موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: الأسماءُ التي أطلَقها المُعتَزِلةُ على أنفُسِهم


أطلَق المُعتَزِلةُ على أنفُسِهم عدَّةَ أسماءٍ، وإن نُوزِعَ في بعضِها على وَجهِ الدِّقَّةِ، إلَّا أنَّها مِن الألقابِ الجارِيةِ في كتاباتِهم وقَبِلوها، واستعمَلوها، ومِن ذلك:
1- المُعتَزِلةُ
هذا اللَّقبُ هو أشهَرُ ألقابِهم، ويدورُ بَينَ مَدحٍ وقَدحٍ؛ فيستعمِلُه المُعتَزِلةُ مَدحًا، ويستعمِلُه خُصومُهم قَدحًا؛ فقد اتَّجه بعضُ المُعتَزِلةِ إلى الاحتِجاجِ لمشروعيَّةِ هذا الاسمِ وبيانِ شَرفِه، ومِن ثُمَّ فَضلِ المُنتَمينَ إليه.
ومِن ذلك أحمَدُ بنُ يحيى المُرتَضى [4] إمامٌ يَمَنيٌّ زَيديٌّ مُعتَزليٌّ، تُوُفِّيَ عام 840هـ. ؛ حيثُ قال: (يحتجُّونَ للاعتِزالِ -أي: لفَضلِه- بقولِه تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ [مريم: 48] ونَحوِها، وهو قولُه تعالى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] ، وليس إلَّا بالاعتِزالِ عنهم. واحتجُّوا مِن السُّنَّةِ بقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن اعتزَل مِن الشَّرِّ سقَط في الخيرِ)) [5] أخرجه الخرائطيُّ في ((مكارم الأخلاق)) (925)، وابن العديم في ((بغية الطلب في تاريخ حلب)) (5/ 2149)). وأخرجه أحمد (23390) بلفظ: (من اتَّقى الشَّرَّ وقَع في الخيرِ). وإسنادُه ضعيفٌ؛ فيه أبو البَخْتَريِّ، واسمُه سعيدُ بنُ فيروزٍ، لم يسمَعْ من حُذَيفةَ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ في ((الاستغناء)) (1/ 465): (ولم يسمَعْ من حذيفةَ). والمِزِّيُّ في ((تهذيب الكمال)) (2342) قال: عن.. (حذيفةَ بنِ اليَمانِ مُرسَلٌ). وقال العَلائيُّ: جامع التحصيل (ص: 183): (كثيرُ الإرسالِ عن عُمَرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وحُذيفةَ وغيرِهم، رَضِيَ اللهُ عنهم). ، واحتجُّوا أيضًا بالخبرِ الذي رواه سُفيانُ الثَّوريُّ عن أبي الزُّبَيرِ، عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، وهو قولُه صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم: ((ستفترِقُ أمَّتي على بِضعٍ وسبعينَ فِرقةً، أبَرُّها وأتقاها الفِئةُ المُعتَزِلةُ)) [6] هذا من اختراع المُعتزِلةِ، ولا وجودَ له في كتُبِ السُّنَّةِ المُسنَدةِ. [7] ((المُنْية والأمل)) (ص: 7). .
وقال أيضًا: (كان السَّببُ في أنَّهم سُمُّوا بذلك -أي المُعتَزِلةِ- ما ذُكِر أنَّ واصِلًا وعَمرَو بنَ عُبَيدٍ اعتزَلا حَلْقةَ الحَسنِ، واستقلَّا بأنفُسِهما...، وسُمُّوا بذلك منذُ اعتزَل واصِلٌ وعَمرُو بنُ عُبَيدٍ حَلْقةَ الحَسنِ...، وقيل: سُمُّوا بذلك لرُجوعِ عَمرِو بنِ عُبَيدٍ إلى قولِ واصِلٍ في الفاسِقِ، وخالَف الحَسنَ؛ ذلك أنَّه لمَّا خالَف واصِلٌ أقوالَ أهلِ زمانِه في الفاسِقِ واعتزَلها كُلَّها، واقتصَر على المُجمَعِ عليه -وهو تسميتُه فاسِقًا- ورجَع عَمرُو بنُ عُبَيدٍ إلى قولِه بَعدَ مُناظَرةٍ وقعَت بَينَهما، سُمِّي وأصحابَه مُعتَزِلةً؛ لاعتِزالِهم كُلَّ الأقوالِ المُحدَثةِ) [8] ((المُنْية والأمل)) (ص: 7- 9). .
فقد استدلَّ المُرتضى لذلك بأنَّها تسميةٌ نَبَويَّةٌ، وأنَّهم سُمُّوا بذلك لاعتِزالِ الأقوالِ المُحدَثةِ المُخالِفةِ، وهم يُنازَعونَ في ذلك مِن جهةِ ثُبوتِ هذه الرِّوايةِ التي أورَدوها، ومِن جهةِ اعتِقادِهم أنَّ مُخالِفَهم مِن أهلِ المُحدَثاتِ والبِدَعِ؛ فإنَّ مِن أبرَزِ خُصومِهم فُضلاءَ السَّلفِ الصَّالحِ، وأئِمَّةَ التَّابِعينَ، والعُلماءَ الكِبارَ كما سيأتي.
وقد قام بعضُ المُعتَزِلةِ بالرَّدِّ على مَن يستخدِمُ هذا اللَّقبَ قَدحًا فيهم، ومِن ذلك قولُ ابنِ المُرتضى: (المُجْبِرةُ تزعُمُ أنَّ المُعتَزِلةَ لمَّا خالَفوا الإجماعَ في ذلك سُمُّوا مُعتَزِلةً، قُلْتُ: لم يخالِفوا الإجماعَ، بل عَمِلوا بالمُجمَعِ عليه في الصَّدرِ الأوَّلِ، ورفَضوا المُحدَثاتِ المُبتَدَعةَ) [9] ((المُنْية والأمل)) (ص: 9). .
ولعلَّ هذا الاسمَ مِن ضِمنِ أسمائِهم التي سمَّاهم بها غَيرُهم ابتداءً، ثُمَّ إنَّهم لمَّا رأَوا أنَّه لا خلاصَ لهم مِن هذا الاسمِ أخَذوا يُبرهِنونَ على فَضلِه، وأنَّ المُرادَ به الاعتِزالَ عن الأقوالِ المُحدَثةِ والمُبتدَعةِ.
وهذا الرَّأيُ في تفسيرِ لَقبِ (المُعتَزِلةِ) -وهو القولُ بأنَّه سمَّاهم به غَيرُهم ابتداءً؛ ذمًّا وقَدحًا، ثُمَّ أخَذوا في تسويغِه بعِدَّةِ طُرقٍ- هو الشَّائِعُ المذكورُ في كُتبِ الفِرقِ والمذاهِبِ، وكان أوَّلَ ذلك موقِفُ واصِلِ بنِ عطاءٍ معَ الحَسنِ البَصريِّ، ثُمَّ انضِمامُ آخَرينَ إلى واصِلٍ.
قال الشَّهْرَستانيُّ: (دخل واحِدٌ على الحَسَنِ البَصريِّ، فقال: يا إمامَ الدِّينِ، لقد ظهرَت في زمانِنا جماعةٌ يُكفِّرونَ أصحابَ الكبائِرِ، والكبيرةُ عندَهم كُفرٌ يُخرَجُ به عن الملَّةِ، وهم وَعيديَّةُ الخوارِجِ. وجماعةٌ يُرجِئونَ أصحابَ الكبائِرِ، والكبيرةُ عندَهم لا تضُرُّ معَ الإيمانِ، بل العَملُ على مذهَبِهم ليس رُكنًا مِن الإيمانِ، ولا يضُرُّ معَ الإيمانِ معصيةٌ، كما لا ينفَعُ معَ الكُفرِ طاعةٌ، وهم مُرجِئةُ الأمَّةِ، فكيف تحكُمُ لنا في ذلك اعتِقادًا؟ فتفكَّر الحَسنُ في ذلك، وقَبلَ أن يُجيبَ قال واصِلُ بنُ عطاءٍ: أنا لا أقولُ: إنَّ صاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ مُطلَقًا، ولا كافِرٌ مُطلَقًا، بل هو في منزِلةٍ بَينَ المنزِلتَينِ: لا مُؤمِنٌ ولا كافِرٌ، ثُمَّ قام واعتزَل إلى أُسطوانةٍ مِن أُسطواناتِ المسجِدِ يُقرِّرُ ما أجاب به على جماعةٍ مِن أصحابِ الحَسَنِ، فقال الحَسنُ: اعتزَل عنَّا واصِلٌ! فسُمِّي هو وأصحابُه مُعتَزِلةً) [10] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/ 47). .
وقال البَغداديُّ: (حدَث في أيَّامِ الحَسنِ البَصريِّ خِلافُ واصِلِ بنِ عطاءٍ الغَزَّالِ في القَدَرِ، وفي المنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ، وانضمَّ إليه ‌عَمرُو ‌بنُ ‌عُبَيدِ بنِ بابٍ في بِدعتِه؛ فطرَدهما الحَسنُ عن مجلِسِه، فاعتزَلا عن ساريةٍ مِن سواري مسجِدِ البَصرةِ، فقيل لهما ولأتباعِهما: مُعتَزِلةٌ؛ لاعتِزالِهم قولَ الأمَّةِ في دعواها أنَّ الفاسِقَ مِن أمَّةِ الإسلامِ لا مُؤمِنٌ ولا كافِرٌ) [11] ((الفَرق بين الفِرَق)) (ص: 15). .
وقال ابنُ قُتَيبةَ عن عَمرِو بنِ عُبَيدٍ: (كان يرى رأيَ القَدَرِ ويدعو إليه، واعتزَل الحَسنَ هو وأصحابٌ له؛ ‌فسُمُّوا ‌المُعتَزِلةَ) [13] ((المعارف)) (ص: 483). .
2- أهلُ العَدلِ والتَّوحيدِ أو العَدليَّةُ
لقَّب المُعتَزِلةُ أنفُسَهم بأهلِ العَدلِ والتَّوحيدِ، والعَدْليَّةِ، وهم يُفضِّلونَ هذا اللَّقبَ [14] يُنظر: استعمال ابن المرتضى لهذا المصطلح: في ((المُنْية والأمل)) (ص: 4، 42، 91، 147). ؛ ذلك أنَّه عِلاوةً على المعنى الحَسَنِ الذي قد يتضمَّنُه هذا الإطلاقُ، فإنَّه مُشتَقٌّ مِن أهَمِّ أصلَينِ مِن أُصولِ الاعتِزالِ، اللَّذَينِ كانت تدورُ حَولَهما أكثَرُ تعاليمِهم، وهما: أصلُ العَدلِ، وأصلُ التَّوحيدِ [15] يُنظر: ((المُعتزِلة)) لجار الله (ص: 6). .
قال ابنُ المُرتضى: (أمَّا أسماؤُهم فقد قُلْنا: يُسمَّونَ "المُعتَزِلةَ"...، و"العدليَّةَ"؛ لقولِهم بعَدلِ اللهِ وحِكمتِه) [16] ((المُنْية والأمل)) (ص: 4- 7). .
وقال نَشْوانُ الحِمْيَريُّ: (يُسمَّونَ: العَدليَّةَ؛ لقولِهم بالعَدلِ والتَّوحيدِ) [17] ((الحور العين)) (ص: 206). .
وقال المُقبِليُّ: (تُسمِّي المُعتَزِلةُ نَفسَها بالعَدليَّةِ، وأهلِ العَدلِ والتَّوحيدِ) [18] ((العلم الشامخ)) (ص: 300). .
وقال القَلَقْشَنديُّ: (يُسمُّونَ أنفُسَهم أهلَ التَّوحيدِ وأهلَ العَدلِ، ويَعنونَ بالتَّوحيدِ ‌نَفيَ ‌الصِّفاتِ القديمةِ عن اللهِ تعالى؛ كالحياةِ، والعِلمِ، والإرادةِ، والقُدرةِ، وأنَّه تعالى حيٌّ بذاتِه، عالِمٌ بذاتِه، مُريدٌ بذاتِه، قادِرٌ بذاتِه، لا بحياةٍ وعِلمٍ وإرادةٍ وقُدرةٍ، ويعنونَ بالعَدلِ أنَّهم يقولونَ: إنَّ العَبدَ إنَّما يستحِقُّ الثَّوابَ والعِقابَ بفِعلِه الطَّاعةَ والعِصيانَ، وباعتِبارِ أنَّه الخالِقُ لأفعالِ نَفسِه دونَ اللهِ تعالى؛ تنزيهًا له تعالى عن أن يُضافَ إليه خَلقُ الشَّرِّ مِن كُفرٍ ومعصيةٍ. وإذا كان العَبدُ هو الخالِقَ لأفعالِ نَفسِه، المُوجِدَ لها، فليس قدَرٌ سابِقٌ) [19] ((صبح الأعشى)) (13/255). .
3- أهلُ الحقِّ
4- الفِرقةُ النَّاجيةُ
5- المُنزِّهونَ اللهَ عن النَّقصِ
قال المَقْبَليُّ: (تُسمِّي المُعتَزِلةُ نَفسَها... أهلَ الحقِّ، وأهلَ الفِرقةِ النَّاجيةِ، والمُنزِّهينَ اللهَ عن النَّقصِ) [20] ((العلم الشامخ)) (ص: 300). ؛ ذلك أنَّهم يرَونَ أنفُسَهم على الحقِّ، ويرَونَ مَن سِواهم على الباطِلِ؛ ولذا دَعَوا خُصومَهم بالمُجْبِرةِ، والمُشَبِّهةِ، والحَشَويَّةِ، وغَيرِ ذلك [21] يُنظر: ((العلم الشامخ)) للمَقْبَلي (ص: 300)، ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) لعوَّاد المعتق (ص: 26). .

انظر أيضا: