موسوعة الفرق

الفرعُ الثَّاني عشر: قَضيَّةُ فَدَكٍ


أثار الشِّيعةُ مسألةَ أرضِ فَدَكٍ التي ورد في شأنِها خلافُ بَيْنَ فاطمةَ وأبي بَكرٍ رضي اللَّهُ عنهما.
فعن عائشة رضي اللَّهُ عنها (أنَّ فاطِمةَ بنتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أرسَلَت إلى أبي بَكْرٍ تَسألُهُ ميراثَها مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا أفاءَ اللهُ عليه بالمَدينةِ وفَدَكٍ، وما بَقي مِن خُمسِ خَيبَرَ، فقال أبو بَكْرٍ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا نُوْرَثُ، ما تَرَكْنا صَدقةٌ))، إنَّما يَأكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هَذا المالِ، وإنِّي واللهِ لا أغَيِّرُ شَيئًا مِن صَدَقةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن حالِها الَّتي كانَ عليها في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولأعمَلَنَّ فيها بما عَمِلَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأبى أبو بَكرٍ أن يَدفَعَ إلى فاطِمةَ مِنها شَيئًا، فوَجَدَت فاطِمةُ عَلى أبي بَكْرٍ في ذلك، فهَجَرَتْهُ فلَم تُكَلِّمْهُ حَتَّى تُوُفِّيَت، وعاشَت بَعدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّةَ أشهُرٍ،... فتَشهَّدَ عَليُّ بنُ أبي طالِبٍ ثُمَّ قال: إنَّا قَد عَرَفْنا يا أبا بَكْرٍ فضيلَتَكَ، وما أعطاكَ اللهُ، ولَم نَنفَسْ عليكَ خَيرًا ساقَهُ اللهُ إلَيكَ، ولَكِنَّكَ استَبدَدْتَ علينا بالأمرِ، وكُنَّا نَحنُ نَرى لنا حَقًّا لِقَرابَتِنا مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَم يَزَلْ يُكلِّمُ أبا بَكْرٍ حَتَّى فاضَت عَينا أبي بَكرٍ، فلَمَّا تَكَلَّمَ أبو بَكْرٍ قال: والَّذي نَفسي بيَدِهِ لَقَرابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إلَيَّ أن أصِلَ مِن قَرابَتي، وأمَّا الَّذي شَجَرَ بَيني وبينَكم مِن هَذِه الأموالِ فإنِّي لم آلُ فيها عنِ الحَقِّ، ولَم أترُك أمرًا رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصنَعُهُ فيها إلَّا صَنعْتُهُ) [988] أخرجه البخاري (4240، 4241) واللفظ له، ومسلم (1759). .
قال ابنُ كثيرٍ: (كان سَهمُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي أصاب مع المُسلِمين ممَّا قَسَّم بخيبَرَ وفَدَكٍ بكَمالِها -وهي طائفةٌ كبيرةٌ من أرضِ خَيبَرَ نزلوا من شِدَّةَ رعبِهم منه، صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه، فصالحوه- وأموالِ بني النَّضيرِ، المتقَدِّمِ ذِكْرُها، ممَّا لم يوجِفِ المُسلِمون عليه بخَيلٍ ولا ركابٍ، فكانت هذه الأموالُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً، وكان يعزِلُ منها نَفَقةَ أهلِه لسنةٍ، ثمَّ يجعَلُ ما بَقِيَ مجعَلَ مالِ اللَّهِ، يصرِفُه في الكُراعِ والسِّلاحِ ومصالِحِ المُسلِمين، فلمَّا مات -صَلَواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه- اعتقدت فاطمةُ وأزواجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو أكثَرُهنَّ أنَّ هذه الأراضيَ تكونُ موروثةً عنه، ولم يبلُغْهنَّ ما ثَبَت عنه من قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نحن -مَعشَرَ الأنبياءِ- لا نُورَثُ، ما تركناه فهو صَدَقةٌ)) [989] أخرجه البخاري (3094)، ومسلم (1757) مطولًا دون قولِه: "نحن مَعشَرَ الأنبياءِ" من حديثِ عمر بن الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. . ولمَّا طلبت فاطمةُ وأزواجُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والعبَّاسُ نصيبَهم من ذلك، وسألوا الصِّدِّيقَ أن يسلِّمَه إليهم، ذَكَر لهم قولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا نُورَثُ، ما ترَكْنا فهو صَدَقةٌ))، وقال: أنا أعولُ مَن كان يعولُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللَّهِ لقرابةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إليَّ أن أصِلَ مِن قرابتي [990] أخرجه البخاري (4036)، ومسلم (1759) مطولًا باختلاف يسير دون قوله: "أنا أعولُ من كان يعولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم" من حديثِ عائشة رَضِيَ اللهُ عنها. . وصدَقَ رَضِيَ اللَّهُ عنه وأرضاه؛ فإنَّه البارُّ الرَّاشدُ في ذلك، التَّابِعُ للحَقِّ، وطَلَب العبَّاسُ وعَليٌّ -على لِسانِ فاطمةَ، إذ قد فاتهم الميراثُ- أن ينظُرا في هذه الصَّدَقةِ، وأن يَصرِفَا ذلك في المصارِفِ التي كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَصرِفُها فيها، فأبى عليهم الصِّدِّيقُ ذلك، ورأى أنَّ حَقًّا عليه أن يقومَ فيما كان يقومُ فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأن لا يخرُجَ مِن مَسلَكِه ولا عن سَنَنِه. فتغَضَّبَت فاطمةُ، رَضِيَ اللَّهُ عنها، عليه في ذلك، ووجَدَت في نفسِها بعضَ المَوجِدةِ، ولم يكُنْ لها ذلك، والصِّدِّيقُ مَن قد عَرَفَتْ هي والمُسلِمون محلَّه ومنزلتَه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقيامَه في نُصرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حياتِه وبعدَ وفاتِه؛ فجزاه اللَّهُ عن نبيِّه وعن الإسلامِ وأهلِه خيرًا، وتُوفِّيَت فاطمةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها بعدَ سِتَّةِ أشهُرٍ، ثمَّ جَدَّد عليٌّ البيعةَ بعدَ ذلك، فلمَّا كان أيَّامَ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ سألوه أن يُفَوِّضَ أمرَ هذه الصَّدقةِ إلى عليٍّ والعبَّاسِ، وثقَّلوا عليه بجماعةٍ من ساداتِ الصَّحابةِ، ففعل عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عنه ذلك، وذلك لكثرةِ أشغالِه واتِّساعِ مملكتِه وامتدادِ رعيَّتِه، فتغَلَّب على عليٍّ عَمُّه العبَّاسُ فيها، ثمَّ تساوَقا يختَصِمانِ إلى عُمَرَ، وقدَّما بَيْنَ أيديهما جماعةً من الصَّحابةِ، وسألا منه أن يَقسِمَها بَيْنَهما، فينظُرَ كُلٌّ منهما فيما لا ينظُرُ فيه الآخَرُ. فامتنع عُمَرُ من ذلك أشَدَّ الامتناعِ، وخَشِيَ أن تكونَ هذه القِسمةُ تُشبِهُ قِسمةَ المواريثِ، وقال: انظُرا فيها وأنتما جميعٌ، فإن عجَزْتُما عنها فادفعاها إليَّ، والذي تقومُ السَّماءُ والأرضُ بأمرِه لا أقضي فيها قضاءً غيرَ هذا [991] أخرجه البخاري (3094)، ومسلم (1757) ولفظُ مسلمٍ: عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (ثمَّ توفِّيَ أبو بكرٍ، وأنا وليُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووليُّ أبي بَكرٍ، فرأيتماني كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا، واللهُ يعلَمُ إنِّي لصادقٌ بارٌّ راشدٌ تابعٌ للحَقِّ. فوليتُها، ثمَّ جِئتَني أنت وهذا، وأنتما جميعٌ، وأمرُكما واحدٌ. فقُلتُما: ادفعها إلينا. فقلتُ: إن شئتُم دفعتُها إليكما، على أنَّ عليكما عهدَ اللهِ أن تعملا فيها بالذي كان يعمَلُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فأخذتُماها بذلك. قال: أكذلك؟ قالا: نعم. قال: ثم جئتُماني لأقضيَ بينكما. ولا والله لا أقضي بينكما بغيرِ ذلك، حتى تقومَ السَّاعةُ، فإن عجِزتُما عنها فردَّاها إليَّ). ! فاستمَرَّا فيها، ومَن بَعدَهما مِن وَلَدِهما إلى أيَّامِ بني العبَّاسِ، تُصرَفُ في المصارِفِ التي كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصرِفُها فيها، أموالُ بني النَّضيرِ وفَدَكٍ، وسَهمُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من خيبَرَ) [992] ((البداية والنهاية)) (6/309 - 311). .
وقال ابنُ حَجَرٍ في معنى الحديثِ السَّابِقِ: (قولُه: (فغَضِبَت فاطمةُ فهَجَرت أبا بكرٍ فلم تَزَل مُهاجِرتَه) في روايةِ مَعمَرٍ: (فهَجَرَتْه فاطمةُ فلم تُكَلِّمْه حتى ماتت) ووقع عِندَ عُمَرَ بنِ شَبَّةَ من وجهٍ آخَرَ عن مَعمَرٍ: (فلم تُكَلِّمْه في ذلك المالِ)، وكذا نقل التِّرمذيُّ عن بعضِ مشايخِه أنَّ معنى قولِ فاطمةَ لأبي بَكرٍ وعُمَرَ: (لا أُكَلِّمُكما) أي: في هذا الميراثِ. وتعقَّبه الشَّاشيُّ بأنَّ قرينةَ قَولِه: (غَضِبَت) تدُلُّ على أنَّها امتنَعَت من الكلامِ جملةً، وهذا صريحُ الهَجرِ. وأمَّا ما أخرجه أحمدُ وأبو داودَ من طريقِ أبي الطُّفَيلِ، قال: (أرسَلَت فاطِمةُ إلى أبي بَكرٍ: أنت وَرِثْتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أم أهْلُه؟ قال: فقال: لا. بل أهْلُه. قالت: فأين سَهْمُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال: فقال أبو بَكرٍ: إنِّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إذا أطعَمَ نَبيًّا طُعمةً ثُمَّ قبَضَه، جعله للَّذي يقومُ مِن بَعْدِه، فرأيتُ أن أرُدَّه على المُسلِمينَ. قالت: فأنت وما سَمِعْتَه) فلا يعارِضُ ما في الصَّحيحِ من صريحِ الهِجرانِ، ولا يدُلُّ على الرِّضا بذلك، ثمَّ مع ذلك ففيه لفظةٌ مُنكَرةٌ، وهي قول أبي بَكرٍ: (بل أهلُه)؛ فإنَّه معارِضٌ للحديثِ الصَّحيحِ أنَّ النَّبيَّ لا يُورَثُ. نعم روى البَيهقيُّ من طريقِ الشَّعبيِّ: (أنَّ أبا بكرٍ عاد فاطمةَ فقال لها عليٌّ: هذا أبو بكرٍ يستأذِنُ عليك. قالت: أتحِبُّ أن آذَنَ له؟ قال: نعم. فأذِنَت له فدخَلَ عليها فترضَّاها حتَّى رَضِيَت) وهو وإن كان مُرسَلًا فإسنادُه إلى الشَّعبيِّ صحيحٌ، وبه يزولُ الإشكالُ في جوازِ تمادي فاطمةَ عليها السَّلامُ على هَجرِ أبي بَكرٍ، وقد قال بعضُ الأئِمَّةِ: إنَّما كانت هِجرتُها انقباضًا عن لقائِه والاجتماعِ به، وليس ذلك من الهِجرانِ المحرَّمِ؛ لأنَّ شَرْطَه أن يلتَقِيَا فيُعرِضَ هذا وهذا، وكأنَّ فاطمةَ عليها السَّلامُ لمَّا خرجت غضبى من عِندَ أبي بَكرٍ تمادَت في اشتغالِها بحُزنِها ثمَّ بمرَضِها. وأمَّا سَبَبُ غَضَبِها مع احتجاجِ أبي بَكرٍ بالحديثِ المذكورِ فلاعتقادِها تأويلَ الحديثِ على خلافِ ما تمسَّك به أبو بكرٍ، وكأنها اعتَقَدت تخصيصَ العمومِ في قولِه: ((لا نورَثُ)) ورأت أنَّ منافِعَ ما خلَّفه من أرضٍ وعَقارٍ لا يمتنِعُ أن تورَثَ عنه. وتمسَّك أبو بكرٍ بالعمومِ، واختَلَفا في أمرٍ محتَمِلٍ للتَّأويلِ. فلمَّا صَمَّم على ذلك انقطعَتْ عن الاجتماعِ به لذلك. فإن ثبت حديثُ الشَّعبيِّ أزال الإشكالَ. وأَخْلِقْ بالأمرِ أن يكونَ كذلك؛ لِما عُلِمَ من وُفُورِ عقْلِها ودينِها عليها السَّلامُ) [993] ((فتح الباري)) (6/202). .
وفي بعضِ الرِّواياتِ الشِّيعيَّةِ أنَّ فاطمةَ رضي اللَّهُ عنها رَضِيَت بحُكمِ الصِّدِّيق رضي اللَّهُ عنه، فرُويَ: (أنَّ أبا بكرٍ قال لها: إنَّ لك ما لأبيك، كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأخُذُ مِن فَدَكٍ قُوتَكم، ويقسِمُ الباقيَ ويحمِلُ منه في سبيلِ اللَّهِ، ولك على اللَّهِ أن أصنَعَ بها كما كان يصنَعُ؛ فرَضِيَت بذلك، وأخذَت العهدَ عليه به) [994] يُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) لابن الميثم البحراني (5/107). وذكر نحوه الدنبلي في شرحه ((الدرة النجفية)) (ص: 331، 332). .
ولكن قال المجلسيُّ: (إنَّ من المصيبةِ العُظمى والدَّاهيةِ الكُبرى غَصْبَ أبي بَكرٍ وعُمَر فَدَكًا من أهلِ بيتِ الرِّسالةِ... وإنَّ القضيَّةَ الهائلةَ أنَّ أبا بكرٍ لمَّا غَصَب الخلافةَ عن أمير المُؤمِنين، وأخذ البيعةَ جَبرًا من المهاجِرين والأنصارِ، وأحكَمَ أمرَه؛ طَمِعَ في فَدَكٍ خوفًا منه بأنَّها لو وقعت في أيديهم يميلُ النَّاسُ إليهم بالمالِ، ويتركون هؤلاء الظَّالمين! فأراد إفلاسَهم حتى لا يبقى لهم شيءٌ، ولا يطمَعَ النَّاسُ فيهم، وتبطُلَ خلافتُهم الباطلةُ، ولأجلِ ذلك وضعوا تلك الرِّوايةَ الخبيثةَ المفتراة: "نحن -معاشِرَ الأنبياءِ- لا نورَثُ، ما تركناه صدقةٌ") [995] ((حق اليقين)) (ص: 191). !
وهذا الحديثُ المذكورُ صحيحٌ عِندَ المحَدِّثين، بل إنَّ في كتُبِ الشِّيعةِ أنفُسِهم ما يؤيِّدُ معنى الحديثِ؛ ففي كتابِ الكافي الذي يعدُّونه أصَحَّ كتُبِ الحديثِ عِندَهم، ويقولون عنه: إنَّه كافٍ للشِّيعةِ، روى الكُلينيُّ عن حمَّادِ بنِ عيسى عن القَدَّاحِ عن أبي عبدِ اللَّهِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ عليه السَّلامُ، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الأنبياءُ لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، ولكِنْ وَرَّثوا العِلمَ، فمَن أخذ منه أخَذ بحَظٍّ وافرٍ)) [996] ((أصول الكافي)) (1/34). .
وروى ابنُ بابَويهِ القُمِّيُّ الملقَّبُ بالصَّدوقِ عن إبراهيمَ بنِ عَليٍّ الرَّافِعيِّ عن أبيه عن جدَّتِه بنتِ أبي رافعٍ، قالت: أتت فاطمةُ بنتُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بابنَيها الحَسَنِ والحُسَينِ -عليهما السَّلامُ- إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في شَكواه الذي تُوفِّيَ فيه، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، هذان ابناك فورِّثْهما شيئًا، قال: أمَّا الحَسَنُ فإنَّ له هيبتي وسُؤدُدي، وأمَّا الحُسَينُ فإنَّ له جُرأتي وجُودي) [997] ((الخصال)) (ص: 77). .
وقد نقَل المجلسيُّ أنَّ أبا بكرٍ لَمَّا رأى غَضَبَ فاطمةَ قال لها: (أنا لا أُنكِرُ فَضلَكِ وقرابتَكِ من رسولِ اللَّهِ عليه السَّلامُ، ولم أمنَعْك من فَدَكٍ إلَّا امتثالًا بأمرِ رَسولِ اللَّهِ، وأُشهِدُ اللَّهَ على أنِّي سمِعتُ رَسولَ اللَّهِ يقولُ: ((نحن -معاشِرَ الأنبياءِ- لا نُورَثُ، وما ترَكْنا إلَّا الكتابَ والحِكمةَ والعِلمَ))، وقد فعَلْتُ هذا باتِّفاقِ المُسلِمين، ولستُ بمتفَرِّدٍ في هذا، وأمَّا المالُ فإنْ تريديه فخُذي من مالي ما شِئتِ؛ لأنَّك سيِّدةُ أبيك، وشَجَرةٌ طَيِّبةٌ لأبنائك، ولا يستطيعُ أحَدٌ أن يُنكِرَ فَضلَكِ) [998] ((حق اليقين)) (ص: 201). .
وروى المرتضى الملقَّبُ بعَلَمِ الهدى عِندَ الشِّيعةِ أنَّ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ لمَّا صار الأمرُ إليه، وكان هو الخليفةَ، وكانت أرضُ الحِجازِ كُلُّها تحتَ حُكمِه، كُلِّمَ في فَدَكٍ، فقال: (إنِّي لأستحيي من اللَّهِ أن أردَّ شيئًا منَعَ منه أبو بكرٍ وأمضاه عُمَرُ) [999] ((الشافي)) (ص: 231). .
وفي كتُبِ الشِّيعةِ أنَّ كثيرًا النَّوَّاءَ سأل أبا جَعفَرٍ محمَّدًا الباقِرَ عن فَدَكٍ فقال: جعَلَني اللَّهُ فِداك! أرأيت أبا بَكرٍ وعُمَرَ هل ظلماكم من حَقِّكم شيئًا أو -قال:- ذهبا من حقِّكم بشيءٍ؟ فقال أبو جَعفَرٍ: (لا والذي أنزل القرآنَ على عبدِه ليكونَ للعالَمين نذيرًا، ما ظلَمَانا من حَقِّنا مثقالَ حَبَّةٍ من خردَلٍ، قُلتُ: جُعِلتُ فِداك، أفأتولَّاهما؟ قال: نعم، ويحك! تولَّهما في الدُّنيا والآخرةِ، وما أصابك ففي عُنُقي) [1000] يُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي الحديد (4/82). .
وفي كتُبِ الشِّيعةِ أيضًا روايةٌ عن زيدِ بنِ عَليِّ بنِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ أنَّه قال: (وأَيمُ اللَّهِ! لو رَجَع الأمرُ إليَّ لقَضَيتُ في فَدَكٍ بقضاءِ أبي بَكرٍ) [1001] يُنظر: ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي الحديد (4/82).
وقد روى الكُلينيُّ عن أبي عبدِ اللَّهِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّ للإمامِ حَقَّ التَّصرُّفِ بما يراه في الأنفالِ، فقال: (الأنفالُ ما لم يُوجَفْ عليه بخيلٍ ولا ركابٍ، أو قومٌ صالحوا، أو قومٌ أعطَوا بأيديهم، وكلُّ أرضٍ خَرِبةٍ وبُطونُ الأوديةِ فهو لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو للإمامِ مِن بَعدِه يضَعُه حيثُ يشاء) [1002] يُنظر: ((الأصول من الكافي)) (1/539). .
ومن العجائِبِ التي نسبوها إلى أهلِ البَيتِ في أرضِ فَدَكٍ التي هي قريةٌ قُربَ خَيبَرَ، فيها عينُ ماءٍ ونخلٌ: أنَّهم رَوَوا أنَّ فَدَكًا بلادٌ واسعةٌ، مساحتُها عظيمةٌ جِدًّا، تضُمُّ مدُنًا كثيرةً! وهذه مبالغةٌ في قضيَّةِ فَدَكٍ للتوصُّلِ بذلك إلى الطَّعنِ في أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه؛ فقد روى الكُلينيُّ أنَّ أبا الحَسَنِ موسى الكاظِمَ ورد على المَهديِّ العبَّاسيِّ، ورآه يرُدُّ المظالمَ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنين! ما بالُ مَظلمتِنا لا تُرَدُّ؟ فقال له: وما ذاك يا أبا الحَسَنِ؟ قال: فدَكٌ، فقال له المَهديُّ: يا أبا الحَسَنِ، حُدَّها لي، فقال: حَدٌّ منها جَبَلُ أُحُدٍ، وحَدٌّ منها عريشُ مِصرَ، وحَدٌّ منها سِيفُ البَحرِ، وحدٌّ منها دَومةُ الجندَلِ [1003] يُنظر: ((الأصول من الكافي)) (1/543). !
ثمَّ إنَّه لو كانت أرضُ فَدَكٍ ميراثًا لاقتسمه بقيَّةُ وَرَثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم تكن فاطِمةُ رَضِيَ اللَّهُ عنها وريثَتَه الوحيدةَ، بل جميعُ زوجاتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سيكونُ لهنَّ نصيبٌ من هذه الأرضِ، ومنهنَّ عائشةُ بنتُ أبي بَكرٍ وحَفصةُ بنتُ عُمَرَ، فهل ظَلَم أبو بَكرٍ وعُمَرُ ابنتَيهما مثلَما ظَلَما فاطمةَ كما يدَّعي الشِّيعةُ؟!
ثم إنَّ في هذا الأمرِ تناقُضًا ومخالَفةً لمَذهَبِهم؛ فإنَّ من مَذهَبِهم الذي ينسُبونه إلى أهلِ البيتِ أنَّ النِّساءَ لا يَرِثنَ شيئًا من الأرضِ؛ فقد عقَد الكُلينيُّ في كتابِه بابًا بعُنوانِ (النِّساءُ لا يَرِثنَ من العَقارِ شيئًا)، ثمَّ روى تحته رواياتٍ عديدةً؛ منها: عن أبي جَعفَرٍ محمَّدٍ الباقرِ قال: (النِّساءُ لا يَرِثنَ من الأرضِ ولا من العَقارِ شيئًا) [1004] ((الفروع من الكافي)) (7/137). .
وفي روايةٍ أخرى عن أبي عبدِ اللَّهِ جَعفَرٍ الصَّادِقِ أنَّ مَيسِرًا قال: سألتُه عن النِّساءِ ما لهنَّ من الميراثِ؟ فقال: (فأمَّا الأرضُ والعقارُ فلا ميراثَ لهنَّ فيه) [1005] يُنظر: ((من لا يحضره الفقيه)) للصدوق (4/347). .
ولا شَكَّ أنَّ هذا حُكمٌ باطلٌ مخالِفٌ لكتابِ اللَّهِ سُبحانَه؛ فقد قال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء: 7] .
والخُلاصةُ: أنَّ قضيَّةَ فَدَكٍ كانت مسألةً يسيرةً، والمتتبِّعُ لها يَلمِسُ كم كانت صغيرةً وهامشيَّةً، سرعانَ ما تمَّ تجاوُزُ آثارِها، على عَكسِ ما يُشيعُه البعضُ من اضطهادِ الخُلَفاءِ لآلِ البيتِ، وحِرمانِهم من حقوقِهم.

انظر أيضا: