موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: عَقيدةُ المُتَصَوِّفةِ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


غَلا كَثيرٌ منَ المُتَصَوِّفةِ غُلوًّا مُفرِطًا في النَّبيِّ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى رَفعوه فوقَ مَنزِلتِه التي أنزَله اللهُ فيها، واعتَقدوا فيه عَقائِدَ باطِلةً لا أساسَ لها منَ الصِّحَّةِ، ومن ذلك:
1- اعتِقادُهم بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُلِقَ من نورٍ، وأنَّه أوَّلُ مَخلوقٍ على الإطلاقِ، وأنَّ اللهَ خَلقَ من نورٍ مُحَمَّدٍ جَميعَ ما في هذا الكَونِ
قال أحمَدُ بنُ المُبارَكِ السِّجِلماسيُّ راويًا عن شَيخِه عبدِ العزيزِ الدَّبَّاغِ: (سَمِعتُه رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ في قَولِه: "وانفلقَتِ الأنوارُ": إنَّ أوَّلَ ما خَلق اللهُ تعالى نورُ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ خَلقَ منه القَلمَ والحُجُبَ السَّبعينَ ومَلائِكَتَها، ثمَّ خَلقَ اللَّوحَ، ثمَّ قَبل كَمالِه وانعِقادِه خَلَق العَرشَ والأرواحَ والجَنَّةَ والبَرزَخَ)، ثمَّ قال مُفصِّلًا ما مَضى: (ثمَّ إنَّ اللهَ تعالى خَلق مَلائِكةَ الأرَضينَ من نورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَرَهم أن يَعبُدوه عليها، وأمَّا الأرواحُ والجَنَّةُ إلَّا مَواضِعَ منها فإنَّها أيضًا خُلِقَت من نورٍ، وخُلقَ ذلك النُّورُ من نورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا البَرزَخُ فنَصِفُه الأعلى من نورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فخَرَجَ من هذا أنَّ القَلمَ واللَّوحَ ونِصفَ البَرزَخِ والحُجُبَ السَّبعينَ جَميعَ مَلائِكَتِها وجَميعَ مَلائِكةِ السَّمَواتِ والأرَضينَ، كُلُّها خُلِقَت من نورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلا واسِطةٍ، وأنَّ العَرشَ والماءَ والجَنَّةَ والأرواحَ خُلِقَت من نورٍ خُلِق من نورِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [217] ((الإبريز)) (ص: 252). .
إنَّ ادِّعاءَ المُتَصَوِّفةِ ذلك ليس عليه أيُّ دَليلٍ صَحيحٍ يُثبتُ دَعواهم سِوى هذا الحَديثِ المَوضوعِ: ((أوَّلُ ما خَلق اللهُ نورُ نَبيِّك يا جابِرُ)) [218] أخرجه عبد الرزاق كما في ((كشف الخفاء)) للعجلوني (1/265) باختلافٍ يسيرٍ. قال الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/820): باطِلٌ. . والحَديثُ المَوضوعُ لا يَصلُحُ أن يَكونَ دَليلًا لإثباتِ مَسألةٍ عامَّةٍ فضلًا عن أن يَكونَ دَليلًا لإثباتِ مَسألةٍ عَقديَّةٍ.
وقد أخبَرَنا اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّ أوَّلَ مَخلوقٍ بَشَريٍّ هو أبونا آدَمُ عليه السَّلامُ، وبَيَّنَ لنا من أيِّ شَيءٍ خَلَقَه، وذَكَرَ لنا المَراحِلَ التي مَرَّ بها أثناءَ إنشائِه، فقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12- 13] .
وقال اللهُ سبحانه: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص: 71- 72] .
فهذه الآياتُ وغَيرُها تُثبتُ بوُضوحٍ أنَّ أصلَ الإنسانِ من طينٍ، وأنَّ أوَّلَ مَخلوقٍ بَشَريٍّ هو أبونا آدَمُ عليه السَّلامُ، وبما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو أحَدُ أفرادِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ عليه السَّلامُ فأصلُه من تُرابٍ؛ ولهذا فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس أوَّلَ مَخلوقٍ، ولا هو مَخلوقٌ من نورٍ كما تَدَّعي الصُّوفيَّةُ، بل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وُلِد من أبٍ وأمٍّ قُرَشيَّينِ مَعروفينِ، نَعَم، إنَّ مَكانتَه عاليةٌ، ومَنزِلتَه ساميةٌ، وقد فضَّله رَبُّه سُبحانَه بالرِّسالةِ الخاتِمةِ، ولكِن مَعَ ذلك كُلِّه فهو عَبدٌ للَّهِ، قد وصَفه اللهُ تعالى بالعُبوديَّةِ في أشرَفِ المَواضِعِ، كما في قَولِ اللهِ سُبحانَه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الإسراء: 1] .
وقد أمَرَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ أن يَقولَ: إنَّه بَشَرٌ مِثلُنا، فقال اللهُ تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .
2- قَولُهم: إنَّ جَميعَ الأنبياءِ فاضَت عليهمُ العُلومُ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال أحمَدُ بنُ المُبارَكِ السِّجِلماسيُّ راويًا عن شَيخِه عبدِ العزيزِ الدَّبَّاغِ: (سَمِعتُه رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ مَرَّةً أخرى: إنَّ الأنبياءَ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإن سُقوا من نورِه لم يَشرَبوه بتَمامِه، بل كُلُّ واحِدٍ يَشرَبُ منه ما يُناسِبُه وكُتِبَ له؛ فإنَّ النُّورَ المُكَرَّمَ ذو ألوانٍ كَثيرةٍ وأحوالٍ عَديدةٍ وأقسامٍ كَثيرةٍ، فكُلُّ واحِدٍ شَرِبَ لونًا خاصًّا ونَوعًا خاصًّا. قال رَضِيَ اللهُ عنه: فسَيِّدُنا عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرِبَ منَ النُّورِ المُكرَّمِ فحَصَل له مَقامُ الغُربةِ، وهو مَقامٌ يَحمِلُ صاحِبَه على السِّياحةِ وعَدَمِ القَرارِ في مَوضوعٍ واحِدٍ، وسَيِّدُنا إبراهيمُ شَرِبَ منَ النُّورِ المُكرَّمِ فحَصَل له مَقامُ الرَّحمةِ والتَّواضُعِ مَعَ المُشاهَدةِ الكامِلةِ، فتَراه إذا تَكَلَّمَ مَعَ أحَدٍ يُخاطِبُه بلينٍ ويُكَلِّمُه بتَواضُعٍ عَظيمٍ، فيَظُنُّ المُتَكَلِّمُ أنَّه يَتَواضَعُ له، وهو إنَّما يَتَواضَعُ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لقوَّةِ مُشاهَدَتِه، وسَيِّدُنا موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَرِبَ منَ النُّورِ المُكرَّمِ فحَصَل له مَقامُ مُشاهَدةِ الحَقِّ سُبحانَه في نِعَمِه وخَيراتِه وعَطاياه التي لا يُقدَرُ قَدْرُها، وهكذا سائِرُ الأنبياءِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ والمَلائِكةِ الكِرامِ، واللهُ أعلمُ) [219] ((الإبريز)) (ص: 254). .
وقال البُوصَيريُّ في مَدحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وإنَّ من جودِك الدُّنيا وضَرَّتَها
ومن عُلومِك عِلمَ اللَّوحِ والقَلَمِ
وكُلُّ آيٍ أتى الرُّسْلُ الكِرامُ بها
فإنَّما اتَّصَلَت من نورِه بِهِم [220] ((بردة المديح)) (ص: 14، 15). .
وليس للصُّوفيَّةِ دَليلٌ يَستَنِدونَ عليه لإثباتِ هذا المُعتَقَدِ لا من كِتابِ اللهِ ولا من سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
والأنبياءُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تُفَضْ عليهمُ العُلومُ منَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يَزعُمونَ، بل نَزَلت عليهم منَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وحيًا، كما نَزَلت على النَّبيِّ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وممَّا يَدُلُّ على هذا قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] فهذه الآيةُ تُفيدُ أنَّ جَميعَ الأنبياءِ عليهمُ السَّلامُ نَزَل عليهمُ الوحيُ منَ اللهِ سُبحانَه، ولم تَفِضْ عليهمُ العُلومُ من نورِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما يَزعُمُ بَعضُ الصُّوفيَّةِ.
وقد أخبَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يَعرِفُ الكِتابَ ولا الإيمانَ قَبلَ أن يوحيَ اللهُ تعالى إليه، فكَيف أخَذَ الأنبياءُ منه العُلومَ التي أُوحيَت إليهم؟ وفي هذا يَقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ... [الشورى: 52] . وإذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَدري ما الكِتابُ ولا الإيمانُ قَبلَ أن يوحيَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ إليه، فمِن بابِ أَولى أنَّ الأنبياءَ لم يَأخُذوا العُلومَ التي أُوحيَت إليهم منه، كما أنَّ الأنبياءَ السَّابقينَ قد أوحيَ إليهم قَبلَ أن يُخلَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَظهَرَ في الوُجودِ.
3- اعتِقادُهم بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنفَعُ ويَضُرُّ من دونِ اللهِ تعالى، والتَّوجُّهُ إليه بالدُّعاءِ والاستِغاثةِ به
غَلا المُتَصَوِّفةُ غُلوًّا مُفرِطًا في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى رَفعوه من مَقامِ العُبوديَّةِ إلى مَقامِ الألوهيَّةِ؛ فقد تَوجَّهوا إليه بأنواعٍ منَ العِباداتِ التي لا يَنبَغي صَرفُها لغَيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. ومن ذلك ما نَظَمَه مُحَمَّد الفِقي في إحدى قَصائِدِه في مَدحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَوسِّلًا ومُستَغيثًا به، فممَّا قاله:
إلى مَصدَرِ الأنوارِ والأُنسِ نُهرَعُ
وفي السَّاحةِ العُليا نَحُطُّ ونَفزَعُ
حِماك مَلاذُ اللَّاجِئينَ وقَصدُهم
يَطوفُ به وفدٌ وآخَرُ يَضرَعُ
ألَا يا رَسولَ اللهِ ما ليَ مَلجَأٌ
سِواك أناجيه وجاهُك واسِعُ
أناجيك في سِرِّي وأدعوك جَهرةً
يهيِّجُني وجدٌ وشَوقٌ ومَطمَعُ
وليس بخافٍ أنَّني كُنتُ دائِمًا
أروحُ بحُبِّي في رِضاك وأرجِعُ
وما ذاكَ إلَّا أنَّك الفَضلُ كُلُّه
وأنَّك غَوثٌ للأنامِ ومَفزَعُ
وأنَّك يَومَ العَرضِ حِصنٌ ومَوئِلٌ
رؤوفٌ رَحيمٌ شافِعٌ ومُشَفَّعُ
فيا مَن عَهِدْناه الوسيلةَ للوَرى
يُلبِّي دُعاءَ المُستَجيرِ ويَسمَعُ
ويا مَن عَهِدْناه الشَّفيعَ إذا دَعا إلى
المَوقِفِ الدَّاعي وعَمَّ التَّطَلُّعُ
سَألتُك فضلًا يُسعِفُ القَلبَ والنُّهى
يَقومُ به مِثلي ويَحيا ويَخشَعُ
فجُدْ لي به واعطِفْ فعَطفُك نِعمةٌ
وكُلُّ الورى يَصبو إليه ويَطمَعُ
ألسْتَ لنا بَعدَ المُهَيمِنِ رَحمةً
وبابًا لعَفوِ اللهِ والكُلُّ يَقرَعُ
فيا سَيِّدي إنِّي على الباب قائِمٌ
أموتُ وأحيا هَواك وأُولَعُ [221] ((التوسل والزيارة)) (ص: 134). .
فهذه الأبياتُ فيها شِركٌ صَريحٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ حَيثُ صَرَف للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِباداتٍ لا يَنبَغي صَرفُها لغَيرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ المَعبودَ هو اللهُ سُبحانَه وتعالى وحدَه لا شَريكَ له، أمَّا غَيرُه فكُلُّهم عَبيدٌ له سُبحانَه يَتَصَرَّفُ فيهم كما يَشاءُ.
وقد نَهى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عنِ الغُلوِّ، فقال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77] .
كما أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَذَّر منَ الغُلوِّ والإطراءِ فيه في عِدَّةِ أحاديثَ؛ منها قَولُه: ((لا تُطْروني كما أطرَتِ النَّصارى عيسى بنَ مَريَمَ؛ إنَّما أنا عَبدٌ، فقولوا: عَبدُ اللَّهِ ورَسولُه)) [222] أخرجه البخاري (3445) من حَديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، بلفظِ: ((لا تُطْروني كَما أطرَتِ النَّصارى ابنَ مَريَمَ؛ فإنَّما أنا عَبدُه، فقولوا: عَبدُ اللَّهِ ورَسولُه)). .
وقد أمرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَقولَ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] ؛ ففي هذه الآيةِ نَفى اللهُ عن رَسولِه مِلكَ النَّفعِ والضَّرِّ، وأنَّه لو كان يَملِكُ ذلك لَما أصابَه السُّوءُ، بل لدَفَعَه عنه، ومَعروفٌ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أصيبَ في حُروبِه مَعَ المُشرِكينَ إصاباتٍ كما في غَزوةِ أحُدٍ [223] لفظُه: عن سَهلٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سُئِل عن جُرحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ أحُدٍ، فقال: جُرحَ وَجهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُسِرَت رَباعِيَتُه، وهُشِمَتِ البَيضةُ على رَأسِه، فكانت فاطِمةُ عَليها السَّلامُ تَغسِلُ الدَّمَ وعَليٌّ يُمسِكُ، فلمَّا رَأت أنَّ الدَّمَ لا يَزيدُ إلَّا كَثرةً أخَذَت حَصيرًا فأحرَقَته حتَّى صارَ رَمادًا، ثمَّ ألزَقَته، فاستَمسَكَ الدَّمُ. أخرجه البخاري (2911) واللفظ له، ومسلم (1790). . فلو كان يَملِكُ تَفريجَ الكُرُباتِ لفرَّجَ عن نَفسِه، ولكِنَّه لا يَملِكُ شَيئًا من ذلك، بل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعو اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، واللهُ يُفرِّجُ عنه إذا شاءَ؛ فهو عَبدٌ من عِبادِ اللهِ فضَّله اللهُ تعالى بالرِّسالةِ، ولكِنْ مَعَ ذلك لم يَخرُجْ عن كَونِه عَبدًا للَّهِ سُبحانَه.
والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُرسِلْه اللهُ تعالى إلَّا للنَّهيِ عنِ الشِّركِ باللهِ، والدَّعوةِ إلى تَوحيدِه؛ فكُلُّ مَن يَدعو غَيرَ اللهِ يُعَدُّ مُحادًّا للَّهِ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه يُريدُ أن يُعيدَ الشِّركَ الذي وصَفه اللهُ سُبحانَه بأنَّه أعظَمُ ظُلمٍ، وحارَبَه رَسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
إنَّ المَخلوقَ لا يَملِكُ لنَفسِه نَفعًا ولا ضَرًّا، سَواءٌ أكان نَبيًّا أو مَلَكًا أو وليًّا، فالكُلُّ عَبيدٌ للَّهِ تعالى، فالتَّوجُّهُ إليهم بالدُّعاءِ مِثلُ الذي يُريدُ إيصالَ الماءِ إلى فيه مَعَ بَسطِ كَفَّيه، وهذا تَشبيهٌ دَقيقٌ، قال اللهُ تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ [الرعد: 14] .
وقال اللهُ سُبحانَه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا [الإسراء: 56] .
وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 64] .
وقال اللهُ تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .

انظر أيضا: