موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: حُكمُ مُرتكِبِ الكبيرةِ


يتناوَلُ هذا المَبحَثُ مسألةً تُسمَّى عندَ مُؤرِّخي الفِرَقِ والمُعتَزِلةِ بالأسماءِ والأحكامِ؛ لأنَّها تبحَثُ في صفةِ مُرتكِبِ الكبيرةِ وحُكمِه، وقد أثار تحديدُ مكانِ مُرتكِبِ الكبيرةِ وحُكمُه خِلافًا شديدًا بَينَ المُسلِمينَ، وجعَله بعضُ مُؤرِّخي الفِرَقِ سببًا مُباشِرًا لظُهورِ مذهَبِ الاعتِزالِ؛ فقد قالت الخوارِجُ: إنَّ صاحِبَ الكبيرةِ كافِرٌ، وذهَب المُرجِئةُ إلى أنَّه مُؤمِنٌ، أمَّا واصِلٌ فقد أعلَن أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ ليس مُؤمِنًا ولا كافِرًا ولا مُنافِقًا، بل هو فاسِقٌ، أو في منزِلةٍ بَينَ المنزِلتَينِ: الإيمانِ والكُفرِ، ومِن هنا أُطلِق على هذا الأصلِ عندَ المُعتَزِلةِ اسمُ المنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ، أو الأسماءِ والأحكامِ [1085] يُنظر: ((نظرية التكليف)) لعثمان (ص: 494). .
فالمُعتَزِلةُ يرَونَ أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا مُؤمِنٌ ولا كافِرٌ، بل له اسمٌ بَينَ الاسمَينِ، وحُكمٌ بَينَ الحُكمَينِ، فلا يكونُ اسمُه اسمَ الكافِرِ، ولا اسمُه اسمَ المُؤمِنِ، وإنَّما يُسمَّى فاسِقًا، وكذلك فلا يكونُ حُكمُه حُكمَ الكافِرِ، ولا حُكمَ المُؤمِنِ، بل يُفرَدُ له حُكمٌ ثالثٌ، وهذا الحُكمُ هو ما يُسمَّى بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ؛ فإنَّ صاحِبَ الكبيرةِ عندَهم له منزِلةٌ تتجاذَبُها هاتانِ المنزِلتانِ، فليست منزِلتُه منزِلةَ الكافِرِ، ولا منزِلةَ المُؤمِنِ، بل له منزِلةٌ بَينَهما [1086] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 697). .
والمُرادُ مِن هذا بيانُ الحُكمِ الدُّنيويِّ لمُرتكِبِ الكبيرةِ؛ ففيه أنَّ مُرتكِبَها يُسلَبُ منه اسمُ الإيمانِ بالكُلِّيَّةِ؛ لأنَّه بارتِكابِها يزولُ ما معَه مِن إيمانٍ؛ فلم يَعُدْ مُؤمِنًا، غَيرَ أنَّهم في هذا الحُكمِ الدُّنيويِّ لم يبلُغوا به درجةَ الكافِرِ؛ فلم يُجوِّزوا تسميتَه كافِرًا، كما لم يُجوِّزوا تسميتَه مُؤمِنًا، بل جعَلوا له منزِلةً بَينَ منزِلتَي الكُفرِ والإيمانِ، وهي الفِسقُ.
وقد برزَت هذه المقالةُ أوَّلَ ما برزَت على يدِ واصِلِ بنِ عطاءٍ الغَزَّالِ؛ أحدِ زُعَماءِ المُعتَزِلةِ، بل زَعيمُهم الأوَّلُ الذي كان تلميذًا للحَسنِ البَصريِّ، المُشتهِرُ بقولِه بأنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ مُنافِقٌ. وقد بيَّنها الشَّهْرَسْتانيُّ في (المِلَلِ والنِّحَلِ) بقولِه: (وَجهُ تقريرِه أنَّه –واصِلَ بنَ عطاءٍ- قال: إنَّ الإيمانَ عِبارةٌ عن خِصالِ خيرٍ، إذا اجتمعَت سُمِّي المرءُ مُؤمِنًا، وهو اسمُ مَدحٍ، والفاسِقُ لم يستجمِعْ خِصالَ الخيرِ وما استحقَّ اسمَ المَدحِ، فلا يُسمَّى مُؤمِنًا، وليس هو بكافِرٍ مُطلَقًا أيضًا؛ لأنَّ الشَّهادةَ وسائِرَ أعمالِ الخيرِ موجودةٌ فيه لا وَجهَ لإنكارِها) [1087] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/48). .
وكُلُّ هذا ليس إلَّا بحثًا في التَّسميةِ والمُعامَلةِ الدُّنيويَّةِ؛ إذ إنَّهم ذهَبوا هذا المذهَبَ ليُؤدِّيَ لهم غَرضَينِ في آنٍ واحِدٍ:
الغَرضُ الأوَّلُ: هو القولُ بأنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ يُعامَلُ في الدُّنيا كما يُعامَلُ بقيَّةُ المُسلِمينَ، فتجوزُ مُناكَحتُه، ومُوارَثتُه، ودَفنُه في مَقابِرِ المُسلِمينَ، وغَيرُ ذلك مِن الأحكامِ الجارِيةِ عليه في الدُّنيا.
الغَرضُ الثَّاني: هو القولُ بالتَّأبيدِ في النَّارِ؛ فإنَّهم لم يوصِلوه في الوَصفِ الدُّنيويِّ إلى دَرجةِ الكُفرِ، حتَّى تجريَ عليه تلك الأحكامُ الدُّنيويَّةُ، وعزَّ عليهم أن يُعطوه اسمَ الإيمانِ؛ لأنَّه في نَظرِهم لا بُدَّ أن يدخُلَ النَّارَ ليُجازى بما عمِل مِن السَّيِّئاتِ، وداخِلُ النَّارِ عندَهم لا يخرُجُ منها، والمُؤمِنُ لا يُمكِنُ أن يدخُلَ النَّارَ في نَظرِهم.
ويزيدُ المسألةَ وُضوحًا ما ذكَره القاضي عبدُ الجبَّارِ مِن استِدلالٍ على هذا المُعتقَدِ؛ حيثُ قال ما معناه: والذي يدُلُّ على الفصلِ الأوَّلِ -وهو الكلامُ في أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ لا يُسمَّى مُؤمِنًا- هو ما قد ثبَت مِن أنَّه يستحِقُّ بارتِكابِ الكبيرةِ الذَّمَّ واللَّعنَ والاستِخفافَ والإهانةَ، وثبَت أنَّ اسمَ المُؤمِنِ صار بالشَّرعِ اسمًا لمَن يستحِقُّ المَدحَ والتَّعظيمَ والمُوالاةَ؛ فإذ قد ثبَت هذانِ الأصلانِ فلا إشكالَ في أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ لا يجوزُ أن يُسمَّى مُؤمِنًا [1088] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 701). ، ثُمَّ ذكَر بَعدَ ذلك الأدلَّةَ على أنَّ اسمَ المُؤمِنِ صار بالشَّرعِ اسمًا لمَن يستحِقُّ المَدحَ والتَّعظيمَ، كقولِه تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] ، وقولِه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، إلى غَيرِ ذلك مِن الآياتِ.
أمَّا الدَّليلُ على أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يُسمَّى كافِرًا فهو أنَّه جعَل الكافِرَ في الشَّرعِ اسمًا لمَن يستحِقُّ العِقابَ العظيمَ، ويختصُّ بأحكامٍ مخصوصةٍ؛ نَحوُ المَنعِ مِن المُناكَحةِ والمُوارَثةِ والدَّفنِ في مَقابِرِ المُسلِمينَ، إذا ثبَت هذا، ومعلومٌ أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ ممَّن لا يستحِقُّ العِقابَ العظيمَ، ولا تجري عليه هذه الأحكامُ؛ فلم يجُزْ أن يُسمَّى كافِرًا [1089] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 712). .
ومِن أدلَّةِ المُعتَزِلةِ أيضًا على قولِهم بالمنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ ما أوردَه عضُدُ الدِّينِ الإيجيُّ في "المواقِفِ"؛ حيثُ ذكَر احتِجاجَهم على ذلك بوَجهَينِ:
أحدُهما: ما تقدَّم مِن أنَّ الإيمانَ عِبارةٌ عن الطَّاعاتِ، وأنَّ الفاسِقَ يُعامَلُ في الدُّنيا مُعامَلةَ سائِرِ المُسلِمينَ.
أمَّا الوَجهُ الثَّاني: فهو ما قاله واصِلُ بنُ عطاءٍ لعَمرِو بنِ عُبَيدٍ، فرجَع عَمرٌو إلى مذهَبِه، وهو أنَّ فِسقَه معلومٌ وِفاقًا، وإيمانَه مُختلَفٌ فيه؛ لأنَّ الأمَّةَ مُجمِعةٌ على أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ فاسِقٌ، واختَلَفوا في كونِه مُؤمِنًا أو كافِرًا، فنترُكُ المُختلَفَ فيه، ونأخُذُ بالمُتَّفَقِ عليه [1090] يُنظر: ((شرح المواقف)) للجُرْجاني (8/338). .
وهذا هو الدَّليلُ الأساسيُّ الذي يستدِلُّ به القَومُ، ويُوضِّحُه القاسِمُ الرَّسِّيُّ بقولِه: (والأمَّةُ مُجمِعةٌ على أنَّ مَن أتى كبيرةً، أو ترَك طاعةَ فريضةٍ كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ، مِن أهلِ المِلَّةِ؛ فهو فاسِقٌ، وهي مُختلِفةٌ في غَيرِ ذلك مِن أسمائِه؛ قال بعضُهم: هو مُشرِكٌ فاسِقٌ مُنافِقٌ، فكُلُّهم قد أقرَّ بأنَّه فاسِقٌ كافِرٌ، وقال بعضُهم: فاسِقٌ مُنافِقٌ؛ فكُلُّهم قد أقرَّ بأنَّه فاسِقٌ، واختَلَفوا في غَيرِ ذلك مِن أسمائِه؛ فالحقُّ ما أجمَعوا عليه مِن تسميتِهم إيَّاه بالفِسقِ، والباطِلُ ما اختَلَفوا فيه؛ ففي إجماعِهم الحُجَّةُ والبُرهانُ) [1091] ((رسائل العدل والتوحيد)) (1/130). .
وهذا كُلُّه -كما سبَق- لا يعدو كونَه كلامًا في حُكمٍ دُنيويٍّ، وهو القَدْرُ الذي يختلِفونَ فيه معَ الخوارِجِ؛ حيثُ قالوا بكُفرِه ابتداءً، وخُروجِه مِن مِلَّةِ الإسلامِ، أمَّا الحُكمُ الأخرَويُّ لمُرتكِبِ الكبيرةِ عندَ المُعتَزِلةِ فعندَهم أنَّ مَن استوعَب عُمرًا في طاعةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى، ثُمَّ قارَف كبيرةً واحِدةً، ولم يُوفَّقْ للتَّوبةِ عنها، ومات على هذه الحالِ؛ فهو مُخلَّدٌ في النَّارِ معَ المُشرِكينَ الذين لم يُؤمِنوا ولم يأتوا بحَسنةٍ قطُّ [1092] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 666). .
وهذا هو بعَينِه رأيُ الزَّيديَّةِ الذين تبنَّوا أُصولَ الاعتِزالِ، وعنهم قال الشَّهْرَسْتانيُّ: (أمَّا في الأُصولِ فيرَونَ رأيَ المُعتَزِلةِ حَذوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، ويُعظِّمونَ أئمَّةَ الاعتِزالِ أكثَرَ مِن تعظيمِهم أئمَّةَ أهلِ البيتِ) [1093] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/162). .
فعندَ هؤلاء جميعًا أنَّ الإنسانَ مهما عمِل مِن الخيراتِ، ومهما جاهَد في سبيلِ إرضاءِ ربِّه مِن فِعلٍ للواجِباتِ، واجتِنابٍ للمُحرَّماتِ، وكبحٍ لجِماحِ النَّفسِ، وصدٍّ لشهواتِها؛ فإنَّ جميعَ طاعاتِه هذه تذهَبُ هباءً عندَما يَزِلُّ في يومٍ مِن الأيَّامِ؛ فيرتكِبُ كبيرةً؛ لأنَّ هذه المعصيةَ تُحبِطُ جميعَ تلك الأعمالِ الخيِّرةِ، فلا يبقى لها وَزنٌ، ولا يعودُ لها اعتِبارٌ؛ لأنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ إذا لم يُقلِعْ عنها بتوبةٍ جازِمةٍ نصوحٍ لا عودةَ بَعدَها فلا بُدَّ أن يدخُلَ النَّارَ خالِدًا مُخلَّدًا فيها؛ لأنَّ داخِلَ النَّارِ عندَهم لا يخرُجُ منها أبدَ الآبِدينَ!
وهذا المذهَبُ في مُرتكِبِ الكبيرةِ تذكُرُه كُتبُ الفِرَقِ على أنَّه أصلٌ مِن أُصولِ المُعتَزِلةِ التي يُجمِعونَ عليها، إلَّا أنَّ إمامَ الحرمَينِ الجُوَينيَّ ذكَر أنَّ مُعتَزِلةَ البَصرةِ وبعضَ البغداديِّينَ واقِفيَّةٌ في وعيدِ مُرتكِبِ الكبيرةِ؛ إذ قالوا بأنَّ مَن مات مِن المُؤمِنينَ على إصرارِه على المعاصي لا يُقطَعُ عليه بعِقابٍ، بل أمرُه مُفوَّضٌ إلى ربِّه تعالى؛ فإن عاقَبه فذلك بعَدلِه، وإن تجاوَز عنه فذلك بفَضلِه ورحمتِه؛ فلا يُستنكَرُ ذلك عَقلًا وشَرعًا [1094] يُنظر: ((الإرشاد)) (ص: 393). .
وعلى كُلٍّ فهذا أصلٌ مِن أُصولِ المُعتَزِلةِ، سواءٌ أجمَعوا عليه أم لم يُجمِعوا، فهو المذهَبُ المشهورُ عنهم، وأيُّ خِلافٍ فيه مِن قِبَلِهم فإنَّه لا ينقُضُ المذهَبَ، لا سيَّما وأنَّهم قد اشتَهروا بتبنِّيه والاستِدلالِ له، ومَن رجَع منهم عن القولِ به فإنَّما كان ذلك منه؛ لأنَّه ناشِدٌ للحقيقةِ غَيرُ مُتَّبِعٍ ولا مُقلِّدٍ، فلا يُستغرَبُ ذلك، إلَّا أنَّه كما هو المذهَبُ المُقترِنُ باسمِ المُعتَزِلةِ عندَ ذِكرِهم دائِمًا.

انظر أيضا: