موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: المُعجِزةُ والكَرامةُ عِندَ الماتُريديَّةِ  


تُثبِتُ الماتُريديَّةُ كراماتِ الأولياءِ كما أنَّهم يُثبِتون معجزاتِ الأنبياءِ، ويَرَون أنَّه لا فَرقَ بينهما إلَّا التَّحدِّي الذي هو دعوى الرِّسالةِ؛ فالمعجزةُ عندهم أمرٌ خارقٌ للعادةِ غيرُ مقرونٍ بالتَّحدِّي، ويرون أنَّه لا تعارُضَ ولا التباسَ بَينَ إثباتِ المعجزاتِ وإثباتِ الكَراماتِ، بل إنَّ كرامةَ الوليِّ من معجزةِ النَّبيِّ، ودليلٌ على صِدقِه؛ لأنَّ كرامةَ التَّابعِ كرامةُ المتبوعِ، والوَليُّ لا يكونُ وليًّا حتى يكونَ مصدِّقًا بالنَّبيِّ ومتَّبِعًا له.
قال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ مبينًا تعريفَ المعجزةِ: (المعجزةُ، وحَدُّها على طريقةِ المُتكلِّمين: أنَّها ظهورُ أمرٍ بخلافِ العادةِ في دارِ التَّكليفِ؛ لإظهارِ صِدقِ مدَّعي النُّبوَّةِ، مع نكولِ من يتحدَّى به عن معارضتِه بمِثلِه، وإنَّما قيِّد بدارِ التَّكليفِ؛ لأنَّ ما يظهَرُ من النَّاقضِ للعادةِ في دارِ الآخرةِ لا يكونُ معجزةً، وإنَّما قُلْنا لإظهارِ صِدقِ مدَّعي النُّبوَّةِ ليقَعَ الاحترازُ به عمَّا يُظهِرُ مدَّعي الألوهيَّةِ؛ إذ ظهورُ ذلك على يَدِه جائزٌ عندنا، وفيه أيضًا احترازٌ يظهَرُ على يدِ الوليِّ؛ إذ ظهورُ ذلك كرامةٌ للوليِّ جائزٌ عِندَنا، وإنَّما قُلْنا لإظهارِ صِدقِه؛ لأنَّ ذلك لو ظهر لإظهارِ كَذِبِه لا يكونُ ذلك معجزةً له، ولا دليلًا على صدقِه، بل يكونُ دليلًا على كَذِبِه في دعواه، وإنَّما قُلْنا مع نكولِ من يتحدَّى به عن معارضتِه بمِثلِه؛ لأنَّ النَّاقِضَ للعادةِ لو ظهر على يَدِه، ثمَّ ظهر على يدِ المتحدِّي به مثلُه، لخرج ما ظهر على يدِه عِندَ المعارضةِ عن الدَّلالةِ؛ إذ مثلُه ظهر على يَدَي من يكَذِّبُه يكونُ دليلَ صِدقِ من يكذِّبُه، فيتعارَضُ الدَّليلانِ فيسقُطانِ) [563] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 46). .
وقال مُبَيِّنًا اعتقادَ الماتُريديَّةِ في كَراماتِ الأولياءِ: (ظهورُ الكرامةِ على طريقِ نَقضِ العادةِ للوليِّ جائزٌ غيرُ ممتَنِعٍ... وأهلُ الحقِّ أقرُّوا بذلك لِما اشتَهَر من الأخبارِ واستفاض من الحكاياتِ عن الأخيارِ... فلا وَجهَ إلى ردِّ ما انتشر به الخبرُ عن صالحي الأمَّةِ في ذلك، ثمَّ ما ظنُّوا (أي: المُعتزِلةُ) أنَّه يؤدِّي إلى انسدادِ طريقِ الوصولِ إلى معرفةِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ، فظَنٌّ باطِلٌ، بل كُلُّ كرامةٍ للوَليِّ تكونُ مُعجِزةً للرَّسولِ؛ فإنَّ بظهورِها يُعلَمُ أنَّه وليٌّ، ولن يكونُ وليًّا إلَّا أن يكونَ محِقًّا في ديانتِه؛ إذ المعتَقِدُ دينًا باطلًا عدُوٌّ للهِ تعالى لا وَلِيُّه، وكونُه محِقًّا في ديانتِه -وديانتُه الإقرارُ برسالةِ رَسولِه واتباعُه إيَّاه في دينِه- دليلُ صِحَّةِ رسالةِ رَسولِه، فمن جعل ما هو معجزةٌ للرَّسولِ ودلالةُ صِدقِه مُبطِلًا للمُعجِزةِ وسادًّا لطريقِ الوصولِ إلى معرفتِها، فقد وقع في غلَطٍ فاحِشٍ وخطَأٍ بيِّنٍ، ثمَّ كيف يؤدِّي ذلك إلى التباسِ الكرامةِ بالمعجزةِ، والمعجزةُ تظهَرُ على إثرِ الدَّعوى، والوَليُّ لو ادَّعى الرِّسالةَ لكَفَر من ساعتِه، وصار عدوًّا للهِ تعالى، ولا يُتصوَّرُ بعد ذلك ظهورُ الكرامةِ على يَدِه، وكذا صاحِبُ المعجزةِ لا يكتُمُ معجزتَه بل يُظهِرُها، وصاحِبُ الكرامةِ يجتَهِدُ في كتمانِها، ويخافُ أنَّها من قَبيلِ الاستدراجِ له دونَ المعجزةِ، ويخافُ الاغترارَ لدى الاشتهارِ... ثمَّ فيها فائدةُ ثُبوتِ رسالةِ من آمنَ به الوليُّ، وصيرورةِ الوَليِّ، كمن عاينَ من أهلِ عَصرِ النَّبيِّ معجزتَه، وتصيرُ أيضًا مبَعثةً له على الجِدِّ والاجتهادِ في العباداتِ، والاحترازِ عن السَّيِّئاتِ) [564] ((التمهيد لقواعد التوحيد)) (ص: 51، 52). .
وقال النَّاصريُّ: (الفَرقُ بَينَ النَّبيِّ والوَليِّ ظاهِرٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ يدَّعي المعجِزةَ والكرامةَ، ويتحدَّى بها الخَلقَ، فيقولُ: إنَّ آيةَ رسالتي وثبوتي كذا وكذا، والولُّي لا يدَّعي الكرامةَ، وإنَّما تظهرُ على يدِه من غيرِ تحَدٍّ ودعوى، ومتى ادَّعاها سقط من رتبةِ الولايةِ، وصار فاسقًا، كذا ذكَرَ عُلَماءُ الأصولِ) [565] ((النور اللامع)) (ص: 121). .
وقال الآلوسيُّ مبيِّنًا معنى الكرامةِ: (هي ظُهورُ أمرٍ خارقٍ للعادةِ مقارِنٍ للاعتقادِ الصَّحيحِ والأعمالِ الصَّالحةِ، غيرُ مقارِنٍ لدعوى النُّبوَّةِ، وصاحِبُها مقِرٌّ بالمتابعةِ؛ إذ بها تحقُّقُ ولايتِه، والوثوقُ بصِدقِ كرامتِه، ودعواه النُّبوَّةَ دليلُ نَفيِ الكرامةِ عنه، وثبوتِ كَونِه متَّصِفًا بالكَذِبِ، فضلًا عن التَّميُّزِ بالولايةِ، وبهذا تمتازُ عن المعجزةِ) [566] ((نثر اللآلئ)) (ص: 138). .
وقال القاري: (الكراماتُ للأولياءِ حقٌّ، أي: ثابتٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، ولا عِبرةَ بمخالفةِ المُعتزِلةِ وأهلِ البدعةِ في إنكارِ الكرامةِ، والفَرقُ بينهما أنَّ المعجزةَ أمرٌ خارقٌ للعادةِ؛ كإحياءِ الميِّتِ، وإعدامِ جَبَلٍ على وَفقِ التَّحدِّي، وهو دعوى الرِّسالةِ، والكرامةُ خارِقٌ للعادةِ إلَّا أنَّها غيرُ مقرونةٍ بالتَّحدِّي، وهي كرامةٌ للوَليِّ، وعلامةٌ لصِدقِ النَّبيِّ؛ فإنَّ كرامةَ التَّابعِ كرامةُ المتبوعِ... كُلُّ ما جاز أن يكونَ معجزةً لنبيٍّ جاز أن يكونَ كرامةً لوليٍّ، لا فارِقَ بينهما إلَّا التَّحدِّي... والحاصِلُ أنَّ الأمرَ الخارِقَ للعادةِ هو بالنِّسبةِ إلى النَّبيِّ معجزةٌ سواءٌ ظهر من قِبَلِه أو من قِبَلِ أمَّتِه؛ لدلالتِه على صِدقِ نبُوَّتِه، وحقِّيَّةِ رسالتِه، فبهذا الاعتبارِ جُعِل معجزةً له، وإلَّا فحقيقةُ المعجزةِ أن تكونَ مقارِنةً للتحدِّي على يدِ المدَّعي، وبالنِّسبةِ إلى الوَليِّ كرامةٌ) [567] ((شرح الفقه الأكبر)) (ص: 79). .
فالماتُريديَّةُ تشترِطُ في المعجزةِ حتَّى تكونَ دليلًا صحيحًا على إثباتِ النُّبوَّةِ ثلاثةَ شُروطٍ: خَرقُ العادةِ، والتَّحدِّي، وعَدَمُ المعارَضةِ.
وهذه الشُّروطُ غيرُ مُنضَبِطةٍ، وبيانُ ذلك من وجوهٍ:
1- ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ تعليقُ الحُكمِ بهذا الوَصفِ، بل ولا ذِكْرُ خَرقِ العادةِ، ولا لفظُ المُعجِزِ، وإنَّما فيه آياتٌ وبراهينُ، وذلك يوجِبُ اختصاصَها بالأنبياءِ [568] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 45). .
2- كونُ الآيةِ خارقةً للعادةِ وَصفٌ لا ينضَبِطُ، وهو عديمُ التَّأثيرِ؛ فإنَّ نفسَ النُّبوَّةِ معتادةٌ للأنبياءِ، خارقةٌ للعادةِ بالنِّسبة إلى غيرِهم، كما أنَّ ما يعرِفُه أهلُ الطِّبِّ والنُّجومِ والفِقهِ والنَّحوِ هو معتادٌ لنُظَرائِهم، وهو خارِقٌ بالنِّسبةِ إلى غيرِهم؛ ولهذا إذا أخبر الحاسِبُ بوقتِ الكُسوفِ والخُسوفِ تعجَّب النَّاسُ؛ إذ كانوا لا يعرفون طريقَه، فليس في هذا ما يختصُّ بالنَّبيِّ. فكونُه خارقًا للعادةِ ليس أمرًا مضبوطًا؛ فإنَّه إن أريد به أنَّه لم يوجَدْ له نظيرٌ في العالمِ فهذا باطِلٌ؛ فإنَّ آياتِ الأنبياءِ بعضُها نظيرُ بعضٍ، بل النَّوعُ منه كإحياءِ الموتى هو آيةٌ لغيرِ واحدٍ من الأنبياءِ، وإن قيل: إنَّ بعضَ الأنبياءِ كانت آيتُه لا نظيرَ لها، كالقرآنِ، والعصا، والنَّاقةِ، لم يلزَمْ ذلك في سائرِ الآياتِ. ثمَّ هَبْ أنَّه لا نظيرَ لها في نوعِها، لكِنْ وَجَد خوارِقَ العاداتِ للأنبياءِ غيرَ هذا، فنفسُ خوارقِ العاداتِ مُعتادٌ جميعُه للأنبياءِ، بل هو من لوازمِ نبوَّتِهم، مع كونِ الأنبياءِ كثيرينَ. وإن عُنِي بكونِ المعجزةِ هي الخارِقَ للعادةِ أنَّها خارقةٌ لعادةِ أولئك المخاطَبينَ بالنُّبوَّةِ، بحيث ليس فيهم من يقدِرُ على ذلك، فهذا ليس بحُجَّةٍ؛ فإنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يقدِرونَ على الكِهانةِ والسِّحرِ ونحوِ ذلك، وأيضًا فكونُ الشَّيءِ معتادًا هو مأخوذٌ من العوْدِ، وهذا يختلِفُ بحسَبِ الأمورِ، فالحائِضُ المعتادةُ من الفُقَهاءِ من يقولُ: تثبُت عادتُها بمرَّةٍ، ومنهم من يقولُ: بمرَّتين، ومنهم من يقولُ: لا تثبُت إلَّا بثلاثٍ، وأهلُ كُلِّ بلدٍ لهم عاداتٌ في طعامِهم ولباسِهم وأبنيَتِهم لم يعتَدْها غيرُهم، فما خرج عن ذلك فهو خارقٌ لعادتِهم لا لعادةِ ما اعتاده غيرُهم؛ فلهذا لم يكُنْ في كلامِ اللهِ ورَسولِه وسَلَفِ الأمَّةِ وأئمَّتِها وَصفُ آياتِ الأنبياءِ بمجرَّدِ كونِها خارقةً للعادةِ، ولا يجوزُ أن يُجعَلَ مجرَّدُ خرقِ العادةِ هو الدَّليلَ؛ فإنَّ هذا لا ضابِطَ له، وهو مشتركٌ بَينَ الأنبياءِ وغيرِهم، ولكِنْ إذا قيل: من شَرْطِها أن تكونَ خارقةً للعادةِ بمعنى أنَّها لا تكونُ معتادةً للنَّاسِ، فهذا ظاهِرٌ يعرِفُه كُلُّ أحدٍ، ويعرِفون أنَّ الأمرَ المعتادَ -مِثلَ الأكلِ والشُّربِ- ليس دليلًا، ولا يدَّعي أحدٌ أنَّ مِثلَ هذا دليلٌ له، فإنَّ فسادَ هذا ظاهِرٌ لكُلِّ أحدٍ، ولكِنْ ليس مجرَّدُ كَونِه خارقًا للعادةِ كافيًا؛ لوجهينِ: أحدُهما: أنَّ كونَ الشَّيءِ معتادًا وغيرَ معتادٍ أمرٌ نِسبيٌّ إضافيٌّ، ليس بوصفٍ مضبوطٍ تتميَّزُ به الآيةُ. الثَّاني: أنَّ مجرَّدَ ذلك مشتركٌ بَينَ الأنبياءِ وغيرِهم [569] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 20، 21، 23). .
3- إنَّ آياتِ الأنبياءِ ليس من شَرْطِها استدلالُ النَّبيِّ بها، ولا تحدِّيه بالإتيانِ بمِثلِها، بل هي دليلٌ على نبوَّتِه وإن خلت عن هذينِ القيدَينِ، وهذا كإخبارِ من تقدَّم بنبُوَّةِ محمَّدٍ؛ فإنَّه دليلٌ على صدقِه، وإن كان هو لم يعلَمْ بما أخبروا به، ولا يستدلُّ به، وأيضًا فما كان يظهِرُه اللهُ على يديه من الآياتِ مِثلُ تكثيرِ الطَّعامِ والشَّرابِ مرَّاتٍ، وكنَبعِ الماءِ من بَينِ أصابِعِه غيرَ مرَّةٍ، وغيرُ ذلك كُلِّه من دلائِلِ النُّبوَّةِ، ولم يكُنْ يُظهِرُها للاستدلالِ بها، ولا يتحدَّى بمِثلِها، بل لحاجةِ المُسلِمين إليها، وكذلك إلقاءُ الخليلِ في النَّارِ إنما كان بعد نبوَّتِه، ودعائِه لهم إلى التَّوحيدِ [570] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 156). .
وممَّا يلزمُهم أنَّ ما كان يظهَرُ على يدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في كُلِّ وقتٍ من الأوقاتِ ليس دليلًا على نبوَّتِه؛ لأنَّه لم يكُنْ كلَّما ظهر شيءٌ من ذلك احتجَّ به، وتحدى النَّاسَ بالإتيانِ بمثلِه، بل لم يُنقَلْ عنه التَّحدي إلَّا في القرآنِ خاصَّةً، ولا نُقِل التَّحدِّي عن غيرِه من الأنبياءِ مِثلُ موسى والمسيحِ وصالحٍ، ولكِنَّ السَّحَرةَ لَمَّا عارضوا موسى أبطل معارضتَهم، وهذا الذي قالوه يوجِبُ أن لا تكونَ كراماتٍ من جملةِ المعجِزاتِ [571] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 177، 178، 209، 293). .
4- أنَّ المعارَضةَ بالمِثلِ أن يأتيَ بحُجَّةٍ مِثلِ حُجَّةِ النَّبيِّ، وحجَّتُه عندهم مجموعُ دعوى النُّبوَّةِ والإثباتِ بالخارِقِ، فيلزمُ على هذا أن تكونَ المعارضةُ بأن يدَّعيَ غيرُه النُّبوَّةَ، ويأتيَ بالخارقِ، وعلى هذا فليست معارضةُ الرَّسولِ بأن يأتوا بالقُرآنِ أو عَشْرِ سُوَرٍ أو سورةٍ مِثلَ أن يدَّعيَ أحدُهم النُّبوَّةَ، ويفعَلَ ذلك، وهذا خلافُ العقلِ والنَّقلِ، ولو قال الرَّسولُ لقُرَيشٍ: لا يقدِرُ أحدٌ منكم أن يدَّعيَ النُّبوَّةَ، ويأتيَ بمثلِ القرآنِ، وهذا هو الآيةُ، وإلَّا فمجرَّدُ تلاوةِ القرآنِ ليس آيةً، بل قد يقرأُه المتعلِّمُ له فلا تكونُ آيةً؛ لأنَّه لم يدَّعِ النُّبوَّةَ ولا ادَّعاها، لكان اللهُ يُنسيه إيَّاه أو يقيِّضُ له من يعارِضُه كما ذكَرْتُم، لكانت قريشٌ وسائرُ العُلَماءِ يعلمون أنَّ هذا باطِلٌ [572] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 152). .
ثمَّ إنَّه قد يأتي الرَّجُلُ بما لا يقدِرُ الحاضِرون على معارضتِه، ويكونُ معتادًا لغيرِهم كالكِهانةِ والسِّحرِ [573] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 23). . وقد ادَّعى جماعةٌ من الكذَّابين النُّبوَّةَ وأتَوا بخوارِقِ الكُهَّانِ والسَّحَرةِ، ولم يعارِضْهم أحدٌ في ذلك المكانِ والزَّمانِ، وكانوا كذَّابينَ [574] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 155). .
5- آياتُ الأنبياءِ ممَّا يعلمُ العُقَلاءُ أنَّها مختصَّةٌ بهم، ليست ممَّا تكونُ لغيرِهم، فيعلمون أنَّ اللهَ لم يخلُقْ مِثلَها لغيرِ الأنبياءِ، وسواءٌ في آياتِهم التي كانت في حياةِ قومِهم وآياتِهم التي فرَّقَ اللهُ بها بَينَ أتباعِهم وبَينَ مكَذِّبيهم بنجاةِ هؤلاء وهلاكِ هؤلاء، ليست من جنسِ ما يوجَدُ في العاداتِ المختَلفةِ لغيرِهم، فآياتُ الأنبياءِ هي أدِلَّةٌ وبراهينُ على صِدقِهم، والدَّليلُ يجِبُ أن يكونَ مختصًّا بالمدلولِ عليه، لا يوجَدُ مع عدَمِه، ولا يتحقَّقُ الدَّليلُ إلَّا مع تحقُّقِ المدلولِ، كما أنَّ الحادِثَ لا بدَّ له من مُحدِثٍ، فيمتَنِعُ وجودُ حادِثٍ بلا محدِثٍ، فكذلك ما دلَّ على صِدقِ النَّبيِّ يمتنِعُ وجودِه إلَّا مع كونِ النَّبيِّ صادقًا. والمقصودُ أنَّ جنسَ الأنبياءِ متميِّزون عن غيرِهم بالآياتِ والدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على صِدقِهم التي يعلَمُ العُقلاءُ أنَّها لم توجَدْ لغَيرِهم، فيعلمون أنَّها ليست لغيرِهم لا عادةً ولا خَرقَ عادةٍ [575] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 159- 162، 165). .
فحَدُّ الماتُريديَّةِ للمعجزةِ غيرُ مُستقيمٍ، بل هو مضطَرِبٌ وغيرُ مُنضَبِطٍ، وهو السَّائدُ والمنتَشِرُ في كثيرٍ من كتُبِ العقائِدِ، والصَّوابُ أنَّ المعجزةَ هي ما يؤيِّدُ اللهُ به أنبياءَه ورُسُلَه من الأمورِ الخارقةِ للسُّنَنِ الكونيَّةِ، والتي لا قُدرةَ للخَلقِ على الإتيانِ بمِثلِها، وتكونُ دليلًا على صدقِهم وتأييدِ اللهِ لهم.
وعندَهم أنَّ الخوارِقَ لا تظهَرُ على يَدِ مدَّعي النُّبوَّةِ إذا كان كاذِبًا، حتى يتميَّزَ المتنبِّي من غيرِ النَّبيِّ، أمَّا إذا لم يدَّعِ النُّبوَّةَ فلا مانِعَ من ظهورِ الخوارِقِ، وصفةُ المعجزةِ عِندَ الماتُريديَّةِ أمرٌ خارجٌ عنها، فهو إضافيٌّ، وليس أمرًا في ذاتِها، فالمعجزةُ ليست إلَّا أنَّ اللهَ صَرَف النَّاسَ عنها، وتحدَّاهم بها النَّبيُّ ولم يعارِضوها، وهذا هو الإعجازُ عندَهم، بدليلِ أنَّهم قالوا: كُلُّ ما جاز أن يكونَ لنبيٍّ جاز أن يكونَ لوليٍّ [576] يُنظر: ((منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 237)، ((خوارق العادة عند الماتريدية)) لزاهر الشهري (ص: 15). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (حقيقةُ الأمرِ على قولِ هؤلاء الذين جَعلوا المعجِزةَ الخارِقَ مع التَّحدِّي: أنَّ المعجِزَ في الحقيقةِ ليس إلَّا مَنْعَ النَّاسِ من المعارَضةِ بالمِثلِ، سواءٌ كان المعجِزُ في نفسِه خارِقًا، أو غيرَ خارقٍ، وكثيرٌ ممَّا يأتي به السَّاحِرُ والكاهِنُ أمرٌ معتادٌ لهم. وهم يجوِّزون أن يكونَ آيةً للنبيِّ، وإذا كان آيةً منع اللهُ السَّاحِرَ والكاهِنَ من مثلِ ما كان يفعَلُ، أو قيَّض له من يعارِضُه. وقالوا: هذا أبلَغُ؛ فإنَّه منع المعتادَ. وكذلك عندَهم أحدُ نَوعَيِ المعجزاتِ منَعَهم من الأفعالِ المعتادةِ... وإذا كان كذلك جاز أن يكونَ كُلُّ أمرٍ، كالأكلِ، والشُّربِ، والقيامِ، والقُعودِ، معجزةً إذا منعهم أن يفعلوا كفِعلِه، وحينَئذٍ: فلا معنى لكونِها خارِقًا، ولا لاختصاصِ الرَّبِّ بالقُدرةِ عليها، بل الاعتبارُ بمجرَّدِ عَدَمِ المعارَضةِ، وهم يُقِرُّون بخلافِ ذلك، واللهُ أعلَمُ... وهو مبنيٌّ على مقدِّماتٍ: أحَدُها: أنَّ النُّبوَّةَ لا تثبُتُ إلَّا بما ذكروه من المعجزاتِ، وأنَّ الرَّبَّ لا يقدِرُ على إعلامِ الخَلقِ بأنَّ هذا نبيٌّ إلَّا بهذا الطَّريقِ، وأنَّه لا يجوزُ أن يعلَموا ذلك ضرورةً، وأنَّ إعلامَ الخلقِ بأنَّ هذا نبيٌّ بهذا الطَّريقِ ممكِنٌ) [577] ((النبوات)) (1/ 242، 243، 481). .
فما ذكره الماتُريديَّةُ في حَدِّ المعجزةِ بأنَّها: (أمرٌ خارِقٌ للعادةِ يظهَرُ على يدِ النَّبيِّ في دارِ التَّكليفِ، مقرونًا بالتَّحدِّي، مع عدَمِ المعارَضةِ بالمِثلِ) لا يستقيمُ ولا يطَّرِدُ، بل يضطَرِبُ ولا ينضَبِطُ، ويجعَلُ المعجزةَ بغيرِها تلتَبِسُ، والأَولى تسميةُ المعجزاتِ بما سمَّاها اللهُ به في كتابِه آياتٍ وبَيِّناتٍ وبراهينَ [578] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/ 215 - 244)، ((خوارق العادة عند الماتريدية)) لزاهر الشهري (ص: 4، 16 - 19). .
وقد أثبت أهلُ السُّنَّةِ طرُقًا كثيرةً لمعرفةِ صِدقِ النَّبيِّ؛ منها: تأييدُ اللهِ للنبيِّ بالآياتِ والبراهينِ، ومن طرُقِ إثباتِها: سيرتُه، واستواءُ علانيتِه وسريرتِه، ومن طُرُقِ إثباتِها: نصرُ اللهِ له على أعدائِه، ومن طرُقِ إثباتِها: ما يدعو إليه من توحيدِ اللهِ سُبحانَه، وتصديقِه مَن قَبلَه من الأنبياءِ، وتبشيرِ الأنبياءِ السَّابقينَ به، وغيرُ ذلك من الطُّرُقِ التي لا تخفى على العُقلاءِ، وأعظَمُها قرائِنُ الأحوالِ، وإن لم يتحقَّقْ في بعضِها معنى الإعجازِ [579] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/ 203، 205، 209، 518، 519، 558 - 560) و (2/ 776 - 884، 904، 905، 959، 960، 964). ، وقد ذَكَر نحوَ هذا بعضُ الماتُريديَّةِ [580] يُنظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 87، 88). .
وأمَّا كراماتُ الأولياءِ فهي من آياتِ الأنبياءِ، ولكن ليس كُلُّ ما كان من آياتِ الأنبياءِ يكونُ كرامةً للصَّالحينَ، وهؤلاء يُسَوُّون بَينَ هذا وهذا، ويقولون: الفرقُ هو دعوى النُّبوَّةِ والتَّحدِّي بالمِثلِ، وهذا غَلَطٌ؛ فإنَّ آياتِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ التي دلَّت على نبوَّتِهم هي أعلى ممَّا يشترِكون فيه هم وأتباعُهم [581] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 169). .
فانشِقاقُ القَمَرِ والإتيانُ بالقرآنِ وانقلابُ العصا حيَّةً وخروجُ الدَّابَّةِ من صخرةٍ، لم يكُنْ مِثلُه للأولياءِ، وكذلك خَلقُ الطَّيرِ من الطِّينِ، ولكِنَّ آياتِهم صغارٌ وكبارٌ، كما قال اللهُ تعالى: فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى [النَّازعات: 20] ، فللَّه تعالى آيةٌ كبيرةٌ وصغيرةٌ، وقال عن نبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم: 18] ، فالآياتُ الكُبرى مختصَّةٌ بهم، وأمَّا الآياتُ الصُّغرى فقد تكونُ للصَّالحين، مِثلُ تكثيرِ الطَّعامِ، فهذا قد وُجِد لغيرِ واحدٍ من الصَّالحينَ، لكِنْ لم يوجَدْ كما وُجِد للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أطعم الجيشَ من شيءٍ يسيرٍ، فقد يوجَدُ لغيرِهم من جنسِ ما وُجِد لهم، لكِنْ لا يماثِلون في قَدرِه، فهم مختصُّون إمَّا بجنسِ الآياتِ، فلا يكونُ لمِثلِهم؛ كالإتيانِ بالقُرآنِ، وانشقاقِ القَمَرِ، وقَلبِ العصا حيَّةً، وانفلاقِ البَحرِ، وأن يخلُقَ من الطِّينِ كهيئةِ الطَّيرِ، وإمَّا بقَدرِها وكيفيَّتِها كنارِ الخليلِ؛ فإنَّ أبا مُسلِمٍ الخولانيَّ وغيرَه صارت النَّارُ عليهم بردًا وسلامًا، لكِنْ لم تكُنْ مِثلَ نارِ إبراهيمَ في عظَمتِها كما وصفوها، فهو مشارِكٌ للخليلِ في جنسِ الآيةِ، كما هو مشارِكٌ في جنسِ الإيمانِ؛ محبَّةِ اللهِ وتوحيدِه، ومعلومٌ أنَّ الذي امتاز به الخليلُ مِن هذا لا يماثِلُه فيه أبو مُسلِمٍ وأمثالُه [582] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (ص: 269). .

انظر أيضا: