موسوعة التفسير

سُورةُ القَمَرِ
الآيات (9-17)

ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

وَازْدُجِرَ: أي: انتُهِر وزُجِر وأُوعِدَ، أو استُطيرَ جُنونًا، وأصلُ (زجر): يدُلُّ على انتِهارٍ [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/47)، ((تفسير القرطبي)) (17/131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476). قال ابن عثيمين: (الزَّجرُ هو النَّهرُ بشدَّةٍ وعُنفٍ، والدَّالُ هنا مُنقلِبةٌ عن تاءٍ، وقد قال العلماءُ: إنَّ زيادةَ المبنى تدُلُّ على زيادةِ المعنى، والمعنى: أنَّه زجرٌ شديدٌ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 268). .
مُنْهَمِرٍ: أي: كثيرٍ، سَريعِ الانصِبابِ، وأصلُ (همر): يدُلُّ على صَبٍّ وانصِبابٍ [96] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 431)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 450)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/65)، ((المفردات)) للراغب (ص: 845)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 397)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 878). .
قُدِرَ: أي: قُضِيَ، والقَدَرُ: قَضاءُ اللهِ تعالى الأشياءَ على مَبالِغِها ونهاياتِها الَّتي أرادَها لها، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايتِه [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 380). .
أَلْوَاحٍ: أي: خَشَبٍ عَريضٍ، واللَّوحُ: واحِدُ ألواحِ السَّفينةِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/124)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/220)، ((المفردات)) للراغب (ص: 750). .
وَدُسُرٍ: أي: مَساميرَ تُشَدُّ بها الألواحُ، وأصلُ (دسر): يدُلُّ على دَفعٍ شَديدٍ؛ لأنَّ المِسمارَ يُدفَعُ أبدًا حتَّى يَستويَ [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/399)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/278)، ((المفردات)) للراغب (ص: 314)، ((تفسير ابن عطية)) (5/214)، ((تفسير القرطبي)) (17/133). .
كُفِرَ: أي: جُحِدَ، والكُفرُ في اللُّغةِ: سَترُ الشَّيءِ [100] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 714). .
مُدَّكِرٍ: أي: مُتَذَكِّرٍ مُتَّعِظٍ، مُعتَبِرٍ خائفٍ، وأصلُه مُذْتَكِرٌ مُفْتَعِلٌ مِنَ الذِّكْرِ، فقُلِبَت التَّاءُ دالًا، وأُدْغِمَت الذَّالُ فيها، وأصلُ (ذكر): يدُلُّ على خِلافِ النِّسيانِ [101] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 432)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/358)، ((تفسير البغوي)) (7/429)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 398). .
وَنُذُرِ: أي: إنذاري، وهو اسمٌ مِنَ الإنذارِ يقومُ مَقامَ المَصدَرِ، والإنذارُ: الإبلاغُ، ولا يكونُ إلَّا في التَّخويفِ، وأصلُ (نذر): يدُلُّ على تَخويفٍ [102] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 432)، ((تفسير ابن جرير)) (22/130)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((البسيط)) للواحدي (21/102)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 308)، ((تفسير القرطبي)) (17/129)، ((تفسير ابن كثير)) (6/556). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا عقوباتِ المكذِّبينَ في الأممِ السَّابقةِ: كذَّبَت قبْلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ قَومُ نوحٍ، فكذَّبوا نُوحًا، واتَّهَموه بالجُنونِ، وزجَروه عن دَعوتِهم، فدعا نوحٌ ربَّه قائِلًا: إنِّي مَغلوبٌ؛ فانتَصِرْ لي! فاستَجَبْنا لنُوحٍ دُعاءَه، ففَتَحْنا أبوابَ السَّماء بماءٍ مُتدَفِّقٍ كثيرٍ شَديدٍ، وأنبَعْنا عُيونَ الماءِ مِنَ الأرضِ، فالتَقَى الماءانِ: ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد كَتَبه اللهُ تعالى وقَضاه!
وحَمَلْنا نُوحًا على سَفينةٍ ذاتِ ألواحٍ ومَساميرَ، تجري تلك السَّفينةُ على الماءِ بمَرأًى وحِفظٍ مِنَّا؛ ثوابًا لنُوحٍ على صَبْرِه على أذى قَومِه وتكذيبِهم. ولقد تَرَكْنا فَعلَتَنا بقومِ نوحٍ وإهلاكَنا لهم عِبرةً وعِظةً لِمَن بعدَهم، وترَكْنا جنسَ السُّفنِ علامةً على كَمالِ قُدرة الله، وعِبرةً على ما جرَى لنوحٍ عليه السَّلامُ معَ قومِه، فهل مِن مُتذَكِّرٍ لِما قد فُعِل بتلك الأُمَّةِ الَّتي كفَرَت برَبِّها، وعَصَت رَسولَه؛ فيتَّعِظَ بذلك ويَعتَبِرَ؟ فكيف كان عذابي لأولئك الكُفَّارِ مِن قَومِ نُوحٍ، وكيف كان إنذاري بتلك العُقوبةِ مَن بَعْدَهم مِنَ الكُفَّارِ؛ لِيَحذَروا أن يَحُلَّ بهم العَذابُ؟
ثمَّ يقولُ الله تعالى مبينًا مظاهرَ فضلِه ورحمتِه على هذه الأمَّةِ: ولقد سَهَّلْنا القُرآنَ للتَّذَكُّرِ به والاتِّعاظِ، فهل مِن مُتذَكِّرٍ فيَتَّعِظَ ويَعتَبِرَ بما فيه؟

تفسير الآيات:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شروعٌ في تَعدادِ بعضِ ما ذُكِر مِن الأنباءِ الموجِبةِ للازْدِجارِ، ونَوعُ تفصيلٍ لها وبيانٍ لعدمِ تأثُّرِهم بها؛ تقريرًا لِفَحوى قولِه تعالى: فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [103] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/80). [القمر: 5].
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تبارك وتعالى حالَ المُكَذِّبينَ لِرَسولِه، وأنَّ الآياتِ لا تَنفَعُ فيهم، ولا تُجْدي عليهم شَيئًا؛ أنذَرَهم وخَوَّفَهم بعُقُوباتِ الأُمَمِ الماضيةِ المُكَذِّبةِ للرُّسُلِ، وكيف أهلَكَهم اللهُ وأحَلَّ بهم عِقابَه [104] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 825). ؛ ففيها تهوينٌ وتَسليةٌ لقَلبِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّ حالَه كحالِ مَن تقَدَّمَه [105] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/293). .
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا.
أي: كذَّبَت قبْلَ كُفَّارِ قُرَيشٍ قَومُ نوحٍ، فكذَّبوا عَبْدَنا نُوحًا حينَ أرسَلْناه إليهم [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/119)، ((تفسير الزمخشري)) (4/433)، ((تفسير القرطبي)) (17/131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/180). .
وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ.
أي: وقال قومُ نوحٍ عن رَسولِهم نوحٍ عليه السَّلامُ: هو مجنونٌ. وزجَروه بشدَّةٍ وعُنفٍ [107] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/213، 214)، ((تفسير القرطبي)) (17/131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 268، 269). قال البِقاعي: (وَازْدُجِرَ أي: أعمَلوا أنفُسَهم في انتِهارِه وتوَعُّدِه وتَهديدِه). ((نظم الدرر)) (19/103). وقال الشوكاني: (وقولُه: وَازْدُجِرَ معطوفٌ على قالوا، أي: وزُجِرَ عن دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وعن تَبْليغِ ما أُرْسِل به بأنواعِ الزَّجْرِ...، وقيلَ: إنَّه مَعْطوفٌ على مجنونٍ، أي: وقالوا: إنَّه ازدُجِر، أي: ازْدَجَرَتْه الجِنُّ وذَهَبَتْ بلُبِّه، والأوَّلُ أولَى. قال مُجاهِدٌ: هو مِنْ كلامِ اللهِ سُبحانَه، أخبَر عنه بأنَّه انتُهِر وزُجِر بالسَّبِّ وأنواعِ الأذَى. قال الرَّازيُّ: وهذا أصَحُّ؛ لأنَّ المقصودَ تقويةُ قلبِ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّم بذِكْرِ مَن تَقَدَّمه). ((تفسير الشوكاني)) (5/147). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/294). وقال الرَّسْعَني: (وَازْدُجِرَ قال المفسِّرون: زجَروه عن دعوتِه بالشَّتمِ والوعيدِ). ((تفسير الرسعني)) (7/516). .
كما قال الله تبارك وتعالى: قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60] .
وقال سُبحانَه: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] .
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10).
أي: فدعا نوحٌ ربَّه قائِلًا: إنَّ قَومي غَلَبوني بتمَرُّدِهم وكُفرِهم، وتَكذيبِهم وتخويفِهم؛ فانتَصِرْ لي منهم [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/121)، ((تفسير ابن عطية)) (5/214)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825). !
كما قال تعالى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الصافات: 75، 76].
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11).
أي: فاستَجَبْنا لنُوحٍ دُعاءَه على قَومِه، ففَتَحْنا أبوابَ السَّماء بماءٍ مُتدَفِّقٍ مُنصَبٍّ بكَثرةٍ وشِدَّةٍ [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/121)، ((تفسير ابن عطية)) (5/214)، ((تفسير القرطبي)) (17/131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/477)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 269). قال ابن جُزَي: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ عِبارةٌ عن كثرةِ المطرِ، فكأنَّه يخرُجُ مِن أبوابٍ. وقيل: فُتحَتْ في السَّماءِ أبوابٌ يومَئذٍ حقيقةً). ((تفسير ابن جزي)) (2/323). ونسَبَ ابنُ عطيَّةَ القولَ الأوَّلَ لجمهورِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/214). .
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12).
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا.
أي: وأنبَعْنا الماءَ بقُوَّةٍ وكَثرةٍ مِنَ الأرضِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/122)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/183)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/477)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 269، 270). .
فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ.
أي: فالتَقى ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرضِ على أمرٍ قد كَتَبه اللهُ تعالى وقَضاه [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/122)، ((تفسير ابن كثير)) (7/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/477)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 270). وممَّن ذهب إلى أنَّ معنى قَدْ قُدِرَ: أنَّه أمرٌ مَكتوبٌ ومُقدَّرٌ مِنَ اللهِ تعالى: ابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي، واستظهره الشنقيطي، وذهب إليه ابنُ عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. قال السعدي: (قد كَتَبه اللهُ في الأزَلِ وقَضاه؛ عُقوبةً لهؤلاء الظَّالِمينَ الطَّاغينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 825). وقيل: المعنى: أنَّ ماءَ السَّماءِ وماءَ الأرضِ قَدَّرَهما اللهُ، فكانا سواءً؛ لم يَزِدْ أحَدُهما على الآخَرِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/178)، ((تفسير القرطبي)) (17/132). وقال البِقاعي: (لَمَّا تقَرَّرَت هذه العَظَمةُ لهذه الواقِعةِ، فكان رُبَّما ظُنَّ أنَّه صار جُزافًا، وزاد على الحَدِّ المأمورِ به؛ أشار إلى أنَّه بالنِّسبةِ إلى عَظمتِه في غايةِ الحَقارةِ، فقال: قَدْ قُدِرَ أي: مع كَونِه مَقدورًا عليه في كُلِّ وَقتٍ بغايةِ السُّهولةِ قد وَقَع تَقديرُه في الأزَلِ، فلم يَستَطِعْ أن يَزيدَ على ذلك قَطرةً فما فَوقَها، ولا أن يُهلِكَ غَيرَ مَن أمَرْناه بإهلاكِه، وأشار بالتَّخفيفِ إلى غايةِ السُّهولةِ في ذلك سُبحانَه). ((نظم الدرر)) (19/105). وقال ابن عاشور: (وُصِفَ الأمرُ بأنَّه قَدْ قُدِرَ، أي: أُتقِنَ وأُحكِمَ بمِقدارٍ؛ يُقالُ: قَدَرَه -بالتَّخفيفِ-: إذا ضَبَطَه وعَيَّنَه، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49]). ((تفسير ابن عاشور)) (27/183، 184). !
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13).
أي: وحَمَلْنا نُوحًا على سَفينةٍ ذاتِ ألواحٍ مِن خَشَبٍ، وذاتِ مَساميرَ قد رُبِطَت بها تلك الألواحُ [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/123)، ((تفسير القرطبي)) (17/132)، ((تفسير ابن كثير)) (7/477)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/478)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 270، 271). قال ابن الجوزي: (قال المفسِّرون: ألواحُها: خشباتُها العريضةُ الَّتي منها جُمِعت. وفي الدُّسُرِ أربعةُ أقوالٍ؛ أحدُها: أنَّها المساميرُ، رواه الوالِبيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ، وبه قال قَتادةُ، والقُرَظيُّ، وابنُ زَيدٍ. وقال الزَّجَّاجُ: الدُّسُرُ: المساميرُ والشُّرُطُ [حبالٌ تُفْتَلُ مِن الخُوصِ] الَّتي تُشَدُّ بها الألواحُ... والثَّاني: أنَّه صَدْرُ السَّفينةِ، سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه يَدْسُرُ الماءَ، أي: يَدفَعُه، رواه العَوفيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ، وبه قال الحسَنُ وعِكْرِمةُ... والثَّالثُ: أنَّ الدُّسُرَ: أضلاعُ السَّفينةِ، قاله مجاهدٌ. والرَّابعُ: أنَّ الدُّسُرَ: طرَفاها وأصلُها، والألواحُ: جانِباها، قاله الضَّحَّاكُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/199). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/87، 88). قال الواحدي: (قال ابنُ عبَّاسٍ ومقاتِلٌ والكلبيُّ وجماعةُ المفسِّرينَ: يعني: المساميرَ والشُّروطَ، وكلَّ ما شُدَّتْ به السَّفينةُ). ((البسيط)) (21/99، 100). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/179). قال ابن عثيمين: (وَدُسُرٍ أي: مساميرَ. وقيل: إنَّ الدُّسُرَ ما تُربَطُ به الأخشابُ، فيكونُ أعَمَّ مِن المساميرِ؛ لأنَّ الأخشابَ قد تُربَطُ بالمساميرِ وقد تُربَطُ بالحبالِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 271). .
كما قال الله تبارك وتعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] .
وقال سُبحانَه: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء: 119] .
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14).
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا.
أي: تجري سَفينةُ نُوحٍ على الماءِ بمَرأًى مِنَّا، وحِفظٍ ورعايةٍ مِنَّا [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/126)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 271). .
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ.
أي: أغرَقْنا قومَ نُوحٍ وأنجَيْناه ومَن معه؛ ثوابًا لنُوحٍ على صَبْرِه على أذى قَومِه، وتَكذيبِهم وكُفْرِهم به [114] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/88)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1047)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/106)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 271). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والقرطبي، والبِقاعي، والسعدي، وابنُ عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. قال الزمخشري: (جعَلَه مَكفورًا؛ لأنَّ النَّبيَّ نِعمةٌ مِنَ اللهِ تعالى ورَحمةٌ؛ قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، فكان نوحٌ عليه السَّلامُ نِعمةً مَكفورةً!). ((تفسير الزمخشري)) (4/435). وقال ابن جرير: (والصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك عندي ما قاله مجاهِدٌ، وهو أنَّ معناه: ففتَحْنا أبوابَ السَّماءِ بماءٍ مُنهَمِرٍ، وفجَّرْنا الأرضَ عُيونًا، فغرَّقْنا قَومَ نوحٍ، ونجَّيْنا نوحًا؛ عِقابًا مِن الله وثَوابًا للَّذي جحَدَ وكفَر؛ لأنَّ معنى الكفرِ: الجُحودُ، والَّذي جحَد أُلُوهَتَه ووحدانيَّتَه قومُ نوحٍ). وأجاز أيضًا المعنى الأوَّلَ المتقدِّمَ ذِكرُه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/127، 128). وظاهِرُ عبارةِ ابنِ كثيرٍ الجَمعُ بيْنَ المعنيَينِ، فقال: (أي: جزاءً لهم على كُفرِهم بالله، وانتِصارًا لنوحٍ عليه السَّلامُ). ((تفسير ابن كثير)) (7/477). قال الشوكاني: (كُفِرَ... قيل: هو اللهُ سُبْحانَه؛ فإنَّهم كَفَروا به، وجَحَدوا نِعْمَتَه). ((تفسير الشوكاني)) (5/149). .
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تَمَّ الخبَرُ عن نجاتِه عليه السَّلامُ بحَمْلِه فيها؛ نَبَّه على آثارِها بقَولِه [115] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/106). :
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً.
أي: ولقد تَرَكْنا فَعلَتَنا بقومِ نوحٍ وإهلاكَنا لهم عِبرةً وعِظةً لِمَن بعدَهم ليَنتَهوا عن الكُفرِ باللهِ والتَّكذيبِ برُسُلِه؛ كيلا تكونَ عاقِبتُهم مِثلَ عاقِبةِ قَومِ نُوحٍ، وأبقَيْنا جنسَ السُّفنِ علامةً على رحمةِ الله وعنايتِه بخَلقِه، وكَمالِ قُدرتِه، وبَديعِ صَنعتِه، وعِبرةً على ما جرَى لنوحٍ معَ قومِه [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/128)، ((الوسيط)) للواحدي (4/209)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/478)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 272). وممَّن ذهب إلى عَوْدِ الضَّميرِ في قولِه تعالى: تَرَكْنَاهَا إلى سفينةِ نوحٍ عليه السَّلامُ: ابنُ جرير، والرازي، وابن عادل، وابن عاشور، وهو ظاهرُ اختيارِ مقاتِلِ بنِ سُلَيمانَ، وابنِ أبي زَمَنين، ومكِّي، والسَّمْعاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/128)، ((تفسير الرازي)) (29/298)، ((تفسير ابن عادل)) (18/251)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/186)، ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/179)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/318)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7190)، ((تفسير السمعاني)) (5/312). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، ومجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/128). قال ابنُ عاشور: (أي: أبقَيْنا سفينةَ نوحٍ مَحفوظةً مِنَ البِلَى؛ لِتَكونَ آيةً يَشهَدُها الأُمَمُ الَّذين أُرسِلَت إليهم الرُّسُلُ، متى أراد واحِدٌ مِنَ النَّاسِ رُؤيتَها مِمَّن هو بجوارِ مكانِها؛ تأييدًا للرُّسُلِ، وتخويفًا بأوَّلِ عذابٍ عُذِّبَت به أمَّةٌ كَذَّبَت رَسولَها؛ فكانت حُجَّةً دائِمةً، مِثلُ ديارِ ثَمودَ، ثمَّ أخَذَت تتناقَصُ حتَّى بَقِيَ منها أخشابٌ شَهِدَها صَدرُ الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ، فلم تضمَحِلَّ حتَّى رآها ناسٌ مِن جميعِ الأُمَمِ بعدَ نوحٍ، فتواتَرَ خبَرُها بالمشاهَدةِ؛ تأييدًا لتواتُرِ الطُّوفانِ بالأخبارِ المتواترةِ. وقد ذَكَر القرآنُ أنَّها استقَرَّت على جبَلِ الجُودِيِّ، فمنه نزَلَ نوحٌ ومَن معه، وبَقِيَت السَّفينةُ هنالك لا ينالُها أحدٌ؛ وذلك مِن أسبابِ حِفظِها عن الاضمِحلالِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/186). وقيل: المراد: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا أي: ترَكْنا هذه الفَعْلةَ الَّتي فعَلْنا. وممَّن اختاره: البغويُّ، والقرطبي، والخازن. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/323)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((تفسير الخازن)) (4/219). قال الشنقيطي: (قولُه تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الضَّميرُ في قولِه تعالى: تَرَكْنَاهَا، قال بعضُ العلماءِ: إنَّه عائدٌ إلى هذه الفعلةِ العظيمةِ الَّتي فعَل بقَومٍ نوحٍ. والمعنى: ولقد ترَكْنا فَعلَتَنا بقومِ نوحٍ وإهلاكَنا لهم آيةً لِمَن بَعْدَهم؛ لِيَنزَجِروا ويَكُفُّوا عن تكذيبِ الرُّسلِ؛ لئلا نَفعلَ بهم مِثلَ ما فعَلْنا بقَومِ نوحٍ، وكَوْنُ هذه الفَعلةِ آيةً نصَّ عليه تعالى بقولِه: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً [الفرقان: 37]، وقولِه تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 119 - 121] . وقال بعضُ العلماءِ: الضَّميرُ في تَرَكْنَاهَا عائدٌ إلى السَّفينةِ، وكَونُ سفينةِ نوحٍ آيةً بيَّنه اللهُ تعالى في آياتٍ مِن كتابِه؛ كقولِه تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] ، وقولِه تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [يس: 41، 42]). ((أضواء البيان)) (7/478). وقال الزَّجَّاجُ: (قولُه عزَّ وجَلَّ: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: ترَكْنا هذه الفَعْلةَ وأمْرَ سفينةِ نُوحٍ آَيَةً أي: علامةً؛ لِيُعتبَرَ بها). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/88). واستظهر ابنُ كثيرٍ أنَّ المعنى: ترَكْنا جِنسَ السُّفُنِ بيْنَ النَّاسِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/477). قال ابن تيميَّة: (... وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فأخبَر أنَّه أبقى السُّفُنَ آيةً على قدرةِ الرَّبِّ، وعلى ما جرى لنوحٍ مع قَومِه). ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (1/414، 415). وقال السعدي: (أي: ولقد ترَكْنا قِصَّةَ نوحٍ مع قومِه آيةً يَتذكَّرُ بها المتذَكِّرونَ، على أنَّ مَن عصى الرُّسُلَ وعانَدَهم أهلَكَه اللهُ بعِقابٍ عامٍّ شَديدٍ، أو أنَّ الضَّميرَ يعودُ إلى السَّفينةِ وجِنسِها، وأنَّ أصلَ صَنعتِها تعليمٌ مِن اللهِ لعَبدِه نوحٍ عليه السَّلامُ، ثمَّ أبقى اللهُ تعالى صَنعتَها وجِنسَها بيْنَ النَّاسِ؛ ليَدُلَّ ذلك على رحمتِه بخَلقِه، وعنايتِه وكَمالِ قُدرتِه، وبَديعِ صَنعتِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 825). وذهب ابنُ عثيمينَ إلى حملِ الآيةِ على كِلا المعنيَينِ اللَّذينِ ذكَرَهما السعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 272). وقال البِقاعي: (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا أي: هذه الفعلةَ العظيمةَ، مِن جريِ السَّفينةِ على هذا الوجهِ، وإبقاءِ نَوعِها دالَّةً على ما لَنا مِن العظَمةِ). ((نظم الدرر)) (19/106). .
كما قال الله تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة: 11، 12].
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
أي: فهل مِن مُتذَكِّرٍ لِما قد فُعِل بتلك الأُمَّةِ الَّتي كفَرَت برَبِّها، وعَصَت رَسولَه نُوحًا؛ فيتَّعِظَ بذلك ويَعتَبِرَ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/129)، ((الوسيط)) للواحدي (4/209)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/477). ؟
كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ [الحاقة: 11، 12].
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ.
أي: فكيف كان عذابي لأولئك الكُفَّارِ مِن قَومِ نُوحٍ؟ وكيف كان إنذاري [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/130)، ((الهداية)) لمكي (11/7190)، ((الوسيط)) للواحدي (4/209)، ((تفسير ابن عطية)) (5/215)، ((تفسير القرطبي)) (17/133)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478). قال الفرَّاءُ: (النُّذُرُ هاهنا مصدرٌ معناه: فكيفَ كان إنْذاري). ((معاني القرآن)) (3/107). وقال ابنُ قتيبةَ: (وَنُذُرِ جمعُ نَذيرٍ. ونذيرٌ بمعنى الإنذارِ، أي: فكيفَ كان عذابي وإنْذاري. ومثلُه النَّكيرُ بمعنَى الإنكارِ). ((غريب القرآن)) (ص: 432). وقال الرازي: (أكثرُ المفسِّرينَ على أنَّه [أي: نُذُر] مصدرٌ هاهنا، أي: كيف كان عاقبةُ عذابي، وعاقبةُ إنذاري). ((تفسير الرازي)) (29/300). وقال الواحدي: (المعنى: كيف كان إنذاري إيَّاهم، إذ دعاهم نوحٌ إلى الإيمانِ فلمْ يؤمنوا، وفي هذا تخويفٌ للمشركين). ((البسيط)) (21/102). وقال أبو حيَّان: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ: تهويلٌ لِمَا حلَّ بقومِ نوحٍ مِن العذابِ، وإعظامٌ له، إذ قد اسْتَأْصَل جميعَهم، وقَطَع دابِرَهم، فلم يَنْسُلْ منهم أحدٌ، أي: كيفَ كان عاقِبةُ إنذارِي؟). ((تفسير أبي حيان)) (10/40). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/215). وقال ابن جرير: (وكيفَ كان إنذاري بما فعلْتُ بهم مِن العقوبةِ الَّتي أحْلَلْتُ بهم، بكفرِهم برَبِّهم، وتكذيبِهم رسولَه نوحًا عليه السَّلامُ مَن أنذَرْتُه به، وهذا سُنَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ لِمُكَذِّبي رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن قَومِه مِن قُرَيشٍ، وتحذيرٌ منه لهم، أنْ يَحِلَّ بهم على تماديهم في غَيِّهم، مِثلُ الَّذي حلَّ بقومِ نوحٍ مِن العذابِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/130). وقال السمرقندي: (يعني: كيفَ رأيْتَ عَذابي وإنذاري لِمَن أنذَرَهم الرُّسُلُ فلم يؤمِنوا؟). ((تفسير السمرقندي)) (3/372). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 825). وقال ابن كثير: (أي: كيفَ كان عذابي لِمَن كفَر بي وكذَّب رُسُلي ولم يتَّعِظْ بما جاءتْ به نُذُري؟ وكيفَ انتصرتُ لهم، وأخذْتُ لهم بالثَّأرِ؟). ((تفسير ابن كثير)) (7/478). ؟
كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك: 18].
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17).
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ.
أي: ولقد سَهَّلْنا القُرآنَ للتَّذَكُّرِ به، وحُصولِ الفَهمِ والاتِّعاظِ به [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/130)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/189، 190)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 273). قال ابن عاشور: (معنى تيسيرِه يَرجِعُ إلى تيسيرِ ما يُرادُ مِن الكلامِ، وهو فَهْمُ السَّامِعِ المعانيَ الَّتي عَناها المتكلِّمُ به بدُونِ كُلْفةٍ على السَّامِعِ ولا إغلاقٍ، وهذا اليُسرُ يَحصُلُ مِن جانبِ الألفاظِ، وجانبِ المعاني. فأمَّا مِن جانبِ الألفاظ؛ فذلك بكَونِها في أعلى درَجاتِ فَصاحةِ الكلماتِ، وفصاحةِ التَّراكيبِ -أي: فصاحةِ الكلامِ-، وانتِظامِ مَجموعِها؛ بحيث يخِفُّ حِفظُها على الألسِنةِ. وأمَّا مِن جانبِ المعاني؛ فبِوُضوحِ انتِزاعِها مِن التَّراكيبِ، ووَفرةِ ما تحتوي عليه التَّراكيبُ منها مِن مَغازي الغرَضِ المَسوقةِ هي له، وبتوَلُّدِ مَعانٍ مِن مَعانٍ أُخَرَ كلَّما كرَّر المتدَبِّرُ تدَبُّرَه في فَهمِها، ووسائلُ ذلك لا يُحيطُ بها الوصفُ... ومِن أهمِّها: إيجازُ اللَّفظِ؛ لِيُسرِعَ تعلُّقُه بالحفظِ. وإجمالُ المَدلولاتِ؛ لِتَذهَبَ نُفوسُ السَّامِعينَ في انتِزاعِ المعاني منها كلَّ مَذهَبٍ يَسمَحُ به اللَّفظُ والغرَضُ والمَقامُ. ومنها: الإطنابُ بالبيانِ إذا كان في المعاني بعضُ الدِّقَّةِ والخَفاءِ. ويتأتَّى ذلك بتأليفِ نظمِ القرآنِ بلُغةٍ هي أفصَحُ لُغاتِ البشَرِ، وأسمَحُ ألفاظًا وتراكيبَ بوَفرةِ المعاني، وبكَوْنِ تراكيبِه أقْصى ما تَسمَحُ به تلك اللُّغةُ، فهو خِيارٌ مِن خيارٍ مِن خيارٍ، قال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 195] ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/188، 189). وقال السعدي: (ولقد يسَّرْنا وسهَّلْنا هذا القرآنَ الكريمَ -ألفاظَه للحفظِ والأداءِ، ومعانيَه للفَهمِ والعِلمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 826). .
كما قال تعالى: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58] .
وقال سُبحانَه: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
أي: فهل مِن مُتذَكِّرٍ؛ فيَتَّعِظَ ويَعتَبِرَ بما في القُرآنِ الكريمِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/131)، ((تفسير ابن كثير)) (7/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 825)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 273). ؟

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ عَبَّرَ هنا بما يُفهِمُ العِلَّةَ؛ لِيَحذَرَ السَّامِعُ وُقوعَ مِثلِ ذلك العَذابِ له إن وَقَع منه مِثلُ فِعلِ قَومِه [121] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/106). .
2- في قَولِه تعالى: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ قوَّةٌ لرَجاءِ أهلِ الدِّينِ إذا لَقُوا في دينِ اللهِ مِحنةً؛ فإنَّ اللهَ يُهلِكُ عن قَريبٍ عَدُوَّهم، ويُمَكِّنُهم مِن ديارِهم وبِلادِهم، ويُورِثُهم ما كان إليهم [122] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/497). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ هذا التَّيسيرُ يُنبِئُ بعِنايةِ اللهِ تعالى بالقُرآنِ، مِثلُ قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] تَبصِرةً للمُسلِمينَ؛ لِيَزدادوا إقبالًا على مُدارستِه، وتَعريضًا بالمُشرِكينَ عسى أن يَرعَوُوا عن صُدودِهم عنه [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/188). .
4- مَن تدَبَّر القُرآنَ الكريمَ جاعِلًا إيَّاه دليلًا على الحَقِّ فإنَّه لا بُدَّ أن يهتدِيَ للحَقِّ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، وتيسيرُه شامِلٌ لتيسيرِ لَفظِه ومعناه، والعَمَلِ به، لكِنْ يحتاجُ إلى تذَكُّرٍ [124] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/172). .
5- قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كُلُّ مَن أقبَلَ على القُرآنِ يَسَّرَ اللهُ عليه مَطلوبَه غايةَ التَّيسيرِ، وسَهَّلَه عليه، فعِلْمُ القُرآنِ حِفظًا وتَفسيرًا أسهَلُ العُلومِ، وأجَلُّها على الإطلاقِ، وهو العِلمُ النَّافِعُ الَّذي إذا طَلَبَه العَبدُ أُعِينَ عليه. قال بَعضُ السَّلَفِ عِندَ هذه الآيةِ: «هل مِن طالِبِ عِلمٍ فيُعانَ عليه؟»؛ ولهذا يدعو اللهُ تعالى عِبادَه إلى الإقبالِ عليه والتَّذَكُّرِ، بقَولِه: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [125] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 825). . أفلا يَليقُ بنا -وقد سهَّل اللهُ القُرآنَ للذِّكْرِ- أن نتَّعِظَ ونتذكَّرَ؟ بلى، هذا هو اللَّائِقُ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 273). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- كلمةُ (قَومٍ) تُذكَّرُ وتؤنَّثُ؛ لأنَّ أسماءَ الجُموعِ الَّتي لا واحدَ لها مِن لفظِها إذا كانت للآدَميِّينَ تُذكَّرُ وتؤنَّثُ، مِثل رهْطٍ ونفَرٍ، قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام: 66] فذكَّرَ، وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ [الشعراء: 105] وقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فأنَّثَ. وقيل: القَومُ مؤنَّثٌ مجازيُّ التَّأنيثِ، ويُصغَّرُ: قُوَيْمَةٌ، ويُذَكَّرُ؛ لأنَّ مَدلولَه أفرادٌ ذكورٌ عُقلاءُ. وقيل: (قَومٌ) مُذَكَّرٌ، وأُنِّثَ لأنَّه في معنى الأمَّةِ والجماعةِ، فتَأْنيثُ (قَومٍ) باعتبارِ معناه، وتذكيرُه باعتبارِ لفظِه [127] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/175)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 487)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (5/128). . وقيل: أنَّث سبحانَه فِعلَهم فقال: كَذَّبَتْ؛ تحقيرًا لهم، وتهوينًا لأمرِهم في جنبِ قدرتِه [128] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/102). .
2- في قَولِه تعالى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وهو نُوحٌ عليه السَّلامُ، وَصَفَه اللهُ تعالى بالعُبوديَّةِ؛ لأنَّ العُبوديَّةَ أشرَفُ ألقابِ البَشَرِ، وهي التَّذَلُّلُ للهِ بالطَّاعةِ والإنابةِ والتَّوكُّلِ، وغيرِ ذلك [129] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 267). . وهي أدلُّ على صِدقِه، وقُبحِ تكذيبِهم مِن قولِه: «رسولنا» لو قاله؛ لأنَّ العبدَ أقلُّ تحريفًا لكلامِ السَّيِّدِ مِن الرَّسولِ، فيكونُ كقولِه تبارك وتعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [130] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/294). [الحاقة: 44 - 46] .
3- في قَولِه تعالى: وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ سُؤالٌ عن وَجهِ قَولِ ذلك، مع أنَّه قد يُتوهَّمُ أنَّه لو قيل: «كَذَّبوا عَبْدَنا وزَجَروه» كان الكلامُ أكثَرَ مُناسَبةً!
الجوابُ: أنَّ المقصودَ تَقويةُ قَلبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذِكرِ مَن تقَدَّمَه، فقال: وَازْدُجِرَ أي: فَعَلوا ما يُوجِبُ الانزِجارَ مِن دُعائِهم، حتَّى تَرَك دَعوتَهم، وعَدَل عن الدُّعاءِ إلى الإيمانِ إلى الدُّعاءِ عليهم! ولو قال: «زَجَروه» ما كان يفيدُ أنَّه تأذَّى منهم؛ لأنَّ في السَّعةِ يُقالُ: «آذَوني ولكِنْ ما تأذَّيتُ»، وأمَّا «أُوذيتُ» فهو كاللَّازمِ، لا يُقالُ إلَّا عندَ حُصولِ الفِعلِ لا قَبْلَه [131] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/294). .
4- في قَولِه تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ أنَّ للسَّماءِ أبوابًا تُفتَحُ وتُغلَقُ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/245). . على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
5- في قَولِه تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا أنَّه سُبحانَه قال في السَّماءِ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ؛ لأنَّ السَّماءَ ذاتُ الرَّجْعِ، وما لَها فُطورٌ، ولم يقُلْ: «وشَقَقْنا السَّماءَ». وقال في الأرضِ: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ؛ لأنَّها ذاتُ الصَّدْعِ [133] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/297). .
6- قال تعالى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا كأنَّ الأرضَ كلَّها كانت عُيونًا مُتفَجِّرةً، وفي هذا مِن الدَّلالةِ على قُدرةِ اللهِ تبارك وتعالى ما لا يَخفى، وأنَّ هذه الفَيَضاناتِ الَّتي تَحدُثُ إنَّما تَحدُثُ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وليست كما قال الطَّبيعيُّونَ: إنَّها مِن الطَّبيعةِ! يقولون: هاجتِ الطَّبيعةُ! غَضِبَتِ الطَّبيعةُ! وما أشْبَهَ ذلك. نسألُ اللهَ العافيةَ. بل هي بأمرِ مَن يَقولُ للشَّيءِ: كُنْ؛ فيَكونُ [134] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 270). .
7- في قَولِه تعالى: فَالْتَقَى الْمَاءُ معنًى لطيفٌ، وذلك أنَّه تعالى لَمَّا قال: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ ذكَرَ الماءَ وذكَرَ الانهِمارَ -وهو النُّزولُ بقُوَّةٍ-، فلمَّا قال: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا كان مِن الحَسَنِ البَديعِ أن يقولَ ما يُفيدُ أنَّ الماءَ نَبَع منها بقُوَّةٍ، فقال: فَالْتَقَى الْمَاءُ أي: مِن العَينِ فار الماءُ بقُوَّةٍ حتَّى ارتفَعَ والتقى بماءِ السَّماءِ، ولو جرى جَريًا ضَعيفًا لَما كان هو يلتقي مع ماءِ السَّماءِ، بل كان ماءُ السَّماءِ يَرِدُ عليه ويتَّصِلُ به، ولعَلَّ المرادَ مِن قَولِه: وَفَارَ التَّنُّورُ [هود: 40] مِثلُ هذا [135] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/296). .
8- في قَولِه تعالى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَرِيَّةِ بلَفظِ «القَدَرِ» [136] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/206). .
9- في قَولِه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا أنَّه سُبحانَه له عَينان -بلا كَيْف- [137] يُنظر: ((الإبانة)) للأشعري (ص: 22)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/282). ، يَنظُرُ بهما حقيقةً على الوَجهِ اللَّائقِ به، وهما مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ الثَّابتةِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ [138] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (4/58). .
10- صفةُ العينَينِ ثابِتةٌ للهِ تعالى، فكيف الجَمعُ بيْنَ المُثنَّى وصيغةِ الجَمعِ في قَولِه تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48]، وقَولِه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا؟
الجوابُ: الجَمعُ بيْنَهما سَهلٌ، هو نظيرُ الجَمعِ بيْنَ اليدَينِ الواردِ مَجيؤُهما بصيغةِ التَّثنيةِ وبصيغةِ الجَمعِ؛ فإمَّا أنْ يُرادَ بالجَمعِ ما دونَ الثَّلاثةِ؛ لأنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ قد جاءتْ بالجمعِ مرادًا به ما دونَ الثَّلاثةِ، فيكونَ قولُه: بِأَعْيُنِنَا كقَولِه: «بعَينَينا»؛ لأنَّ أقلَّ الجَمعِ اثنانِ، وإمَّا أنْ يقالَ: أقلُّ الجَمعِ ثلاثةٌ -كما هو الأكثرُ- ولكنَّ الجمعَ هنا لا يُرادُ به مَدلولُه التَّعدُّديُّ، وإنَّما يُرادُ به مَدلولُه المعنويُّ، وهو التَّعظيمُ، فيكونَ اللهُ عزَّ وجلَّ جَمَعَ العينَينِ، فقال: بِأَعْيُنِنَا؛ تعظيمًا لهما، وأيضًا يُضافُ إلى التَّعظيمِ المناسَبةُ؛ لأنَّ «نا» دالَّةٌ على الجَمعِ في أصلِ الوَضعِ؛ فناسَبَ أنْ يكونَ المضافُ إليها مَجموعًا للتَّعظيمِ، كما هي في قَولِه تعالى: بِأَعْيُنِنَا للتَّعظيمِ؛ فيَتناسَبُ هنا المضافُ والمضافُ إليه، وهذه المناسَبةُ لفظيَّةٌ [139] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/270). .
11- قال تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ظاهرُ الكلامِ أنَّ السَّفينةَ تجري وعينُ اللهِ تَرعاها وتَكلؤُها، وهذا معنى قولِ بعضِ السَّلفِ: «بمرأًى منِّي»؛ فإنَّ اللهَ تعالى إذا كان يَكلؤُهم بعَينِه لَزِمَ مِن ذلك أنْ يَراهم، ولازِمُ المعنى الصَّحيحِ جزءٌ منه، كما هو معلومٌ مِن دَلالةِ اللَّفظِ، حيثُ تكونُ بالمُطابَقةِ، والتَّضَمُّنِ، والالتِزامِ، ولا يُقالُ: إنَّ ظاهرَ الكلامِ وحقيقتَه أنَّ السَّفينةَ تجري في عينِ اللهِ! فهذا قول باطلٌ مِن وَجهينِ:
الأوَّلُ: أنَّه لا يقتضيه الكلامُ بمقتضى الخِطابِ العربيِّ، والقرآنُ الكريمُ إنَّما نَزَلَ بلُغةِ العربِ، ولا أحدَ يَفهمُ مِن قولِ القائلِ: فلانٌ يسيرُ بعَيني: أنَّ المعنى أنَّه يسيرُ داخلَ عيْنِه!
 الثَّاني: أنَّ هذا ممتنعٌ غايةَ الامتِناعِ، ولا يمكنُ لِمَن عَرَفَ اللهَ وقَدَرَه حقَّ قدْرِه أنْ يَفْهَمَه في حقِّ اللهِ تعالى؛ لأنَّ اللهَ تعالى مُستَوٍ على عرْشِه، بائِنٌ مِن خلْقِه، لا يَحُلُّ فيه شيءٌ مِن مخلوقاتِه، ولا هو حالٌّ في شيءٍ مِن مخلوقاتِه، سُبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. فإذا تبيَّنَ بُطلانُ هذا القولِ مِن النَّاحيةِ اللَّفظيَّةِ والمعنويَّةِ، تَعَيَّنَ أنْ يكونَ ظاهرُ الكلامِ أنَّ السَّفينةَ تجري وعينُ اللهِ تَرعاها وتَكلؤُها [140] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/324). .
12- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ أنَّه سُبحانَه يَسَّرَ قِراءتَه على ألسِنةِ النَّاسِ، ويَسَّر عِلْمَه على قُلوبِ قَومٍ، ويَسَّر فَهْمَه على قُلوبِ قَومٍ، ويَسَّر حِفظَه على قُلوبِ قَومٍ، وكُلُّهم أهلُ القُرآنِ، وكُلُّهم أهلُ اللهِ تعالى وخاصَّتُه [141] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/497)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/108). !
13- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أنَّ اللهَ تعالى أبقَى آياتٍ -وهي: العلاماتُ والدَّلالاتُ-؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ما يَخُصُّه مِن أخبارِ المؤمنينَ وحُسْنِ عاقبتِهم في الدُّنيا، وأخبارِ الكُفَّارِ وسوءِ عاقبتِهم في الدُّنيا: هو مِن بابِ الآياتِ والدَّلالاتِ الَّتي يُستدَلُّ بها، ويُعتبَرُ بها عِلمًا ووَعظًا؛ فيُفيدُ مَعرِفةَ صِحَّةِ ما أخبَرَتْ به الرُّسُلُ، ويفيدُ التَّرغيبَ والتَّرهيبَ، ويدُلُّ ذلك على أنَّ اللهَ تعالى يَرضَى عن أهلِ طاعتِه ويُكرِمُهم، ويَغضَبُ على أهلِ مَعصيتِه ويُعاقِبُهم [142] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/119). .
14- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أنَّ السُّفُنَ بعدَ نوحٍ مَتروكةٌ إلى القيامةِ آيةً للوَرَى [143] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/207). ، على قولٍ في التَّفسيرِ.
15- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ دليلٌ على أنَّ الذِّكْرَ مُلتمَسٌ منه، وطالبَه مُعانٌ عليه [144] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/207). .
16- بيْنَ قولِه: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وقولِه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فرْقٌ دَقيقٌ؛ فالادِّكارُ الأوَّلُ: ادِّكارُ اعتِبارٍ عن مُشاهَدةِ آثارِ الأُمَّةِ البائدةِ، والادِّكارُ الثَّاني: ادِّكارٌ عن سَماعِ مَواعظِ القرآنِ البالغةِ، وفَهْمِ مَعانِيه، والاهتِداءِ به [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/190). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن قولِه: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر: 4]؛ فإنَّ مِن أشهَرِها تَكذيبَ قَومِ نوحٍ رَسولَهم، وسبَقَ الإنباءُ به في القرآنِ في السُّوَرِ النَّازلةِ قبْلَ هذه السُّورةِ. وهو خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّذكيرِ، وليُفرَّعَ عليه ما بعْدَه، فالمَقصودُ النَّعيُ عليهم عدَمَ ازدجارِهم بما جاءَهُم مِن الأنْباءِ بتَعدادِ بَعضِ المُهِمِّ مِن تلك الأنباءِ [146] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/179). .
- وفائدةُ ذِكرِ الظَّرْفِ قَبْلَهُمْ تَقريرُ تَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: إنَّ هذه شِنْشِنةُ -أي: عادةُ وطَبيعةُ- أهلِ الضَّلالِ، معَ ما في ذلك مِن التَّعريضِ بأنَّ هؤلاء مُعرِضون [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/179). . وكذلك في ذِكرِ الظَّرفِ مِن غيرِ حرْفِ جَرٍّ؛ لأنَّه أعظَمُ في التَّسليةِ [148] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/102). .
- قيل: عُرِّفَ قومُ نُوحٍ بالإضافةِ إلى اسْمِه؛ إذ لم يَكُنْ للأُمَّةِ في زمَنِ نُوحٍ عليه السَّلامُ اسمٌ يُعرَفون به [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/180). .
- وأُسنِدَ التَّكذيبُ إلى جَميعِ القَومِ؛ لأنَّ الَّذين صدَّقوه عدَدٌ قليلٌ؛ فإنَّه ما آمَنَ به إلَّا قَليلٌ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/180). .
- والفاءُ في قولِه: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا لتَفريعِ الإخبارِ بتَفصيلِ تَكذيبِهم إيَّاهُ بأنَّهم قالوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، على الإخبارِ بأنَّهم كذَّبوه على الإجمالِ، وإنَّما جِيءَ بهذا الأُسلوبِ؛ لأنَّه لَمَّا كان المَقصودُ مِن الخبَرِ الأوَّلِ تَسليةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فُرِّعَ عليه الإخبارُ بحُصولِ المُشابَهةِ بيْن تَكذيبِ قَومِ نُوحٍ رَسولَهم وتَكذيبِ المُشرِكين محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ في أنَّه تَكذيبٌ لِمَن أرسَلَه اللهُ واصطفاهُ بالعُبوديَّةِ الخاصَّةِ، وفي أنَّه تَكذيبٌ مَشوبٌ ببُهتانٍ؛ إذ قال كِلا الفريقَينِ لرَسولِه: مَجنونٌ، ومَشوبٌ ببَذاءةٍ؛ إذ آذَى كِلا الفريقينِ رَسولَهم وازدَجَروه؛ فمَحلُّ التَّفريعِ هو وصْفُ نُوحٍ بعُبوديَّةِ اللهِ تَكْريمًا له، والإخبارُ عن قَومِه بأنَّهم افتَرَوا عليه وَصْفَه بالجُنونِ، واعتَدَوا عليه بالأذَى والازدِجارِ، فأصْلُ تَركيبِ الكلامِ: كذَّبَت قبْلَهم قومُ نُوحٍ فقالوا: مَجنونٌ، وازْدُجِرَ. ولَمَّا أُرِيدَ الإيماءُ إلى تَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ابتِداءً جُعِلَ ما بعْدَ التَّسليةِ مُفرَّعًا بفاءِ التَّفريعِ؛ ليَظهَرَ قصْدُ استِقلالِ ما قبْلَه، ولولا ذلك لَكان الكلامُ غَنيًّا عن الفاءِ؛ إذ كان يقولُ: كذَّبَت قومُ نوحٍ عبْدَنا.
ويَجوزُ أنْ يكونَ فِعلُ كَذَّبَتْ مُستعمَلًا في معْنى أنَّهم اعتَقَدوا كذِبَه، فتَفريعُ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا عليه تَفريعُ تَصريحِهم بتَكذيبِه على اعتقادِهم كذِبَه؛ فيَكونَ فِعلُ فَكَذَّبُوا مُستعمَلًا في معْنًى غيرِ الَّذي استُعْمِلَ فيه فِعلُ كَذَّبَتْ، والتَّفريعُ ظاهرٌ على هذا الوجْهِ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/180، 181). .
أو يكونُ في إعادةِ التَّكذيبِ -في قولِه: فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا بعْدَ قولِه: كَذَّبَتْ- فائدةُ حِكايةِ الواقعِ؛ وهو أنَّهم كذَّبوا تَكذيبًا بعْدَ تَكذيبٍ، كلَّما مَضى منهم قَرْنٌ مُكذِّبٌ تَبِعَه قرْنٌ مُكذِّبٌ. وفيه مَزيدةُ تَقريرٍ وتَحقيقٍ للتَّكذيبِ. أو لإفادةِ تَوكيدِ التَّكذيبِ، أي: هو تَكذيبٌ قوِيٌّ.
أو المعْنى: كذَّبت قَومُ نوحٍ الرُّسلَ فكذَّبوا عبْدَنا، أي: لَمَّا كانوا مُكذِّبين بالرُّسلِ جاحِدين للنُّبوَّةِ رأْسًا، كذَّبوا نوحًا؛ لأنَّه مِن جُملةِ الرُّسلِ.
أو الأوَّلُ تَكذيبُهم بالتَّوحيدِ، والثَّاني بالرِّسالةِ.
أو الأوَّلُ تَكذيبُهم باللهِ، والثَّاني برَسولِه نُوحٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [152] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/433)، ((تفسير البيضاوي)) (5/165)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 542)، ((تفسير أبي السعود)) (8/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/180). .
- وفي ذِكرِ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعُنوانِ العُبوديَّةِ، مع الإضافةِ إلى نُونِ العظَمةِ، تَفخيمٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ورفْعٌ لمَحلِّه، وزِيادةُ تَشنيعٍ لمُكذِّبيهِ [153] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/37)، ((تفسير أبي السعود)) (8/169). .
- وصِيغةُ الافتعالِ في لَفظِ وَازْدُجِرَ للمُبالَغةِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/181). .
- ونُكتةُ بِناءِ الفِعلِ وَازْدُجِرَ للمَجهولِ هنا التَّوصُّلُ إلى حذْفِ ما يُسنَدُ إليه فِعلُ الازدجارِ المَبْنيُّ للفاعلِ، وهو ضَميرُ قَوْمُ نُوحٍ، فعُدِلَ عن أنْ يُقالَ: (وازدَجَروه) إلى قولِه: وَازْدُجِرَ؛ مُحاشاةً للدَّالِّ على ذاتِ نُوحٍ -وهو ضَميرٌ- مِن أنْ يقَعَ مَفعولًا لضَميرِهم [155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/181). .
2- قولُه تعالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ تَفريعٌ على كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9] وما تَفرَّعَ عليه [156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/182). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ فَانْتَصِرْ؛ للإيجازِ، وللرَّعْيِ على الفاصلةِ، والتَّقديرُ: فانتصِرْ لي، أي: انصُرْني [157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/182). .
3- قولُه تعالَى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ مُفرَّعٌ على جُملةِ فَدَعَا رَبَّهُ [القمر: 10]، ففُهِمَ مِن التَّفريعِ أنَّ اللهَ استجابَ دَعوتَه، وأنَّ إرسالَ هذه المياهِ عِقابٌ لقَومِ نُوحٍ. وحاصِلُ المعْنى: فأرْسَلْنا عليهم الطُّوفانَ بهذه الكيفيَّةِ المُحكَمةِ السَّريعةِ [158] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/38)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/182). .
- قولُه: فَفَتَحْنَا قُرِئَ فَفَتَّحْنَا بالتَّشديدِ [159] قرأ بها أبو جعفرٍ وابنُ عامرٍ ويعقوبُ، وقرأ الباقون بالتَّخفيفِ. يُنظر: ((المبسوط في القراءات العشر)) لابن مهران (ص: 421). على المُبالَغةِ، أو لكَثرةِ الأبوابِ [160] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/165)، ((تفسير أبي السعود)) (8/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/182). .
- والباءُ في قولِه: بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ للتَّعديةِ على المُبالَغةِ؛ حيث جُعِلَ الماءُ كأنَّه آلةٌ يُفتَحُ بها، كما تقولُ: فتَحْتُ البابَ بالمِفتاحِ، وكأنَّ الماءَ جاءَ وفتَحَ البابَ، فجُعِلَ المَقصودُ -وهو الماءُ- مُقدَّمًا في الوجودِ على فتْحِ البابِ المُغلَقِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الباءُ للحالِ، أي: مُلْتبِسةً بماءٍ مُنهمِرٍ [161] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/38)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/377). .
4- قولُه تعالَى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ
- قولُه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا أبلَغُ مِن قولِك: وفجَّرْنا عُيونَ الأرضِ؛ جُعِلَت الأرضُ مِن كَثرةِ عُيونِها كأنَّها عَينٌ تَتفجَّرُ، وفي هذا إجمالٌ جِيءَ مِن أجْلِه بالتَّمييزِ له بقَولِه: عُيُونًا لبَيانِ هذه النِّسبةِ، والمعْنى: وفجَّرْنا عُيونَ الأرضِ، ونُكتةُ ذلك: إفادةُ شُمولِ العُيونِ الأرضَ [162] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/434)، ((تفسير البيضاوي)) (5/165)، ((تفسير أبي حيان)) (10/39)، ((تفسير أبي السعود)) (8/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/183). .
- قولُه: فَالْتَقَى الْمَاءُ، أي: ماءُ السَّماءِ وماءُ الأرضِ، والإفرادُ لتحقيقِ أنَّ الْتِقاءَ الماءَينِ لم يكُنْ بطَريقِ المُجاوَرةِ والتَّقارُبِ، بلْ بطَريقِ الاختلاطِ والاتِّحادِ [163] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/169). . أو أراد به جِنسَ الماءِ، ووحَّده مُوافقةً لقولِه قبْلُ: بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [164] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 542). [القمر: 11].
- وإنَّما قيل: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ والالتقاءُ لا يكونُ مِن واحدٍ، وإنَّما يكونُ مِنِ اثنينِ فصاعدًا؛ لأنَّ الماءَ قد يكونُ جمْعًا وواحدًا، وأُرِيدَ به في هذا الموضعِ: مِياهُ السَّماءِ ومياهُ الأرضِ، فخرَجَ بلَفظِ الواحدِ ومعْناهُ الجمْعُ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/122، 123). .
- والتَّعريفُ في الْمَاءُ للجِنسِ، وعُلِمَ مِن إسنادِ الالتقاءِ أنَّهما نَوعانِ مِن الماءِ: ماءُ المطَرِ، وماءُ العُيونِ [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/183). .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ (على) بمعْنى (في)، ويَجوزُ أنْ تكونَ (على) للاستِعلاءِ، أي: مُلابِسًا لأمْرٍ قد قُدِرَ ومُتمكِّنًا منه، ومعْنى التَّمكُّنِ: شِدَّةُ المُطابَقةِ لِما قُدِرَ، وأنَّه لم يَحِدْ عنه قِيدَ شَعْرةٍ [167] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/183). .
- والجارُّ والمجرورُ عَلَى أَمْرٍ مُتعلِّقانِ بـ (الْتَقَى)، وأفادتْ (على) معْنى التَّعليلِ، والمعْنى: اجتَمَعَ مِن أجْلِ إغراقِهم المَقْضِيِّ أزَلًا [168] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/378). .
- والأمْرُ: الحالُ والشَّأنُ، وتَنوينُه للتَّعظيمِ [169] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/183). .
- واكْتُفِيَ بهذا الخبَرِ عن بَقيَّةِ المعْنى -وهو طُغيانُ الطُّوفانِ عليهم- اكتِفاءً بما أفادَه تَفريعُ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ [القمر: 11]، انتقالًا إلى وَصْفِ إنجاءِ نُوحٍ مِن ذلك الكرْبِ العظيمِ، فجُملةُ وَحَمَلْنَاهُ [القمر: 13] مَعطوفةٌ على التَّفريعِ عطْفَ احتِراسٍ، والمعْنى: فأغْرَقْناهم ونَجَّيْناهُ [170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/184). .
5- قولُه تعالَى: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ
- عُدِّيَ فِعلُ (حمَلْنا) إلى ضَميرِ نُوحٍ دونَ مَن معَه مِن قَومِه؛ لأنَّ هذا الحَمْلَ كان إجابةً لدعوتِه ولنَصْرِه، فهو المَقصودُ الأوَّلُ مِن هذا الحَمْلِ، وهو المَقصودُ بالإنجاءِ، وقدْ أشارَ إلى ذلك قَولُه تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [الأعراف: 72] ، وقَولُه: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون: 28] ، ونحْوُه مِن الآياتِ الدَّالَّةِ على أنَّه المَقصودُ بالإنجاءِ، وأنَّ نَجاةَ قَومِه بمَعيَّتِه، وحسْبُك قولُه في تَذييلِ هذه الآيةِ: جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ؛ فإنَّ الَّذي كَانَ كُفِرَ هو نوحٌ؛ كفَرَ به قَومُه [171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/184). .
- وحرْفُ (على) للاستِعلاءِ الَّذي يُفيدُ التَّمكُّنَ مِن الرُّكوبِ، وإلَّا فإنَّ استِقرارَه في السَّفينةِ كائنٌ في جَوفِها [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/185). .
- وقولُه: ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ صِفةُ السَّفينةِ، أُقِيمَت مُقامَ المَوصوفِ هنا عِوَضًا عن أنْ يُقالَ: وحمَلْناه على الفُلْكِ؛ لأنَّ في هذه الصِّفةِ بَيانَ مَتانةِ هذه السَّفينةِ وإحكامِ صُنْعِها، وفي ذلك إظهارٌ لعِنايةِ اللهِ بنَجاةِ نُوحٍ ومَن معَه، وعادةُ البُلغاءِ إذا احتاجوا لذِكرِ صِفةٍ بشَيءٍ، وكان ذِكْرُها دالًّا على مَوصوفِها؛ أنْ يَستغْنُوا عن ذِكرِ الموصوفِ إيجازًا [173] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/435)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/184)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/379). .
وأيضًا مُراعاةً للآياتِ وفَواصلِها، فلو قال: حمَلْنا على فُلْكٍ أو على سَفينةٍ، لم تتناسَبْ هذه الآيةُ مع ما بَعْدَها ولا ما قَبْلَها، وأيضًا مِن أجْلِ أنْ يَتَعَلَّمَ النَّاسُ كيف يَصنَعونَ السُّفُنَ، وبيانِ أنَّها مِن الألواحِ والمساميرِ [174] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/317). .
وقيل: حَذَف المَوصوفَ وأقامَ الصِّفةَ مقامَه؛ إشارةً إلى أنَّها كانت مِن ألواحٍ مُرَكَّبةٍ مُوثَقةٍ بدُسُرٍ، وكان انفِكاكُها في غايةِ السُّهولةِ ولم يَقَعْ؛ فهو بفَضلِ اللهِ [175] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/297). .
6- قولُه تعالَى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ
- جَزَاءً مَفعولٌ لأجْلِه لـ (فتَحْنا) وما عُطِفَ عليه، أي: فَعَلْنا ذلك كلَّه جَزاءً لنُوحٍ. والمَقصودُ بقَولِه: لِمَنْ كَانَ كُفِرَ هو نوحٌ؛ فإنَّ قَومَه كَفَروا به، أي: لم يُؤمِنوا بأنَّه رسولٌ، وكان كُفْرُهم به مُنذُ جاءَهُم بالرِّسالةِ؛ فلذلك أُقحِمَ هنا فِعلُ (كان)، أي: لِمَن كُفِرَ منذُ زمانٍ مَضى [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/185). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ كُفِرَ؛ لدَلالةِ الكَلامِ عليه، وتَقديرُه: كُفِرَ به. أو لأنَّه نصَحَ لهم ولقِيَ في ذلك أشَدَّ العَناءِ، فلم يَشكُروا له، بل كَفَروه، فهو مَكفورٌ [177] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/435)، ((تفسير البيضاوي)) (5/165)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 542)، ((تفسير أبي السعود)) (8/170)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/185). .
- وفي قوله: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا مناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال في سورةِ (طه): وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] بحرفِ «على»، وقال تعالى هنا في سورةِ (القمرِ): تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا وفي سورةِ (هودٍ): وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] بحرفِ الباءِ؛ أمَّا في سورةِ (طه) فقد ورَدتْ في إظهارِ أمرٍ كان خفيًّا، وإبداءِ ما كان مكتومًا؛ فإنَّ الأطفالَ إذ ذاك كانوا يُغْذَونَ ويُصنعونَ سِرًّا؛ فلَمَّا أراد أنْ يُصْنَعَ موسى عليه السَّلامُ ويُغْذَى ويُرَبَّى على حالِ أَمْنٍ وظهورٍ -لا تحتَ خَوفٍ واستِسْرارٍ- دخلتْ «على» في اللَّفظِ؛ تنبيهًا على المعنى؛ لأنَّها تُعطي الاستِعلاءَ، والاستِعلاءُ: ظهورٌ وإبداءٌ، فكأنَّه يقولُ سُبحانَه وتعالى: «ولِتُصْنَعَ على أَمْنٍ؛ لا تحتَ خَوفٍ!»، وذَكَر العينَ لِتَضَمُّنِها معنى الرِّعايةِ والكِلاءةِ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] فإنَّه إنَّما يريدُ: «برعايةٍ مِنَّا وحِفْظٍ»، ولا يريدُ إبداءَ شيءٍ، ولا إظهارَه بعدَ كَتْمٍ! فلمْ يُحْتَجْ في الكلامِ إلى معنى «على»، بخِلافِ ما تقَدَّم [178] يُنظر: ((نتائج الفكر)) للسهيلي (ص: 230)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/5). .
7- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ
- التَّركُ كِنايةٌ عن الإبقاءِ، وعدَمِ الإزالةِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/186). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً، وقال في (العنكبوتِ): وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً [العنكبوت: 15] ، وهُما وإنْ كانَا في المعْنى واحدًا، لكنَّ لَفظَ التَّركِ يَدلُّ على الجَعلِ والفراغِ بالأيَّامِ؛ فكأنَّها هنا مَذكورةٌ بالتَّفصيلِ، حيث بيَّنَ الإمطارَ مِن السَّماءِ، وتَفجيرَ الأرضِ، وذَكَر السَّفينةَ بقولِه: ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، وذَكَر جَرْيَها فقال: تَرَكْنَاهَا؛ إشارةً إلى تَمامِ الفعلِ المقدورِ، وقال هناك: وَجَعَلْنَاهَا؛ إشارةً إلى بَعضِ ذلك. فإنْ قِيل: إنْ كان الأمرُ كذلك؛ فكيف قال هاهنا: وَحَمَلْنَاهُ ولم يقُلْ: «وأصحابَه»، وقال هناك: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ [العنكبوت: 15] ؟
فالجوابُ: أنَّ النَّجاةَ هاهنا مَذكورةٌ على وجْهٍ أبلَغَ ممَّا ذَكَره هناك؛ لأنَّه قال: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، أي: حِفْظِنا، وحِفظُ السَّفينةِ حِفظٌ لأصحابِه، وحِفظٌ لأموالِهم ودَوابِّهم والحيواناتِ الَّتي معَهم؛ فقولُه: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ لا يَلزَمُ منه إنجاءُ الأموالِ إلَّا ببَيانٍ آخَرَ، والحِكايةُ في سُورةِ (هُودٍ) أشدُّ تَفصيلًا وأتمُّ؛ فلهذا قال: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] ، يَعني: المَحمول، ثمَّ قال تَعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] تَصريحًا بخَلاصِ السَّفينةِ، وإشارةً إلى خَلاصِ كلِّ مَن فيها [180] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/298). . وفيه وجهٌ آخَرُ، وهو أنَّه إنَّما قالَ هنا: وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا، وقال في سُورةِ (العنْكبوتِ): وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 15] ؛ لأنَّ ذِكرَها في سُورةِ (القمَرِ) ورَدَ بعْدَ ذِكرِ كَيفيَّةِ صُنْعِها، وحُدوثِ الطُّوفانِ، وحمْلِ نُوحٍ في السَّفينةِ، فأخبَرَ بأنَّها أُبْقِيَت بعْدَ تلك الأحوالِ، فالآيةُ في بَقائِها، وفي سُورةِ (العنْكبوتِ) ورَدَ ذِكرُ السَّفينةِ ابتداءً، فأخبَرَ بأنَّ اللهَ جعَلَها آيةً؛ إذ أَوحى إلى نُوحٍ بصُنْعِها، فالآيةُ في إيجادِها، وهو المُعبَّرُ عنه بـ (جَعَلْنَاهَا) [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/186). .
- قولُه: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فُرِّعَ على إبقاءِ السَّفينةِ آيةً استِفهامٌ عمَّن يَتذكَّرُ بتلك الآيةِ، وهو استفهامٌ مُستعمَلٌ في معْنى التَّحضيضِ على التَّذكُّرِ بهذه الآيةِ واستِقْصاءِ خَبَرِها، والتَّحضيضُ مُوجَّهٌ إلى جَميعِ مَن تَبلُغُه هذه الآياتُ. و(مِن) صِلةٌ؛ للدَّلالةِ على عُمومِ الجِنسِ في الإثباتِ [182] يُنظر: ((المصدر السابق)) (27/186، 187). .
8- قولُه تعالَى: فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ تَفريعٌ على القصَّةِ بما تَضمَّنَتْه مِن قولِه: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ [القمر: 11] إلى آخِرِه [183] يُنظر: ((المصدر السابق)) (27/187). .
- و(كيف) للاستِفهامِ عن حالةِ العذابِ، وهو عَذابُ قَومِ نُوحٍ بالطُّوفانِ، والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعظيمِ والتَّعجيبِ مِن شِدَّةِ هذا العذابِ المَوصوفِ، أي: كان على كيفيَّةٍ هائلةٍ لا يُحيطُ بها الوصْفُ [184] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/166)، ((تفسير أبي حيان)) (10/40)، ((تفسير أبي السعود)) (8/170)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/187)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/380). .
- والجُملةُ في معْنى التَّذييلِ، وهو تَعريضٌ بتَهديدِ المُشرِكين أنْ يُصِيبَهم عَذابٌ جَزاءَ تَكذيبِهم الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإعراضِهم وأذاهُم كما أصابَ قومَ نُوحٍ عليه السَّلامُ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/187). .
- وحُذِفَ ياءُ المُتكلِّمِ مِن وَنُذُرِ، وأصْلُه: (نُذُري)، وحذْفُها في الكلامِ في الوقْفِ فَصيحٌ، وكثُرَ في القرآنِ عندَ الفواصلِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/187)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/380). .
- والنُّذرُ: جمْعُ نَذيرٍ -على قولٍ- الَّذي هو اسمُ مَصدرِ (أنْذَرَ)، كالنِّذارةِ، وإنَّما جُمِعَت لتَكرُّرِ النِّذارةِ مِن الرَّسولِ لقَومِه؛ طلَبًا لإيمانِهِم [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/187). .
9- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، لَمَّا كانتْ هذه النِّذارةُ بُلِّغَت بالقرآنِ، والمُشرِكون مُعرِضون عن استِماعِه، حارِمينَ أنفُسَهم مِن فَوائدِه؛ ذُيِّل خبَرُها بتَنويهِ شأْنِ القرآنِ بأنَّه مِن عِندِ اللهِ، وأنَّ اللهَ يسَّرَه وسهَّلَه لتَذكُّرِ الخلْقِ بما يَحتاجونَه مِن التَّذكيرِ ممَّا هو هدًى وإرشادٌ، وفيه تَعريضٌ بالمُشرِكينَ، كما أنبَأَ عنه قولُه: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/187، 188). .
- قولُه: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إلخ، جُملةٌ قَسَميَّةٌ ورَدَتْ في أواخِرِ القصصِ الأربَعِ؛ تَقريرًا لِمَضمونِ ما سبَقَ مِن قولِه تعالى: وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 4، 5]، وتَنبيهًا على أنَّ كلَّ قصَّةٍ منها مُستقِلَّةٌ بإيجابِ الادِّكارِ، كافيةٌ في الازدجارِ [189] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/170). !
- وتأْكيدُ الخبَرِ باللَّامِ وحرْفِ التَّحقيقِ (قد) مُراعًى فيه حالُ المُشرِكين الشَّاكِّينَ في أنَّه مِن عِندِ اللهِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/188). .
- قولُه: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فُرِّعَ على تَيسيرِ القرآنِ للذِّكرِ استِفهامٌ، وهو استِفهامٌ مُستعمَلٌ في معْنى التَّحضيضِ، والتَّحضيضُ مُوَجَّهٌ إلى جَميعِ مَن تَبلُغُه هذه الآياتُ. و(مِن) صِلةٌ؛ للدَّلالةِ على عُمومِ الجِنسِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/186، 187، 190). .
- وقيل: قولُه: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إنْكارٌ ونفْيٌ للمُتَّعِظِ على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه؛ حيثُ يدُلُّ على أنَّه لا يَقدِرُ أحدٌ أن يُجيبَ المُستفهمَ بـ «نَعَمْ» [192] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/170). .