موسوعة الفرق

المَطلبُ الأوَّلُ: عَقيدَتُهم في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


قال مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ: (الحَمدُ للَّهِ الذي جَعل التَّعلُّقَ بالذَّاتِ المُحَمَّديَّةِ والصَّلاةَ عليها أقرَبَ الطُّرُقِ إلى حَضرَتِه العليَّةِ، وجَعَلَها الواسِطةَ، والصَّلاةُ عليها أعظَمُ واسِطةٍ إليها بهيَّةٍ) [1228] ((مجموعة فتح الرسول)) (ص: 7). .
وأطلقوا عليه لفظَ الحِجابِ الأعظَمِ الذي يَقومُ بَينَ السَّالكِ وبَينَ اللهِ سُبحانَه وتعالى.
قال عَبدُ اللَّهِ إبراهيم الميرغَنيُّ: (إنَّ السَّالِكَ الصَّادِقَ إذا تَوجَّهَ بكَمالِ السَّيرِ، وفنيَ عنِ السِّوى والغَيرِ انكَشَف له أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمٌ بَينَ يَدَيِ اللهِ، وأنَّه سُبحانَه مُتَوجِّهٌ إليه بالتَّجَلِّياتِ كُلِّها؛ لأنَّها مَقصودةٌ منَ الوُجودِ، وما سِواه فإنَّما تَحصُلُ له رشَحاتٌ من ذلك تَتميمًا لفيضِ فَضلِه وتَكميلًا لعُمومِ رَحمَتِه، فكُلُّ مَن رامَ حَقيقةَ التَّجَلِّياتِ انحَجَبَ عنها بسَيِّدِ السَّاداتِ، فهو الحِجابُ الأعظَمُ الذي لا يُمكِنُ قَطعُه) [1229] ((النفحات القدسية)) ضمن مجموع ((النفحات الربانية)) (ص: 133). .
ووَفقًا لهذا التَّصَوُّرِ فإنَّ همَّةَ هؤلاء اتَّجَهَت إلى الاستِغراقِ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَعيًا إلى الفناءِ فيه، وتَوجَّهوا إلى اللهِ بالدُّعاءِ أن يُبَلِّغَهم هذه الغايةَ ويُنيلَهم هذا المَقصودَ.
قال عَبدُ اللَّهِ إبراهيم الميرغَنيُّ في تَعليقِه على قَولِ ابنِ مُشَيشٍ [1230] هو عَبدُ السَّلامِ بنُ مُشَيشِ بنِ أبي بكرٍ مَنصورِ بنِ عليٍّ، أبو مُحَمَّدٍ الحَسَنيُّ الإدريسيُّ الإفريقيُّ الشَّماليُّ المَغرِبيُّ الصُّوفيُّ -شَيخُ أبي الحَسَنِ الشَّاذِليِّ- المَعروفُ بابنِ مُشيشٍ. من مُؤَلَّفاتِه: حِزبُ المُشَيشيَّةِ في الأدعيةِ والأذكارِ، والشَّجَرةُ المُشيشيَّةُ في التَّراجِمِ، والصَّلاةُ المُشيشيَّةُ. توفي سنة 622هـ. يُنظر: ((الأعلام)) للزركلي (4/ 9)، ((معجم تاريخ التراث الإسلامي في مكتبات العالم)) لعلي وأحمد قره بلوط (3/ 1748). : (واجعَلِ الحِجابَ الأعظَمَ حَياةَ روحي، وروحَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِرَّ حَقيقَتي، وحَقيقَتَه جامِعَ عَوالِمي). قال: (أي: حاويَ أسراري وأنواري؛ كَي لا تَهيمَ روحي في مَحَبَّةِ خالقِها إلَّا بشَوقِه، ولا تُنيرَ حَقيقَتي إلَّا بغَرامِ رُوحِه، ولا يَصيرَ جامِعُ عَوالِمي إلَّا حَقيقةَ ذاتِه، وإذا أذهَبَ عَينَه منَ البَينِ لم يَبقَ إلَّا استِعدادُ حائِزِ الشَّرفَينِ وسَيِّدِ الكونينِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشَرَّف وكَرَّمَ ومَجَّدَ وعَظَّمَ) [1231] ((النفحات القدسية)) ضمن مجموع ((النفحات الربانية)) (ص: 168). .
ودافعَ عنِ ابنِ مُشيشٍ فيما اتُّهمَ به من أنَّه قدَّمَ الفَناءَ في اللهِ تعالى على الفَناءِ في نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: (فإن قيل: كَيف يَطلُبُ الشَّيخُ الفَناءَ في اللهِ بقَولِه: «وأغرِقْني في عَينِ بَحرِ الوَحدةِ»، ثمَّ يُؤَخِّرُ طَلَبَ الفَناءِ في الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على أنَّه عادةُ اللهِ في أوليائِه جاريةٌ بعَكسِ هذا؟ قُلتُ: هذا لا يَصِحُّ إيرادُه لِمَن له ذَوقٌ عَظيمٌ وفَهمٌ مُستَقيمٌ؛ لأنَّ كَلامَ الشَّيخِ «ابنِ مُشيشٍ» من أوَّلِ الصَّلاةِ فَناءٌ فيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يَعرِفُ ذلك من كان من أربابِه، وقد تَخَلَّى من حِجابِه، وليس هذا إلَّا فَناءُ خاصَّةٍ يُرَقِّيه إلى مَرتَبةٍ خاصَّةٍ، يُشيرُ إليها قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يُؤمنُ أحَدُكُم حتَّى يَكونَ هَواه تَبَعًا لِما جِئتُ به)) [1232] أخرجه ابن أبي عاصم في ((السنة)) (15)، والخطيب في ((تاريخ بغداد)) (4/368) واللَّفظُ لهما، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن)) (209) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. ضَعَّف إسنادَه الألباني في تخريج ((شرح السنة)) (15)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (104)، وقال البيهقيُّ: تفرَّد به نعيم بن حماد، وقال ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/393): تَصحيحُ هذا الحَديثِ بَعيدٌ جِدًّا من وُجوهٍ، وقال الوادعي في ((الفتاوى الحديثية)) (1/57): من طَريقِ نُعيمِ بنِ حَمَّادٍ، وهو ضَعيفٌ، هذه عِلَّةٌ. والعِلَّةُ الثَّانيةُ: أنَّه اختُلِف على نُعيمٍ في شَيخِه. والعِلَّةُ الثَّالثةُ: أنَّه لا يَدري أسمِعَ عُقبةُ بنُ أوسٍ من عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو أم لم يَسمَعْ؟ ، وقد جاءَنا بثَلاثةِ أشياءَ يُفتَرَضُ علينا مَحَبَّتُها ولُزومُها: الأوَّلُ: ذاتُه الشَّريفةُ، وقد بالغَ في مَحَبَّتِها وجَعَلَها حَياةَ روحِه التي بها ذُكِرَ، الثَّاني: صِفاتُه المُنيفةُ، وقد أشارَ إلى مَحَبَّتِها بقَولِه: «ورُوحُه سِرُّ حَقيقَتي»، والثَّالِثُ: ما نَبَّأنا به عنِ اللهِ، وهو شامِلٌ للكُلِّ. وقد أومَأ إليه بقَولِه: «وحَقيقَتُه جامِعُ عَوالِمي» فإذًا لا ذاتَ له ولا صِفةَ فضلًا عن هَوًى، وهذه المَرتَبةُ هي الاستِقامةُ) [1233] ((النفحات القدسية)) (ص: 144). .
وقد رَدَّدَ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ في صَلواتِه وأدعيَتِه وأشعارِه هذه المَعانيَ طَلبًا للفَناءِ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال في إحدى صَلواتِه: (اللَّهمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عليه، وببَرَكةِ الصَّلاةِ عليه اجعَلْه اللَّهمَّ لي سَمعًا وبَصَرًا وقُوًى لأفنى لدَيه) [1234] ((مجموعة فتح الرسول)) (ص 197). .
وقال أيضًا: (وأن تَجعَلَه يا رَبِّ رُوحًا لذاتي من جَميعِ الوُجوهِ في الدُّنيا قَبلَ الآخِرةِ، يَقَظةً ومَنامًا ظاهرًا وباطِنًا؛ إنَّك على كُلِّ شَيءٍ قديرٌ) [1235] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 46). .
وقال: (وفرِّحْني بالفَناءِ والبَقاءِ في نَبيِّك الأعظَمِ) [1236] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 55). .
وفي مَنظومةِ أسماءِ اللهِ الحُسنى قال مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ سائِلًا المَولى سُبحانَه وتعالى:
وتَمنَحُنا حُسنَ اليَقينِ وتَوبةً
وتَصحَبُنا بتَأديبِ حَقِّ النُّبوَّةِ
وتُجَلِّي لنا أسرارَ حَضرةِ ذاتِكُم
تُخَلِّقُنا بصِفاتِكُم يا مُثبِّتي
وتَمنَحُنا حُسنَ الفَناءِ في نَبيِّنا
وتُبقينا فيه به بعِنايةِ [1237] ((مجموع الأوراد الكبير)) (ص: 27). .
وفي حَديثِه عن سِرِّ الطَّريقةِ الخَتميَّةِ قال: (اعلَمْ أنَّ كُلَّ الخَيرِ في العُكوفِ على جانِبِ الحَبيبِ، وهذا هو المَقصودُ إلى هنا يا لبيبُ، وذلك إمَّا تَعلُّقًا صوريًّا أو مَعنَويًّا.
فالصُّوريُّ على نَوعَينِ:
الأوَّلُ: باتِّباعِ جَميعِ أوامِرِه واجتِنابِ نَواهيه، وذلك بمواظَبةِ سُنَنِه وآثارِه والعُكوفِ على ما ورَدَ عنه لتَحظى بأسرارِه وصُحوبِ ارتِكابِ العَزائِمِ لتَحظى بالمَغانِمِ.
والثَّاني: الفَناءُ في مَحَبَّتِه، وشِدَّةُ الشَّوقِ والغَيبةِ في مَودَّتِه، وكَثرةُ تَذَكُّرِه، والصَّلاةُ عليه، ومُداوَمةُ مُطالعةِ المَدائِحِ المُحَرِّكةِ للشَّوقِ إليه.
والمَعنَويُّ أيضًا على نَوعَينِ:
الأوَّلُ: استِحضارُ صورَتِه الشَّريفةِ وذاتِه المُنيفةِ وحَضرَتِه العَفيفةِ.
والثَّاني: استِحضارُ حَقيقَتِه العَظيمةِ، وهذا مَشهَدُ أهلِ الأحوالِ الكَريمةِ، واستِمدادُ العالمِ منه مُحَقَّقٌ0 فقد وقَعَ لنا في الكَشفِ أنَّه روحُ الكَونِ، ونورُه به قائِمُ العالمِ) [1238] ((مجموعة فتح الرسول)) (ص: 138). .
وتَبَعًا لهذا التَّصَوُّرِ لذاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَوجَّه الميرغنيَّةُ بدَعَواتِهم واستِغاثاتِهم وشَكاواهم إليه، سائِلِيه أن يَفُكَّ ضيقَهم ويَنصُرَهم على عَدوِّهم، مُخاطِبينَ إيَّاه بأنَّه مُزيلٌ للغَمِّ والكَربِ، ومُفرِّجٌ للهَمِّ والضِّيقِ، وتَكادُ لا تَخلو قَصيدةٌ من قَصائِدِ مَدحِهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من بَعضِ هذه المَعاني أو منها جَميعِها، فأشعارُهم تَنضَحُ بالمَعاني التي تَجعلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَلجَأَ السَّائِلينَ، وقِبلةَ المُحتاجينَ، يَتَوجَّهونَ إليه بالدُّعاءِ ويَتَوسَّلونَ إليه بالإعانةِ.
ولعلَّ في النَّماذِجِ التَّاليةِ ما يَكشِفُ عن هذه الحَقيقةِ في عَقائِدِ الخَتميَّةِ ومَبادِئِهم:
قال مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ في النَّفَحاتِ المَدَنيَّةِ مُخاطِبًا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
كُلُّ هَمٍّ أنتَ تُفَرِّجُه
إن وفاء للعجمِ والعَرَبيِّ
فأغِثْ يا خَيرَ غَوثٍ بَدَا
وأجْلِ كَربًا عَمَّ من حقبي [1239] ((النور البراق)) (ص: 35). .
وقال أيضًا مُخاطِبًا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
إليك التِجائي حينَ تَذهَلُ الورى
وفي دار دُنيا وفي يَومِ مَحشَرا [1240] ((النور البراق)) (ص: 29). .
وقال في قَصيدةٍ أخرى مُخاطِبًا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه عليه الاعتِمادُ في الدُّنيا والآخِرةِ وعِندَ المَوتِ، ويَرجو منه أن يَحضُرَ مَوتَه ويُجَهِّزَه بَعدَ وفاتِه ويُنزِلَه في القَبرِ ويَحضُرَ مَعَه سُؤالَ المَلكَينِ وأن يَكونَ أنيسَه في القَبرِ وشَفيعَه يَومَ الحَشرِ [1241] ((النور البراق)) (ص: 27). .
وتَتَرَدَّدُ هذه المَعاني أيضًا في أشعارِ ابنِه هاشِمٍ، ومن ذلك قَولُه مُخاطِبًا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
رَسولَ اللهِ أشكو الحالَ حَقًّا
إليك ومَن يُغيثُ سِواك ضُرِّي
رَسولَ اللهِ امحُ ثمَّ مَحِّصْ
ذُنوبًا ثمَّ آثامي ووِزْري
وأوهِبْني رِضاك وقُلْ مُحِبِّي
وابني هاشِمٌ لا تَخشَ ضُرِّي [1242] ((ديوان شفاء القلوب والغرام)) (ص: 25). .
ووصَف النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه:
وإنَّه المُرتَجى في كُلِّ نائِبةٍ
وكُلِّ صَرفٍ وإيجالٍ ومنعَسِرِ
فجُدْ عليَّ بما يُغني ويُسعِدُني
واسقِني منك فيضَ الكَأسِ منهمِرِ [1243] ((ديوان شفاء القلوب والغرام)) (ص: 45). .
وقال في قَصيدةٍ أخرى عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
مُغيثُ مَنِ استَغاثَ به كَلمحٍ
مُفَرِّجُ لوعةِ العَبدِ الشَّجيّ
رَجَوتُك يا نَبيَّ اللهِ سرعًا
تُطَهِّرُني منَ الدَّنَسِ الخَسيّ
وتُسعِدُني وتَقضي ذي منائي
تُدَمِّرُ كُلَّ ذي طاغٍ بغَيّ
فإنَّك عالمٌ يا غَوثُ ما بي
ومَضموني وجَهري والخَفيّ
رَحيمٌ سَيِّدٌ بَرٌّ وَصُولٌ
سِراجٌ أنوَرُ نورٌ مُضِيّ [1244] ((ديوان شفاء القلوب والغرام)) (ص: 53). .
وتَتَرَدَّدُ أيضًا هذه المَعاني في أشعارِ جَعفَرٍ الميرغَنيِّ ومَدائِحِه؛ فهو أيضًا يَستَغيثُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَسألُه أن يُعَدِّلَ من أحوالِه، وأن يهَبَ له قُربًا ووصلًا، ويَصِفُه بأنَّه مُغيثُ المكروبينَ وهادي الضَّالِّينَ، فقال:
فدَيتُك يا رَسولَ اللهِ أغِثْني
فجاهُك يَمنَعُ الأسواءَ مَنعًا
أجِرني من عَدوٍّ رامَ قَتلي
يُحاوِلُ مُهجَتي خَتلًا وخَدعًا
ونَفسٍ تَأمُرُ الإنسانَ سوءًا
ومَعصيةٍ بشُؤمِ الذَّنبِ تُدعى
وحَوِّلْ حالتي لطَريقِ هَديٍ
وضَعْ عن ظَهريَ الأوزارَ وَضعًا
وكُنْ لي واقيًا في يَومِ حَشرٍ
إذا انقَطَعَ الرَّجاءُ وخابَ مَسعى [1245] ((رياض المديح)) (ص: 5). .
وقال أيضًا:
رَسولَ اللهِ ما لي من مُغيثٍ
سِواك يُغيثُ من كَربٍ وخَطبِ
رَسولَ اللهِ هَبْ لي منك فتحًا
وأمنًا منك في أهلي وسِربي
رَسولَ اللهِ هَبْ لي منك فيضًا
وقُربًا من جَنابِك أيَّ قُربِ [1246] ((الديوان الكبير)) (ص: 12). .
من هذه النُّصوصِ يَتَبَيَّنُ أنَّ الخَتميَّةَ يَذهَبونَ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَصدَرٌ للمَدَدِ والعَونِ؛ فهو يُجيبُ دُعاءَ المُضطَرِّ، ويُفرِّجُ كَربَ المُستَغيثِ، ويُغيثُ المَلهوفَ، ولا شَكَّ أنَّ هذا اعتِقادٌ باطِلٌ مُخالِفٌ لأساسيَّاتِ العَقيدةِ الإسلاميَّةِ، وزَعمٌ واهِنٌ يَرُدُّه القُرآنُ الكَريمُ وأحاديثُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّحيحةُ.
فقد بَيَّنَ القُرآنُ الكَريمُ أنَّ اللهَ تعالى وحدَه هو المُتَصَرِّفُ في الكَونِ، وأنَّ النَّفعَ والضُّرَّ بيَدِه سُبحانَه، وأنَّ الإحياءَ والإماتةَ والرِّزقَ والمَنعَ والعَطاءَ منه وحدَه لا شَريكَ له في ذلك، وهو الذي يَملكُ الهدايةَ والإضلالَ.
قال اللهُ تعالى: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [الفتح: 11] .
وقال اللهُ سُبحانَه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [يونس: 31] .
وبَيَّن اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَملِكُ لا لنَفسِه ولا لأحَدٍ شَيئًا، وأمرَه أن يَقولَ ذلك للنَّاسِ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] ، قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [الجن: 21] .
وبَيَّنَ القُرآنُ أنَّه لا يَنبَغي أن يَدعوَ المُؤمنُ غَيرَ اللَّهِ تعالى، ولا يَستَعينَ إلَّا به، ولا يَطلُبَ كَشفَ كَربٍ أو جَلبَ نَفعٍ ودَفعَ ضَرَرٍ من أحَدٍ غَيرِه، نَبيًّا أو مَلكًا أو غَيرَه منَ الكائِناتِ، وأنَّ مَن يَفعلُ ذلك فقد أشرَكَ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ غَيرَه، وحَبِطَ عَمَلُه، وكان في الآخِرةِ منَ الخاسِرينَ، فقال اللهُ تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] .
وقال اللهُ سُبحانَه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء: 56] .
فهذه الآياتُ فيها دَلالةٌ واضِحةٌ على النَّهيِ عن دُعاءِ غَيرِ اللهِ سُبحانَه، بل الواجِبُ إخلاصُ العِبادةِ للَّهِ والتَّوجُّهُ إليه وَحدَه؛ فمنه وَحدَه النَّفعُ والضُّرُّ والمَنعُ والعَطاءُ.
وأكَّدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذه المَعانيَ، ومن ذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((إذا سَألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لوِ اجتَمَعَت على أن يَنفعوك بشَيءٍ لم يَنفعوك إلَّا بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهُ لك، ولوِ اجتَمَعَت على أن يَضُرُّوك بشَيءٍ لم يَضُرُّوك إلَّا بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ)) [1247] أخرجه الترمذي (2516) واللَّفظُ له، وأحمد (2669). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2516)، وصحَّحه لغيره الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (699)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327). .
قال ابنُ تيميَّةَ في الرَّدِّ على مَن يَدَّعي القَولَ بضَرورةِ واسِطةٍ بَينَه وبَينَ اللهِ تعالى: (إن أرادَ أنَّه لا بُدَّ لنا من واسِطةٍ تُبلِّغُنا أمرَ اللهِ فهذا حَقٌّ؛ فإنَّ الخَلقَ لا يَعلمونَ ما يُحِبُّه اللهُ ويَرضاه، وما أمَرَ به وما نَهى عنه، ولا يعرِفونَ ما يَستَحِقُّه من أسمائِه الحُسنى وصِفاتِه العلى وأمثالِ ذلك إلَّا بالرُّسُلِ الذينَ أرسَلهمُ اللهُ إلى عِبادِه... وإن أرادَ بالواسِطةِ أنَّه لا بُدَّ من واسِطةٍ في جَلبِ المَنافِعِ ودَفعِ المَضارِّ، مِثلُ أن يَكونَ واسِطةً في رِزقِ العِبادِ ونَصرِهم وهُداهم، يَسألونَه ذلك، ويَرجِعونَ إليه فيه، فهذا من أعظَمِ الشِّركِ الذي كَفَّرَ اللهُ به المُشرِكينَ حَيثُ اتَّخَذوا مَن دونِ اللهِ أولياءَ وشُفعاءَ يَجتَلبونَ بهمُ المَنافِعَ ويَجتَنِبونَ المَضارَّ... قال تعالى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنِّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 79-80] ، فبَيَّنَ سُبحانَه أنَّ اتِّخاذَ المَلائِكةِ والنَّبيِّينَ أربابًا كُفرٌ، فمن جَعَل المَلائِكةَ والأنبياءَ وسائِطَ يَدعوهم ويَتَوكَّلُ عليهم ويَسألُهم جَلبَ المَنافِعِ ودَفعَ المَضارِّ، مِثلُ أن يَسألَهم غُفرانَ الذَّنبِ، وهدايةَ القُلوبِ، وتَفريجَ الكُروبِ، وسَدَّ الفاقاتِ، فهو كافِرٌ بإجماعِ المُسلِمينَ) [1248] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (1/ 121 - 126). .
وقال ابنُ عَبدِ الهادي في رَدِّه على السُّبكيِّ: (وقَولُه -أي السُّبكيِّ-: «إنَّ المُبالغةَ في تَعظيمِه واجِبةٌ»: أيُريدُ بها المُبالغةَ بحَسَبِ ما يَراه كُلُّ أحَدٍ تَعظيمًا حتَّى الحَجِّ إلى قَبرِه والسُّجودِ له والطَّوافِ به، واعتِقادِ أنَّه يَعلمُ الغَيبَ، وأنَّه يُعطي ويَمنَعُ، ويَملكُ لمَنِ استَغاثَ به مَن دونِ اللهِ الضُّرَّ والنَّفعَ، وأنَّه يَقضي حَوائِجَ السَّائِلينَ، ويُفرِّجُ كُرُباتِ المكروبين، وأنَّه يَشفعُ فيمَن يَشاءُ ويُدخِلُ الجَنَّةَ مَن يَشاءُ؟ فدَعوى وُجوبِ المُبالَغةِ في هذا التَّعظيمِ مُبالغةٌ في الشِّركِ وانسِلاخٌ من جُملةِ الدِّينِ.
أم يُريدُ بها التَّعظيمَ الذي شَرَعَه اللهُ ورَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من وُجوبِ مَحَبَّتِه وطاعَتِه، ومَعرِفةِ حُقوقِه وتَصديقِ أخبارِه، وتَقديمِ كَلامِه على كَلامِ غَيرِه، ومُخالفةِ غَيرِه لموافقَتِه، ولوازِمِ ذلك؟ فهذا التَّعظيمُ لا يَتِمُّ الإيمانُ إلَّا به) [1249] ((الصارم المنكي في الرد على السبكي)) (ص: 346). ويُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) لآل الشيخ (ص: 231). .
قَولُ الخَتميَّةِ برُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولُقياه والتَّلقِّي منه:
ذَهَبَ الخَتميَّةُ إلى أنَّهم يَرَونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِيانًا، ويَلقَونَه ويَحضُرُ احتِفالاتِهم بمَولدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّهم تَلقَّوا منه كَثيرًا من أسُسِ الطَّريقةِ وأورادِها وتَعاليمِها.
فذَهَبَ مُحَمَّد عُثمان الميرغَنيُّ إلى أنَّه وضَعَ (راتِبَه) بإذنٍ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: (إنَّنا لم نَضَعْ شَيئًا منه إلَّا بإذنٍ إلهيٍّ وسِرٍّ مُحَمَّديٍّ، وكُلُّ تَرتيبِه كَذلك... حتَّى أنِّي كُنتُ أكتُبُ نَبيًّا رَسولًا، فقال لي المُصطَفى: نَبيًّا ورَسولًا) [1250] ((شرح الراتب)) المسمى ((بالأسرار المترادفة)) ضمن (مجموعة النفحات الربانية) (ص: 95). .
وذَهَبَ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذي أمَرَه أن يَضَعَ قَصيدةً للمَولدِ وأن يَجعَلَ إحدى قافيَتَيها هاءً والأخرى نُونًا، وبَشَّرَه بأنَّه يَحضُرَ قِراءَتَها وأنَّ الدُّعاءَ مُستَجابٌ في خَتمِه وعِندَ ذِكرِ وِلادَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1251] يُنظر: ((الأسرار الربانية)) للميرغني (ص: 9). ! فقال: (فرَأيتُ في تلك اللَّيلةِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رُؤيةً مناميَّةً، ورُؤيَتُه حَقٌّ كما أورَدَ عنه ثِقاتُ الرُّواةِ بطُرُقِ الإحصانِ، فأمَرَني أن أصَنِّفَ مَولدًا، وأجعَلَ إحدى قافيَتَيه هاءً بَهيَّةً، والأخرى نونًا كما فعَلْتُ؛ لأنَّها نِصفُ دائِرةِ الأكوانِ، وبَشَّرَني أنَّه يَحضُرُ في قِراءَتِه إذا قُرِئَ، فسَطَّرتُ ليَتَشَرَّفَ به كُلَّما تُلِيَ حِكايةً نوميَّةً، وأنَّه يُستَجابُ الدُّعاءُ عِندَ ذِكرِ الوِلادةِ وعِندَ الفراغِ منه) [1252] ((الأسرار الربانية)) (ص: 9). .
ويَدَّعي أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَه بلُزومِ التَّمَسُّكِ بطَريقَتِه لكُلِّ مَن وقَف عليها: (اعلَموا مَعشَرَ الإخوانِ... أنَّه أخبَرَني المُصطَفى أنَّ مَن وقَف على طَريقَتي ولم يَتَمَسَّكْ بها فهو مَحرومٌ، ومَن تَمسَّك بها وتَركها يُخشى عليه سوءُ الخاتِمةِ، فمَن رَأيتُموه تَمسَّك بها ثمَّ تَرَكَها فلا تَظُنُّوا فيه خَيرًا ولو رَأيتُموه طائِرًا) [1253] ((شرح الراتب)) (ص: 112). .
وزَعَمَ أنَّه حينَ هَمَّ بتَأليفِ (مَجموعُ فتحِ الرَّسولِ) استَأذَنَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تَأليفِها فأذِنَ له، ووعَدَه بقَبولِ النَّاسِ لها وقَبولِها منهم، قال: (ثمَّ أردَتُ هذا الجَمعَ على نَسَقِ ما ذَكَرتُ آنِفًا، فدَخَلتُ الحُجرةَ ووقَفتُ بَينَ يَدَيِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستَأذَنتُه في ذلك الصَّفا، فأذِنَ وأمدَّ بسِرٍّ بالمَقصودِ وفا. فبَدَأتُ بالخُطبةِ ثمَّ إلى قَولي بهيَّةٍ، وتَرَكتُها بائِتةً تَحتَ السِّترِ ليلةً هنيَّةً، وسَألتُ منه قَبولَها عنِّي، ومنَ الزَّهراءِ والصَّاحِبَينِ، وقَبولَ النَّاسِ لها وقَبولَها منهم، فجادَ بلامَينِ، وأفادَ أنَّ بها يَحصُلُ سِرُّ الفتحِ والقُربُ منه في الدَّارَينِ، وأنبَأ بما لا تَسَعُه عُقولُ السَّامِعينَ) [1254] ((مجموعة فتح الرسول)) (ص: 8). .
وقال عِندَ تَفسيرِ قَولِ اللهِ تعالى: أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 122] : (لمَّا وصَلتُ في التَّفسيرِ إلى هذا المَوضِعِ رَأيتُ في تلك اللَّيلةِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مَحفَلٍ منَ الرُّسُلِ الكِرامِ، ويَقولُ لي: الأنبياءُ من نوري، وطارَت نُقطةُ نورٍ منه فتُخلَقُ منها صورةُ سَيِّدِنا إسماعيلَ الذَّبيحِ، فقال لي: هكذا خُلِقوا من نوري، والأولياءُ من نورِ الخَتمِ!!.. ثمَّ رَأيتُه اللَّيلةَ، فقال لي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما قامَ بأمرِ اللَّهِ والمُؤمنينَ أحَدٌ بَعدي مِثلُك، شَكَرَ اللهُ سَعيَك، فقُلتُ: كَيف يا رَسولَ اللهِ؟ فقال: تَعِبتَ في المُؤمنينَ ونَصَحتَهم ما تَعِبَ فيهم أحَدٌ بَعدي مِثلُك، فقُلتُ له: أأرضاك ذلك؟ قال: أرضاني وأرضى اللهَ مِن فوقِ سَبعِ سَمَواتِه وعَرشِه وحُجُبِه. ثمَّ نادى رَضوانَ، فقال: يا رِضوانُ، عَمِّرْ جِنانًا ومَساكِنَ لابني مُحَمَّد عُثمان وأبنائِه وصَحبِه وأتباعِه وأتباعِ أتباعِه إلى يَومِ القيامةِ. ثمَّ قال: يا مالِكُ، فحَضَرَ، فقال: عَمِّرْ في النَّارِ مَواضِعَ لأعداءِ مُحَمَّد عُثمان إلى يَومِ القيامةِ) [1255] ((تاج التفاسير)) (1/146). .
وقال أيضًا: (لمَّا كان ليلةُ الأحَدِ أدخَلتُ آخِرَ اللَّيلِ إلى الحُجرةِ الفاخِرةِ، ووقَفتُ بَينَ يَدَيِ الحَبيبِ وقال لي في تلك اللَّيلةِ: أنتَ مَحبوبي وأنتَ مَطلوبي وأنتَ مرغوبي، وأشارَ أنَّ في أتباعي ما يُنَوِّفُ عن ألفٍ يَكونونَ من أكابرِ المُقَرَّبينَ) [1256] ((مجموعة فتح الرسول)) (ص: 137). .
وذَكَرَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَضَرَ أثناءَ قِراءَتِه المَولدَ، فقال: (كان يَومُ الجُمعةِ يَومَ ثَلاثةٍ وعِشرينَ من رَجَبٍ الذي فيه الأنوارُ تُنصَبُ، كُنتُ في قِراءةِ المولِدِ فحَضَر صاحِبُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَعَه جَمعٌ من أهلِ مَنصِبِه، فبَشَّرَني بأنَّ عَشَرةً منَ الذُّرِّيَّةِ يَكونونَ ورَثةَ الكِبارِ منَ الذِّروةِ النَّبَويَّةِ، منهمُ الثَّمانيةُ الظَّاهرونَ له في السَّمَواتِ في المِعراجِ [1257] هم: آدمُ ويحيى وعيسى ويوسُفُ وإدريسُ وهارونُ وموسى وإبراهيمُ عليهم السَّلامُ. يُنظر: ((المولد)) (ص: 46). ، ونوحٌ والمُرَقَّى لكُلٍّ في عُلوِّ الأدراجِ، وألفٌ منَ الصَّحبِ يَكونونَ في الجِوارِ في أعلى الجِنانِ، مَعَ الأنبياءِ من جِوارِه، وذلك أكبَرُ امتِنانٍ) [1258] ((النفحات المكية)) (ص: 5). .
والقَولُ برُؤيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المَنامِ حَقٌّ لا شَكَّ فيه، ويُمكِنُ تَحَقُّقُها لبَعضِ الصَّالحينَ؛ لِما ورَدَ منَ الأحاديثِ الصَّحيحةِ التي بَيَّن فيها صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه ذلك ووضَّحَ أنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّلُ به؛ فمَن رَآه في المَنامِ فقد رَآه حَقًّا. ومن ذلك ما رَواه أبو هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن رَآني في المَنامِ فقد رَآني؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّلُ بي)) [1259] أخرجه البخاري (110) مطَوَّلًا باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (2266) واللَّفظُ له. ، وما رَواه أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((مَن رَآني فقد رَأى الحَقَّ؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يتكَوَّنُني)) [1260] أخرجه البخاري (6997). .
وأمَّا رُؤيَتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ مَوتِه يَقَظةً فليس عليها دَليلٌ، ولم يَقُلْ بها أحَدٌ من أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، فمَزاعِمُ بَعضِ الصُّوفيَّةِ أنَّهم يَرَونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِيانًا لا أساسَ لها، ومَن زَعَمَ أنَّه رَأى ما يوهِمُ ذلك فليَعلَمْ أنَّه من تَلبيسِ الشَّيطانِ.
وفي ذلك قال ابنُ تيميَّةَ: (وقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((مَن رَآني في المَنامِ فقد رَآني حَقًّا؛ فإنَّ الشَّيطانَ لا يَتَمَثَّلُ في صورَتي)) [1261] أخرجه البخاري (110) باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (2266) مختصرًا من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فهذا في رُؤيةِ المَنامِ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ في المَنامِ تَكونُ حَقًّا وتَكونُ منَ الشَّيطانِ، فمَنَعَه اللهُ أن يَتَمَثَّلَ به في المَنامِ، وأمَّا في اليَقَظةِ فلا يَراه أحَدٌ بعَينِه في الدُّنيا. فمَن ظَنَّ أنَّ المَرئيَّ هو المَيِّتُ فقد أُتيَ من جَهلِه؛ ولهذا لم يَقَعْ مِثلُ هذا لأحَدٍ منَ الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ، وبَعضُ مَن رَأى هذا أو صَدَّقَ مَن قال إنَّه رَآه، اعتَقدَ أنَّ الشَّخصَ الواحِدَ يَكونُ بمَكانينِ في حالةٍ واحِدةٍ، فخالف صَريحَ المَعقولِ، ومنهم مَن يَقولُ: إنَّ هذا رَفيقُه ذلك المَرئيُّ «أي قَرينُه وشَبَحُه»، أو هذه روحانيَّتُه، أو هذا مَعناه تَشَكَّل، ولا يَعرِفونَ أنَّه جِنِّيٌّ تَصَوَّر بصورَتِه، ومنهم مَن يَظُنُّ أنَّه مَلَكٌ، والمَلَكُ يَتَمَيَّزُ عنِ الجِنِّيِّ بأمورٍ كَثيرةٍ، والشَّياطينُ يوالونَ مَن يَفعلُ ما يُحِبُّونَه منَ الشِّركِ والفُسوقِ والعِصيانِ؛ فتارةً يُخبرونَه ببَعضِ الأمورِ الغائِبةِ ليُكاشِفَ بها، وتارةً يُؤذونَ مَن يُريدُ أذاه بقَتلٍ أو تَمريضٍ ونَحوِ ذلك، وتارةً يَجلِبونَ له مَن يُريدُ منَ الإنسِ، وتارةً يَسرِقونَ له ما يَسرِقونَ من أموالِ النَّاسِ مِن نَقدٍ وطَعامٍ وثيابٍ وغَيرِ ذلك، فيَعتَقِدُ أنَّها من كَراماتِ الأولياءِ، وإنَّما يَكونُ مَسروقًا، وتارةً يَحمِلونَه في الهَواءِ فيَذهَبونَ به إلى مَكانٍ بَعيدٍ؛ فمنهم مَن يَذهَبونَ به إلى مَكَّةَ عَشيَّةَ عَرَفةَ ويَعودونَ به، فيَعتَقِدُ هذا كَرامةً، مَعَ أنَّه لم يَحُجَّ حَجَّ المُسلمينَ؛ لا أحرَمَ ولا لبَّى ولا طافَ بالبَيتِ ولا بَينَ الصَّفا والمَروةِ، ومَعلومٌ أنَّ هذا مِن أعظَمِ الضَّلالِ!) [1262] ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 29). .
وقد بَيَّنَ القُرآنُ الكَريمُ وسُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اتِّصالَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالنَّاسِ قدِ انقَطَعَ بوفاتِه، وأنَّه لا صِلةَ له بهم بَعدَ أن أدَّى رِسالةَ رَبِّه وتَوفَّاه اللهُ تعالى؛ فقد رَوى عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّكُم مَحشورونَ حُفاةً عُراةً غُرلًا، ثمَّ قَرَأ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء: 104] وأوَّلُ مَن يُكسى يَومَ القيامةِ إبراهيمُ، وإنَّ أناسًا من أصحابي يُؤخَذُ بهم ذاتَ الشِّمالِ فأقولُ: أصحابي أصحابي! فيَقولُ: إنَّهم لم يَزالوا مُرتَدِّينَ على أعقابِهم مُنذُ فارَقْتَهم! فأقولُ كما قال العَبدُ الصَّالحُ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة: 117] إلى قَولِه: الْحَكِيمُ)) [1263] أخرجه البخاري (3349) واللَّفظُ له، ومسلم (2860) باختلافٍ يسيرٍ. .
وقال الألوسيُّ: (ومَعنى الجُملتَينِ: إنِّي ما دُمتُ فيهم كُنتُ مُشاهدًا لأحوالهم فيُمكِنُ لي بَيانُها، فلمَّا تَوفَّيتَني كُنتَ أنتَ المُشاهِدَ لذلك لا غَيرُك، فلا أعلمُ حالَهم ولا يُمكِنُني بَيانُها) [1264] ((روح المعاني)) (7/69). .
وعليه فإنَّ ما يَدَّعيه بَعضُ الصُّوفيَّةِ، كالخَتميَّةِ، من أنَّهم يَتَلقَّونَ عُلومًا ومَعارِفَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ مَوتِه يَقَظةً في الدُّنيا، ليس منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما هو من تَخييلِ الشَّيطانِ وتَوهيمِه.
وذَكَرَ ابنُ تيميَّةَ أنَّ الصَّحابةَ رِضوانُ اللهِ عليهم لم يَطمَعِ الشَّيطانُ أن يُضِلَّهم كما أضَلَّ غَيرَهم من أهلِ البدَعِ الذينَ تأوَّلوا القُرآنَ على غَيرِ تَأويلِه، أو جَهِلوا السُّنَّةَ، أو رَأوا وسَمِعوا أمورًا منَ الخَوارِقِ فظَنُّوها مَن جِنسِ آياتِ الأنبياءِ والصَّالحينَ، وكانت من أفعالِ الشَّياطينِ. فأهلُ الهِندِ يَرَونَ مَن يُعَظِّمونَه من شُيوخِهمُ الكُفَّارِ وغَيرِهم، والنَّصارى يَرَونَ مَن يُعَظِّمونَه منَ الأنبياءِ والحَواريِّينَ وغَيرِهم، والضُّلَّالُ من أهلِ القِبلةِ يَرَونَ مَن يُعَظِّمونَه؛ إمَّا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإمَّا غَيرَه منَ الأنبياءِ يَقَظةً، ويُخاطِبُهم ويُخاطِبونَه، وقد يَستَفتونَه ويَسألونَه عن أحاديثَ فيُجيبُهم، ومنهم مَن يُخَيَّلُ إليه أنَّ الحُجرةَ قدِ انشَقَّت وخَرَجَ منها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعانَقَه هو وصاحَباه، وهذا وأمثالُه أعرِفُ مِمَّن وقَعَ له هذا وأشباهُه عَدَدًا كَثيرًا، وقد حَدَّثَني بما وقَعَ له في ذلك، وبما أخبَرَه به غَيرُه منَ الصَّادِقينَ مَن يَطولُ هذا المَوضوعُ بذِكرِهم. ولكِنَّ كَثيرًا منَ النَّاسِ يُكَذِّبُ بهذا، وكَثيرًا منهم إذا صَدَّقَ به يَظُنُّ أنَّه منَ الآياتِ الإلهيَّةِ، وأنَّ الذي رَأى ذلك رَآه لصَلاحِه ودينِه، ولم يَعلَمْ أنَّه منَ الشَّيطانِ، وأنَّه بحَسَبِ قِلَّةِ عِلمِ الرَّجُلِ يُضِلُّه الشَّيطانُ [1265] ((مجموع الفتاوى)) (27/392). .

انظر أيضا: