موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: التَّكفيرُ كُفرَ نِعمةٍ


وعلى هذا المعتَقَدِ فِرقةُ الإباضيَّةِ، ومع هذا فإنَّهم يَحكُمون على صاحِبِ المَعصيةِ بالنَّارِ إذا مات عليها، ويَحكُمون عليه في الدُّنيا بأنَّه منافِقٌ، ويجعَلون النِّفاقَ مُرادِفًا لكُفرِ النِّعمةِ، ويُسَمُّونه مَنزلةً بَينَ المَنزِلتَينِ، أي: بَينَ الشِّرْكِ والإيمانِ، ويَرَون أنَّ النِّفاقَ لا يكونُ إلَّا في الأفعالِ لا في الاعتقادِ. وهذا قَلبٌ لحقيقةِ النِّفاقِ؛ إذ المعروفُ أنَّ المنافِقين الذين كانوا على عهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان نِفاقُهم في الاعتقادِ لا في الأفعالِ، فإنَّ أفعالَهم كانت في الظَّاهِرِ كأفعالِ المُؤمِنين.
فالإباضيَّةُ يَرَون أنَّ من ارتكب كبيرةً من الكبائرِ فهو موحِّدٌ غيرُ مُشرِكٍ، لكِنَّه ليس بمُؤمِنٍ؛ إذ إنَّه يخلَّدُ في النَّارِ خُلودَ الكافِرين إذا مات وهو على كبيرتِه، وهو لذلك كافِرٌ كُفرَ نِعمةٍ لا كُفرَ مِلَّةٍ، على ما يأتي من تفصيلٍ [498] يُنظر: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية)) لعواجي (ص: 345). .
يقولُ قُطبُ الأئمَّةِ منهم في رسالتِه (المخطوطة) لدى سالمِ بنِ يعقوبَ الجَبريِّ: (وأمَّا كونُ مُرتَكِبِ الكبيرةِ مُوَحِّدًا غيرَ مُؤمِنٍ، فهو مَذهَبُنا) [499] نقلًا عن ((الإباضية بين الفرق)) لمعمر (ص: 484). .
وقال الأشعَريُّ عنهم: (قالوا: إنَّ كُلَّ طاعةٍ إيمانٌ ودينٌ، وإنَّ مُرتَكِبي الكبائِرِ مُوَحِّدون وليسوا بمُؤمِنين) [500] ((المقالات)) (1/185)، ويُنظر: ((الإباضية بين الفرق)) لمعمر (ص: 320). .
وقال أيضًا: (الإباضيَّةُ يقولون: إنَّ جميعَ ما افترض اللهُ سُبحانَه على خَلقِه إيمانٌ، وإنَّ كُلَّ كبيرةٍ فهي كُفرُ نِعمةٍ لا كُفرُ شِركٍ، وإنَّ مُرتَكِبي الكبائرِ في النَّارِ خالِدون مخلَّدون فيها) [501] ((المقالات)) (1/189، 204). ويُنظر: ((الفصل)) لابن حزم (4/46)، ((العقود الفضية)) للحارثي (ص: 285). .
وكذا الشَّهْرَسْتانيُّ فيما يرويه عن الكعبيِّ أنَّ هذا الرَّأيَ هو رأيُ الإباضيَّةِ بالإجماعِ، وهو ما أكَّده الحارثيُّ الإباضيُّ [502] ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/135) ويُنظر: ((العقود الفضية)) للحارثي (ص: 170، 288). .
ولا يُدرى ما وجهُ التَّفرِقةِ بَينَ التَّوحيدِ والإيمانِ في حُكمِ مُرتَكِبِ الكبيرةِ؛ حيثُ يُثبِتون له التَّوحيدَ ويَنفون عنه الإيمانَ؟! فالتَّوحيدُ إيمانٌ باللهِ الواحِدِ، إلَّا أن يكونَ مُرادُهم هو وَصفَه بالتَّوحيدِ لمجَرَّدِ نُطقِه بكَلِمةِ التَّوحيدِ ولو ظاهِرًا.
ثمَّ إنَّهم عِندَما يَنفُون عن المُذنِبِ الإيمانَ يَلزَمُهم القولُ بتكفيرِهم له كُفرَ مِلَّةٍ؛ فنفيُ أحدِ النَّقيضَينِ يَستلزِمُ ثبوتَ الآخَرِ، فما وَجهُ حُكمِهم على الذَّنبِ بالتَّكفيرِ كُفرَ نِعمةٍ لا كُفرَ مِلَّةٍ، وهو عِندَهم غيرُ مُؤمِنٍ ومُخَلَّدٌ في النَّارِ؟! ثُمَّ إنَّهم يَستَدِلُّون على عدَمِ إيمانِه بخلودِه في النَّارِ، بينما خلودُه في النَّارِ إنَّما هو نتيجةٌ لعدَمِ إيمانِه، وهذا خَلطٌ وتناقُضٌ في الرَّأيِ.
وما ذُكِر مِن حُكمِ الإباضيَّةِ على مُرتَكِبي الكبائِرِ بالخلودِ في النَّارِ خُلودَ الكافِرين إنَّما هو في شأنِ من مات مُصِرًّا على كبيرتِه، وفي هذا يقولُ النَّفُوسيُّ من عُلَمائِهم:
ودنا بإنفاذِ الوعيدِ وحُكمِه
وتخليدِ أهلِ النَّارِ في النَّارِ والهُونِ
فحَدُّ الكبيرِ الحَدُّ في عاجِلِ الدُّنَا
وسُوءُ عَذابِ النَّارِ يا شَرَّ مَسكَنِ
ثلاثةُ أسماءِ معانٍ تجاوزَت
كبيرٌ وكُفرٌ والعِقابُ بمُقرنِ
فمَن مات من أهلِ الكبائِرِ آبِيًا
مُصِرًّا فما أقصاه عن جَنَّةِ العَدنِ [503] ((متن النونية)) (ص: 18). .
وصاحِبُ (كتابُ الأديانِ) الإباضيُّ قال بَعدَ أن استَشهَد بقولِ اللهِ تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر: 73] ، وقَولِه تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا [الزمر: 71] ، وقَولِه تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، قال: (فقد سَمَّى اللهُ من دخل النَّارَ كافِرًا لَعينًا، وكُلُّ من عصى اللهَ بكبيرةٍ ومات مُصِرًّا عليها فقد كَفَر بنعمةِ اللهِ، ويُخلَّدُ في النَّارِ بكبيرتِه) [504] ((الأديان)) (ص: 55). .
ثمَّ أثبت أيضًا أنَّ هذا هو اعتقادُ أهلِ الاستقامةِ، ويعني بهم الإباضيَّةَ وأنَّ مِن اعتقادِهم (أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ إذا مات مُصِرًّا يرى حَسَناتِه محبَطةً وسَيِّئاتِه مُثبَتةً، وصاحِبُ التَّوبةِ والإقلاعِ عن المَعصيةِ يَرى حَسَناتِه مُثبَتةً وسَيِّئاتِه مُحبَطةً) [505] ((الأديان)) (ص: 58). .
وفي هذا قال الأشعَريُّ أيضًا: (قالوا: الإصرارُ على أيِّ ذنبٍ كان، كُفرٌ) [506] ((المقالات)) (1/187). . وهو عِندَهم في مَنزِلةِ البراءةِ والبُعدِ حتَّى يتوبَ مِن ذَنبِه، كما تقولُ مصادِرُ الإباضيَّةِ [507] يُنظر: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 47). ويُنظر: ((العقود الفضية)) للحارثي (ص: 289). .
والحُكمُ على مُرتَكِبِ الكبيرةِ بأنَّه كافِرٌ كُفرَ مِلَّةٍ لا كُفرَ نِعمةٍ قائِمٌ على تفرقتِهم بَينَ التَّكذيبِ بالعقائِدِ وارتكابِ الكبائرِ، بحيثُ يستوجِبُ أوَّلُهما الشِّرْكَ وثانيهما مجرَّدَ كُفرِ النِّعمةِ، وفي هذا ذَكَر السَّالميُّ أنَّ الكُفرَ عِندَ الإباضيَّةِ ينقَسِمُ إلى كُفرِ شِركٍ وإلى كُفرِ نِعمةٍ، ومَثَّل لكِلا النَّوعَينِ بأمثلةٍ؛ فمَثَّل لكُفرِ الشِّرْكِ باللهِ (بالتَّكذيبِ بشيءٍ من كتُبِ اللهِ، أو تكذيبٍ بنبيٍّ من أنبيائِه، أو رَدِّ حَرفِ من كتُبِ اللهِ، وكإنكارِ الموتِ والبعثِ أو الحَشرِ أو الحِسابِ أو الجنَّةِ). ومَثَّلَ لكُفرِ النِّعمةِ (بارتكابِ شيءٍ من كبائِرِ الذُّنوبِ من المعاصي الظَّاهرةِ أو الباطنةِ).
ومَثَّل للمعاصي الباطِنةِ (بالعُجبِ والكِبرِ والحَسَدِ والرِّياءِ، وما تولَّد منها من الأخلاقِ الرَّديئةِ).
ومَثَّل للمعاصي الظَّاهرةِ أو الكبائِرِ الظَّاهِرةِ (بالزِّنا والرِّبا وظُلمِ العِبادِ، وإيذاءِ المُسلِمين وتخويفِهم، ومكابَرةِ الحَقِّ ومُعاندةِ أهلِه، وشُربِ الخَمرِ، ولُبسِ الذَّهَبِ والحريرِ...) [508] ((تلقين الصبيان)) (ص: 123-127). .
ومع ما تقدَّم ذِكرُه من تكفيرِ الإباضيَّةِ لمُرتَكِبِ الكبيرةِ كُفرَ نِعمةٍ لا كُفرَ مِلَّةٍ؛ فمنهم من يخرُجُ عن هذا المبدَأِ، بل يُغالي في خُروجِه فيَعتَبِرُ ارتكابَ صغيرةٍ من الصَّغائرِ شِركًا، وهذا هو ما ذكَره ابنُ حَزمٍ عن فِرقةِ الحارثيَّةِ من الإباضيَّةِ، وعَدَّه من حماقاتِهم فقال: (ومن حماقاتِهم قولُ بَكرِ ابنِ أختِ عبدِ الواحِدِ بنِ زَيدٍ؛ فإنَّه كان يقولُ: كُلُّ ذنبٍ صَغيرًا أو كبيرًا ولو كان أَخْذُ حَبَّةِ خَردَلٍ بغيرِ حَقٍّ أو كَذبةٍ خَفيفةٍ على سبيلِ المُزاحِ؛ فهي شِركٌ باللهِ، وفاعِلُها كافِرٌ مُشرِكٌ مخلَّدٌ في النَّارِ إلَّا أن يكونَ من أهلِ بَدرٍ، فهو كافِرٌ مُشرِكٌ من أهلِ الجنَّةِ، وهذا حُكمُ طَلحةَ والزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما عِندَهم) [509] ((الفصل)) (4/191). !
وقد ردَّ عليه علي يحيى مَعمَر الإباضيُّ مُدَّعيًا أنَّ هذا البَكْرَ المجهولَ النَّسَبِ الذي لا يُعرَفُ إلَّا بابنِ أختِ عبدِ الواحِدِ شَخصٌ مجهولٌ لا يعرِفُه الإباضيَّةُ، وإنَّما أثبته ابنُ حزمٍ من الإباضيَّةِ لأنَّه -على حَدِّ تعبيرِ مَعمَرٍ- لم يجِدْ له مكانًا، فوضعه مع الإباضيَّةِ، وكأنَّه لقيطٌ مجهولٌ، فقد قال: (هذه -كما يرى القارئُ الكريمُ- ليست من حماقاتِ الإباضيَّةِ، وإنَّما هي من حماقاتِ العالِمِ الكبيرِ ابنِ حَزمٍ الأندَلُسيِّ، وللعُلَماءِ الكِبارِ حماقاتُهم... إنَّ العالِمَ الكبيرَ أبا محمَّدِ بنَ حَزمٍ وهو يصَنِّفُ المُسلِمين على فِرَقٍ يَعثُرُ على هذا الرَّجُلِ فلا يجِدُ له مكانًا، ثُمَّ يأتي به يسوقُه حتَّى يجِدَ فراغًا بَينَ صفوفِ الإباضيَّةِ فيُلقيه هناك، ثُمَّ يَنسُبُه إليهم، ثُمَّ يُلقي عليهم تَبِعةَ حماقاتِه) [510] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 51). .
ومهما يكُنْ من رأيِ علي يحيى في روايةِ ابنِ حَزمٍ عن الحارثيَّةِ هؤلاء، فإنَّ ابنَ حزمٍ يروي عنهم كذلك أنَّ العصاةَ أهلَ الحُدودِ يَجِبُ استتابتُهم بَعدَ إقامةِ الحَدِّ عليهم، فإن تابوا تُرِكوا وشأنَهم، وإن أبَوا فيَجِبُ قَتلُهم، وذلك في قَولِه: (قالت طائفةٌ من أصحابِ الحارِثِ الإباضيِّ أنَّ مَن زنا أو سرَق أو قذَف فإنَّه يقامُ عليه الحدُّ، ثُمَّ يُستتابُ ممَّا فَعَل، فإن تاب تُرِك، وإن أبى التَّوبةَ قُتِل على الرِّدَّةِ) [511] ((الفصل)) (4/189). .
وقد ردَّ مَعمَرٌ على ابنِ حزمٍ في ذلك أيضًا فقال: (لم يَذكُرْ أحدٌ أنَّ أئمَّةَ الإباضيَّةِ تجاوزوا حدودَ اللهِ في إقامةِ الحَدِّ، فقَتَلوا من لا يلزَمُه القتلُ. والإباضيَّةُ لا يَحكُمون على مَن لزِمَه الحدُّ بالرِّدَّةِ تاب أو لم يَتُبْ، وإسنادُ هذا القولِ إليهم كَذِبٌ عليهم) [512] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 47). .
ثمَّ ذَكَر أنَّ الشَّخصَ المحدودَ (لا يخلو إمَّا أن يقامَ عليه الحَدُّ بَعدَ اعترافِه وإعلانِه للتَّوبةِ، كماعِزٍ مَثَلًا، فهذا لا يختَلِفُ اثنانِ في صِدقِ توبتِه ووُجوبِ ولايتِه، وإمَّا أن يجِبَ عليه الحَدُّ ويقامَ وهو مُصِرٌّ على معصيتِه، ولا يُعلِنُ التَّوبةَ ممَّا ارتكَب، وهذا لا خلافَ بَينَ اثنينِ من الإباضيَّةِ في وُجوبِ البراءةِ منه) [513] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 47). .
والواقِعُ أنَّ مَذهَبَ السَّلَفِ هو أنَّهم لا يَبرَؤون ممَّن أقيمَ عليه الحَدُّ ولا يَعتَبِرونه كافرًا، فقد كان الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفسُه والصَّحابةُ مِن بَعدِه يُصَلُّون على من مات في الحَدِّ، بل ويترحَّمون عليه، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأصحابِه: (استَغْفِروا لماعِزِ بنِ مالِكٍ. قال: فقالوا: غَفَر اللهُ لماعِزِ بنِ مالِكٍ) [514] رواه مُسلِم (1695) من حديثِ بُريدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ويَذكُرُ علي يحيى مَعمَر وغيرُه من الإباضيَّةِ أنَّ رأيَ الإباضيَّةِ في مُرتَكِبِ الكبائرِ أنَّه منافِقٌ وليس بمُشرِكٍ، وأنَّ أهلَ السُّنَّةِ والإباضيَّةَ يتَّفِقون في أنَّ مُرتَكِبَ الكبيرةِ يدخُلُ النَّارَ، وهذا في الآخِرةِ، أمَّا في الدُّنيا فأحكامُه لا تختَلِفُ عن أحكامِ المُسلِمين، وأنَّهم في هذا تَبَعٌ لرأيِ الحَسَنِ البَصريِّ.
ونفى أن يكونَ رأيُ الإباضيَّةِ في أهلِ الكبائِرِ كرأيِ الخَوارِجِ؛ فإنَّ الإباضيَّةَ فيما يقولُ: (لا يَرَونَ رأيَ الخَوارِجِ، وإنَّما يَرَونَ رأيَ الحسَنِ البصريِّ، فيَعتَبِرون مُرتَكِبَ الكبيرةِ مُنافِقًا وليس مُشرِكًا، وهنا يلتقي الإباضيَّةُ وأهلُ السُّنَّةِ لِقاءً كامِلًا بقَطعِ النَّظَرِ عن التَّسمياتِ؛ فيتَّفِقون جميعًا عن غيرِهم من المُسلِمين) [515] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 247). ويُنظر: ((الإباضية في موكب التاريخ)) لمعمر (1/91). .
والواقِعُ أنَّ قولَ مَعمَرٍ باتِّفاقِ الإباضيَّةِ وأهلِ السُّنَّةِ على دُخولِ مُرتَكِبِ الكبيرةِ النَّارِ، ليس على إطلاقِه؛ فأهلُ السُّنَّةِ يقولون: إنَّه تحت المشيئةِ، إن شاء اللهُ عَذَّبه ثُمَّ أدخلَه الجنَّةَ، وإن شاء عفا عنه. ثُمَّ إنَّه أغفل القولَ بالتَّخليدِ في النَّار وعَدَمِه مكتفيًا بحُكمِه على مُرتَكِبِ الكبيرةِ بدُخولِ النَّارِ، بينما الإباضيَّةُ يَحكُمون بخلودِه فيها كما هو مَذهَبُ عامَّةِ الخَوارِجِ، ويقولُ قُطبُ الأئمَّةِ مُفَرِّقًا بَينَ النِّفاقِ والشِّرْكِ: (نحن لا نتوقَّفُ في النِّفاقِ، بل نجزِمُ أنَّه غيرُ شِركٍ، ونقطَعُ بذلك) [516] ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 484). .
بينما الأشعَريُّ يَذكُرُ أنَّهم لم يجزِموا بحُكمٍ فيه، بل اختَلفوا على ثلاثِ فِرَقٍ: الفِرقةُ الأولى منهم يَزعُمون أنَّ النِّفاقَ براءةٌ من الشِّرْكِ، زاد البَغداديُّ قَولَه: (براءةٌ من الشِّرْكِ والإيمانِ جميعًا)، واحتجُّوا في ذلك بقولِ اللهِ عزَّ وجَلَّ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [النساء: 143] .
والفِرقةُ الثَّانيةُ منهم يقولون: إنَّ كُلَّ نفاقٍ شِركٌ؛ لأنَّه يضادُّ التَّوحيدَ.
والفِرقةُ الثَّالثةُ منهم يقولون: لَسْنا نُزيلُ اسمَ النِّفاقِ عن مَوضِعِه، وهو دينُ القَومِ الذين عناهم اللهُ بهذا الاسمِ في ذلك الزَّمانِ، ولا نُسَمِّي غيرَهم بالنِّفاقِ.
وقال القومُ الذين زَعَموا أنَّ المنافِقَ كافِرٌ وليس بمُشرِكٍ: إنَّ المنافقين على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا مُوَحِّدين، وكانوا أصحابَ كبائرَ. زاد الشَّهْرَسْتانيُّ: (فكَفَّروا بالكبيرةِ، لا بالشِّرْكِ) [517] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/185)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 106)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/135). .
إذًا عُمومُ الإباضيَّةِ يحكُمون على مُرتَكِبِ الكبيرةِ -إذا استَثْنَينا قولَ الحارثيَّةِ منهم بتكفيرِه كُفرَ مِلَّةٍ- بكُفرِ النِّعمةِ والنِّفاقِ، فهل هما بمعنًى واحدٍ عِندَهم فلا يكونُ بَينَهم خلافٌ في هذا الحُكمِ؟ وهل يُعتَبَرُ كُفرُ النِّعمةِ والنِّفاقُ مَنزلةً بَينَ مَنزِلتَيِ الشِّرْكِ والإيمانِ؟
هذا ما تجيبُ عليه أقوالُ الإباضيِّين في الكلامِ التَّالي عن حقيقةِ القولِ بالمنزِلةِ بَينَ المَنزِلتَينِ عِندَهم.
حقيقةُ القولِ بالمَنزِلةِ بَينَ المَنزِلَتَين عِندَ الإباضيَّة
يقفُ الإباضيَّةُ من هذه المسألةِ بَينَ أمرينِ؛ النَّفيُ من جهةٍ، والإثباتُ من جهةٍ أُخرى. وذلك باعتبارَينِ مختَلِفينِ:
فإثباتُهم للمَنزِلةِ بَينَ المَنزِلَتَين يقصِدون به النِّفاقَ الذي يحكُمون به على مُرتَكِبِ الكَبيرةِ؛ حيثُ يُثبِتونه مَنزِلةً بَينَ مَنزِلةِ الإيمانِ والشِّرْكِ، ويبدو كذلك أنَّ النِّفاقَ عِندَهم معنًى مرادفٌ لمعنى كُفرِ النِّعمةِ، بل هذا هو ما يؤكِّدُه كلامُ أبي إسحاقَ الإباضيِّ مُثبِتًا رأيَهم في أنَّهم يُطلِقون النِّفاقَ على الكبائِرِ المرادِفةِ لكُفرِ النِّعمةِ؛ حيثُ يقولُ: (ولهذا أطلق أصحابُنا النِّفاقَ عليها -يعني بها الكبائِرَ- كما أطلقوا الكُفرَ، فصار النِّفاقُ فيها مرادِفًا لكُفرِ النِّعمةِ) [518] نقلًا عن ((الإباضية بين الفرق)) (ص: 322). .
وكذلك يَعتَبِرُ تَبْغورينُ [519] هو تَبْغورين بنُ عيسى بنِ داودَ المَلْشوطيُّ، عالمٌ إباضيٌّ. يُنظر: ((معجم أعلام الإباضية)) لناصر والشيباني (2/ 104)، ((جامع أبي الحسن البسيوي)) للبسيوي (1/ 168). أنَّ الحُكمَ بالنِّفاقِ على مُرتَكِبي الكبائرِ يتساوى مع الحُكمِ عليهم بكُفْرِ النِّعمةِ، فهو يُقسِّمُ النَّاسَ إلى ثلاثِ فِرَقٍ: مُؤمِنون، ومُشرِكون، ومُنافِقون، وهذا القِسمُ الأخيرُ يعتَبِرُهم موحِّدين وليسوا بمُشرِكين ولا بمُؤمِنين، وقال في ذلك: (الفريقُ الثَّالثُ -ويعني بهم المُنافِقين- هم قومٌ أعلنوا كَلِمةَ التَّوحيدِ وأقرُّوا بالإسلامِ، ولكِنَّهم لم يلتَزِموا به سلوكًا وعبادةً، فهم ليسوا مُشرِكين؛ لأنَّهم يُقِرُّون بالتَّوحيدِ، وهم ليسوا بمُؤمِنين؛ لأنَّهم لا يلتَزِمون ما يقتضيه الإيمانَ) [520] ((الإباضية بين الفرق)) لمعمر (ص: 320). ... إلى أن قال: (وقد أطلَق الإباضيَّةُ على هذا القِسمِ الثَّالِثِ اسمَ المُنافِقين وكُفَّارَ النِّعمةِ) [521] ((الإباضية بين الفرق)) لمعمر (ص: 321). .
فالنِّفاقُ -كما هو واضِحٌ- مُرادِفٌ لكُفْرِ النِّعمةِ، وهو المرادُ بالمَنزِلةِ بَينَ المَنزِلَتَين عِندَهم، وقد قال أيضًا في تأكيدِ هذا: (الأصلُ الخامِسُ في المَنزِلةِ بَينَ المَنزِلَتَين، وهو النِّفاقُ بَينَ الشِّرْكِ والإيمانِ) [522] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 316). .
وممَّا استدَلَّ به بعضُهم على أنَّ النِّفاقَ بَينَ مَنزِلةِ الإيمانِ ومَنزِلةِ الشِّرْكِ قَولُ اللهِ تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 73] .
قال أبو محمَّدٍ عبدُ اللهِ بنُ سعيدٍ السَّدُويكشيُّ [523] هو عبدُ اللهِ بنُ سَعيدٍ ‌السَّدُويكشيُّ، الجربيُّ، الإباضيُّ، (كان حيًّا 1068هـ‍)، يُنسَبُ إلى جهةِ سَدُويكْشَ الواقِعةِ في مِنطَقةِ جربةَ بتونُسَ. يُنظر: ((تراجم المؤلفين التونسيين)) لمحفوظ (3/ 25). في حاشيتِه على مَتنِ الدِّياناتِ لأبي ساكِنٍ عامِرِ بنِ عليٍّ الشَّماخيِّ [524] هو أبو ساكِنٍ ‌عامِرُ بنُ ‌عامرِ بنِ يسيفاو، فقيهٌ إباضيٌّ، توفى سنة 792هـ بإحدى قُرى يفرنَ بجَبلِ نفوسةَ بليبيا. يُنظر: ((موجز دائرة المعارف الإسلامية)) (20/ 6295). شارِحًا ما قاله أبو ساكِنٍ في هذا الموضوعِ: (قولُه: نَدِينُ بأنَّ مَنزِلةَ النِّفاقِ بَينَ مَنزِلةِ الإيمانِ ومَنزِلةِ الشِّرْكِ: يعني أنَّ المُنافِقَ ليس بمُشرِكٍ ولا بمؤمِنٍ، بل هو مُوَحِّدٌ). ثُمَّ يمضي في شَرحِه إلى أن يقولَ: (الحاصِلُ أنَّا نقولُ بمَنزِلةِ النِّفاقِ بَينَ مَنزِلةِ الإيمانِ والشِّرْكِ، ونقولُ بأنْ لا مَنزِلةَ بَينَ الإيمانِ والكُفرِ) [525] نقلًا عن: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 315). .
ثمَّ إنَّ الإباضيَّةَ يَرَون بَعدَ هذا أنَّ النِّفاقَ لا يكونُ إلَّا في الأفعالِ لا في الاعتقادِ، كما يقولُ السَّدُويكشيُّ أيضًا: (والذي عليه أصحابُنا ومن وافقهم أنَّ النِّفاقَ في الأفعالِ لا في الاعتقادِ) [526] نقلًا عن: ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) لمعمر (ص: 315). .
والمعروفُ أنَّ المُنافِقين الذين كانوا على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان نفاقُهم في الاعتقادِ، وأمَّا الأفعالُ فكانت أفعالُهم كأفعالِ المُؤمِنين ظاهِرًا، وإنَّما كان النِّفاقُ فيهم في اعتقادِهم أنَّ طريقةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غيرُ صحيحةٍ، وأنَّهم على الهُدى والحَقِّ مع إتيانِهم بأفعالِ الإسلامِ، ولعلَّ هذا هو الذي جعَل السَّدويكشيَّ يَربِطُ النِّفاقَ بالأفعالِ؛ حيثُ جاءت منهم على غيرِ تصديقٍ وإذعانٍ.
أمَّا نفيُ الإباضيَّةِ للمَنزِلةِ بَينَ المَنزِلَتَين في بعضِ أقوالِهم فمُرادُهم به في أن يكونَ بَينَ الإيمانِ والكُفرِ مَنزِلةٌ، فهما ضِدَّانِ لا يتقابلانِ بإجماعِ الأئمَّةِ عِندَهم، وفي ذلك يقولُ تَبغُورينُ الإباضيُّ فيما نقله عنه علي بن يحيى مَعمَر: (الأصلُ السَّادِسُ: لا مَنزِلةَ بَينَ المَنزِلَتَين، وذلك أنَّ معناه لا مَنزِلةَ بَينَ المَنزِلَتَين، أي: بَينَ الإيمانِ والكُفرِ، وهما ضِدَّانِ كالأضدادِ كُلِّها، شِبهُ الحَرَكةِ والسُّكونِ، والحياةِ والموتِ، وقد أجمعت الأمَّةُ في أصلِهم على أنَّ من ليس بمُؤمِنٍ فهو كافِرٌ) [527] ((الإباضية بين الفرق الإسلامية)) (ص: 318). .
ولقائلٍ أن يقولَ: إنَّ هذا هو رأيُ الخَوارِجِ الذين تتبرَّأُ منهم الإباضيَّةُ، أي: القولُ بأنَّ الشَّخصَ إمَّا أن يكونَ مُؤمِنًا بفعلِ الطَّاعاتِ أو كافرًا بارتكابِ المعاصي، وقد استدَلَّ تَبْغورينُ بالآياتِ والأحاديثِ الآتيةِ التي هي أدِلَّةُ الخَوارِجِ أنفُسِهم الذين يُكَفِّرون أهلَ الذُّنوبِ كُفرَ مِلَّةٍ، ومن الآياتِ التي استدَلَّ بها قولُ اللهِ تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] ، وقَولُه: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 3] .
وممَّا استدَلَّ به من السُّنَّةِ قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس بَينَ العبدِ والكُفرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلاةِ )) [528] رواه مُسلِم (82) من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ بلفظِ: ((إنَّ بَينَ الرَّجُلِ وبَينَ الشِّركِ والكُفرِ تَرْكَ الصَّلاةِ)). ، وحديثُ: ((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا يَضرِبُ بَعضُكم رِقابَ بعضٍ )) [529] رواه البخاري (121)، ومُسلِم (65). من حديثِ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .

انظر أيضا: