موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: العَدَويَّةُ بَعدَ وفاةِ الشَّيخِ عَديٍّ


بَعدَ مَوتِ الشَّيخِ عَديٍّ سَنةَ 557هـ انتَقَلت وِراثةُ مَشيَخةِ العَدَويَّةِ إلى ابنِ أخيه أبي البَرَكاتِ صَخرِ بنِ صَخرِ بنِ مُسافِرٍ [1753] يُنظر: ((بهجة الأسرار)) للشطنوفي (ص: 215). ، ويُعَدُّ أبو البَرَكاتِ منَ الجيلِ الأوَّلِ الذي قدِمَ من بَيتِ فار بَعدَ الاستِقرارِ النِّهائيِّ لعَمِّه عَديٍّ في هذه المِنطَقةِ الكُرديَّةِ، وتَزَوَّج صَخرٌ من إحدى بَناتِ القَبائِلِ الكُرديَّةِ، وسارَ على مَسلَكِ عَمِّه في تَربيةِ المُريدينَ [1754] يُنظر: ((قلائد الجواهر)) للتادفي (ص: 109). .
أمَّا الجيلُ الثَّاني من آلِ مُسافِرٍ الذي وُلِدَ في بلادِ الهَكَّاريَّةِ وشَبَّ في هذه الدِّيارِ وتَعَلَّمَ الكُرديَّةَ، وحَمَل في اسمِه لقَبَ (الكُرديِّ)؛ فقد حافظَ على نَفسِ المَسلَكِ العَدوِّي في زَمنِه، فعَديٌّ الثَّاني أوِ الأصغَرُ ابنُ أبي البَرَكاتِ خَلَفَ والِدَه على المَشيَخةِ العَدَويَّةِ وعلى رَأسِ الزَّاويةِ التي فقدَت بَريقَها وإشعاعَها، واكتَفت هذه المَشيَخةُ الجَديدةُ بالتَّقليدِ، وكان عَديٌّ الثَّاني مَشغولًا بالسَّماعِ والرَّقصِ على طَريقةِ فُقَراءِ الصُّوفيَّةِ [1755] يُنظر: ((تاريخ إربل)) لابن المستوفي (ص: 116). ، ولم يَكُنْ جُلساؤُه والمُجتَمِعونَ إليه منَ النَّاسِ بدَرَجةِ أولئك الذينَ سَمِعوا منَ الشَّيخِ عَديٍّ الأكبَرِ أو صَخرٍ الثَّاني [1756] يُنظر: ((تاريخ إربل)) لابن المستوفي (ص: 116). . ولم يَحظَ عَديٌّ الأصغَرُ بنَفسِ دَرَجةِ الاهتِمامِ التي كانت لعَديٍّ الأكبَرِ، ومَعَ ذلك كان كَثيرَ السَّفَرِ في المَجالِ العِراقيِّ الشَّماليِّ وبلادِ الشَّامِ إضافةً إلى رِحلتِه للحَجِّ [1757] يُنظر: ((تاريخ إربل)) لابن المستوفي (ص: 116). . والذي يُستَنتَجُ عنه أنَّه اكتَفى بتَقليدِ أسلافِه، وأنَّ بدايةَ التَّحَوُّلاتِ في الحالةِ العامَّةِ للمَشيَخةِ العَدَويَّةِ ظَهَرَت مَلامِحُها الأولى في عَهدِه إلى أن توُفِّيَ سَنةَ 625هـ [1758] يُنظر: ((تاريخ إربل)) لابن المستوفي (ص: 116). .
لكِنَّ الطَّريقةَ العَدَويَّةَ بَعدَ جيلِها الثَّالثِ -وبالتَّحديدِ في مَشيَخةِ حَسَن شَمس الدِّينِ- عَرَفت مُحدَثاتٍ انحَرَفت بها عن مَسلَكِها، وبظُهورِ الشَّيخِ حَسَنٍ حَدَثَت تَحَوُّلاتٌ كُبرى غَيَّرَت نَظرةَ العُلماءِ لهذه الطَّريقةِ، كما قال ابنُ تيميَّةَ عنِ الشَّيخِ عَديٍّ الأكبَرِ: (له أتباعٌ صالحونَ، ومِن أصحابِه مَن فيه غُلوٌّ عَظيمٌ يَبلُغُ بهم غَليظَ الكُفرِ) [1759] ((مجموع الفتاوى)) (11/ 103). .
وخاصَّةً بَعدَ تَولِّي بَدرِ الدِّينِ لُؤلُؤٍ حُكمَ الموصِلِ، وهو شيعيٌّ مُعادٍ لبَني أُمَيَّةَ، وقد أقدَمَ بَعضُ الأكرادِ العَدَويَّةِ آنَذاكَ على إخراجِ عِظامِ أحَدِ ذَوي الأصولِ العَلويَّةِ وحَرْقِها [1760] يُنظر: ((تاريخ إربل)) لابن المستوفي (ص: 116). .
والمَعروفُ في شَخصيَّةِ الحَسَنِ شَمسِ الدِّينِ رَأيُه ودَهاؤه [1761] يُنظر: ((شذرات الذهب)) لابن العماد (5/ 229). ، وعُلوُّ مَكانتِه بَينَ صُفوفِ أتباعِه منَ الأكرادِ العَدَويَّةِ، فلم يَعتَرِفوا بأيِّ سُلطةٍ دونَه [1762] يُنظر: ((العبر في خبر من غبر)) للذهبي (5/ 13.( ، وارتَقَت به اليَزيديَّةُ وريثةُ العَدَويَّةِ إلى مَصافِّ آلهَتِهمُ السَّبعةِ [1763] يُنظر: ((مصحف رش/ الأسود)) (الآية: 3- 4). يُنظر: ((تاريخ اليزيدية)) لصديقي (ص: 551). .
وفي عَهدِه تحَوَّل مَرقَدُ الشَّيخِ عَديٍّ الأكبَرِ إلى مَعبَدٍ بَعدَ تَفشِّي الغُلوِّ في أشياخِهم، وقد عَدَّه ابنُ تيميَّةَ مِمَّن أدخَل (البدَعَ) والمُحدَثاتِ في منهجِ الشَّيخِ عَديٍّ الأوَّلِ، بقَولِه: (وفي زَمَنِ الشَّيخِ حَسَنٍ زادوا أشياءَ باطِلةً نَظمًا ونَثرًا. وغَلَوا في الشَّيخِ عَديٍّ وفي يَزيدَ بأشياءَ مُخالِفةٍ لِما كان عليه الشَّيخُ عَديٌّ الكَبيرُ قدَّسَ اللهُ رُوحَه؛ فإنَّ طَريقَتَه كانت سَليمةً لم يَكُنْ فيها من هذه البدَعِ، وابتُلُوا برَوافِضَ عادَوهم وقَتَلوا الشَّيخَ حَسَنًا وجَرَت فِتَنٌ لا يُحِبُّها اللهُ ولا رَسولُه) [1764] ((مجموع الفتاوى)) (3/ 410). .
وقد نُسِبَ للشَّيخِ عَديٍّ الكَبيرِ تَأسيسُ الطَّريقةِ العَدَويَّةِ الصُّوفيَّةِ، ولحَسَنٍ هذا تَأسيسُ اليَزيديَّةِ الباطِنيَّةِ [1765] يُنظر: ((اليزيدية ومنشأ نحلتهم)) لأحمد تيمور (ص: 35). .
وعلى هذا فإنَّ الشَّيخَ حَسَنًا ظَهَرَ لأصحابِه بتَعاليمَ جَديدةٍ وغَريبةٍ، وكان لها وَقعُها على العامَّةِ والبُسَطاءِ الذينَ غالَوا فيه [1766] يُنظر: ((العبر)) للذهبي (5/183). ، وقد تَناوَلَت بَعضُ المَصادِرِ أشعارَه التي نَتَلمَّسُ فيها اعتِقادًا بالرَّجعةِ والحُلولِ مَمزوجةً بالعَقيدةِ الإسلاميَّةِ والفِكرِ الصُّوفيِّ، ومن ذلك قَولُه:
وصِرتُ فردًا بلا ثانٍ أقومُ بــه
وأصبَحَ الكُلُّ والأكوانُ تَفخَرُ بـي
كُلُّ مُعاناتي مَعناها وصورَتُها
كصورَتي وهي تُدعَى ابنَتي وأبي [1767] يُنظر: ((فوات الوفيات)) والذيل عليها، لابن شاكر (1/ 335).
وقيل: إنَّ انشِغالَ حَسَن شَمسِ الدِّينِ بالتَّصنيفِ والتَّمحيصِ وغَيْبَتَه عن أتباعِه ومُريديه لفتَراتٍ زَمَنيَّةٍ تُعَدُّ طَويلةً، كان دافِعًا لهم للغُلوِّ وإحداثِ هَرطَقاتٍ دينيَّةٍ خارِجةٍ عنِ المَألوفِ العَدوِّي القديمِ.
كذلك إيمانُ الشَّيخِ حَسَنٍ بالحُلولِ وبوَحدةِ الوُجودِ والرَّجعةِ جَعَله يَنفتِحُ على التُّراثِ القديمِ، خاصَّةً أنَّ المَناهِلَ الطُّرُقيَّةَ قد تَأخُذُ من أيِّ مَنبَعٍ عِرفانيٍّ قديمٍ ودونَ تَحَفُّظٍ، كذلك عَقيدةُ الحُلولِ والانتِقالِ التي اعتَمَدَتها الصُّوفيَّةُ نَراها واضِحةً عِندَ حَسَن شَمسِ الدِّينِ وجُذورُها هِنديَّةٌ [1768] يُنظر: ((كتاب ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)) للبيروني (ص: 32). ، بالإضافةِ إلى المُؤَثِّراتِ الفارِسيَّةِ التي تُعتَبَرُ ذاتَ تَأثيرٍ قَويٍّ بَينَ الأكرادِ.
وهكذا حَلَّتِ اليَزيديَّةُ تَدريجيًّا مَحَلَّ العَدَويَّةِ التي أسَّسَها عَديُّ بنُ مُسافِرٍ في القَرنِ السَّادِسِ الهجريِّ، وساهَمَت شَطَحاتُ المُتَصَوِّفةِ وخُروجُهم عنِ المَألوفِ في ميلادِ هذه الفِرقةِ الجَديدةِ بالتَّسميةِ الجَديدةِ. واللهُ المُستَعانُ.

انظر أيضا: