موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مكانُ ظُهورِ فِرقةِ المُعتَزِلةِ


يكادُ يُجمِعُ الباحِثونَ على أنَّ المكانَ الأوَّلَ لظُهورِ المُعتَزِلةِ هو البصرةُ [56] يُنظر: ((الأنساب)) للسَّمعاني (12/ 339)، ((الحور العين)) للحِمْيَري (ص: 206)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (9/ 241). .
قال المَلَطيُّ: (بالبَصرةِ أوَّلُ ظُهورِ الاعتِزالِ؛ لأنَّ أبا حُذَيفةَ ‌واصِلَ ‌بنَ عطاءٍ جاء به مِن المدينةِ) [57] ((التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع)) (ص: 38). .
ولكنَّ قَولَه بأنَّ واصِلًا جاء بالاعتِزالِ معَه مِن المدينةِ إلى البصرةِ نفاه البعضُ، وعلَّلوا ذلك بأنَّه رُبَّما بنى قولَه على ما ذُكِر مِن وُجودِ المُعتَزِلةِ السِّياسيِّينَ والزُّهَّادِ بالمدينةِ، فهذا باطِلٌ؛ إذ لا علاقةَ لهم بالفِكرِ الاعتِزاليِّ، وإن سُلِّم جَدَلًا أنَّه جاء به مِن المدينةِ فممَّن أخَذ الاعتِزالَ في المدينةِ؟ حينَئذٍ يحتاجُ إلى دليلٍ ولم يُبيِّنْ، إضافةً إلى ذلك فإنَّ واصِلًا كان تلميذًا للحَسنِ، وتربَّى على يديه ولم يُفارِقْه إلَّا عندَما خالَفه في مسألةِ مُرتكِبِ الكبيرةِ، فأبعَده الحَسنُ عن مجلِسِه [58] يُنظر: ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) لعوَّاد المُعتق (ص: 29). .
إلَّا أنَّه قد يُقالُ: إنَّ واصِلًا كان له اطِّلاعٌ على المقالاتِ والنِّحَلِ قَبلَ مجيئِه للبَصرةِ ومجلِسِ الحَسنِ البَصريِّ، ولعلَّه جالَس بعضَ أصحابِها في أثناءِ إقامتِه في المدينةِ، ويُشيرُ إلى هذا قولُ ابنِ المُرتضى: (كان واصِلٌ يُلازِمُ مجلِسَ الحَسنِ، يظُنُّونَ به الخَرَسَ مِن طولِ صَمتِه، فمرَّ ذاتَ يومٍ بعَمرِو بنِ عُبَيدٍ، فأقبَل عليه بعضُ مُستَحبِّي واصِلٍ، فقال: هذا الذي تعُدُّونَه في الخُرسِ، ليس أحدٌ أعلَمَ بكلامِ غاليةِ الشِّيعةِ، ومارِقةِ الخوارِجِ، وكلامِ الزَّنادِقةِ والدَّهريَّةِ والمُرجِئةِ وسائِرِ المُخالِفينَ، والرَّدِّ عليهم، منه. قال عَمرٌو: أنَّى هذا؟ وله عُنقٌ لا يأتي معَها بخيرٍ، وكان واصِلٌ طويلَ العُنقِ، ثُمَّ قال عَمرٌو بَعدَ ذلك: وأشهَدُ أنَّ الفِراسةَ باطِلةٌ، إلَّا أن ينظُرَ رجُلٌ بنورِ اللهِ) [59] ((المُنْية والأمل)) (ص: 34). .
وقال نَشْوانُ الحِميَريُّ [60] يمنيٌّ أقرَبُ إلى الاعتزالِ، توفِّيَ في القَرنِ السَّادِسِ الهِجريِّ. : (كان ‌واصِلُ ‌بنُ ‌عطاءٍ مِن أهلِ المدينةِ، ربَّاه مُحمَّدُ بنُ الحَنَفيَّةِ وعلَّمه، وكان معَ ابنِه أبي هاشِمٍ في الكُتَّابِ، ثُمَّ صَحِبه بَعدَ موتِ أبيه صُحبةً طويلةً، وحكى عن بعضِ العُلَماءِ أنَّه قيل له: كيف كان عِلمُ مُحمَّدِ بنِ عليٍّ؟ قال: إذا أردْتَ أن تعلَمَ ذلك فانظُرْ إلى أثَرِه في واصِلٍ، ثُمَّ انتقَل واصِلٌ إلى ‌البَصرةِ، فلزِم الحَسنَ بنَ أبي الحَسنِ البَصريَّ) [61] ((الحور العين)) (ص: 206). .
فقِصَّةُ عَمرِو بنِ عُبَيدٍ التي ذكَرها المُرتضى، وما حكاه الحِميَريُّ، يُشيرانِ إلى اطِّلاعِه قَبلَ قُدومِه لمجلِسِ الحَسنِ، وأنَّه كان على عِلمٍ بالمذاهِبِ والأفكارِ، وكان له رأيُه الخاصُّ، ولمَّا قدِم البَصرةَ شرَع في الدَّعوةِ إلى الاعتِزالِ، وضمَّ إليه الأتباعَ والنُّصَراءَ إثرَ الموقِفِ الذي وقَع حَولَ حُكمِ مُرتكِبِ الكبيرةِ. واللهُ تعالى أعلَمُ.

انظر أيضا: