًّا فقال: عليك عهدُ اللَّهِ وميثاقُه لتَعمَلَنَّ بكتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسولِه وسيرةِ الخليفتَينِ مِن بَعدِه؟ قال: أرجو أن أفعَلَ وأعمَلَ بمبلَغِ عِلمي وطاقتي، ودعا عُثمانَ فقال له مِثلَ ما قال لعليٍّ، قال: نعم، فبايَعَه، فقال عليٌّ: حَبَوْتَه حَبْوَ دَهرٍ، ليس هذا أوَّلَ يومٍ تظاهَرْتُم فيه علينا، فصَبرٌ جميلٌ، واللَّهُ المستعانُ على ما تَصِفون، واللَّهِ ما وَلَّيتَ عُثمانَ إلَّا ليَرُدَّ الأمرَ إليك، واللَّهُ كُلَّ يومٍ هو في شأنٍ [620] ((تاريخ الطبري)) (4/228 –230، 233). .
فهذه الرِّوايةُ العجيبةُ تفَرَّد بها أبو مِخنَفٍ، وهي مليئةٌ بكثيرٍ من الأخطاءِ والتَّجاوزاتِ والمغالطاتِ، ويكشِفُ عَورَها غيرُها من الرِّواياتِ الصَّحيحةِ [621] وردت قصَّةُ الشُّورى برواياتٍ صحيحةٍ من مصادِرَ أخرى؛ فقد أخرجها البخاريُّ في صحيحِه من طريقينِ، وابنُ حبَّانَ وغيرُهما، وتطرَّق العُلَماءُ لقصَّةِ بيعةِ عثمانَ رضي اللهُ عنه، ولم يذكُروا غرائبَ روايةِ أبي مخنَفٍ، بل أكَّدوا مبايعةَ عليٍّ وغيرِه لعثمانَ، وأنَّ من قدَّم عليًّا عليه فقد أزرى بالمهاجِرين والأنصارِ، واتَّهمهم بما ليس فيهم. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/427-428)، ((مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري)) لليحيى (ص: 170 - 180). .
قال ابنُ كثيرٍ: (ما يذكُرُه كثيرٌ من المؤرِّخينَ، كابنِ جريرٍ وغيرِه عن رِجالٍ لا يَعرِفون أنَّ عليًّا قال لعبدِ الرَّحمنِ: خدَعْتَني، وإنَّك إنما ولَّيتَه لأنَّه صِهرُك، وليشاوِرَك كُلَّ يومٍ في شأنِه… إلى غيرِ ذلك من الأخبارِ المُخالِفةِ لِما ثبت في الصِّحاحِ؛ فهي مردودةٌ على قائليها وناقليها، واللَّهُ أعلَمُ، والمظنونُ بالصَّحابةِ خِلافُ ما يتوهَّمُ كثيرٌ من الرَّافِضةِ وأغبياءِ القُصَّاصِ الذين لا تمييزَ عِندَهم بَيْنَ صحيحِ الأخبارِ وضعيفِها، ومستقيمِها وسقيمِها) [622] ((البداية والنهاية)) (7/161). .

انظر أيضا: