موسوعة الفرق

المبحَثُ الأوَّلُ: مذهَبُ الأشاعِرةِ في أفعالِ العِبادِ


يتَّفِقُ الأشاعِرةُ مع أهلِ السُّنَّةِ في كونِ أفعالِ العبادِ مخلوقةً، وخالَفوا أهلَ السُّنَّةِ في كونِ العبدِ فاعِلًا لفِعلِه حقيقةً أو لا؟ وبينَ أئمَّةِ الأشاعِرة خلافٌ في تقريرِ ذلك، وقد اخترع الأشاعِرةُ القَولَ بالكَسبِ، واختَلفوا في تفسيرِه، وظنُّوا أنَّهم به توسَّطوا بَينَ القَدَريَّةِ والجَبريَّةِ، والمشهورُ عِندَهم تفسيرُ الكَسبِ بما يُبقيهم في مذهَبِ الجَبريَّةِ؛ فالإنسانُ عِندَهم مُضطَرٌّ في صورةِ مختارٍ.
أقوالُ الأشاعِرةِ في تقريرِ مَذهَبِهم في أفعالِ العِبادِ:
1- قال الباقِلَّانيُّ: (يجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ العبدَ له كَسبٌ، وليس مجبورًا بل مُكتَسِبٌ لأفعالِه من طاعةٍ ومعصيةٍ؛ لأنَّه تعالى قال: لَهَا مَا كَسَبَتْ [البقرة: 286] يعني: من ثوابِ طاعةٍ، وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] يعني: من عقابِ معصيةٍ،... ويدُلُّ على صِحَّةِ هذا أيضًا: أنَّ العاقِلَ منَّا يُفرِّقُ بَينَ تحرُّكِ يَدِه جبرًا وسائِرِ بدَنِه عِندَ وقوعِ الحُمَّى به، أو الارتعاشِ، وبَينَ أن يحرِّكَ هو عُضوًا من أعضائِه قاصِدًا إلى ذلك باختيارِه؛ فأفعالُ العِبادِ هي كَسبٌ لهم، وهي خَلقُ اللهِ تعالى، فما يتَّصِفُ به الحَقُّ لا يتَّصِفُ به الخَلقُ، وما يتَّصِفُ به الخَلقُ لا يتَّصِفُ به الحقُّ، وكما لا يقالُ لله تعالى: إنَّه مُكتَسِبٌ، كذلك لا يقالُ للعبدِ: إنَّه خالِقٌ) [906] ((الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به)) (ص: 43). .
2- قال الجُوَينيُّ: (اختلَف أئمَّتُنا في وَجهِ تعَلُّقِ القُدرةِ الحادثةِ بمقدورِها؛ فصار صائرونَ إلى أنَّ القُدرةَ الحادثةَ تؤثِّرُ في إثباتِ حالٍ للمقدورِ يتميَّزُ بها المكتَسَبُ عن الضَّروريِّ، فإذا فرَضْنا حركةً ضروريَّةً إلى جهةٍ، وقَدَّرْنا أُخرى كَسبيَّةً إلى تلك الجِهةِ، فالكسبيَّةُ على حالةٍ زائدةٍ هي من أثَرِ تعلُّقِ القُدرةِ الحادثةِ بها، والكَسبيَّةُ تتميَّزُ بها عن الضَّروريَّةِ، وأمَّا الحُدوثُ وإثباتُ الذَّواتِ، فالرَّبُّ تعالى مُستأثِرٌ بها. وهذه الطَّريقةُ غيرُ مَرْضيَّةٍ، ولا جَرَيانَ لها على قواعدِ أهلِ الحَقِّ، وفي المصيرِ إليها افتتاحُ وُجوهٍ من الفسادِ يجبُ تنكُّبُها.
منها: أنَّ العَبدَ يَستحيلُ أن ينفَرِدَ بمقدورٍ دونَ الرَّبِّ تعالى؛ فإن فرَضْنا للقُدرةِ الحادثةِ أثرًا، وحكَمْنا بثُبوتِه للعبدِ، فقد خرَمْنا اعتقادَ وُجوبِ كَونِ الرَّبِّ قادرًا على كلِّ شيءٍ مقدورٍ. ويستحيلُ المصيرُ إلى أنَّ الحالةَ المفروضةَ تقعُ بالقُدْرةِ القديمةِ والحادثةِ، فإنَّ ذلك مستحيلٌ، ولو ساغ فرْضُه لساغ تقديرُ خَلقٍ بَينَ خالِقَينِ.
على أنَّ صاحِبَ هذه الطَّريقةِ يُحيلُ مُعتَقَدَه على ادِّعاءِ حالةٍ مجهولةٍ لا يمكِنُه الإفصاحُ بها، مع قَطعِنا بأنَّ الحرَكةَ الكَسبيَّةَ مماثِلةٌ للضَّروريَّةِ، وتقديرُ أحوالٍ مجهولةٍ حَيْدٌ عن السَّدادِ، وتطريقٌ لدواعي الفسادِ إلى أصولِ الاعتقادِ.
فالوَجهُ: القَطعُ بأنَّ القُدرةَ الحادثةَ لا تؤثِّرُ في مقدورِها أصلًا، وليس من شَرطِ تعلُّقِ الصِّفةِ أن تؤثِّرَ في مُتعلِّقِها؛ إذ العِلمُ معقولٌ تعلُّقُه بالمعلومِ مع أنَّه لا يُؤثِّرُ فيه، وكذلك الإرادةُ المُتعلِّقةُ بفِعلِ العبدِ لا تُؤثِّرُ في مُتعلِّقِها) [907] ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 229). .
وقال الجُوينيُّ أيضًا: (قُدرةُ العبدِ مخلوقةٌ لله تبارك وتعالى باتِّفاقِ القائِلينَ بالصَّانعِ، والفِعلُ المقدورُ بالقُدْرةِ الحادثةِ واقعٌ بها قَطعًا، ولكنَّه مضافٌ إلى اللهِ تبارك وتعالى تقديرًا وخَلقًا، فإنَّه وقَعَ بفِعلِ اللهِ تبارك وتعالى، وهو القُدرةُ، وليست القُدرةُ فِعلًا للعبدِ، وإنَّما هي صِفتُه، وهي مِلكٌ للهِ تبارك وتعالى وخَلقٌ له.
وإذا كان مُوقِعُ الفِعلِ خَلقًا للهِ، فالواقِعُ به مُضافٌ خَلقُه للرَّبِّ تبارك وتعالى، وتقديرًا، وقد ملَّك اللهُ العبدَ اختيارًا يُصَرِّفُ به القُدرةَ، فإذا أوقع بالقُدْرةِ شيئًا آل الواقِعُ إلى حُكمِ اللهِ تعالى من حيثُ إنَّه وقَع بفِعلِ اللهِ تعالى، ولو اهتدَت لهذه الفِرقةُ الضَّالَّةُ لَما كان بَينَنا وبَينَهم خلافٌ، ولكِنَّهم ادَّعوا سَدادًا بالاختراعِ، وانفرادًا بالخَلقِ والابتِداعِ؛ فضَلُّوا وأضَلُّوا.
ونُبيِّنُ تميُّزَنا عنهم بتفريعِ المذهَبينِ؛ فإنَّا لمَّا أضَفْنا فِعلَ العبدِ إلى تقديرِ الإلهِ قُلْنا: أحدَث اللهُ تبارك وتعالى القُدرةَ في العبدِ على أقدارٍ أحاط بها عِلمُه، وهيَّأ أسبابَ الفِعلِ، وسَلَب العبدَ العِلمَ بالتفاصيلِ، وأراد من العَبدِ أن يفعَلَ، فأحدَث فيه دواعيَ مُستحثَّةٍ، وخِيرةً، وإرادةً، وعَلِم أنَّ الأفعالَ ستقعُ على قَدَرٍ معلومٍ، فوقعَت بالقُدْرةِ التي اخترَعها للعبدِ على ما عَلِم وأراد. وللعِبادِ اختيارُهم واتِّصافُهم بالاقتدارِ، والقُدرةُ خَلقُ اللهِ تعالى ابتداءً، ومقدورُها مضافٌ إليه مشيئةً وعِلمًا وقضاءً وخَلقًا وفِعلًا، من حيثُ إنَّه نتيجةُ ما انفرد بخَلقِه وهو القُدرةُ، ولو لم يُرِدْ وُقوعَ مَقدورِه لَما أقدَره عليه، ولَما هيَّأ أسبابَ وُقوعِه. ومَن هُدِي لهذا استمرَّ له الحقُّ المُبينُ؛ فالعبدُ فاعِلٌ مختارٌ مُطالَبٌ مأمورٌ مَنهيٌّ، وفِعلُه تقديرٌ للهِ، ومرادٌ له، وخلْقٌ مَقضيٌّ له) [908] ((العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية)) (ص: 192 - 194). .
3- قال الرَّازي: (بيانُ تفاصيلِ مذاهِبِ النَّاسِ في هذا البابِ: اعلَمْ أنَّا نعلَمُ بالضَّرورةِ أنَّ القادِرَ على الفِعلِ إذا دعاه الدَّاعي إليه، ولم يمنَعْه منه مانعٌ، فإنَّه يحصُلُ ذلك الفِعلُ، وهذا القَدْرُ معلومٌ، ثمَّ اختلف العُقلاءُ بَعدَ ذلك على أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ المؤثِّرَ في حصولِ هذا الفعلِ هو قدرةُ اللهِ تعالى، وليس لقُدرةِ العبدِ في وجودِه أثرٌ، وهذا قَولُ أبي الحسَنِ الأشعريِّ وأكثَرِ أتباعِه، كالقاضي أبي بَكرٍ الباقِلَّانيِّ، وابنِ فُورَك، ثمَّ حصل هاهنا بَينَ الأشعريِّ وبَينَ القاضي اختلافٌ من وجهٍ آخرَ، فقال الأشعريُّ: قُدرةُ العبدِ كما لم تُؤثِّرْ في وُجودِ الفعلِ البتَّةَ، لم تؤثِّرْ أيضًا في شيءٍ من صفاتِ ذلك الفعلِ، وقال القاضي: قُدرةُ العبدِ وإن لم تُؤثِّرْ في وُجودِ ذلك الفعلِ إلَّا أنَّها أثَّرت في صفةٍ من صفاتِ ذلك الفِعلِ، وتلك الصِّفةُ هي المُسمَّاة بالكَسبِ، قال: وذلك لأنَّ الحركةَ التي هي طاعةٌ والحركةَ التي هي معصيةٌ قد اشتركا في كونِ كُلٍّ منهما حركةً، وامتازت إحداهما عن الأُخرى بكونِها طاعةً أو معصيةً، وما به المُشاركةُ غيرُ ما به المُمايزةُ، فثبت أنَّ كونَها حركةً غيرٌ، وكونُها طاعةً أو معصيةً فذاتُ الحركةِ ووُجودُها واقعٌ بقدرةِ اللهِ تعالى، أمَّا كونُها طاعةً أو معصيةً فهو صفةٌ واقعةٌ بقُدرةِ العبدِ، هذا تلخيصُ مذهَبِ القاضي على أحسَنِ الوُجوهِ.
القَولُ الثَّاني: أنَّ المؤثِّرَ في وجودِ ذلك الفعلِ هو قدرةُ اللهِ تعالى مع قُدرةِ العبدِ.
ثمَّ هاهنا احتمالانِ: أحدُهما: أن يقالَ: إنَّ قُدرةَ اللهِ تعالى مُستقِلَّةٌ بالتأثيرِ، وقُدرةَ العبدِ أيضًا مُستقِلَّةٌ بالتأثيرِ إلَّا أنَّ اجتماعَ المُؤثِّرينِ المُستقِلَّينِ على الأثرِ الواحِدِ جائزٌ، والثَّاني: أن يقالَ: قُدرةُ اللهِ تعالى مُستقِلَّةٌ بالتأثيرِ، وقُدرةُ العبدِ غيرُ مُستقِلَّةٍ بالتأثيرِ، وإذا انضمَّت قُدرةُ اللهِ تعالى إلى قُدرةِ العبدِ صارت قُدرةُ العبدِ مُستقِلَّةً بالتأثيرِ بتوسُّطِ هذه الإعانةِ، ويقالُ: إنَّ هذا القولَ هو مذهَبُ الأستاذِ أبي إسحاقَ، إلَّا أنَّه يُحكى عنه أنَّه قال: قُدرةُ العبدِ تؤثِّرُ بمعنًى.
والقَولُ الثَّالثُ: أنَّ حُصولَ الفعلِ عَقيبَ مجموعِ القُدرةِ مع الدَّاعي واجِبٌ، وذلك لأنَّ القادِرَ من حيثُ إنَّه قادِرٌ يمكِنُه الفِعلُ بدلًا عن التَّركِ وبالعَكسِ، ومع حُصولِ هذا الاستواءِ يمتنِعُ رُجحانُ أحدِ الطَّرَفينِ على الآخَرِ، فإذا انضاف إليها حُصولُ الدَّاعي حصل رُجحانُ جانبِ الوُجودِ، وعندَ ذلك يصيرُ الفِعلُ واجِبَ الوُقوعِ، وهذا القَولُ هو المُختارُ عِندَنا.
ثمَّ القائِلونَ بهذا القَولِ إمَّا أن يقولوا: المُؤثِّرُ في دُخولِ الفِعلِ في الوُجودِ مجموعُ القُدرةِ مع الدَّاعي، وإمَّا أن يقولوا: ليس المُؤَثِّرُ في دُخولِ الفِعلِ في الوُجودِ هو مجموعَ القُدرةِ والدَّاعي، وهؤلاء أيضًا فريقانِ؛ فأمَّا الذين زعَموا أنَّ مُدبِّرَ هذا العالَمِ مُوجِبٌ بالذَّاتِ، قالوا: إنَّ عِندَ حُصولِ القُدرةِ مع الدَّاعي يحصُلُ الاستعدادُ التَّامُّ لدُخولِ ذلك الفِعلِ في الوُجودِ، إلَّا أنَّ هذه القُوى الجُسمانيَّةَ ليست لها صلاحيةُ الإيجادِ والتَّأثيرِ، فعِندَ حُصولِ الاستعدادِ التَّامِّ يَفيضُ الوجودُ من واهِبِ الصُّوَرِ على تلك الماهيَّاتِ وتصيرُ موجودةً. فحُصولُ القُدرةِ والدَّاعي يفيدُ الاستعدادَ التَّامَّ، وأمَّا الوُجودُ والحصولُ فذاك من واهِبِ الصُّوَرِ، وهذا مذهَبُ جُمهوِر الفلاسِفةِ.
وأمَّا الذين زعَموا أنَّ مُدبِّرَ هذا العالَمِ فاعِلٌ مُختارٌ، قالوا: إنَّ مجموعَ القُدرةِ والدَّاعي يَستلزِمُ حُصولَ الفِعلِ، إلَّا أنَّ الملزومَ واللَّازمَ إنَّما يحصُلانِ بقُدرةِ اللهِ تعالى، كما أنَّ الجَوهَرَ والعَرَضَ متلازِمانِ، ومع ذلك فإنَّهما لا يُوجَدانِ إلَّا بقُدرةِ اللهِ تعالى.
والقَولُ الرَّابعُ: أنَّ المؤَثِّرَ في حُصولِ الفِعلِ هو قُدرةُ العبدِ على سبيلِ الاستِقلالِ، وهذا هو قَولُ المُعتَزِلةِ) [909] ((المطالب العالية من العلم الإلهي)) (9/ 9 - 12). .
وقال الفَخرُ الرَّازي أيضًا: (الإنسانُ مُضطَرٌّ في صورةِ مختارٍ) [910] ((المطالب العالية من العلم الإلهي)) (3/ 60) و (9/ 25، 258). .
4- قال الإيجي: (العَبدُ مجبورٌ في أفعالِه) [911] ((المواقف مع شرح الجرجاني)) (3/ 263). .
5- قال التَّفْتازانيُّ: (ذهب المحقِّقونَ إلى أنَّ المآلَ هو الجَبرُ، وإن كان في الحالِ الاختيارُ، وأنَّ الإنسانَ مُضطَرٌّ في صورةِ مختارٍ) [912] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 129). .
وقال أيضًا: (الحَقُّ ما قال بعضُ أئمَّةِ الدِّينِ أنَّه لا جَبرَ ولا تفويضَ، ولكِن أمْرٌ بَينَ أمرَينِ، وذلك لأنَّ مبنى المبادي القريبةِ لأفعالِ العِبادِ على قُدرتِه واختيارِه، والمبادي البعيدةِ على عَجزِه واضطِرارِه، فإنَّ الإنسانَ مُضطَرٌّ في صورةِ مختارٍ، كالقَلَمِ في يدِ الكاتِبِ، والوَتَدِ في شَقِّ الحائِطِ، وفي كلامِ العُقَلاءِ قال الحائِطُ للوَتَدِ: لمَ تَشُقُّني؟ فقال: سَلْ مَن يَدُقُّني!) [913] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 142). .
6- قال الصَّفاقِسيُّ: (ذكَر النَّاظِمُ مسألةَ الكَسبِ التي وقَع فيها الخِلافُ بَينَ أهلِ الحَقِّ والجَبريَّةِ والمُعتَزِلةِ، فقال: (وعِندَنا) مَعشَرَ أهلِ الحَقِّ (للعَبدِ كَسبٌ) أي: قُدرةٌ حادِثةٌ تقارِنُ المقدورَ فقط، ولا تؤثِّرُ فيه، ويُعبَّرُ عنها بالاستطاعةِ أيضًا، وهي عَرَضٌ يخلقُه اللهُ للعبدِ عِندَ إرادةِ الاكتسابِ، وهي شَرطٌ لأداءِ الفِعلِ، وفي التَّكليفِ؛ ولذا قال: (كُلِّفا) العبدُ به، يعني أنَّ تلك القُدرةَ الحادثةَ بها وقَع التَّكليفُ الشَّرعيُّ من اللهِ تعالى للعَبدِ.
وبهذا يظهَرُ بُطلانُ مَذهَبِ الجَبريَّةِ القائِلينَ بأنْ لا قُدرةَ ولا كَسبَ ولا اختيارَ، وأنَّ العبدَ مجبورٌ على كلِّ حالٍ، لا فَرقَ عِندَهم بَينَ حركةِ الاضطِرارِ -كالمُرتَعِشِ- وحركةِ الاختيارِ، ومذهَبُهم فاسِدٌ ظاهِرُ الفسادِ؛ لما فيه من إنكارِ المحسوسِ وإبطالِ الشَّرعِ؛ لأنَّ العبدَ على مذهَبِهم لا كَسبَ له أصلًا ولا وُسْعَ، وقد قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286] . وهذا الكَسبُ الذي أثبته أهلُ السُّنَّةِ لا تأثيرَ له، كما أشار إليه النَّاظمُ بقَولِه: (ولم يكُنْ) ذلك العبدُ (مُؤثِّرًا) بذلك الكَسبِ الذي كُلِّف به في المقدورِ تأثيرَ اختراعٍ وخَلقٍ وإيجادٍ له؛ لقيامِ البُرهانِ على انفرادِ الباري تعالى بالتأثيرِ، لا مُؤَثِّرَ سِواه في شيءٍ ما عُمومًا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] ، هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر: 3] ، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] .
وبهذا يتبيَّنُ بُطلانُ مذهَبِ القَدَريَّةِ مجوسِ هذه الأمَّةِ، القائِلينَ بأنَّ القُدرةَ الحادثةَ تُؤثِّرُ فيما تقارِنُه، فأثبتوا التَّأثيرَ لغَيرِ القُدرةِ القديمةِ، وجعلوا القُدرةَ الحادثةَ أنفَذَ من القُدرةِ القديمةِ فيما تعلَّقَت به، وإرادةَ العبدِ أنفَذَ من إرادةِ خالِقِه، تعالى اللهُ عمَّا يقولُ الظَّالِمون عُلُوًّا كبيرًا، ومذهَبُهم أيضًا واضِحُ البُطلانِ، وهم أسوأُ حالًا من الجَبريَّةِ.
والحَقُّ مذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهم من أن للعَبدِ كَسبًا، أي: قُدرةً حادثةً تقارِنُ المقدورَ الحادِثَ، ولا تؤثِّرُ فيه، وإنَّما مولانا جلَّ وعلا يخلُقُ بقدرتِه عِندَ ذلك الاقترانِ ما شاء) [914] ((تقريب البعيد إلى جوهرة التوحيد)) (ص: 93). .
7- قال الدُّسوقيُّ: (الفِعلُ يُنسَبُ للعبدِ من حيثُ الكَسبُ، وهو تعلُّقُ قُدرةِ العبدِ بالمقدورِ أي: مقارنتُها في الوُجودِ للفِعلِ المكسوبِ؛ فالعَبدُ إذا أراد فِعلًا خلَق فيه قُدرةً، وخلَق ذلك الفِعلَ المرادَ مُتقارِنَينِ في الوُجودِ، فاقترانُهما في الوجودِ هو الكَسبُ، وإنَّما قُلْنا: إنَّ المقارنةَ بحسَبِ الوُجودِ للاحترازِ عن التعَقُّلِ؛ فإنَّ القُدرةَ سابقةٌ على الفِعلِ في التعقُّلِ، فعَلِمْتَ من هذا أنَّ القُدرةَ الحادثةَ عَرَضٌ مُقارِنٌ للفعلِ لا موجودٌ قَبلَه، وأنَّ إرادةَ العبدِ للفعلِ سَبَبٌ في إيجادِ اللهِ الفِعلَ والقُدرةَ معًا، وعَلِمْتَ أنَّ مُقارنةَ القُدرةِ للفِعلِ تُسمَّى كَسبًا، وقد يُطلَقُ الكَسبُ على المكسوبِ، وهو الحرَكاتُ المقارِنةُ للقُدرةِ، وعَلِمْتَ أنَّ الفِعلَ يُنسَبُ لله إيجادًا، وللعَبدِ كَسبًا) [915] ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 134). .
8- قال الصَّاوي: (الجَبريَّةُ يقولونَ: العَبدُ مجبورٌ ظاهِرًا وباطنًا، فهو كالخَيطِ المُعَلَّقِ في الهواءِ، ويُنكِرونَ التَّكليفَ، وإرسالَ الرُّسُلِ، ويقولونَ: تعذيبُ اللهِ العَبدَ على المعاصي ظُلمٌ!
والمُعتَزِلةُ يقولونَ: العَبدُ مُختارٌ ظاهِرًا وباطِنًا، يخلُقُ أفعالَ نَفسِه الاختياريَّةَ، وإلَّا لو كان الفِعلُ لله لكان تعذيبُه على المعاصي ظُلمًا، وكِلاهما باطِلٌ، وأهلُ السُّنَّةِ يقولونَ: العَبدُ له فِعلٌ اضطراريٌّ: كسُقوطٍ من جَبَلٍ، وكحَرَكةِ المرتَعِشِ، وهذا الفِعلُ لا تكليفَ فيه قطعًا؛ لأنَّه فِعلُ اللهِ اتِّفاقًا، ومن ذلك الإكراهُ. وفِعلٌ اختياريٌّ: وهو فِعلُ اللهِ أيضًا، لكِن باعتبارِ الإيجادِ، ويُنسَبُ للعبدِ باعتبارِ الكَسْبِ، وهو تعلُّقُ قُدرةِ العَبدِ وإرادتِه بالفِعلِ، فمن عظيمِ قُدرتِه تعالى إيجادُ الفِعلِ عِندَ قُدرةِ العبدِ لا بقُدرتِه وإرادتِه، وذلك كقَطعِ السِّكينِ مثَلًا، فإنَّ القَطعَ عِندَ مُرورِ السِّكينِ لا بالسِّكينِ؛ فإنَّه يمكِنُ تخلُّفُه، فمُقارنةُ قُدرةِ العَبدِ وإرادتِه لإيجادِ اللهِ هو المُسمَّى بالكَسبِ) [916] ((شرح العلامة الصاوي على جوهرة التوحيد)) (ص: 240). .
9- قال السُّنوسيُّ: (ما نُقِل عن إمامِ الحَرَمينِ من أنَّ له قولًا بأنَّ القُدرةَ الحادثةَ تُؤثِّرُ في الأفعالِ، لكِنْ لا على سبيلِ الاستقلالِ، كما تقولُ القَدَريَّةُ، بل على أقدارٍ قَدَّرَها اللهُ تعالى، فهو قَولٌ مرغوبٌ عنه لا يصِحُّ القولُ به، ولا تقليدُه في ذلك إن صحَّ عنه؛ لفسادِه قطعًا وعدَمِ جَريِه على السُّنَّةِ نقلًا وعقلًا؛ لأنَّ القُدرةَ الحادثةَ على مُقتضى هذا القَولِ إمَّا أن يكونَ من صِفةِ نَفسِها إيجادُ هذا الفِعلِ الذي تتعَلَّقُ به أو لا، فإن كان الأوَّلَ لزِمَ عِندَ تعلُّقِها بالفِعلِ إمَّا سلْبُ صِفتِها النَّفسيَّةِ إن لم تؤثِّرْ في الفِعلِ، وكان الموجِدُ له هو اللهَ تعالى، أو غلَبَتُها لقُدرتِه تعالى إن كانت هي التي أثَّرت في الفِعلِ، وفرَضْنا أنَّ اللهَ تعالى أراد أن يوجِدَ ذلك الفِعلَ بقُدرتِه، وكِلا الأمرَينِ مُحالٌ، ولا يدفَعُ محذورَ ما لَزِم من العَجزِ والغَلَبةِ في الثَّاني قَولُه: إنَّ تأثيرَهما إنَّما هو على وَفقِ إرادتِه تعالى؛ لأنَّ التأثيرَ إذا قُدِّر أنَّه صفةٌ نفسيَّةٌ للقُدرةِ الحادِثةِ لم يمكُنْ أن يتوقَّفَ ثبوتُه لها على شيءٍ أصلًا، وإن كان الثَّانيَ، وهو أنَّ التأثيرَ ليس صِفةً نَفسيَّةً للقُدرةِ الحادثةِ، لَزِم أن تفتَقِرَ إلى معنًى يقومُ بها، ويوجِبُ لها التأثيرَ، وننقُلُ الكلامَ حينَئذٍ إلى ذلك المعنى الذي أوجَب لها التأثيرَ، هل ذلك أيضًا من صِفةٍ نفسيَّةٍ أو لمعنًى قام به. ويلزَمُ التسلسُلُ، وقيامُ المعنى بالمعنى) [917] ((حواش على شرح الكبرى)) (ص: 336). .
10- قال الحامِديُّ: (قولُ الأشعريِّ ومن تابعَه، وهو الذي دلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّةُ، وأجمع عليه سَلَفُ الأمَّةِ: إنَّ قُدرةَ العبدِ لا تأثيرَ لها البتَّةَ، وإنَّما هي مُقارنةٌ لمقدورِها فقط) [918] ((حواش على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 340). .
وقال أيضًا: (تفسيرُ الكَسبِ الذي قال به أهلُ السُّنَّةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وهو درجةٌ وُسطى بَينَ مذهَبَيِ الجَبريَّةِ والقَدَريَّةِ، وكثيرًا ما يتوهَّمُ من لا عِلمَ عِندَه أنَّ معنى الكَسبِ كونُ القُدرةِ الحادِثةِ لها تأثيرٌ ما، وهذا التأثيرُ الذي يفسِّرُ به الجاهِلُ معنى الكَسبِ إن أراد أنَّ القُدرةَ الحادِثةَ تُؤثِّرُ في الفِعلِ كما يُحكى عن القاضي والأستاذِ، فقد تقدَّم فسادُ هذا القولِ، وعدَمُ جَرَيانِه على السُّنَّةِ،... وإن أراد أنَّها تُؤثِّرُ في وُجودِ المقدورِ، لكِنْ بمشيئةِ اللهِ تعالى لا على الاستقلالِ، كما يُحكى عن إمامِ الحرَمينِ في آخرِ أمرِه، فقد تقدَّم أيضًا فسادُ هذا القولِ، وتشعُّبُه من مذهَبِ القَدَريَّةِ مجوسِ هذه الأمَّةِ) [919] ((حواش على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 348). .

انظر أيضا: