موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مُصطَلحاتُ الصُّوفيَّةِ


استَعمَل الصُّوفيَّةُ العَديدَ منَ المُصطَلحاتِ ليُعَبِّروا بها عنِ المَعاني والأفكارِ الصُّوفيَّةِ، فكانت لها مَعانيها الخاصَّةُ، ومن ذلك: مُصطَلَحُ الغَيبةِ، والسُّكْرِ، والمَحْوِ، والحُضورِ، والصَّحْوِ، والجَمعِ، والفَناءِ [70] يُنظر لهذا المبحث: ((دراسات في التصوف)) لظهير (ص: 298- 311)، ((مفهوم التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي)) للشوبكي (مجلة الجامعة الإسلامية - المجلد 10) (ص: 45- 49). وللاستزادة يُنظر: ((التصوف - المنشأ والمصادر)) لظهير (ص: 95، 96)، ((معجم ألفاظ الصوفية) للشرقاوي (ص: 212، 217، 227، 124). .
أوَّلًا: مُصطلَحُ الغَيبةِ
وهي عِندَهم: (أن يَغيبَ عن حُظوظِ نَفسِه فلا يَراها) [71] ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) (ص: 140). .
قال القُشَيريُّ والكُمُشْخانَويُّ: (هي غَيبةُ القَلبِ عن عِلمِ ما يَجري من أحوالِ الخَلقِ بما يَرِدُ عليه، ثمَّ قد يَغيبُ عن غَيرِه فقط، وقد يَغيبُ عن غَيرِه وعن نَفسِه أيضًا إذا عَظُمَ الوارِدُ) [72] ((الرسالة)) (1/232)، ((جامع الأصول في الأولياء)) (ص: 254). .
وقال الهُجْويريُّ: (المُرادُ منَ الغَيبةِ غَيبةُ القَلبِ عَمَّا دُونَ الحَقِّ إلى حَدِّ أن يَغيبَ عن نَفسِه، حتَّى أنَّه بغَيبَتِه عن نَفسِه لا يَرى نَفسَه) [73] ((كشف المحجوب)) (ص: 489). . وبمِثلِ ذلك قال الطُّوسيُّ [74] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 416). .
ونَقَل عَبدُ الحَليم مَحمود عن أحمَدَ الدَّرديرِ أنَّه قال مُبَيِّنًا حالةَ غَيبَتِه عن نَفسِه: (حتَّى لو تَكَلَّمَ النَّاسُ وأنا مَعَهم بكَلامٍ وخاطَبوني به، لا أدري ما قالوا، وهم لا يَعلمونَ منِّي هذا الحالَ؛ لأنَّ صورَتي الظَّاهريَّةَ صورةُ العاقِلِ الصَّاحي، وهذا أمرٌ عَجيبٌ لا يَعرِفُه إلَّا مَن ذاقَه) [75] ((سيدي أحمد الدردير)) (ص: 77). .
وهذا مَقامٌ عالٍ عِندَهم يَحوزُه كِبارُ أوليائِهم ومَشايِخهم، فيَحكونَ عن ذي النُّونِ المِصريِّ أنَّه: (بَعَثَ إنسانًا من أصحابِه إلى أبي يَزيدَ ليَنقُلَ إليه صِفةَ أبي يَزيدَ، فلمَّا جاءَ الرَّجُلُ إلى بسِطامٍ سَأل عن دارِ أبي يَزيدَ، فقال له أبو يَزيدَ: ماذا تُريدُ؟ فقال: أريدُ أبا يَزيدَ. فقال: مَن أبو يَزيدَ؟ وأينَ أبو يَزيدَ؟ أنا في طَلَبِ أبي يَزيدَ! فخَرَجَ الرَّجُلُ وقال: هذا مَجنونٌ. ورَجَعَ الرَّجُلُ إلى ذي النُّونِ فأخبَرَه بما شاهَدَ، فبَكى ذو النُّونِ وقال: أخي أبو يَزيدَ ذَهَبَ في الذَّاهبينَ إلى اللهِ) [76] يُنظر: ((الرسالة)) للقشيري (1/234، 235)، ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص: 490)، ((إيقاظ الهمم)) لابن عجيبة (ص: 308)، ((مشارق أنوار القلوب)) للدباغ (ص: 103)، ((ترصيع الجواهر المكية)) للرافعي (ص: 42). .
ثانيًا: مُصطَلَحُ السُّكْرِ
قالوا: (السُّكْرُ هو أن يَغيبَ الإنسانُ عن تَمييزِ الأشياءِ) [77] يُنظر: ((التعرف لمذهب أهل التصوف)) للكلاباذي (ص: 138). .
وقال شِهابُ الدِّينِ السُّهرَوَرديُّ: (السُّكْرُ سانِحٌ قُدسيٌّ للنَّفسِ يُؤَدِّي إلى إبطالِ النِّظامِ عنِ الحَرَكاتِ) [78] ((كلمة التصوف)) للسهروردي ضمن رسالة ((في شرح بعض مصطلحات الصوفية)) (ص: 125). .
وذَكَره المُنوفيُّ الحُسَينيُّ بقَولِه: (السُّكْرُ غَيبةٌ بوارِدِ شُهودِ الخَلقِ) [79] ((جمهرة الأولياء)) (1/304). .
وقال الطُّوسيُّ: (السُّكْرُ مَعناه قَريبٌ من مَعنى الغَيبةِ، غَيرَ أنَّ السُّكْرَ أقوى منَ الغَيبةِ) [80] ((اللمع)) (ص: 416). .
ثالثًا: مُصطَلَحُ المحْوِ
قال الكُمُشْخانويُّ: (إذا غَلبَ عليه أي الصُّوفيِّ المَحْوُ، فلا عِلمَ ولا عَقلَ ولا فَهمَ ولا حِسَّ) [81] ((جامع الأصول في الأولياء)) (ص: 126). .
وقد ذَكَروا عن أبي عَبدِ اللَّهِ التُّروغنديُّ أنَّه (ما كان يُفيقُ إلَّا في أوقاتِ الصَّلاةِ، يُصَلِّي الفريضةَ ثمَّ يَعودُ إلى حالتِه، فلم يَزَلْ كَذلك إلى أن ماتَ) [82] يُنظر: ((الرسالة)) للقشيري (1/321). .
رابعًا: مُصطَلَحُ الحُضورِ والصَّحْوِ
الحُضورُ والصَّحوُ هما: (رُجوعُ الصُّوفيِّ إلى الإحساسِ بَعدَ غَيبةِ عَقلِه وإحساسِه) [83] يُنظر: ((اللمع)) للطوسي (ص: 416)، ((كشف المحجوب)) للهجويري (ص: 490)، ((جامع الأصول)) للكمشخانوي (ص: 229)، ((كلمة التصوف)) للسهروردي (ص: 125)، ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 305). .
وذَكَرَ الهُجْويريُّ أنَّ داوُدَ عليه السَّلامُ رَأى امرَأةَ أوريا في حالةِ السُّكْرِ، فقال: (وقَعَ نَظَرُ داوُدَ عليه السَّلامُ على ما لم يَكُنْ يَنبَغي له أن يَنظُرَ إليه -أي على امرَأةِ أوريا- وكان ذلك في حالةِ السُّكْرِ، أمَّا نَظَرُ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى امرَأةِ زَيدٍ فكانت تلك النَّظرةُ في مَحَلِّ الصَّحوةِ) [84] ((كشف المحجوب)) (ص: 414). .
خامِسًا: مُصطَلَحُ الجَمعِ
قيل هو: (شُهودُ الحَقِّ بلا خَلقٍ، وجَمعُ الجَمعِ شُهودُ الخَلقِ قائِمًا بالحَقِّ، ويُسَمَّى الفرقَ بَعدَ الجَمعِ) [85] ((اصطلاحات الصوفية)) للقاشاني (ص: 41)، ((متممات جامع الأصول في الأولياء)) للكمشخانوي (ص: 80)، ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (ص: 302). .
وذَكَر القُشَيريُّ أنَّ (جَمعَ الجَمعِ: الاستِهلاكُ بالكُلِّيَّةِ، وفناءُ الإحساسِ بما سِوى اللهِ عَزَّ وجَلَّ عِندَ غَلَباتِ الحَقيقةِ... فالعَبدُ يُطالِعُ نَفسَه في هذه الحالةِ في تَصريفِ الحَقِّ سُبحانَه، يَشهَدُ مَبدَأَ ذاتِه وعَينَه بقُدرَتِه، ومجرى أفعالِه وأحوالِه عليه بعِلمِه ومَشيئَتِه) [86] ((الرسالة القشيرية)) (1/225، 226). .
وقد جَمَعَ هذه المُصطَلَحاتِ ابنُ عَطاءِ اللهِ السَّكَندَريُّ، فقال: (وصاحِبُ حَقيقةٍ غابَ عنِ الخَلقِ بشُهودِ المَلكِ الحَقِّ، وفَنِيَ عنِ الأسبابِ بشُهودِ مُسَبِّبِ الأسبابِ، فهو عَبدٌ مواجَهٌ بالحَقيقةِ، ظاهِرٌ عليه سَناها، سالِكٌ للطَّريقةِ، قدِ استَولى على مَداها، غَيرَ أنَّه غَريقُ الأنوارِ، مَطموسُ الآثارِ، قد غابَ سُكرُه على صَحوِه، وجَمعُه على فَرقِه، وفَناؤُه على بَقائِه، وغَيبَتُه على حُضورِه) [87] ((الحكم العطائية)) (ص: 208). .
وشَرَحَ النَّفزيُّ الرَّنديُّ هذه العِبارةَ بقَولِه: (هذا هو حالُ الخاصَّةِ من أربابِ الحَقائِقِ، وهمُ الذينَ غابوا عن شُهودِ الخَلقِ بشُهودِ المَلِكِ الحَقِّ، فلم يَقَعْ لهم شُعورٌ بهم ولا التِفاتٌ إليهم، وفَنُوا عنِ الأسبابِ برُؤيةِ مُسَبِّبِ الأسبابِ، فلم يَرَوا لها فِعلًا ولا جَعلًا، فهم مواجَهونَ بحَقيقةِ الحَقِّ، ظاهِرٌ عليهم سَناها، أي: نورُها وضياؤُها، سالِكونَ طَريقةَ الحَقِّ، قدِ استَولَوا على مَداها، أي: وصَلوا إلى غايَتِها ومُنتَهاها، إلَّا أنَّهم غَرِقوا في بِحارِ أنوارِ التَّوحيدِ، مَطموسٌ عليهم آثارُ الوسايطِ والعَبيدِ، أي: مُغلَقٌ عليهم رُؤيةُ ذلك والشُّعورُ به، قد غَلبَ سُكرَهم، وهو: عَدَمُ إحساسِهم بالأغيارِ، على صَحْوِهم، وهو: وُجودُ إحساسِهم بها، وجَمعُهم، وهو ثُبوتُ وُجودِ الحَقِّ فردًا، على فَرقِهم، وهو ثُبوتُ وُجودِ الخَلقِ، وفَناؤهم، وهو: استِهلاكُهم في شُهودِ الحَقِّ على بَقائِهم، وهو شُعورُهم بالخَلقِ، وغَيبَتُهم وهو ذَهابُ أحوالِ الخَلقِ عن نَظَرِهم على حُضورِهم مَعَ الخَلقِ. ومَعاني هذه الألفاظِ -كما تراها- مُتَقارِبةٌ، وهي ألفاظٌ تَداوَلها الصُّوفيَّةُ المُحَقِّقونَ بَينَهم وعَبَّروها بها في كُتُبِهم، ووضَعوها على مَعانٍ اختَصُّوا بفهمِها؛ ليَتَعَرَّفَ بَعضُهم من بَعضِ ما يَتَخاطَبونَ به، ولهم ألفاظٌ كَثيرةٌ غَيرُها) [88] ((غيث المواهب العلية)) (2/208، 209). .
ولعَلَّ مَعنى اصطِلاحِ (الجَمعِ) يَتَّضِحُ أكثَرَ بنَصِّ الهُجْويريِّ؛ حَيثُ قال: (الجَمعُ هو أن يَصيرَ كُلُّ المُحِبِّ كُلَّ المَحبوبِ... وهو أن يَكونَ العَبدُ في الحُكمِ والِهًا ومَدهوشًا، ويَكونَ حُكمُه حُكمَ المَجانينِ... ويَقولُ واحِدٌ منَ المَشايِخِ: جاءَ دَرويشٌ إلى مَكَّةَ وأقامَ سَنةً في مُشاهَدةِ الكَعبةِ، فلم يَطعَمْ ولم يَشرَبْ ولم يَنَمْ ولم يَذهَبْ للطَّهارةِ؛ لاجتِماعِ همَّتِه برُؤيةِ البَيتِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد أضافه إلى نَفسِه فصارَ غِذاءَ جَسَدِه ومَشرَبَ رُوحِه... ومِثلُ جَمعِ همَّةِ المَجنونِ في ليلى؛ لأنَّه حينَما لم يَكُنْ يَراها كان كُلُّ العالمِ وكُلُّ المَوجوداتِ عِندَه صورةَ ليلى) [89] ((كشف المحجوب)) (ص: 498، 499). .
وكَثيرًا ما يَذكُرُ الصُّوفيَّةُ عِندَ بَيانِ مُصطَلحاتِهمُ العِشقَ الغَزَليَّ والحُبَّ الطَّبيعيَّ، ويُشَبِّهونَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ بمَعشوقٍ مَجازيٍّ، ويَحمِلونَ وصفَه سُبحانَه وتعالى على ليلى وغَيرِها، ثمَّ يُحاوِلونَ رَبطَ العَلاقةِ بَينَ الحُبَّينِ!
سادسًا: مُصطَلَحُ الفَناءِ
الفَناءُ عِندَ المُتَصَوِّفةِ: يَعني أن تَزولَ الصِّفاتُ البَشَريَّةُ في هذا المَقامِ، وتَبقى الصِّفاتُ الإلهيَّةُ، وتَفنى جِهةُ العَبدِ البَشَريَّةُ في الجِهةِ الرَّبَّانيَّةِ.
قال داوُدُ بنُ مَحمودٍ القَيصَريُّ: (المُرادُ منَ الفناءِ فناءُ جِهةِ العَبدِ البَشَريَّةِ في الجِهةِ الرَّبَّانيَّةِ؛ إذ لكُلِّ عَبدٍ جِهةٌ منَ الحَضرةِ الإلهيَّةِ... وهذا الفَناءُ موجِبٌ لأن يَتَعَيَّنَ العَبدُ بتعَيُّناتٍ حَقَّانيَّةٍ وصِفاتٍ رَبَّانيَّةٍ) [90] ((مقدمة شرح الفصوص)) للقيصري مخطوط نقلًا عن ((ملحقات ختم الأولياء)) للترمذي (ص: 491). .
وقال النَّفزيُّ الرَّنديُّ: (فناءُ الذَّاتِ: أي: لا مَوجودَ على الإطلاقِ إلَّا اللَّهُ تعالى، وأنشَدوا في ذلك:
فيَفنى ثمَّ يَفنى ثمَّ يَفنى
فكان فَناؤُه عَينَ البَقاءِ) [91] ((غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية)) (1/99). .
واعتَبَرَ فريدُ الدِّينِ العَطَّارُ فَناءَ السَّالكِ في اللهِ كفَناءِ القَطرةِ في البَحرِ [92] يُنظر: ((منطق الطير)) (ص: 404). .
وقال ابنُ الدَّبَّاغِ: (اعلَمْ أنَّ المُحِبَّ ما لم يَصِلْ إلى مَقامِ الاتِّحادِ لا تَنقَطِعُ الحُجُبُ التي بَينَه وبَينَ مَحبوبِه، فإنَّها كَثيرةٌ، لكِنَّ بَعضَها ألطَفُ وأشَدُّ نورانيَّةً من بَعضٍ، وكُلَّما كُشِف له منها حِجابٌ تاقَتِ النَّفسُ إلى كَشفِ ما بَعدَه حتَّى تَزولَ جَميعُها عِندَ الاتِّحادِ) [93] ((مشارق أنوار القلوب)) (ص: 68، 94). .
وقالوا: إنَّ اللهَ يَتَجَلَّى على العَبدِ في هذا المَقامِ، كما ذَكَرَ ذلك السُّهْرَوَرديُّ، فقال: (أمَّا الفَناءُ الباطِنُ فهو مَحوُ آثارِ الوُجودِ عِندَ لمَعانِ نورِ الشُّهودِ، يَكونُ في تَجَلِّي الذَّاتِ، وهو أكمَلُ أقسامِ اليَقينِ في الدُّنيا) [94] ((عوارف المعارف)) (ص: 154). .
وقال أيضًا: (قد يَكونُ التَّجَلِّي بطَريقِ الأفعالِ، وقد يَكونُ بطَريقِ الصِّفاتِ، وقد يَكونُ بطَريقِ الذَّاتِ) [95] ((عوارف المعارف)) (ص: 526). .
وقال ظَهيرُ الدِّينِ القادِريُّ: (الفَناءُ هو أن يُطالعَ الحَقُّ سِرَّ وليِّه بأدنى تَجَلٍّ، فيَتَلاشى الكَونُ ويَفنى الوليُّ تَحتَ تلك الإشارةِ) [96] ((الفتح المبين)) (ص: 38). .
وبَيَّن القاشانيُّ مَعنى التَّجَلِّي الشُّهوديِّ بقَولِه: (هو ظُهورُ الوُجودِ المُسَمَّى باسمِ النُّورِ، وهو ظُهورُ الحَقِّ بصُوَرِ أسمائِه في الأكوانِ التي هي صُوَرُها، وذلك الظُّهورُ هو النَّفسُ الرَّحمانيُّ الذي يوجَدُ به الكُلُّ) [97] ((اصطلاحات الصوفية)) (ص: 156). .
وقال عَبدُ الكَريمِ الجيليُّ: (إنَّ العَبدَ إذا أرادَ الحَقَّ سُبحانَه وتعالى أن يَتَجَلَّى عليه باسمٍ أو صِفةٍ، فإنَّه يُفني العَبدَ فناءً يُعدِمُه عن نَفسِه، ويَسلُبُه عن وُجودِه، فإذا طُمِسَ النُّورُ العَبديُّ وفَنِي الرُّوحُ الخَلقيُّ، أقامَ الحَقُّ سُبحانَه وتعالى في الهَيكَلِ العَبديِّ) [98] ((الإنسان الكامل)) (ص: 67). .
وقال نَجمُ الدِّينِ الكبريُّ: (تَتَجَلَّى سُبُحاتُ وَجهِه الكَريمِ، ويَجري على لسانِ السَّيَّارِ «الصُّوفيِّ» بحُكمِ الاضطِرارِ: سُبْحاني سُبْحاني! ما أعظَمَ شَأني!) [99] ((فوائح الجمال)) (ص: 55). .
ونَقَلوا عنِ البِسطاميِّ أنَّه قال: (ما في الجُبَّةِ غَيرُ اللهِ!) [100] يُنظر: ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي (1/ 234). .
وذُكِرَ أنَّه قال أيضًا: (قال لي الحَقُّ: يا أبا يَزيدَ، كُلُّ هؤلاء خَلقي إلَّا أنتَ، أنتَ أنا، وأنا أنتَ!) [101] يُنظر: ((روضة التعريف بالحب الشريف)) لابن الخطيب (ص: 353). .
وأنَّه قال: (رَفَعَني مَرَّةً فأقامني بَينَ يَدَيه وقال لي: يا أبا يَزيدَ، إنَّ خَلقي يُحِبُّونَ أن يَرَوك. فقُلتُ: زَيِّنِّي بوحدانيَّتِك، وألبِسْني أنانيَّتَك، وارفَعْني إلى أحَدِيَّتِك، حتَّى إذا رَآني خَلْقُك قالوا: رَأيناك، فتَكونُ أنتَ ذاكَ، ولا أكونُ أنا هنا!) [102] يُنظر: ((اللمع)) للطوسي (ص: 461). .
سابعًا: مُصطَلَحُ العُلومِ الوَهبيَّةِ والعُلومِ الكَسْبيَّة
المرادُ بالعُلومِ الوَهبيَّةِ: العُلومُ التي يُحَصِّلُها الإنسانُ بلا جُهدٍ، وذلك بتَلقِّيها منَ اللهِ تعالى مُباشَرةً، وبَعضُهم يُسَمِّيها العُلومَ اللَّدُنِّيَّةَ مُستَدِلِّينَ بقَولِ اللهِ تعالى: وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف: 65] .
والمرادُ بالعُلومِ الكَسبيَّةِ: التي يُحَصِّلُها الإنسانُ عن طَريقِ التَّعَلُّمِ والقِراءةِ والكِتابةِ، وعن طَريقِ التَّلقِّي منَ المَشايِخِ والعُلماءِ.
قال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (أمَّا العِلمُ فهو العِلمُ بالأمورِ الدُّنيَويَّةِ والأخرَويَّةِ والحَقائِقِ العَقليَّةِ، وهي تَتَحَصَّلُ له بالتَّجارِبِ والفِكرِ، والنَّاسُ في هذا مَراتِبُ لا تُحصى، يَتَفاوتُ الخَلقُ فيها بكَثرةِ المَعلوماتِ وقِلَّتِها، وبشَرَفِ المَعلوماتِ وخِسَّتِها، وبطَريقِ تَحصيلِها)، ثمَّ تَحَدَّثَ بَعدَ ذلك عنِ العُلومِ الوَهبيَّةِ، وهي التي (تَحصُلُ لبَعضِ القُلوبِ بإلهامٍ إلهيٍّ على سَبيلِ المُبادَأةِ والمُكاشَفةِ... وهي دَرَجاتٌ... وأقصى الرُّتَبِ رُتبةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، الذي تَنكَشِفُ له كُلُّ الحَقائِقِ أو أكثَرُها من غَيرِ اكتِسابٍ وتَكَلُّفٍ، بكَشفٍ إلهيٍّ في أسرَعِ وقتٍ) [103] ((إحياء علوم الدين)) (3/ 8). .
والنَّاظِرُ في كُتُبِ الصُّوفيَّةِ الأوائِلِ والكُتُبِ التي تَتَحَدَّثُ عنهم يَجِدُ كَثيرًا منَ الأقوالِ المَنسوبةِ لشُيوخِهم والتي تُبَيِّنُ أنَّ عُلومَهم من قَبيلِ الكَسبيَّةِ المُستَمَدَّةِ منَ الكِتابِ والسُّنَّةِ. فقال القُشَيريُّ: (اعلَموا أنَّ شُيوخَ هذه الطَّائِفةِ بَنَوا قَواعِدَ أمرِهم على أصولٍ صَحيحةٍ في التَّوحيدِ، وصانوا بها عَقائِدَهم منَ البدَعِ، ودانوا بما وجَدوا عليه السَّلَفَ وأهلَ السُّنَّةِ) [104] ((الرسالة القشيرية)) (1/ 19). .
قال سَهلُ بنُ عَبدِ اللَّهِ التُّسْتَريُّ: (كُلُّ وَجدٍ لا يَشهَدُ له الكِتابُ والسُّنَّةُ فهو باطِلٌ) [105] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/ 90، 97). .
وقال الجُنَيدُ بنُ مُحَمَّدٍ: (مَن لم يَقرَأِ القُرآنَ ويَكتُبِ الحَديثَ لا يُقتَدى به في هذا الشَّأنِ؛ لأنَّ عِلمَنا مُقَيَّدٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ) [106] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/ 141). .
وقال أيضًا: (الطُّرُقُ كُلُّها مَسدودةٌ عنِ الخَلْقِ إلَّا مَنِ اقتَفى أثَرَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [107] يُنظر: ((الموفي بمعرفة التصوف والصوفي)) للإدفوي (ص: 69). .
وقال أبو حَمزةَ الخُراسانيُّ: (لا دَليلَ على الطَّريقِ إلى اللهِ إلَّا بمُتابَعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أحوالِه وأقوالِه وأفعالِه) [108] يُنظر: ((الجوهرة الفاخرة)) للمناوي (ص: 58). .
ومِثلُ ذلك وارِدٌ عن كِبارِ مَشايِخِ الطُّرُقِ الأوائِلِ، كَأحمَدَ الرِّفاعيِّ، وعَبدِ القادِرِ الجيلانيِّ، وغَيرِهما [109] يُنظَرُ مَثَلًا: الطَّريقةُ الرِّفاعيَّةُ، والطَّريقةُ القادِريَّةُ من هذه المَوسوعةِ. .
هذه الأقوالُ تَدُلُّ على ما كان عليه أولئِكَ الشُّيوخُ ومُتَقدِّمو الصُّوفيَّةِ، ولكِنَّ الذينَ جاؤوا من بَعدِهم أدخَلوا أمورًا على التَّصَوُّفِ تُخالِفُ ما كان عليه أوائِلُهم.

انظر أيضا: