موسوعة الفرق

المبحَثُ الأوَّلُ: التَّشيُّعُ من التَّفضيلِ للتَّكفيرِ


مرَّ مُصطَلَحُ الشِّيعةِ بعِدَّةِ مَراحِلَ، تطوَّر المفهومُ خلالَها من مسمًّى لم يكُنْ يَعْدُو قصدُ أصحابِهِ تفضيلَ بعضِ الصَّحابةِ على بعضٍ مع الاحتفاظِ لهم بالمحبَّةِ وسلامةِ الصَّدرِ إلى مفهومٍ عَقَديٍّ ومَذهَبِيٍّ لم يكتَفِ مُنتَحِلوه بمسألةِ الاختلافِ بالتَّفضيلِ بَيْنَ عُثمانَ وعَليٍّ رَضيَ اللَّهُ عنهما، بل إلى اعتبارِ عَليٍّ وصيَّ رسولِ اللَّهِ، وأنَّه الأحقُّ بالخلافةِ من أبي بَكرٍ وعُمَرَ فضلًا عن عُثمانَ، وغالى كثيرٌ من أصحابِ هذه النَّزعةِ في اعتبارِ الخُلَفاءِ الثَّلاثةِ مغتَصِبين للخلافةِ من عليٍّ، وأنَّ من لم يعتَقِدْ مِن الصَّحابةِ أحقِّيَّةَ عليٍّ بالخلافةِ دونَ غيرِه فهو متَّهَمٌ في دينِه، مختَلٌّ في عقيدتِه، ومِن هنا دخل الشِّيعةُ إلى الطَّعنِ في الصَّحابةِ، وافتَرَوا كثيرًا من الرِّواياتِ في استنقاصِهم، والتَّجنِّي عليهم، واختَلَقوا رواياتٍ أُخرى فيها مبالغاتٌ في وَصفِ عليٍّ لا يرضى هو بها، حتَّى إنَّه قال: (لا أُوتى بأحدٍ يُفَضِّلُني على أبي بَكرٍ وعُمَرَ إلَّا جلَدْتُه حَدَّ المُفتري) [587] أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (1219)، والدارقطني في ((المؤتلف والمختلف)) (2/807)، والبيهقي في ((الاعتقاد)) (ص358). ذكر ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (28/474) أنَّه رويَ بأسانيدَ جيِّدةٍ. ؛ فالشِّيعةُ الأولى مُصطَلَحٌ آخَرُ لا يدخُلُ ضِمنَ الحديثِ عن الشِّيعةِ الرَّافِضةِ الاثْنَي عَشْريَّةِ.
جاء عن سعدِ بنِ عُبَيدةَ عن أبي عبدِ الرَّحمنِ السُّلَميِّ، وكان عُثمانيًّا، أنَّه قال لابنِ عطيَّةَ وكان عَلَويًّا: إنِّي لأعلَمُ ما الذي جرَّأ صاحِبَك -يعني عليًّا- على الدِّماءِ… ثمَّ ذَكَر قولَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لعَلَّ اللَّهَ اطَّلع على أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلوا ما شئتمُ)) [588] أخرجه البخاري (3081) واللفظ له، ومسلم (2494). !
قال ابنُ حَجَرٍ في شَرحِ الحديثِ: (قولُه: "وكان عُثمانيًّا"، أي: يُقَدِّمُ عُثمانَ على عليٍّ في الفضلِ، وقولُه: "وكان عَلَويًّا"، أي: يُقَدِّمُ عَليًّا في الفضلِ على عُثمانَ، وهو مَذهَبٌ مشهورٌ لجماعةٍ من أهلِ السُّنَّةِ بالكوفةِ) [589] ((فتح الباري)) (6/191) و (21/306). .
وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وقف جماعةٌ من أئِمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والسَّلَفِ في عليٍّ وعُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما فلم يُفَضِّلوا أحدًا منهما على صاحبِه، منهم مالِكُ بنُ أنسٍ، ويحيى بنُ سعيدٍ القَطَّانُ، وأمَّا اختلافُ السَّلَفِ في تفضيلِ عليٍّ فقد ذَكَر ابنُ أبي خيثمةَ في كتابِه من ذلك ما فيه كفايةٌ، وأهلُ السُّنَّةِ اليومَ على ما ذَكَرتُ لك من تقديمِ أبي بَكرٍ في الفَضلِ على عُمَرَ، وتقديمِ عُمَرَ على عُثمانَ، وتقديمِ عُثمانَ على عليٍّ، وعلى هذا عامَّةُ أهلِ الحديثِ مِن زَمَنِ أحمدَ بنِ حَنبَلٍ إلَّا خواصُّ مِن جِلَّةِ الفُقَهاءِ وأئِمَّةِ العُلَماءِ؛ فإنَّهم على ما ذَكَرنا عن مالِكٍ ويحيى القطَّانِ وابنِ مَعينٍ، فهذا ما بَيْنَ أهلِ الفقهِ والحديثِ في هذه المسألةِ، وهم أهلُ السُّنَّةِ) [590] ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) (3/1116، 1117). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (وأمَّا جُمهورُ النَّاسِ ففَضَّلوا عُثمانَ، وعليه استقَرَّ أمرُ أهلِ السُّنَّةِ، وهو مَذهَبُ أهلِ الحديثِ، ومشايخِ الزُّهدِ والتَّصوُّفِ، وأئِمَّةِ الفُقَهاءِ، كالشَّافعيِّ وأصحابِه، وأحمدَ وأصحابِه، وأبي حنيفةَ وأصحابِه، وإحدى الرِّوايتينِ عن مالكٍ وأصحابِه؛ قال مالِكٌ: لا أجعَلُ من خاض في الدِّماءِ كمن لم يخُضْ فيها) [591] ((منهاج السنة)) (4/202). .
وقد نُقِلَت عن مالكٍ روايةٌ ثالثةٌ، وهي التَّوقُّفُ في التَّفضيلِ بَيْنَ عُثمانَ وعليٍّ، وهو الذي حكاه ابنُ القاسِمِ عن مالِكٍ عمَّن أدركه من المدنيِّين [592] يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (4/202). وقال ابنُ تيميَّةَ معلقًا على هذا الرأيِ: (وهذا يحتمِلُ السُّكوتَ عن الكلامِ في ذلك، فلا يكونُ قولًا، وهو الأظهَرُ، ويحتَمِلُ التَّسويةَ بينهما). .
قال ابنُ تَيميَّة: (كانت الشِّيعةُ الأولى لا يَشُكُّون في تقديمِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ، وأمَّا عُثمانُ فكثيرٌ من النَّاسِ يُفَضِّلُ عليه عليًّا، وهذا قولُ كثيرٍ من الكوفيِّين وغيرِهم، وهذا القولُ الأوَّلُ للثَّوريِّ ثمَّ رجع عنه... وأمَّا جمهورُ النَّاسِ ففَضَّلوا عُثمانَ، وعليه استقَرَّ أمرُ أهلِ السُّنَّةِ… قال أيُّوبُ السَّختيانيُّ: مَن لم يُقَدِّمْ عُثمانَ على عليٍّ فقد أزرى بالمهاجِرين والأنصارِ) [593] ((منهاج السنة)) (4/202). .
وهذه المسألةُ الخلافيَّةُ ليست من الأصولِ التي يُضَلَّلُ المخالِفُ فيها عِندَ جمهورِ أهلِ السُّنَّةِ، لكِنَّ المسألةَ التي يُضَلَّلُ المخالِفُ فيها هي مسألةُ الخلافةِ، فمَن لم يصحِّحْ خلافةَ الخلفاءِ الرَّاشِدين الثَّلاثةِ فهو شيعيٌّ غالٍ، مخالِفٌ لكتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومخالِفٌ أيضًا لعَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه [594] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/153). .
فعَليٌّ رَضيَ اللَّهُ عنه لم يدَّعِ أبدًا أنَّه الوصيُّ، وكان يعتقدُ صِحَّةَ خلافةِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، ويعتقِدُ أنَّهم أئِمَّةٌ للمُسلِمين تجِبُ طاعتُهم في غيرِ معصيةِ اللَّهِ، وقد دلَّ القرآنُ الكريمُ على إمامتِهم؛ قال اللَّهُ تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] .
قال ابنُ حزمٍ الأندَلُسيُّ: (في نصِّ القرآنِ دليلٌ على صِحَّةِ خِلافةِ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، وعلى وجوبِ الطَّاعةِ لهم، وهو أنَّ اللَّه تعالى قال مخاطبًا لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأعرابِ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: 83] ، وكان نزولُ سورةِ (براءةٌ) التي فيها هذا الحُكمُ بعدَ غَزوةِ تَبوكَ، ولم يَغْزُ عليه السَّلامُ بعدَ غزوةِ تَبوكَ إلى أن مات صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،... ثمَّ عَطَف سُبحانَه وتعالى عليهم أَثَرَ منعِه إيَّاهم من الغزوِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال تعالى: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح: 16] ، فأخبَرَ تعالى أنَّهم سيدعوهم غيرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قومٍ يقاتِلونهم أو يُسلِمون، ووعَدَهم على طاعةِ مَن دعاهم إلى ذلك بجزيلِ الأجرِ العظيمِ، وتوعَّدهم على عِصيانِ الدَّاعي لهم إلى ذلك العَذابِ الأليمِ، وما دعا أولئك الأعرابَ أحدٌ بعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى قومٍ يقاتِلونهم أو يُسلِمون إلَّا أبو بَكرٍ وعُمَرُ وعُثمانُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم؛ فإنَّ أبا بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه دعاهم إلى قتالِ مُرتدِّي العَرَبِ: بني حنيفةَ، وأصحابِ الأسوَدِ، وسَجاحٍ، وطُليحةَ، والرُّومِ والفُرسِ، وغيرِهم، ودعاهم عُمَرُ إلى قتالِ الرُّومِ والفُرسِ، وعُثمانُ دعاهم إلى قتالِ الرُّومِ والفُرسِ والتُّركِ، فوَجَب طاعةُ أبي بَكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنهم بنصِّ القرآنِ الذي لا يحتَمِلُ تأويلًا؛ وإذ قد وجَبَت طاعتُهم فرضًا فقد صحَّت إمامتُهم وخلافتُهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم) [595] ((الفِصَل في الِملَل والأهواء والنحل)) (4/89). .
وهذه الآيةُ الكريمةُ تقلَعُ من قلوبِ الشِّيعةِ عقيدةَ الوصيَّةِ المزعومةِ، وقد تتابع العُلَماءُ على الاستدلالِ بها قَبلَ ابنِ حَزمٍ وبَعدَه [596] يُنظر: ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) للملطي (ص: 2)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (4/138)، ((تفسير السمعاني)) (5/198)، ((تفسير الزمخشري)) (4/338)، ((تفسير ابن عطية)) (5/132)، ((الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار)) لابن أبي الخير العمراني (3/843)، ((تفسير القرطبي)) (16/272).   .

انظر أيضا: