موسوعة الفرق

الفرعُ الأوَّلُ: دَعوى الشِّيعةِ الإماميَّةِ تَنزُّلَ كُتُبٍ إلهيَّةٍ على أئِمَّتِهم


أورَدت كُتُبُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ المُعتَمَدةُ عِندَهم أنَّ ثَمَّةَ كُتُبًا مُقدَّسةً نَزَلت مِنَ السَّماءِ بوحيٍ مِنَ اللهِ تعالى إلى الأئِمَّةِ، وأحيانًا تورِدُ كُتُبُ الشِّيعة نُصوصًا وأخبارًا يزعُمونَ أنَّها مَأخوذةٌ مِن تلك الكُتُبِ، وعلى ذلك تُبنى عَقائِدُ ومَبادِئُ!
ولعَلَّ جُذورَ تلك المَقالةِ بَدَأت في عَصرِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فعن أبي جُحَيفةَ قال: (قُلتُ لعَليٍّ: هَل عِندَكم كِتابٌ؟ قال: لا، إلَّا كِتابُ اللهِ، أو فَهمٌ أُعطيَه رَجُلٌ مُسلمٌ، أو ما في هذه الصَّحيفةِ. قال: قُلتُ: فما في هذه الصَّحيفةِ؟ قال: العَقلُ وفَكاكُ الأسيرِ، ولا يُقتَلُ مُسلمٌ بكافِرٍ) [1544] أخرجه البخاري (111). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (وإنَّما سَأله أبو جُحَيفةَ عن ذلك؛ لأنَّ جَماعةً مِنَ الشِّيعةِ كانوا يزعُمونَ أنَّ عِندَ أهلِ البَيتِ -لا سيَّما عَليٍّ- أشياءَ مِنَ الوحيِ خَصَّهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها لم يطَّلعْ غَيرُهم عليها، وقد سَأل عَليًّا عن هذه المَسألةِ أيضًا قَيسُ بنُ عَبَّادٍ، والأشتَرُ النَّخعيُّ، وحَديثُهما في مُسنَدِ النَّسائيِّ [1545] أخرجه أبو داود (4530)، والنسائي (4734) واللفظ له، وأحمد (993).  ولفظُه: عن قيسِ بنِ عبَّادٍ، قال: انطلقتُ أنا والأشتَرُ إلى عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه فقُلْنا: هل عَهِد إليك نبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا لم يعهَدْه إلى النَّاسِ عامَّةً؟ قال: لا، إلَّا ما كان في كتابي هذا، فأخرَج كتابًا من قُرابِ سَيفِه، فإذا فيه «المُؤمِنون تكافَأُ دماؤُهم وهم يَدٌ على مَن سواهم، ويسعى بذِمَّتِهم أدناهم، ألا لا يُقتَلُ مُؤمِنٌ بكافرٍ، ولا ذو عَهدٍ بعَهدِه، من أحدَث حَدَثًا فعلى نفسِه، أو آوى محدِثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والملائكةِ والنَّاسِ أجمعينَ». صحَّحه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (9/159)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4530)، وصحَّح إسناده محمد ابن عبد الهادي في ((تنقيح التحقيق)) (4/460)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (2/212)، وشعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (993). وقولُه: "ويسعى بذِمَّتِهم أدناهم" أخرجه البخاري (3179)، ومسلم (1370) مطوَّلًا بلفظ: ((.. وذِمَّةُ المُسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم...)). وأخرجه النسائي (4746) واللفظ له، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (3148)، والدارقطني (3/98). ولفظُه: عن الأشتَرِ أنَّه قال لعليٍّ: إنَّ النَّاسَ قد تفشَّغ بهم ما يسمعون، فإن كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَهِد إليك عهدًا، فحَدِّثْنا به، قال: «ما عَهِد إليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عهدًا لم يعهَدْه إلى النَّاسِ، غيرَ أنَّ في قِرابِ سيفي صحيفةً، فإذا فيها: المُؤمِنون تتكافَأُ دماؤهم، يسعى بذِمَّتِهم أدناهم، لا يُقتَلُ مُؤمِنٌ بكافرٍ، ولا ذو عَهدٍ في عَهدِه». صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4746)، وصحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (3/273). وقولُه: "يسعى بذِمَّتِهم أدناهم". أخرجه البخاري (3179)، ومسلم (1370) مطولًا بلفظ: ((.. وذِمَّةُ المُسلمين واحدةٌ يسعى بها أدناهم...)). [1546] ((فتح الباري)) (1/204). .
وقد ذَكرَ الجوزجانيُّ أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه (ضَرب عَبدَ اللهِ بنَ سَبَأٍ حينَ زَعَمَ أنَّ القُرآنَ جُزءٌ مِن تِسعةِ أجزاءٍ، وعِلمُه عِندَ عليٍّ، ونَفاه بَعدَما كان همَّ به) [1547] ((أحوال الرجال)) (ص: 24). .
وفي رِسالةِ الإرجاءِ للحَسَنِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ (ت 95هـ) ما يُشيرُ إلى أنَّ السَّبَئيِّينَ -أتباعَ عَبدِ اللهِ بنِ سَبَأٍ- قد بدؤوا في إشاعةِ مِثلِ هذه المَقالاتِ، فقال: (ومِن خُصومةِ هذه السَّبَئيَّةِ التي أدرَكنا أن يقولوا: هُدِينا بوحيٍ ضَلَّ عنه النَّاسُ، وعِلمٍ خَفيٍّ، ويزعُمونَ أنَّ نَبيَّ اللهِ كتَمَ تِسعةَ أعشارِ القُرآنِ) [1548] رسالة الإرجاء ضمن كتاب ((الإيمان)) لمحمد بن يحيى العدني (ص: 148). .
ثُمَّ تَطَوَّرت هذه الدَّعوى واتَّخَذت صورًا وأشكالًا مُتَعَدِّدةً كُلُّها تَرجِعُ إلى دَعوى أنَّ عِندَ آلِ البَيتِ ما ليس عِندَ النَّاسِ، ومِن ذلك:
مُصحَفُ فاطمةَ رَضيَ اللهُ عنها
في كِتابِ (دَلائِل الإمامةِ) وهو مِنَ الكُتُبِ المُعتَمَدةِ عِندَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ [1549] جاء في مقدِّمة هذا الكتابِ: (هذا الكتابُ لم يزَلْ مصدرًا من مصادِرِ الشِّيعةِ في الإمامةِ والحديثِ، تركَنُ إليه وتعتمِدُ عليه في أجيالها المتعاقِبةِ منذُ تأليفِه إلى وقتِنا الحاضِرِ). ((دلائل الإمامة)) (ص: 5). وقال المجلسيُّ عن كتابِ دلائِلِ الإمامةِ: (من الكتُبِ المعتَبرةِ المشهورةِ أخذ منه جملةُ من تأخَّر عنه، كالسَّيِّدِ ابنِ طاووسٍ وغيرِه، ومؤلِّفُه من ثقاتِ رواتِنا الإماميَّةِ: محمَّدُ بنُ جريرِ بنِ رُستم الطَّبَريُّ، وليس هو ابنَ جريرٍ صاحِبَ التَّاريخِ المخالِفِ). ((بحار الأنوار)) (1/39)، رِوايةٌ تَصِفُ هذا المُصحَفَ بأنَّ فيه (خَبرَ ما كان وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ، وفيه خَبَرُ سَماءٍ سَماءٍ، وعَدَدُ ما في السَّماواتِ مِنَ المَلائِكةِ، وغَيرُ ذلك، وعَدَدُ كُلِّ مَن خَلقَ اللهُ مُرسَلًا وغَيرَ مُرسَلٍ، وأسماءَهم، وأسماءَ مَن أرسِل إليهم، وأسماءَ مَن كذَّبَ ومَن أجابَ، وأسماءَ جَميعِ مَن خَلق اللهُ مِنَ المُؤمِنينَ والكافِرينَ، وصِفةَ كُلِّ مَن كذَّب، وصِفةَ القُرونِ الأولى وقِصَصهم، ومَن ولي مِنَ الطَّواغيتِ، ومُدَّةَ مُلكِهم، وعَدَدَهم، وأسماءَ الأئِمَّةِ وصِفتَهم، وما يملكُ كُلُّ واحِدٍ واحِدٍ،... فيه أسماءُ جَميعِ ما خَلق اللهُ وآجالُهم، وصِفةُ أهلِ الجَنَّةِ، وعَدَدُ مَن يدخُلُها، وعَدَدُ مَن يدخُلُ النَّارَ، وأسماءُ هؤلاء وهؤلاء، وفيه عِلمُ القُرآنِ كما أُنزِل، وعِلمُ التَّوراةِ كما أُنزِلت، وعِلمُ الإنجيلِ كما أُنزِل، وعِلمُ الزَّبورِ، وعَدَدُ كُلِّ شَجَرةٍ ومَدرةٍ في جَميعِ البلادِ) [1550] ((دلائل الإمامة)) (ص: 27). .
وجاءت رِوايةٌ مَشهورةٌ في كُتُبِ الشِّيعةِ عن مُصحَفِ فاطِمة، ونَصُّها: (إنَّ اللهَ تعالى لما قَبَضَ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دَخل على فاطِمةَ عليها السَّلامُ مِن وفاتِه مِنَ الحُزنِ ما لا يعلمُه إلَّا اللهُ عَزَّ وجَلَّ، فأرسَل اللهُ إليها مَلكًا يُسَلِّي غَمَّها ويُحَدِّثُها، فشَكت ذلك إلى أميرِ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنه فقال: إذا أحسَستِ بذلك وسَمِعتِ الصَّوتَ قَولي لي، فأعلمَتْه بذلك، فجَعَل أميرُ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنه يكتُبُ كُلَّ ما سَمِعَ حتَّى أثبَتَ مِن ذلك مُصحَفًا، أما إنَّه ليس فيه شَيءٌ مِنَ الحَلالِ والحَرامِ، ولكِن فيه عِلمُ ما يكونُ) [1551] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) للصفار (ص: 43). .
فهذه الرِّوايةُ تُفيدُ بأنَّ الغَرَضَ مِن هذا المُصحَفِ أمرٌ يخُصُّ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها وحدَها، وهو تَسليتُها وتَعزيتُها بَعدَ وفاةِ أبيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ مَوضوعَه عِلمُ ما يكونُ! وكيف يكونُ تَعزيتُها بإخبارِها بما يكونُ، وفيه -على ما تَرويه الشِّيعةُ- قَتلُ أبنائِها وأحفادِها، ومُلاحَقةُ المِحَنِ لأهلِ البَيتِ؟!
وكان الأئِمَّةُ -كما تَقولُ مَرويَّاتُ الشِّيعةِ- يتَّخِذونَ مِن مُصحَفِ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها وسيلةً لمَعرِفةِ عِلمِ الغَيبِ، واستِطلاعِ ما يكونُ، فرَوَوا عن أبي عَبدِ اللهِ: (تَظهَرُ الزَّنادِقةُ في سَنةِ ثَمانٍ وعِشرينَ ومِائةٍ، وذلك أنِّي نَظَرتُ في مُصحَفِ فاطِمةَ عليها السَّلامُ) [1552] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/240). أي: أخَذَ ذلك منه.
وليسَ في هذه السَّنةِ التي حَدَّدَتْها هذه الرِّوايةُ أحداثٌ بارِزةٌ كما يظهَرُ مِن كُتُبِ التَّواريخِ إلَّا قَتلُ بَعضِ الرُّؤوسِ الضَّالَّةِ، كالجَهمِ بنِ صَفوانَ وغَيره، وهذا خِلافُ ما تَزعُمُه تلك الرِّوايةُ مِن ظُهورِهم!
وفي رِوايةٍ أُخرى عن أبي عَبدِ اللهِ قال: (إنِّي نَظَرتُ في مُصحَفِ فاطِمةَ عليها السَّلامُ قُبَيلُ، فلم أَجِدْ لبَني فُلانٍ فيها إلَّا كغُبارِ النَّعلِ) [1553] يُنظر: ((بصائر الدرجات)) للصفار (ص: 44). .
وهذه الرِّوايةُ تَبدو مُغَلَّفةً بشَيءٍ مِنَ التَّقيَّةِ، فلم يُفصِحْ عن اسمِ بني فلانٍ، ولا المُشارِ إليه بقَولِه: (فيها، ولم يوضِّحِ المَجلِسيُّ ذلك، وقد يكونُ المُرادُ بـ(فيها) الإشارةَ إلى الخِلافةِ، ويكونُ المُرادُ بـ(بَني فُلانٍ) الإشارةَ إلى أولادِ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ فقد رَوَوا: (أولادُ الحَسَنِ يحمِلُهم الحَسَدُ وطَلَبُ الدُّنيا في الإنكارِ) [1554] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/305). .
والمَقصودُ أنَّ مُصحَفَ فاطِمةَ أداةٌ عِندَهم لاستِطلاعِ ما يحدُثُ في هذا الكونِ، ولو كان شَيءٌ مِن ذلك صَحيحًا لما حَصَل للأئِمَّةِ ما حَصَل مِمَّا تُصَوِّرُه كُتُبُ الشِّيعةِ مِنَ المِحَنِ، ولما غابَ مُنتَظَرُهم واختَفى خَوفًا مِنَ القَتلِ، ولما كان للتَّقيَّةِ أدنى حاجةٍ؛ إذ بمَعرِفةِ أسبابِ وُقوعِ المَكروه يتَّقونَ المَكروهَ، وبمَعرِفةِ أسبابِ المَرغوبِ والمَحبوبِ يفوزونَ بالمَحبوبِ، فإن زَعَموا أنَّهم لا قُدرةَ لهم على تَغييرِ شَيءٍ مِن ذلك فهم إذًا كسائِرِ النَّاسِ يجري فيهم قدَرُ اللهِ، وعِلمُهم بما يَحدُثُ يزيدُهم حُزنًا فلا يُؤنِسُهم، ولا يُزيلُ وحشَتَهم ما دامَ أنَّهم لا حيلةَ لهم في التَّغييرِ!
وإذا كانت هذه الرِّواياتُ تَجعَلُ مَوضوعَ مُصحَفِ فاطِمةَ هو عِلمَ ما يكونُ فإنَّ رِوايةً أُخرى لدَيهم تَقولُ: إنَّ أبا عَبدِ اللهِ قال عن مُصحَفِ فاطِمةَ: (ما أزعُمُ أنَّ فيه قُرآنًا، وفيه ما يحتاجُ النَّاسُ إلينا، ولا نَحتاجُ إلى أحَدٍ، حتَّى فيه الجَلدةُ، ونِصفُ الجَلدةِ، ورُبعُ الجَلدةِ، وأَرشُ الخَدشِ [1555] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/240). .
فهذا النَّصُّ يجعَلُ في مُصحَفِ فاطِمةَ -بالإضافةِ إلى عِلمِ ما يكونُ- عِلمَ الحُدودِ والدِّياتِ، ففيه حتَّى أرشُ الخَدشِ، بل فيه التَّشريعُ كُلُّه، فلا يحتاجُ فيه الأئِمَّةُ مَعَه إلى أحَدٍ.
فهَل التَّشريعُ الإسلاميُّ العَظيمُ لم يكتَمِلْ بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه حتَّى يحتاجَ بَعدَ ذلك إلى مُصحَفِ فاطِمةَ، فيُغني عن الجَميعِ؟!
وعن أبي بَصيرٍ قال: دَخَلتُ على أبي عَبدِ اللهِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ... ثُمَّ ذَكرَ حَديثًا طويلًا في ذِكرِ العِلمِ الذي أودعَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ أئِمَّةِ الشِّيعةِ كما يقولونَ، وفيه قَولُ أبي عَبدِ اللهِ: (وإنَّ عِندَنا لمُصحَفَ فاطِمةَ عليها السَّلامُ... مُصحَفٌ فيه مِثلُ قُرآنِكم هذا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ما فيه مِن قُرآنِكم حَرفٌ واحِدٌ [1556] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/239). .
فهذه الرِّوايةُ ساقها الكُلينيُّ، وهو ثِقةُ الإسلامِ عِندَهم، وبسَنَدٍ صَحيحٍ كما قَرَّرَ بَعضُ شُيوخِهم [1557] يُنظر: ((الشافي شرح أصول الكافي)) للقزويني (3/197). ، وفيها أنَّ مُصحَفَ فاطِمةَ يفوقُ المُصحَفَ المَعروفَ بَيْنَ المُسلمينَ في حَجمِه، ويُخالفُه في مادَّتِه!
فهَل نَزَل هذا المُصحَفُ ليُكمِلَ القُرآنَ [1558] يُنظر: ((إكمال الدين)) (ص: 178)، ((عيون أخبار الرضا)) (ص: 24) كلاهما لابن بابويه، ((بحار الأنوار)) للمجلسي (36/193). ؟!
ثُمَّ إنَّهم تَناقَضوا وقالوا: إنَّ العِلمَ كُلّه إنَّما يُؤخَذُ مِن كِتابِ اللهِ، فرَوَوا عن أبي عَبدِ اللهِ أنَّه قال: (إنِّي أعلمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ، وأعلمُ ما في الجَنَّةِ، وأعلَمُ ما في النَّارِ، وأعلَمُ ما كان وما يكونُ. قال الرَّاوي: ثُمَّ مَكثَ هُنَيهةً فرَأى أنَّ ذلك كبُرَ على مَن سَمِعَه منه فقال: (عَلِمتُ ذلك مِن كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يقولُ: فيه تِبيانُ كُلِّ شَيءٍ) [1559] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (26/111). .
وتَصِفُ رِوايةٌ أُخرى نُزولَ هذا المُصحَفِ على خِلافِ ما جاءَ في الرِّوايةِ الأُخرى مِن أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه كَتَب ما سَمِعَه مِنَ المَلَكِ حتَّى أثبَتَ بذلك مُصحَفًا، بل إنَّه نَزَل جُملةً واحِدةً مِنَ السَّماءِ بواسِطةِ ثَلاثةٍ مِنَ المَلائِكةِ؛ فعن أبي بَصيرٍ عن أبي جعفرٍ قال: (... فلمَّا أرادَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أن يُنزِلَه عليها أمر جبرئيلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ أن يحمِلوا المُصحَفَ فينزِلوا به عليها، وذلك في ليلةِ الجُمعةِ مِنَ الثُّلثِ الثَّاني مِنَ الليلِ، هَبَطوا به عليها وهي قائِمةٌ تُصَلِّي، فما زالوا قيامًا حتَّى قَعَدت، فلمَّا فرَغت مِن صَلاتِها سَلَّموا عليها، وقالوا لها: السَّلامُ يُقرِئُك السَّلامُ. ووضَعوا المُصحَفَ في حِجرِها، فقالت لهم: اللهُ السَّلامُ، ومنه السَّلامُ، وإليه السَّلامُ، وعليكم يا رُسُلَ اللهِ السَّلامُ.
ثُمَّ عَرَجوا إلى السَّماءِ، فما زالت مِن بَعدِ صَلاةِ الفجرِ إلى زَوالِ الشَّمسِ تَقرَؤُه، حتَّى أتت على آخِرِه.
ولقد كانت صَلواتُ اللهِ عليها طاعَتُها مَفروضةً على جَميعِ مَن خَلق اللهُ مِنَ الجِنِّ والإنسِ، والطَّيرِ والبَهائِمِ، والأنبياءِ والمَلائِكةِ.
فقُلتُ أي الرَّاوي أبو بَصيرٍ: جُعِلتُ فداك! فلمَّا مَضت إلى مَن صارَ ذلك المُصحَفُ؟
فقال: دَفعَتْه إلى أميرِ المُؤمِنينَ عليه السَّلامُ، فلمَّا مَضى صارَ إلى الحَسَنِ، ثُمَّ إلى الحُسَينِ، ثُمَّ عِندَ أهلِه حتَّى يدفعوه إلى صاحِبِ هذا الأمرِ.
فقُلتُ: إنَّ هذا العِلمَ كثيرٌ!
فقال: يا أبا مُحَمَّدٍ، إنَّ هذا الذي وصَفتُه لك لفي ورَقَتَينِ مِن أوَّلِه، وما وصَفتُ لك بَعدُ ما في الورَقةِ الثَّالثةِ، ولا تَكلَّمتُ بحَرفٍ منه [1560] يُنظر: ((دلائل الإمامة)) لابن رستم الطبري (ص: 27). .
ويُؤخَذُ مِن رِواياتِ الشِّيعةِ أنَّ لفاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها لوحًا غَيرَ مُصحَفِها، وتَقدَّمَ النَّقلُ عنهم أنَّ مُصحَفَ فاطِمةَ نَزَل بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بواسِطةِ المَلكِ، وكَتَبه عليٌّ مِن فمِ المَلَكِ وسَلَّمَه لفاطِمةَ، وفي رِوايةٍ أُخرى أنَّه نَزَل جُملةً واحِدةً عَبرَ ثَلاثةٍ مِنَ المَلائِكةِ، أمَّا لوحُ فاطِمةَ فله صِفاتٌ أُخرى لدَيهم، منها: أنَّه نَزَل على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَياتِه وأهداه لفاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنها.
وقد نَقَل الشِّيعةُ عن هذا اللَّوحِ بَعضَ النُّصوصِ التي تُؤَيِّدُ عَقائِدَهم.
فعن أبي بَصيرٍ عن أبي عَبدِ اللهِ قال: قال أبي لجابرِ بنِ عَبدِ اللهِ الأنصاريِّ: (إنَّ لي إليك حاجةً متى يخِفُّ عليك أن أخلوَ بك فأسألَك عنها؟ قال له جابرٌ: في أيِّ الأحوالِ أحبَبتَ، فخَلا به في بَعضِ الأيَّامِ، فقال له: يا جابرُ، أخبِرْني عن اللَّوحِ الذي رَأيتَه في يدِ أُمِّي فاطِمةَ بنتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما أخبَرَتك به أُمِّي أنَّه في ذلك اللَّوحِ مَكتوبٌ، فقال جابرٌ: أشهَدُ باللهِ أنِّي دَخَلتُ على أُمِّك فاطِمةَ عليها السَّلامُ في حَياةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه فهنَّيتُها بوِلادةِ الحُسَينِ، فرَأيتُ في يدَيها لوحًا أخضَرَ ظَنَنتُ أنَّه مِن زُمُرُّدٍ، ورَأيتُ فيه كِتابًا أبيضَ شِبهَ لونِ الشَّمسِ، فقُلتُ لها: بأبي وأُمِّي أنتَ يا بنتَ رَسولِ اللهِ! ما هذا اللَّوحُ؟ فقالت: هذا لوحٌ أهداه اللهُ تعالى إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيه اسمُ أبي واسمُ بَعلي واسمُ ابني واسمُ الأوصياءِ مِن ولَدي، وأعطانيه أبي ليُبَشِّرَني بذلك. قال جابرٌ: فأعطَتْنيه أُمُّك فاطِمةُ عليها السَّلامُ فقَرَأتُه واستَنسَختُه، فقال أبي: فهل لك يا جابِرُ أن تَعرِضَه عليَّ؟ قال: نَعمْ، فمَشى مَعَه أبي إلى مَنزِلِ جابرٍ، فأخرَجَ صَحيفةً مِن رَقٍّ، فقال: يا جابرُ، انظُرْ في كِتابِك لأقرَأَ عليه، فنَظَر جابرٌ في نُسخَتِه، وقَرَأ أبي، فما خالف حَرفٌ حَرفًا، فقال جابرٌ: أشهَدُ باللهِ أنِّي هكذا رَأيتُه في اللَّوحِ مَكتوبًا: "بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، هذا كِتابٌ مِنَ اللهِ العَزيزِ الحَكيمِ لمُحَمَّدٍ نَبيِّه ونورِه وسَفيرِه وحِجابِه ودَليلِه، نَزَل به الرُّوحُ الأمينُ مِن عِندِ رَبِّ العالمينَ، عَظِّمْ يا مُحَمَّدُ أسمائي واشكُرْ نَعمائي...".
قال أبو بَصيرٍ: لو لم تسمَعْ في دَهرِك إلَّا هذا الحَديثَ لكفاك؛ فصُنْه إلَّا عن أهلِه) [1561] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/527)، ((الوافي)) للكاشاني (2/72). .
وعن أبي نَضرةَ قال: (لمَّا احتُضِرَ أبو جَعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ الباقِرُ عليه السَّلامُ عِندَ الوفاةِ دَعا بابنِه الصَّادِقِ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه ليَعهَدَ إليه عَهدًا، فقال له أخوه زَيدُ بنُ عَليٍّ: لو امتَثَلتَ فيَّ بمِثالِ الحَسَنِ والحُسَينِ لرَجَوتُ ألَّا تَكونَ أتَيتَ مُنكَرًا، فقال له: يا أبا الحُسَينِ، إنَّ الأماناتِ ليست بالمِثالِ ولا العُهودُ بالرُّسومِ، وإنَّما هي أُمورٌ سابقةٌ عن حُجَجِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثُمَّ دَعا بجابرِ بنِ عَبدِ اللهِ، فقال له: يا جابرُ، حَدِّثْنا بما عاينتَ مِنَ الصَّحيفةِ، فقال له جابرٌ: نَعَم يا أبا جَعفرٍ، دَخَلتُ إلى مَولاتي فاطِمةَ بنتِ مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه لأُهَنِّئها بمَولدِ الحَسَنِ عليه السَّلامُ، فإذا بيدِها صَحيفةٌ بَيضاءُ مِن دُرَّةٍ، فقُلتُ: يا سَيِّدةَ النِّسوانِ، ما هذه الصَّحيفةُ التي أراها مَعَكِ؟ قالت: فيها أسماءُ الأئِمَّةِ مِن ولَدي، قُلتُ لها: ناوِليني لأنظُرَ فيها، قالت: يا جابرُ، لولا النَّهيُ لكُنتُ أفعَلُ، لكِنَّه قد نُهيَ أن يمَسَّها إلَّا نَبيٌّ أو وصيُّ نَبيٍّ أو أهلُ بَيتِ نَبيٍّ، ولكِنَّه مَأذونٌ لك أن تَنظُرَ إلى باطِنِها مِن ظاهرِها، قال جابرٌ: فقَرَأتُ فإذا: أبو القاسِمِ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ اللهِ المُصطَفى أُمُّه آمِنةُ، أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ المُرتَضى أُمُّه فاطِمةُ بنتُ أسَدِ بنِ هاشِمِ بنِ عَبدِ مَنافٍ، أبو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بنُ عَليٍّ البَرُّ، أبو عَبدِ اللهِ الحُسَينُ بنُ عَليٍّ التَّقيُّ، أُمُّهما فاطِمةُ بنتُ مُحَمَّدٍ، أبو مُحَمَّدٍ عَليُّ بنُ الحُسَينِ العَدلُ أُمُّه شَهربانَوَيهِ بنتُ يَزدجَردَ، أبو جَعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ الباقِرُ أُمُّه أمُّ عَبدِ اللهِ بنتُ الحَسَنِ بنِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، أبو عَبدِ اللهِ جَعفرُ بنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ أُمُّه أمُّ فَروةَ بنتُ القاسِمِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بَكرٍ، أبو إبراهيمَ موسى بنُ جَعفرٍ أُمُّه جاريةُ اسمُها حَميدةُ، أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ موسى الرِّضا أُمُّه جاريةُ واسمُها نَجمةُ، أبو جَعفرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَليٍّ الزَّكيُّ أُمُّه جاريةٌ اسمُها خَيزُرانُ، أبو الحَسَنِ عَليُّ بنُ مُحَمَّدٍ الأمينُ أُمُّه جاريةٌ اسمُها سَوسَنُ، أبو مُحَمَّدٍ الحَسَنُ بنُ عَليٍّ الرَّقيقُ أمُّه جاريةٌ اسمُها سمانةُ، وتُكنَّى أمَّ الحَسَنِ، أبو القاسِمِ مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ هو حُجَّةُ اللهِ القائِمُ أمُّه جاريةٌ اسمُها نَرجِسُ، صَلواتُ اللهِ عليهم أجمَعينَ) [1562] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (36/193). .
ولو كان شَيءٌ مِن دَعاوى الشِّيعةِ صَحيحًا لأشارت إليه آياتُ القُرآنِ أو سُنَّةُ النَّبيِّ المُختارِ، ولكِنَّ شَيئًا مِن ذلك لم يَرِدْ. وكيف تَختَلفُ الشِّيعةُ في أمرِ تَعيينِ الإمامِ إلى عَشَراتِ الفِرَقِ، وعِندَها هذه الصُّحُفُ المُنزَّلةُ؟
كما أنَّه يوجَدُ نَصٌّ يُناقِضُ ذلك، وهو عن أبي عَبدِ اللهِ جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال: (إنَّ اللهَ عَزَّ ذِكرُه خَتَمَ بنَبيِّكم النَّبيِّينَ، فلا نَبيَّ بَعدَه أبَدًا، وخَتمَ بكِتابِكم الكُتُبَ، فلا كِتابَ بَعدَه أبَدًا، وأنزَل فيه تِبيانَ كُلِّ شَيءٍ، وخَلقَكم وخَلَق السَّماواتِ والأرضَ، ونَبَأَ ما قَبلكم وفصلَ ما بَينَكم وخَبَرَ ما بَعدَكم وأمرَ الجَنَّةِ والنَّارِ وما أنتم صائِرونَ إليه) [1563] يُنظر: ((الكافي)) للكليني (1/269). .
وفي أثَرٍ آخَرَ عن الرِّضا قال: (شَريعةُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا تُنسَخُ إلى يومِ القيامةِ، فمَن ادَّعى بَعدَه نُبوَّةً، أو أتى بَعدَ القُرآنِ بكِتابٍ فدَمُه مُباحٌ لكُلِّ مَن سَمِع ذلك منه) [1564] يُنظر: ((بحار الأنوار)) للمجلسي (11/34) و (79/221). .
الجَفرُ:
الجَفرُ في اللُّغةِ:
قال الخَليلُ: (الجَفرُ والجَفرةُ مِن أولادِ الشَّاءِ: ما قد استَجفرَ، أي: صارَ له بَطنٌ وسَعةُ جَوفٍ، وأقبَل على الأكلِ. وهو المُتَكرِّشُ مِنَ النَّاسِ، واستَجفرَ الصَّبيُّ: عَظُمَ بَطنُه وأكَل... والجَفرةُ: حُفرةٌ واسِعةٌ مُستَديرةٌ في الأرضِ. والجَفيرُ: شِبهُ الكِنانةِ إلَّا أنَّه أوسَعُ، يُجعَلُ فيه نُشَّابٌ كثيرٌ) [1565] ((العين)) (6/ 110). .
وقيل: سُمِّيَ الكِتابُ المَشهورُ بالجَفرِ جَفرًا؛ نِسبةً للجِلدِ الذي كُتِبَ عليه. وهو نَوعانِ: الجَفرُ الأبيضُ، والجَفرُ الأحمَرُ.
عن أبي العَلاءِ قال: (سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه السَّلامُ يقولُ: إنَّ عِندي الجَفرَ الأبيضَ، قال: فقُلتُ: أيُّ شَيءٍ فيه؟ قال: زَبورُ داوُدَ، وتَوراةُ موسى، وإنجيلُ عيسى، وصُحُفُ إبراهيمَ عليهم السَّلامُ، والحَلالُ والحَرامُ، ومُصحَفُ فاطِمةَ، وعِندي الجَفرُ الأحمَرُ. قال: قُلتُ: وأيُّ شَيءٍ في الجَفرِ الأحمَرِ؟ قال: السِّلاحُ، وذلك إنَّما يُفتَحُ للدَّمِ، يفتَحُه صاحِبُ السَّيفِ للقَتلِ) [1566] يُنظر: ((الأصول من الكافي)) (1/ 240). .
وذَكرَ المَجلِسيُّ أنَّ الإمامَ الثَّاني عَشَرَ المَعروفَ بالقائِمِ أو المَهديِّ المُنتَظَرِ عِندَ خُروجِه يضَعُ السَّيفَ في العَرَبِ؛ استنادًا لِما في الجَفرِ الأحمَرِ.
فقد رَوى المَجلِسيُّ أنَّ (المُنتَظَرَ يسيرُ في العَرَبِ بما في الجَفرِ الأحمَرِ، وهو قَتلُهم، ورَوى أيضًا: (ما بَقيَ بَينَنا وبَينَ العَرَبِ إلَّا الذَّبحُ) [1567] ((بحار الأنوار)) (52/ 349). .
وقال حُسَينٌ الموسَويُّ: (قد سَألتُ مَولانا الرَّاحِلَ الإمامَ الخوئيَّ عن الجَفرِ الأحمَرِ، من الذي يفتَحُه؟ ودَمُ مَن الذي يُراقُ؟ فقال: يفتَحُه صاحِبُ الزَّمانِ عَجَّل اللهُ فرَجَه، ويُريقُ به دِماءَ العامَّةِ النَّواصِبِ أهلِ السُّنَّةِ، فيُمَزِّقُهم شَذَرَ مَذَرَ، ويجعَلُ دِماءَهم تَجري كدِجلةَ والفُراتِ، ولينتَقِمَنَّ مِن صَنَمَي قُرَيشٍ -يقصِدُ أبا بَكرٍ وعُمَرَ-، وابنَتَيهما -يقصِدُ عائِشةَ وحَفصةَ-، ومِن نَعثَلٍ -يقصِدُ عُثمانَ-، ومِن بَني أُمَيَّةَ والعَبَّاسِ، فينبِشُ قُبورَهم نبشًا) [1568] ((لله ثم للتاريخ)) (ص: 77). .
وقد نَسَبَ الشِّيعةُ كِتابَ الجَفرِ، والذي يحتَوي على ما يُسَمُّونَه بعِلمِ أسرارِ الحُروفِ إلى جَعفرٍ الصَّادِقِ، مَعَ أنَّ الذي وضَعَه هو هارونُ بنُ سَعيدٍ العِجليُّ (ت 145هـ)، وهو رَأسُ الزَّيديَّةِ، فزَعَمَ أنَّه يرويه عن جَعفرٍ الصَّادِقِ، وفيه ادِّعاءُ عِلمِ ما سَيقَعُ لأهلِ البَيتِ على وجهِ العُمومِ، ولبَعضِ الأشخاصِ منهم على وَجهِ الخُصوصِ، وأنَّه وقَعَ ذلك لجَعفرٍ الصَّادِقِ ونَظائِرِه عن طَريقِ الكَشفِ والكَرامةِ [1569] يُنظر: ((مقدمة ابن خلدون)) (ص: 415). .
وقيل بنِسبَتِه أوَّلًا إلى آدَمَ عليه السَّلامُ، ثُمَّ تُوورِثَ حتَّى بَلغَ جَعفرًا الصَّادِقَ، وأنَّه (الذي حَلَّ مَعاقِدَ رُموزِه، وفكَّ طَلاسِمَ كُنوزِه. ثُمَّ ذَكروا أنَّ له كِتابَ الجَفرِ الأكبَرِ، والجَفرِ الأصغَرِ، وأنَّ الجَفرَ الأكبَرَ إشارةٌ إلى المَصادِرِ الوفقيَّةِ التي هي مِن أ، ب، ت، ث، إلى آخِرِها، وأنَّها ألْفُ وَفْقٍ، وأنَّ الجَفرَ الأصغَرَ إشارةٌ إلى المَصادِرِ الوَفقيَّةِ التي هي مُرَكَّبةٌ مِن أبجَد إلى قَرشَت، وهي سَبعُمِائةِ وَفقٍ. وذَكروا أنَّ الجامِعةَ هي كِتابٌ فيه عِلمُ ما كان وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ، وأمَّا صَحيفةُ فاطِمةَ ففيها ذِكرُ الوقائِعِ والفِتَنِ والمَلاحِمِ وما هو كائِنٌ إلى يومِ القيامةِ، وأمَّا كِتابُ عليٍّ فهو كِتابٌ أملاه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه مِن فِلْقِ فيه، وفيه كُلُّ ما يحتاجُ إليه مِنَ الشَّرائِعِ الدِّينيَّةِ والأحكامِ والقَضايا حتَّى فيه الجَلدةُ ونِصفُ الجَلدةِ [1570] يُنظر: ((إلزام الناصب)) للحائري (1/ 232 - 235)، ((رسالة شريفة)) للصنعاني (ص: 20 - 28). .
قال ابنُ قُتَيبةَ: (... أعجَبُ مِن هذا التَّفسيرِ تَفسيرُ الرَّوافِض للقُرآنِ، وما يدَّعونَه مِن عِلمِ باطِنِه بما وقَعَ إليهم مِنَ الجَفرِ، وهو جِلدُ جَفرٍ، ادَّعَوا أنَّه كتَبَ فيه لهم الإمامُ كُلَّ ما يحتاجونَ إلى عِلمِه، وكُلَّ ما يكونُ إلى يومِ القيامةِ) [1571] ((تأويل مختلف الحديث)) (ص: 122). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ: (نحن نَعلمُ مِن أحوالِ أُمَّتِنا أنَّه قد أُضيفَ إلى جَعفرٍ الصَّادِقِ -وليسَ هو بنَبيٍّ مِنَ الأنبياءِ- مِن جِنسِ هذه الأُمورِ -أي الاستِدلالِ على الحَوادِثِ المُستَقبَليَّةِ- ما يعلمُ كُلُّ عالمٍ بحالِ جَعفرٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ ذلك كذِبٌ عليه؛ فإنَّ الكذِبَ عليه مِن أعظَمِ الكذِبِ، حتَّى يُنسَبَ إليه أحكامُ الحَرَكاتِ السُّفليَّةِ، والعُلماءُ يعلَمونَ أنَّه بَرِيءٌ مِن ذلك كُلِّه) [1572] ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 397) باختصار. وقد أورد بعضُهم عن جعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّه سُئل: (ما تقولُ في عِلمِ النُّجومِ؟ قال: هو عِلمٌ قلَّت منافعُه، وكَثُرت مضرَّاتُه؛ لأنَّه لا يُدفَعُ به المقدورُ، ولا يُتقَّى به المحذورُ، وإن أخبر المنجِّمُ بالبلاءِ لم يُنجِه التَّحرُّزُ من القضاءِ، وإن أخبر هو بخيرٍ لم يستطِعْ تعجيلَه، وإن حدَث به سوءٌ لم يمكِنْه صَرفُه، والمنجِّمُ يضادُّ اللهَ في علِمِه بزعمِه أنَّه يَرُدُّ قضاءَ اللهِ عن خَلقِه). يُنظر: ((مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول)) للمجلسي (26/ 470). .
وقال أيضًا: (وأمَّا الكذِبُ والأسرارُ التي يدَّعونَها عن جَعفرٍ الصَّادِقِ فمِن أكبَرِ الأشياءِ كذبًا، حتَّى يُقالَ: ما كُذِبَ على أحَدٍ ما كُذِبَ على جَعفرٍ رَضِيَ اللهُ عنه! ومِن هذه الأُمورِ المُضافةِ: كِتابُ (الجَفر) الذي يدَّعونَ أنَّه كُتِبَ فيه الحَوادِثُ، والجَفرُ: ولَدُ الماعِزِ، يزعُمونَ أنَّه كُتِبَ ذلك في جِلدِه) [1573] ((مجموع الفتاوى)) (4/78). ويُنظر له: ((نقض المنطق)) (ص: 66). .
وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (قد أجمعَ أهلُ المَعرِفةِ بالمَنقولِ على أنَّ ما يُروى عن عليٍّ وعن جَعفرٍ الصَّادِقِ مِن هذه الأُمورِ التي يدَّعيها الباطِنيَّةُ: كَذِبٌ مُختَلَقٌ؛ ولهذا كانت مَلاحِدةُ الشِّيعةِ والصُّوفيَّةِ يَنسُبونَ إلحادَهم إلى عليٍّ، وهو بَريءٌ مِن ذلك) [1574] ((درء تعارض العقل والنقل)) (5/26). .
وقال عِندَ ذِكرِه عَليًّا وجَعفرًا الصَّادِقَ: (الكذِبُ على هؤلاء في الرَّافِضةِ أعظَمُ الأُمورِ، لا سيَّما على جَعفرِ بنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ؛ فإنَّه ما كُذِبَ على أحَدٍ ما كُذِبَ عليه، حتَّى نَسَبوا إليه كِتابَ الجَفرِ) [1575] ((منهاج السنة)) (2/464). .
وقال أيضًا: (مِنَ المَعلومِ بالتَّواتُرِ علمًا ضروريًّا لمَن له خِبرةٌ مُتَوسِّطةٌ بأحوالِ الصَّحابةِ أنَّهم كانوا أعظَمَ الخَلقِ مُنافاةً لمِثلِ هذه التَّحريفاتِ التي يُسَمُّونَها (التَّعبيرَ والتَّأويلَ) خاصَّتُهم وعامَّتُهم، وأنَّ جَميعَ ما يُنقَلُ عنهم مِمَّا يُخالفُ الظَّاهِرَ المَعروفَ: فهو كذِبٌ مُفترًى، مِثلُ ما يزعُمُ أهلُ (البطاقةِ) و(الجَفرِ) ونَحوِ ذلك مِمَّا يدَّعونَه مِنَ العُلومِ الباطِنةِ المَنقولةِ عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه وأهلِ البَيتِ رَضِيَ اللهُ عنهم) [1576] ((بغية المرتاد)) (ص: 321). .
وقال ابنُ خَلدونَ: (قد يستَنِدونَ في حَدَثانِ الدُّولِ على الخُصوصِ إلى كِتابِ الجَفرِ، ويزعُمونَ أنَّ فيه عِلمَ ذلك كُلِّه مِن طَريقِ الآثارِ والنُّجومِ لا يزيدونَ على ذلك، ولا يعرِفونَ أصلَ ذلك ولا مُستَنَدَه، واعلَمْ أنَّ كِتابَ الجَفرِ كان أصلُه أنَّ هارونَ بنَ سَعيدٍ العِجليَّ، -وهو رَأسُ الزَّيديَّةِ- كان له كِتابٌ يرويه عن جَعفرٍ الصَّادِقِ، وكان مكتوبًا عِندَ جَعفَرٍ في جِلدِ ثَورٍ صَغيرٍ؛ فرَواه عنه هارونُ العِجليُّ، وكتَبَه وسَمَّاه الجَفرَ باسمِ الجِلدِ الذي كُتِبَ فيه؛ لأنَّ الجَفرَ في اللُّغةِ هو الصَّغيرُ، وصارَ هذا الاسمُ عَلَمًا على هذا الكِتابِ عِندَهم، وكان فيه تَفسيرُ القُرآنِ، وما في باطِنِه مِن غَرائِبِ المَعاني مَرويَّةٌ عن جَعفرٍ الصَّادِقِ، وهذا الكِتابُ لم تَتَّصِلْ رِوايتُه ولا عُرِف عَينُه، وإنَّما يظهَرُ منه شَواذُّ مِنَ الكلماتِ لا يصحَبُها دَليلٌ) [1577] ((مقدمة ابن خلدون)) (1/415). .
وقال ابنُ خَلدونَ: (أمَّا المُنَجِّمونَ فيستَنِدونَ في حَدَثانِ الدُّولِ إلى الأحكامِ النُّجوميَّةِ، أمَّا في الأُمورِ العامَّةِ مِثلِ المُلكِ والدُّولِ فمِنَ القِراناتِ، وخُصوصًا بَيْنَ العُلويَّينِ، وذلك أنَّ العُلويَّينِ زُحَلَ والمُشتَريَ يقتَرِنانِ في كُلِّ عِشرينَ سَنةً مَرَّةً... وقد كان يعقوبُ بنُ إسحاقَ الكِنديُّ مُنَجِّمَ الرَّشيدِ والمَأمونِ وضَعَ في القِراناتِ الكائِنةِ في المِلَّةِ كتابًا سَمَّاه الشِّيعةُ بـ: الجَفرِ، باسمِ كِتابِهم المَنسوبِ إلى جَعفرٍ الصَّادِقِ، وذَكر فيه -فيما يُقالُ- حَدَثانَ دَولةِ بَني العَبَّاسِ، وأنَّها نِهايتُه، وأشارَ إلى انقِراضِها، والحادِثةُ على بَغدادَ أنَّها تَقَعُ في انتِصافِ المِئةِ السَّابعةِ، وأنَّه بانقِراضِها يكونُ انقِراضُ المِلَّةِ، ولم نَقِفْ على شَيءٍ مِن خَبَرِ هذا الكِتابِ، ولا رَأينا مَن وقَف عليه، ولعَلَّه غَرِقَ في كُتُبِهم التي طَرَحَها هُلاكو مَلِكُ التَّتَرِ في دِجلةَ عِندَ استيلائِهم على بَغدادَ، وقَتْلِ المُستَعصِمِ آخِرِ الخُلفاءِ، وقد وقَعَ بالمَغرِبِ جُزءٌ مَنسوبٌ إلى هذا الكِتابِ يُسَمُّونَه الجَفرَ الصَّغيرَ، والظَّاهِرُ أنَّه وُضِعَ لبَني عَبدِ المُؤمِنِ لذِكرِ الأوَّلينَ مِن مُلوكِ الموحِّدينَ فيه على التَّفصيلِ، ومُطابَقةِ مَن تَقدَّمَ عن ذلك مِن حَدَثانِه، وكذِبِ ما بَعدَه) [1578] ((تاريخ ابن خلدون)) (1/420). .
وقال التَّهانَويُّ عن الجَفرِ: (هو عِلمٌ يُبحَثُ فيه عن الحُروفِ مِن حَيثُ هي بناءٌ مُستَقِلٌّ بالدَّلالةِ، ويُسَمَّى بعِلمِ الحُروفِ وبعِلمِ التَّكسيرِ أيضًا.
وفائِدَتُه الاطِّلاعُ على فَهمِ الخِطابِ المُحَمَّديِّ الذي لا يكونُ إلَّا بمَعرِفةِ عِلمِ اللِّسانِ العَرَبيِّ.
هكذا يُستَفادُ مِن بَعضِ الرَّسائِلِ. ويُعرَفُ مِن هذا العِلمِ حَوادِثُ العالمِ إلى انقِراضِه.
قال السيِّدُ السَّندُ في شَرحِ المَواقِفِ في المَقصِدِ الثَّاني مِن نَوعِ العِلمِ: "الجَفرُ والجامِعةُ كِتابانِ لعَليٍّ كرَّمَ اللهُ وجهَه قد ذُكرَ فيهما على طَريقةِ عِلمِ الحُروفِ الحَوادِثُ التي تَحدُثُ إلى انقِراضِ العالَمِ. وكانتِ الأئِمَّةُ المَعروفونَ مِن أولادِه يَعرِفونَهما ويَحكُمونَ بهما. وفي كِتابِ قَبولِ العَهدِ الذي كتَبَه عليُّ بنُ موسى رَضِيَ اللهُ عنه إلى المَأمونِ بَعدَ أن وعَد المَأمونُ له بالخِلافةِ أنَّك قد عَرَفتَ مِن حُقوقِها ما لم يَعرِفْه آباؤُك، فقَبِلتُ منك عَهدَك، إلَّا أنَّ الجَفرَ والجامِعةَ يدُلَّانِ على أنَّه لا يَتِمُّ. ولمَشايِخِ المَغارِبةِ نَصيبٌ مِن عِلمِ الحُروفِ ينتَسِبونَ فيه إلى أهلِ البَيتِ. ورَأيتُ أنا بالشَّامِ نَظمًا أُشيرَ فيه بالرُّموزِ إلى أحوالِ مُلوكِ مِصرَ، وسَمِعتُ أنَّه مُستَخرَجٌ مِن ذينِك الكِتابَينِ") [1579] ((كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم)) (1/ 568). .
وقال صِدِّيق حَسَن خان: (هذا الكِتابُ لا تَصِحُّ نِسبَتُه إلى عليٍّ ولا إلى جَعفرٍ الصَّادِقِ، والذينَ نَسَبوه إليها مِن أجهَلِ النَّاسِ بمَعرِفةِ المَنقولاتِ والأحاديثِ والآثارِ، والتَّمييزِ بَيْنَ صَحيحِها وسَقيمِها، وعُمدَتُهم في المَنقولاتِ التَّواريخُ المُنقَطِعةُ الإسنادِ، وكثيرٌ منها مِن وضعِ مَن عُرِف بالكذِب والاختِلاقِ، وغَيرُ خافٍ على طَلبةِ العِلمِ أنَّ ما لا يُعلمُ إلَّا مِن طَريقِ النَّقلِ لا يُمكِنُ الحُكمُ بثُبوتِه إلَّا بالرِّوايةِ صَحيحةِ السَّنَدِ، فإذا لم توجَدْ فلا يسوغُ لنا شَرعًا وعقلًا أن نَقولَ بثُبوتِه) [1580] ((أبجد العلوم)) (2/214- 216). .
وقال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (لا يُعرَفُ له سَنَدٌ إلى أميرِ المُؤمِنينَ، وليسَ على النَّافي دَليلٌ، وإنَّما يُطلبُ الدَّليلُ مِن مُدَّعي الشَّيءِ، ولا دَليلَ لمدَّعي هذا الجَفرِ) [1581] ((مجلة المنار)) (4/60)، و((الفتاوى)) له (4/1307 رقم 515). .
وقال مَشهور حَسَن آل سَلمان: (كِتابُ الجَفرِ الذي شاعَ خَبَرُه في الفِتنةِ التي حَصَلت مِن قَريبٍ في بَعضِ ديارِ المُسلمينَ، وهو على حَدِّ الأكاذيبِ التي فيه: عِلمٌ بقَوانينَ حَرفيَّةٍ -نِسبةً إلى الحَرفِ-، يصِلُ بها إلى استِنباطِ المَجهولاتِ مِنَ الحَوادِثِ الكونيَّةِ، بل زَعَمَ واضِعوه بقَولهم فيه: يُمكِنُ أن يُفهَمَ منه أحوالُ الإنسانِ الماضي والحالُ والمُستَقبَلُ، وكيفيَّتُه الحادِثةُ بهذه الطَّريقةِ. وهذا الكِتابُ مَنسوبٌ للصَّحابيِّ الجَليلِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه تارةً، وتارةً إلى جَعفرٍ الصَّادِقِ... وفي هذا الكِتابِ مِن أُمورِ الغَيبِ والأحداثِ والأسرارِ الشَّيءُ الكثيرُ، ويزعُم الإماميَّةُ أنَّ جعفرًا الصَّادِقَ رَحِمَه اللهُ كتَبَ لهم كُلَّ ما يحتاجونَ إليه، وكُلَّ ما سَيقَعُ ويكونُ إلى يومِ القيامةِ، وكان مكتوبًا عِندَه في جِلدِ ماعِزٍ؛ فكتَبَه عنه هارونُ بنُ سَعيدٍ العِجليُّ رَأسُ الزَّيديَّةِ، وسَمَّاه الجَفرَ باسمِ الجِلدِ الذي كُتِبَ فيه، وهذا زَعمٌ باطِلٌ مُخالِفٌ لِما يعتَقِدُه المُسلمونَ مِن أنَّ الغَيبَ لا يعلَمُه إلَّا اللهُ سُبحانَه، ومَن ارتَضى مِن رُسُلِه، قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رسُولٍ [الجن: 26-27] ) [1582] ((العراق في أحاديث وآثار الفتن)) (2/ 611). .
وقد ثَبَتَ عن عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يخُصَّه بشَيءٍ مِن دونِ أصحابِه؛ فعن أبي جُحَيفةَ السُّوائيِّ قال: سَألتُ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه: هَل عِندَكم شَيءٌ مِمَّا ليس في القُرآنِ، أو ما ليس عِندَ النَّاسِ؟ فقال: (والذي خَلقَ الحَبَّةَ، وبَرَّأ النَّسَمةَ، ما عِندَنا إلَّا ما في القُرآنِ إلَّا فهمًا يُعطى رَجُلٌ في كِتابِه، وما في هذه الصَّحيفةِ. قال: قُلتُ: فما هذه الصَّحيفةُ؟ قال: العَقلُ، وفَكاكُ الأسيرِ، ولا يُقتَلُ مُسلمٌ بكافِرٍ) [1583] أخرجه البخاري (111). .
نَقلُ ابنُ بَطَّالٍ عن المُهلَّبِ قَولَه: (في حَديثِ عليٍّ مِنَ الفِقهِ ما يقطَعُ بِدعةَ المُتَشَيِّعةِ المُدَّعينَ على عليٍّ أنَّه الوصيُّ، وأنَّه المَخصوصُ بعِلمٍ مِن عِندِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يُخَصَّ به غَيرُه؛ لقَولِه ويمينِه: أنَّ ما عِندَه إلَّا ما عِندَ النَّاسِ مِن كِتابِ اللهِ تعالى، ثُمَّ أحال على الفهمِ الذى النَّاسُ فيه على دَرَجاتِهم، ولم يخُصَّ نَفسَه بشَيءٍ غَيرِ ما هو مُمكِنٌ في غَيرِه) [1584] ((شرح صحيح البخاري)) (1/ 188). ويُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (2/161). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (وإنَّما سَأله أبو جُحَيفةَ عن ذلك؛ لأنَّ جَماعةً مِنَ الشِّيعةِ كانوا يزعُمونَ أنَّ عِندَ أهلِ البَيتِ -لا سيَّما عليٍّ- أشياءَ مِنَ الوحيِ خَصَّهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها، لم يطَّلعْ غَيرُهم عليها) [1585] ((فتح الباري)) (1/ 204). .
هذا، وقد تَوسَّعَ قَومٌ في الخَوضِ بهذا، ثُمَّ نَسَبوا كُلَّ ما بَدا لهم إلى عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وصَنَّفوا في ذلك مُصَنَّفاتٍ حوت أوفاقًا وحُروزًا، ودَوائِرَ سَمَّوها عُروشَ الحُروفِ وأبراجَ النُّجومِ وحُروفَها وأملاكَها، وجَداوِلَ تَضَمَّنت مَنازِلَ القَمَرِ، حتَّى إنَّهم وصَلوا إلى استِنطاقِ جَداوِلِ الحُروفِ لمَعرِفةِ الغَيبِ مِمَّا هو مِن عَمَلِ المُنَجِّمينَ السَّحَرةِ، وقد ادَّعَوا أنَّ ذلك كُلَّه مِنَ القَواعِدِ الجَفريَّةِ، وقد عَظَّموا شَأنَ هذه القَواعِدِ حتَّى قال قائِلُهم: مَن عَلِمَ هذه القَواعِدَ الجَفريَّةَ لم تَخفَ عليه ذَرَّةٌ مِنَ الوُجودِ! ومَن كتَبَ الجَفرَ وحَمَله مَعَه أطاعَته جَميعُ المَخلوقاتِ ولم يُعادِه أحَدٌ، ومَن عاداه انقادَ له، ومَن صَحِبَه في سَفرٍ حَصَل مُرادُه [1586] يُنظر في هذا: ((الكواكب الدرية في الأصول الجفرية)) لعثمان العمري، ((قواعد الجفر)) لحسن الأخلاطي. عن: ((الحذر من السحر: دراسة علمية لحقيقة السحر)) للجريسي (ص: 166). .
ولعِلمِ الجَفرِ عَلاقةٌ بحُروفِ ونِظامِ أبي جاد في استِدلالِ البَعضِ بها على العِلمِ بالمُغَيَّباتِ [1587] ((فقه أشراط الساعة)) للمقدم (ص: 208- 213)، ((التنجيم والمنجمون)) للمشعبي (ص: 311 - 318). .
وأربابُ هذه الطَّريقةِ يزعُمونَ أنَّ لهذه الحُروفِ عَلاقةً ورابطةً قَويَّةً بحَياةِ الإنسانِ ومُستَقبَلِه، وبالكونِ وما يَحدُثُ فيه مِنَ الحَوادِثِ، ويزعُمونَ أنَّهم يعرِفونَ حَوادِثَ هذا العالَمِ مِن هذه الحُروفِ، وطَريقَتُهم في ذلك أنَّهم يكتُبونَ حُروفَ أبي جادٍ، ويجعَلونَ لكُلِّ حَرفٍ منها قدرًا مِنَ العَدَدِ مَعلومًا عِندَهم، ويُجرونَ على ذلك أسماءَ الآدَميِّينَ، والأزمِنةَ، والأمكِنةَ، وغَيرَها، ثُمَّ يُجرونَ على هذه الأعدادِ عَمَليَّةً حِسابيَّةً مِن جَمعٍ وطَرحٍ بطَريقةٍ مُعَيَّنةٍ، ويُنسَبُ العَدَدُ الباقي مِن هذه العَمَليَّةِ إلى الأبراجِ الاثنَي عَشَرَ، ثُمَّ يقضونَ بالسُّعودِ والنُّحوسِ، وبأوقاتِ الحَوادِثِ والمَلاحِمِ، وبمُدَدِ المُلكِ وأعمارِ النَّاسِ، إلى آخِرِ ذلك مِن أُمورِ الغَيبِ، على وَفقِ ما أصَّله لهم أسلافُهم [1588] ((الفتاوى الكبرى)) (1/ 336). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (تَجِدُ عامَّةُ مَن في دينِه فسادٌ يدخُلُ في الأكاذيبِ الكَونيَّةِ، مِثلُ أهلِ الاتِّحادِ، فإنَّ ابنَ عَرَبي في كِتابِ "عنقاء مغرب" وغَيرِه، أخبَرَ بمُستَقبَلاتٍ كثيرةٍ عامَّتُها كذِبٌ، وكذلك ابنُ سَبعينَ، وكذلك الذينَ استَخرَجوا مُدَّةَ بَقاءِ هذه الأُمَّةِ مِن حِسابِ الجُمَّلِ مِن حُروفِ المُعجَمِ الذي وَرِثوه مِنَ اليهودِ، ومِن حَرَكاتِ الكواكِبِ الذي ورِثوه مِنَ الصَّابئةِ، كما فعَل أبو نَصرٍ الكِنديُّ، وغيُره مِنَ الفلاسِفةِ، وكما فعَل بَعضُ مَن تَكلَّمَ في تَفسيرِ القُرآنِ مِن أصحابِ الرَّازي، ومَن تَكلَّمَ في تَأويلِ وقائِعِ النُّسَّاكِ مِنَ المائِلينَ إلى التَّشَيُّعِ.
وقد رَأيتُ مِن أتباعِ هؤلاء طَوائِفَ يدَّعونَ أنَّ هذه الأُمورَ مِنَ الأسرارِ المَخزونةِ والعُلومِ المَصونةِ، وخاطَبتُ في ذلك طَوائِفَ منهم، وكُنتُ أحلِفُ لهم أنَّ هذا كَذِبٌ مُفترًى، وأنَّه لا يجري مِن هذه الأُمورِ شَيءٌ، وطَلبتُ مُباهَلةَ بَعضِهم؛ لأنَّ ذلك كان مُتَعَلِّقًا بأُصولِ الدِّينِ) [1589] ((الفتاوى الكبرى)) (4/ 81). .

انظر أيضا: