موسوعة الفرق

تمهيد: دعْوَى أنَّ طريقةَ السَّلفِ أسْلَمُ وطريقةَ الخَلَفِ أحْكَمُ


للماتُريديَّة مسلكانِ في آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، هما: التَّفويضُ والتَّأويلُ، وقد اشتَهَر هذا عندهم وعندَ الأشاعرةِ، حتَّى ظَنَّ بعضُ العُلَماءِ فَضْلًا عن غَيرِهم أنَّ التَّفويضَ مَذهَبُ السَّلَفِ، والتَّأويلَ مَذهَبُ الخَلَفِ، وأنَّ كِلا المَسْلَكينِ جائِزٌ.
قال أبو منصورٍ الماتُريديُّ في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [السجدة: 4] : (لم يجعَلِ اللهُ تعالى في العقولِ والأفهامِ سبيلَ الدَّركِ له والمعرفةِ لقَولِه: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ؛ لأنَّه ذكَرَ ذلك الحرفَ في موضعٍ آخَرَ، وأمَرَه أن يسألَ به خبيرًا؛ حيث قال: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [الفرقان: 59] ، ولو كان ذلك الحرفُ ممَّا لعقولِ البَشَرِ وأفهامِهم سبيلُ الوصولِ إلى معرفتِه ودَرَكِه لأدركَه عقلُ رسولِ رَبِّ العالمينَ، وفَهِمَه من غيرِ أن يسألَ به الخبيرَ من كان: اللهَ أو جبريلَ، فإذا أمره بالسُّؤالِ عنه دلَّ أنَّه بالعقلِ والفهمِ لا يُدرَكُ ولا يُعرَفُ، ولكن بالسَّمعِ عن اللهِ، ولم يُذكَرْ عن الرَّسولِ أنَّه فسَّر ذلك أو قال فيه أو سأله أحدٌ عنه. واللهُ أعلمُ) [175] ((تفسير الماتريدي)) (8/ 328). .
وقال أبو المُعينِ النَّسَفيُّ: (قولُه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5] ، وقولُه: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16] ، وقولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف: 84] ، كلُّها معدولةٌ عن ظواهِرِها؛ لئلَّا يتمكَّنَ التَّناقُضُ والتَّدافعُ في كلامِ الحكيمِ الخبيرِ، فيجِبُ صرفُ كُلِّ آيةٍ منها إلى ما يليقُ بالرُّبوبيَّةِ، ولا يناقِضُ حُجَّةَ اللهِ تعالى العَقل، ولا يعارِضُ قولَه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ... الآياتُ المتشابهةُ محتَمِلةٌ لوجوهٍ كثيرةٍ غيرِ مُمكِنةِ الحملِ على ظواهِرِها على ما قرَّرْنا، فإمَّا أن نؤمِنَ بتنزيلِها ولا نشتَغِلَ بتأويلِها، على ما هو اختيارُ كثيرٍ من كُبراءِ الأمَّةِ، وعُلَماءِ أهلِ الملَّةِ، وإمَّا أن تُصرَفَ إلى وجهٍ من التَّأويلِ يوافِقُ التَّوحيدَ، ولا يناقِضُ الآيةَ المُحكَمةَ، وكتُبُ العُلَماءِ والتَّفسيرِ والكلامِ مملوءةٌ من تأويلِها) [176] ((التمهيد في أصول الدين)) (ص: 37) باختصار. ويُنظر: ((تبصرة الأدلة)) لأبي المعين النسفي (ص: 171 - 176). .
وقال أبو البركاتِ النَّسَفيُّ: (طريقةُ السَّلَفِ أسلَمُ، وطريقةُ الخَلَفِ أحكَمُ؛ إذ التَّسليمُ أسلمُ للعوامِّ الذين لا يفقهونَ دقائِقَ الكلامِ، فأمَّا حظُّ الرَّاسخينَ في العِلمِ، والمتبَحِّرينَ في دقائِقِ علمِ الكلامِ فالبحثُ والاجتهادُ فيه)  [177]((الاعتماد في الاعتقاد)) (ص: 168). .
وقال عبدُ الحقِّ الدِّهْلَويُّ: (قوله: (بين أُصبُعَينِ من أصابِعِ الرَّحمنِ) هذا من المتشابهاتِ، وقد تقرَّر فيها المَذهَبانِ؛ أحدُهما: مَذهَبُ السَّلَفِ المتقدِّمين، وهو اعتقادُ ظواهِرِها، والتَّوقُّفُ عن تأويلِها، وتفويضُ الأمرِ إلى اللهِ، واعتقادُ أنَّ هذه صفاتٌ له سُبحانَه ولا نعلَمُ كيفيَّتَها، وهذا أسلَمُ. وثانيهما: مَذهَبُ الخَلَفِ المتأخِّرين، وهو تأويلُها بما يناسِبُ المقامَ ويشعِرُ بتعظيمِ جنابِ الحقِّ تعالى وتقدَّس، وهذا أحكَمُ)  [178]((لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح)) (1/ 362). ويُنظر: ((المسامرة)) لابن أبي شريف المقدسي (ص:  28- 32)، ((إشارات المرام)) للبياضي (ص: 156 – 158، 161). .

انظر أيضا: