موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالِثُ: تَقْديمُ العَقْلِ على النَّقْلِ، واتِّباعُ طَريقةِ الفَلاسِفةِ


الأشاعِرةُ يَتَّفِقونَ معَ الجَهْميَّةِ والمُعْتَزِلةِ في تَقْديمِ العَقْلِ على الأَدِلَّةِ النَّقْليَّةِ من الكِتابِ والسُّنَّة، وكلُّهم تَأثَّروا بطَريقةِ الفَلاسِفةِ، معَ أنَّه لا تَعارُضَ أصْلًا بَيْنَ العَقْلِ الصَّريحِ والنَّقْلِ الصَّحيحِ.
وقدْ قَرَّرَ أئِمَّةُ الأشاعِرةِ أنَّ الأَدِلَّةَ النَّقْليَّةَ وإن كانَتْ مِن القُرْآنِ الكَريمِ فَضْلًا عن الأحاديثِ المُتَواتِرةِ أو الآحادِ لا تُفيدُ اليَقينَ، فإذا حَصَلَ تَعارُضٌ بَيْنَها وبَيْنَ العَقْلِ فيَجِبُ عنْدَهم تَقْديمُ العَقْلِ؛ لأنَّ الأَدِلَّةَ العَقْليَّةَ قَطْعيَّةٌ، وأمَّا أَدِلَّةُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فهي ظَنِّيَّةٌ!
قالَ الفَخْرُ الرَّازِيُّ: (الدَّلائِلُ النَّقْليَّةُ لا تُفيدُ اليَقينَ؛ لأنَّها مَبْنيَّةٌ على نَقْلِ اللُّغاتِ، ونَقْلِ النَّحْوِ والتَّصْريفِ، وعَدَمِ الاشْتِراكِ، وعَدَمِ المَجازِ، وعَدَمِ الإضْمارِ، وعَدَمِ النَّقْلِ، وعَدَمِ التَّقْديمِ والتَّأخيرِ، وعَدَمِ التَّخْصيصِ، وعَدَمِ النَّسْخِ، وعَدَمِ المُعارِضِ العَقْليِّ. وعَدَمُ هذه الأشياءِ مَظْنونٌ لا مَعْلومٌ، والمَوْقوفُ على المَظْنونِ مَظْنونٌ، وإذا ثَبَتَ هذا ظَهَرَ أنَّ الدَّلائِلَ النَّقْليَّةَ ظَنِّيَّةٌ، وأنَّ العَقْليَّةَ قَطْعيَّةٌ، والظَّنُّ لا يُعارِضُ القَطْعَ) [726] ((معالم أُصول الدين)) (ص: 25). ويُنظر: ((الأربعين في أُصول الدين)) للرازي (2/ 251 - 254)، ((المَطالِب العالية من العلم الإلهي)) للرازي (9/ 113 - 117). .
وقال الرَّازِيُّ أيضًا: (اعْلَمْ أنَّ الدَّلائِلَ القَطْعيَّةَ العَقْليَّةَ إذا قامَتْ على ثُبوثِ شيءٍ ثُمَّ وَجَدَنا أَدِلَّةً نَقْليَّةً يُشعِرُ ظاهِرها بخِلافِ ذلك فهناك لا يَخْلو الحالُ مِن أحَدِ أمورٍ أرْبَعةٍ: إمَّا أن يُصدِّقَ مُقْتَضى العَقْلِ والنَّقْلِ، فيَلزَمَ تَصْديقُ النَّقيضينِ، وهو مُحالٌ، وإمَّا أن يَبطُلَ فيَلزَمَ تَكْذيبُ النَّقيضينِ، وهو مُحالٌ، وإمَّا أن يُصدِّقَ الظَّواهِرَ النَّقْليَّةَ ويُكذِّبَ الظَّواهِرَ العَقْليَّةَ، وذلك باطِلٌ؛ لأنَّه لا يُمكِنُنا أن نَعرِفَ صِحَّةَ الظَّواهِرِ النَّقْليَّةِ إلَّا إذا عَرَفْنا بالدَّلائِلِ العَقْليَّةِ إثْباتَ الصَّانِعِ وصِفاتِه، وكَيَّفيةَ دَلالةِ المُعجِزةِ على صِدْقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وظُهورَ المُعجِزاتِ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو جَوَّزْنا القَدْحَ في الدَّلائِلِ العَقْليَّةِ القَطْعيَّةِ صارَ العَقْلُ مُتَّهَمًا غَيْرَ مَقْبولِ القَوْلِ، ولو كانَ كذلك لَخَرَجَ أن يكونَ مَقْبولَ القَوْلِ في هذه الأُصولِ، وإذا لم نُثبِتْ هذه الأُصولَ خَرَجَتِ الدَّلائِلُ النَّقْليَّةُ عن كَوْنِها مُفيدةً، فثَبَتَ أنَّ القَدْحَ لتَصْحيحِ النَّقْلِ يُفْضي إلى القَدْحِ في العَقْلِ والنَّقْلِ معًا، وأنَّه باطِلٌ، ولمَّا بَطَلَتِ الأقْسامُ الأرْبَعةُ لم يَبْقَ إلَّا أن يُقطَعَ بمُقْتَضى الدَّلائِلِ العَقْليَّةِ القاطِعةِ بأنَّ هذه الدَّلائِلَ النَّقْليَّةَ إمَّا أن يُقالَ: إنَّها غَيْرُ صَحيحةٍ، أو يُقالَ: إنَّها صَحيحةٌ إلَّا أنَّ المُرادَ مِنها غَيْرُ ظَواهِرِها، ثَّم إن جَوَّزْنا التَّأويلَ واشْتَغَلْنا على سَبيلِ التَّبرُّعِ بذِكْرِ تلك التَّأويلاتِ على التَّفْصيلِ، وإن لم يَجُزِ التَّأويلُ فَوَّضْنا العِلمَ بِها إلى اللهِ تَعالى، فهذا هو القانونُ الكُلِّيُّ المَرْجوعُ إليه في جَميعِ المُتَشابِهاتِ، وباللهِ التَّوْفيقُ) [727] ((أساس التقديس في علم الكلام)) (ص: 130). .
وقدْ قَرَّرَ بعضُ الأشاعِرةِ على اضْطِرابٍ وتَرَدُّدٍ أنَّ الدَّلائِلَ النَّقْليَّةَ قد تُفيدُ اليَقينَ، قالَ الإيجيُّ: (الدَّلائِل النَّقْليَّةُ هل تُفيدُ اليَقينَ بما يُسْتدَلُّ بها عليه مِن المَطالِبِ أو لا؟ قيلَ: لا تُفيدُ، وهو مَذهَبُ المُعْتَزِلةِ وجُمْهورِ الأشاعِرةِ...، والحَقُّ أنَّها -أي: الدَّلائِلَ النَّقْليَّةَ- قد تُفيدُ اليَقينَ، أي: في الشَّرْعيَّاتِ، بقَرائِنَ مُشاهَدةٍ مِن المَنْقولِ عنه أو مُتَواتِرةٍ نُقِلَتْ إلينا تَواترًا، تَدُلُّ تلك القَرائِنُ على انْتِفاءِ الاحْتِمالاتِ المَذْكورةِ، فإنَّا نَعلَمُ اسْتِعْمالَ لَفْظِ الأرْضِ والسَّماءِ ونَحْوِهما مِن الألْفاظِ المَشْهورةِ المُتَداوَلةِ فيما بَيْنَ جَميعِ أهْلِ اللُّغةِ في زَمَنِ الرَّسولِ في مَعانيها الَّتي تُرادُ مِنها الآنَ، والتَّشْكيكُ فيه سَفْسَطةٌ لا شُبْهةَ في بُطْلانِها، وكَذا الحالُ في صيغةِ الماضي والمُضارِعِ والأمْرِ، واسْمِ الفاعِلِ وغَيْرِها، فإنَّها مَعْلومةُ الاسْتِعْمالِ في ذلك الزَّمانِ فيما يُرادُ مِنها في زَمانِنا، وكَذا رَفْعُ الفاعِلِ، ونَصْبُ المَفْعولِ، وجَرُّ المُضافِ إليه ممَّا عُلِمَ مَعانيها قَطْعًا، فإذا انْضَمَّ إلى مِثلِ هذه الألْفاظِ قَرائِنُ مُشاهَدةٌ أو مَنْقولةٌ تَواتُرًا تَحَقَّقَ العِلمُ بالوَضْعِ والإرادةِ، وانْتَفَتْ تلك الاحْتِمالاتُ التِّسْعةُ، وأمَّا عَدَمُ المُعارِضِ العَقْليِّ فيُعلَمُ مِن صِدْقِ القائِلِ، فإنَّه إذا تَعيَّنَ المَعْنى وكانَ مُرادًا له فلو كانَ هناك مُعارِضٌ عَقْليٌّ لَزِمَ كَذِبُه، نَعمْ، في إفادتِها اليَقينَ في العَقْليَّاتِ نَظَرٌ؛ لأنَّه -أي: كَوْنَها مُفيدةً لليَقينِ- مَبْنيٌّ على أنَّه: هل يَحصُلُ بمُجَرَّدِها -أي بمُجَرَّدِ الدَّلائِلِ النَّقْليَّةِ، والنَّظَرِ فيها، وكَوْنِ قائِلِها صادِقًا- الجَزْمُ بعَدَمِ المُعارِضِ العَقْليِّ، وأنَّه: هل للقَرينةِ الَّتي تُشاهَدُ أو تُنقَلُ تَواتُرًا مَدخَلٌ في ذلك، أي: الجَزْمِ بعَدَمِ المُعارِضِ العَقْليِّ، وهُما -أي: حُصولُ ذلك الجَزْمِ بمُجَرَّدِها، ومَدخَليَّةُ القَرينةِ فيه- ممَّا لا يُمكِنُ الجَزْمُ بأحَدِ طَرَفيه، أي: النَّفْيِ والإثْباتِ؛ فلا جَرَمَ كانت إفادتُها اليَقينَ في العَقْليَّاتِ مَحَلَّ نَظَرٍ وتَأمُّلٍ) [728] ((المواقف مع شرح الجُرْجانيِ)) (1/ 205، 209). .
فالأصْلُ عنْدَ الأشاعِرةِ تَقْديمُ العَقْلِ على النَّقْلِ، بل ذَكَرَ السَّنوسيُّ الأَشْعَرِيُّ أنَّ مِن أُصولِ الكُفْرِ التَّمسُّكَ في أُصولِ العَقائِدِ بمُجَرَّدِ ظَواهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ مِن غَيْرِ عَرْضِها على البَراهينِ العَقْليَّةِ والقَواطِعِ الشَّرْعيَّةِ؛ للجَهْلِ بأَدِلَّةِ العُقولِ، وعَدَمِ الارْتِباطِ بأساليبِ العَرَبِ [729] يُنظر: ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 217). .
وهذا كلُّه مِن آثارِ عِلمِ الكَلامِ والفَلْسَفةِ الَّتي خاضَ فيها أئِمَّةُ الأشاعِرةِ، فتَفَوَّهوا بمِثلِ هذا الكَلامِ [730] قد تقَدَّم في البابِ الثَّاني في الفَصْلِ الرَّابِعِ الخاصِّ بتطَوُّرِ مَذهَبِ الأشاعِرةِ بَيانُ تأثيرِ الفَلْسَفةِ في المذهَبِ الأَشْعَرِيِّ، ولمَعْرِفةِ أثَرِ الفَلاسِفةِ في كُتُبِ الأشاعِرةِ يُنظر: ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) للشهرستاني (ص: 37، 184)، ((أساس التقديس في علم الكلام)) للرازي (ص: 16)، ((غاية المرام في علم الكلام)) للآمدي (ص: 203، 51)، ((شرح العَقائِد النسفية)) للتفتازاني (ص: 12)، ((حاشية الدسوقي على أم البراهين)) (ص: 70 - 72). . واللهُ المُسْتعانُ.
فالأشاعِرةُ بسَبَبِ تَقْديمِهم العَقْلَ على النَّقْلِ، وبسَبَبِ تَأثُّرِهم بالفَلاسِفةِ وعُلَماءِ الكَلامِ، يَخوضونَ في آياتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ بجَراءةٍ، ولا يُبالونَ أن يَقولوا فيها قَوْلًا لم يُسبَقوا إليه.
ومِن ذلك قَوْلُ القُشَيْريِّ في تَفْسيرِ قَوْلِه تَعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [الملك: 16] (مَنْ فِي السَّمَاءِ: أرادَ بهم المَلائِكةَ الَّذين يَسكُنونَ السَّماءَ، فهُمْ مُوَكَّلونَ بالعَذابِ، وخَوَّفَهم بالمَلائِكةِ أن يُنزِلوا عليهم العُقوبةَ مِن السَّماءِ، أو يَخْسِفوا بهم الأرْضَ، وكذلك خَوَّفَهم أن يُرسِلوا عليهم حِجارةً كما أَرسَلوا على قَوْمِ لوطٍ!) [731] ((لطائف الإشارات)) (3/ 614). .
ومِن ذلك قَوْلُ الفَخْرِ الرَّازِيِّ في تَأويلِ قَوْلِه تَعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] : (الرَّبُّ هو المُرَبِّي، فلَعلَّ مَلَكًا عَظيمًا هو أَعظَمُ المَلائِكةِ كانَ مُرَبِّيًا للنَّبيِّ، وكانَ هو المُرادَ مِن قَوْلِه: وَجَاءَ رَبُّكَ!) [732] ((أساس التقديس في علم الكلام)) (ص: 87). .
ومِن ذلك ما يُقَرِّرُه الأشاعِرةُ المُتَأخِّرونَ مِن الاعْتِقادِ العَجيبِ الغَريبِ الَّذي لا يَعرِفُه أحَدٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وأتْباعِهم، ولا يَقبَلُه أيُّ مُسلِمٍ لم يُفْسِدوا فِطْرتَه، ولم يُلَوِّثوا عَقْلَه بالفَلْسَفةِ، وهو قَوْلُهم: إنَّ اللهَ ليس بداخِلِ العالَمِ ولا خارِجِه، ولا فوقَ ولا تحتَ [733] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعْتِقاد)) للغزالي (ص: 37)، ((أساس التقديس في علم الكلام)) للفخر الرَّازِيّ (ص: 19)، ((المواقف)) للإيجي مع شرح الجُرْجاني (3/ 31)، ((براءة الأشعريين من عَقائِد المُخالِفين)) للحامدي (1/ 82). !
قال أبو المُظفَّرِ السَّمعانيُّ: (اعلَمْ أنَّ فَصلَ ما بيننا وبَينَ المبتَدِعةِ هو مسألةُ العقلِ؛ فإنَّهم أسَّسوا دينَهم على المعقولِ، وجعَلوا الاتِّباعَ والمأثورَ تبَعًا للمعقولِ، وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ قالوا: الأصلُ الاتِّباعُ، والعقولُ تَبَعٌ، ولو كان أساسُ الدِّينِ على المعقولِ لاستغنى الخَلقُ عن الوَحيِ وعن الأنبياءِ صلَواتُ اللهِ عليهم، ولبَطَل معنى الأمرِ والنَّهيِ، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدِّينُ بُني على المعقولِ وَجَب ألَّا يجوزَ للمُؤمنينَ أن يَقبَلوا شيئًا حتى يَعقِلوا، ونحن إذا تدبَّرْنا عامَّةَ ما جاء في أمرِ الدِّينِ مِن ذِكرِ صفاتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وما تعَبَّدَ النَّاسَ به من اعتقادِه، وكذلك ما ظهَر بينَ المُسلِمينَ وتداولوه بينهم ونقَلوه عن سلَفِهم إلى أن أسنَدوه إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ذِكرِ عذابِ القبرِ، وسؤالِ الملَكينِ، والحَوضِ، والميزانِ، والصِّراطِ، وصفاتِ الجنَّةِ، وصِفاتِ النَّارِ، وتخليدِ الفريقَينِ فيهما؛ أمورٌ لا ندرِكُ حقائقَها بعُقولِنا، وإنَّما ورَد الأمرُ بقَبولِها، والإيمانِ بها، فإذا سمِعْنا شيئًا من أمورِ الدِّينِ وعقَلْناه وفَهِمْناه، فلله الحَمدُ في ذلك والشُّكرُ، ومنه التَّوفيقُ، وما لم يمكِنَّا إدراكُه وفَهمُه، ولم تبلُغْه عُقولُنا؛ آمَنَّا به وصَدَّقْنا، واعتقَدْنا أنَّ هذا من قِبَلِ ربوبيَّتِه وقُدرتِه، واكتَفَينا في ذلك بعِلمِه ومشيئتِه، وقال تعالى في مِثلِ هذا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، وقال اللهُ تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] ) [734] ((الانتصار لأصحاب الحديث)) (ص: 81). .

انظر أيضا: