موسوعة الفرق

المَبحَثُ الأوَّلُ: نَشأةُ التَّصَوُّفِ


ذَكَر ابنُ الجَوزيِّ وابنُ تيميَّةَ وابنُ خَلدونَ أنَّ لفظَ الصُّوفيَّةِ لم يَكُنْ مَشهورًا في القُرونِ الثَّلاثةِ الأولى [34] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 157)، ((الصوفية والفقراء)) لابن تيمية (ص: 5)، ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 467). .
وقال السُّهرَوَرديُّ: (وهذا الاسمُ لم يَكُنْ في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقيل: كان في زَمَنِ التَّابعينَ -ثمَّ نَقَل عنِ الحَسَنِ البَصريِّ، وما تَقدَّمَ عنِ الطُّوسيِّ أيضًا، ثمَّ قال:- وقيل: لم يُعرَفْ هذا الاسمُ إلى المِائَتَينِ منَ الهجرةِ العَرَبيَّةِ) [35] ((عوارف المعارف)) (ص: 63). .
وذَكَرَ عَبدُ الرَّحمَنِ الجاميُّ: (أنَّ أبا هاشِمٍ الكوفيَّ أوَّلُ مَن دُعيَ بالصُّوفيِّ، ولم يُسَمَّ أحَدٌ قَبلَه بهذا الاسمِ، كما أنَّ أوَّلَ خانِقاه بُنِي للصُّوفيَّةِ هو ذلك الذي في رَملةِ الشَّامِ، والسَّبَبُ في ذلك أنَّ الأميرَ النَّصرانيَّ كان قد ذَهَبَ للقَنصِ فشاهَدَ شَخصَينِ من هذه الطَّائِفةِ الصُّوفيَّةِ سَنَحَ له لقاؤُهما وقدِ احتَضَنَ أحَدُهما الآخَرَ وجَلسا هناكَ، وتَناولا مَعًا كُلَّ ما كان مَعَهما من طَعامٍ، ثمَّ سارا لشَأنِهما، فسُرَّ الأميرُ النَّصرانيُّ من مُعامَلتِهما وأخلاقِهما، فاستَدعى أحَدَهما، وقال له: مَن هو ذاكَ؟ قال: لا أعرِفُه، قال: وما صِلتُك به؟ قال: لا شَيءَ. قال: فمَن كان؟ قال: لا أدري، فقال الأميرُ: فما هذه الألفةُ التي كانت بَينَكُما؟ فقال الدَّرويشُ: إنَّ هذه طَريقَتُنا، قال: هل لكم من مَكانٍ تَأوونَ إليه؟ قال: لا، قال: فإنِّي أقيمُ لكُما مَحَلًّا تَأويانِ إليه، فبَنى لهما هذه الخانِقاه في الرَّملةِ) [36] ((نفحات الأنس)) (ص: 31، 32). .
وأمَّا القُشَيريُّ فقال: (اشتَهرَ هذا الاسمُ لهؤلاء الأكابِرِ قَبل المِائَتَينِ منَ الهجرةِ) [37] ((الرسالة القشيرية)) (1/ 53). .
وأمَّا الهُجْويريُّ فقد ذَكَرَ أنَّ التَّصَوُّفَ كان مَوجودًا في زَمَنِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وباسمِه، واستَدَلَّ بحَديثٍ مَوضوعٍ مَكذوبٍ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((من سَمِعَ صَوتَ أهلِ التَّصَوُّفِ فلا يُؤَمِّنُ على دُعائِهم، كُتِبَ عِندَ اللهِ منَ الغافِلينَ)) [38] لا وجودَ له في كُتُبِ السُّنَّةِ. [39] ((كشف المحجوب)) (ص: 227). .
مَعَ أنَّه كَتَبَ في البابِ نَفسِه في آخِرِه شارِحًا كَلامَ أبي الحَسَنِ البُوشَنجيِّ (التَّصَوُّفُ اليَومَ اسمٌ بلا حَقيقةٍ، وقد كان من قَبلُ حَقيقةً بلا اسمٍ) فكَتَبَ تَحتَه موضِّحًا: (يَعني أنَّ هذا الاسمَ لم يَكُنْ مَوجودًا وقتَ الصَّحابةِ والسَّلَفِ، وكان المَعنى مَوجودًا في كُلٍّ منهم، والآنَ يوجَدُ الاسمُ، ولا يوجَدُ المَعنى) [40] ((كشف المحجوب)) (ص: 239). .
وأمَّا المُستَشرِقونَ الذينَ كَتَبوا عنِ التَّصَوُّفِ؛ فمنهمُ الإنجِليزيُّ نيكِلسون الذي يَرى مِثلَ ما يَراه الجاميُّ من أنَّ لفظةَ التَّصَوُّفِ أُطلِقَت أوَّلَ ما أُطلِقَت على أبي هاشِمٍ الكوفيِّ المُتَوفَّى سَنةَ 150ه [41] يُنظر: ((في التصوف الإسلامي وتاريخه لنيكلسون)) ترجمة العفيفي (ص: 3). .
ولكِنَّ المُستَشرِقَ الفرَنسيَّ ماسينيون قال: (ورَدَ لفظُ الصُّوفيِّ لأوَّلِ مَرَّةٍ في التَّاريخِ في النِّصفِ الثَّاني منَ القَرنِ الثَّامنِ الميلاديِّ؛ إذ نُعِتَ به جابِرُ بنُ حَيَّانَ، وهو صاحِبُ كيمياءَ شيعيٌّ من أهلِ الكوفةِ، له في الزُّهدِ مَذهَبٌ خاصٌّ، وأبو هاشِمٍ الكوفيُّ الصُّوفيُّ المَشهورُ.
أمَّا صيغةُ الجَمعِ "الصُّوفيَّةُ" التي ظَهَرَت عامَ 189ه "814م" في خَبَرِ فِتنةٍ قامَت بالإسكَندَريَّةِ، فكانت تَدُلُّ قُرابةَ ذلك العَهدِ على مَذهَبٍ من مَذاهِبِ التَّصَوُّفِ الإسلاميِّ يَكادُ يَكونُ شيعيًّا نَشَأ في الكوفةِ، وكان عَبدَك الصُّوفيُّ آخِرَ أئِمَّتِه، وهو منَ القائِلينَ بأنَّ الإمامةَ بالإرثِ والتَّعيينِ، وكان لا يَأكُلُ اللَّحمَ، وتُوفِّي ببَغدادَ حَوالَي عام 210هـ. وإذَنْ فكَلِمةُ صوفيٍّ كانت أوَّلَ أمرِها مَقصورةً على الكوفةِ) [42] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية- أردو)) (6/419)، ((دائرة المعارف الإسلامية- عربي)) (5/ 266). .
وقال أيضًا: (كان هذا اللَّفظُ يَومَئِذٍ يَدُلُّ على بَعضِ زُهَّادِ الشِّيعةِ بالكوفةِ، وعلى رَهطٍ منَ الثَّائِرينَ بالإسكَندَريَّةِ، وقد يُعَدُّ منَ الزَّنادِقةِ بسَبَبِ امتِناعِه عن أكلِ اللَّحمِ)، ويُريدُ ماسينيون أوَّلَ مَن لُقِّبَ بالصُّوفيِّ في بَغدادَ كما يُؤخَذُ ممَّا نَقَله هو عنِ الهَمَذانيِّ، ونَصُّه: (ولم يَكُنِ السَّالكونَ لطُرُقِ اللهِ في الأعصارِ السَّالفةِ والقُرونِ الأولى يُعرَفونَ باسمِ المُتَصَوِّفةِ، وإنَّما الصُّوفيُّ لفظٌ اشتَهرَ في القَرنِ الثَّالِثِ، وأوَّلُ مَن سُمِّيَ ببَغدادَ بهذا الاسمِ عَبدَك الصُّوفيُّ، وهو من كِبارِ المشائِخِ وقُدَمائِهم، وكان قَبلَ بِشرِ بنِ الحارِثِ الحافي، والسَّرِيِّ بنِ المُفلِسِ السَّقَطيِّ) [43] ((التصوف)) (ص: 55، 56). ويُنظر أيضًا: ((موجز دائرة المعارف الإسلامية)) (7/ 2229). .
والجَديرُ بالذِّكرِ أنَّ هؤلاء الثَّلاثةَ الذينَ يُقالُ عنهم بأنَّهم أوَّلُ مَن سُمُّوا بهذا الاسمِ، وتَلقَّبوا بهذا اللَّقَبِ مَطعونونَ في مَذاهِبِهم وعَقائِدِهم، ورُميَ كُلُّ واحِدٍ منهم بالفسادِ، وخاصَّةً جابِرَ بنَ حَيَّانَ، وعَبدَك.
قال ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ لفظَ الصُّوفيَّةِ لم يَكُنْ مَشهورًا في القُرونِ الثَّلاثةِ، وإنَّما اشتَهَرَ التَّكَلُّمُ به بَعدَ ذلك) [44] ((الصوفية والفقراء)) (ص: 5). . وبمِثلِ ذلك قال ابنُ خَلدونَ [45] يُنظر: ((المقدمة)) (ص: 476). .
فخُلاصةُ الكَلامِ أنَّ الجَميعَ مُتَّفِقونَ على حَداثةِ هذا الاسمِ، وعَدَمِ وُجودِه في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه والسَّلَفِ الصَّالحِ، فلم يَظهَرِ التَّصَوُّفُ مَذهَبًا ومَشرَبًا، ولم تَرُجْ مُصطَلحاتُه الخاصَّةُ به، وكُتُبُه، ومَواجيدُه وأناشيدُه، وتَعاليمُه وضَوابطُه، وأصولُه وقَواعِدُه، وفلسَفتُه، ورِجالُه وأصحابُه إلَّا في القَرنِ الثَّالثِ منَ الهجرةِ وما بَعدَه.

انظر أيضا: