موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: مِن معالمِ مَنهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ في تقريرِ العقيدةِ الصَّحيحةِ: العَمَلُ بما ورد عن الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم والسَّيرُ على نهجِهم


فهم أعرَفُ بالحَقِّ مِن غَيرِهم؛ إذ عاصَروا نزولَ الوَحيِ، وأخَذوا العِلمَ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة: 2 - 4] .
وقد أخبر اللهُ تعالى برضاه عن الصَّحابة ومن اتبعهم بإحسان.
قال اللهُ سُبحانَه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رضي اللهُ عنهمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100] .
قال الرَّازيُّ: (اختَلَفوا في أنَّ المدحَ الحاصِلَ في هذه الآيةِ هل يتناوَلُ جميعَ الصَّحابةِ أم يتناوَلُ بعضَهم؟ فقال قومٌ: إنَّه يتناوَلُ الذين سبقوا في الهِجرةِ والنُّصرةِ، وعلى هذا فهو لا يتناوَلُ إلَّا قُدَماءَ الصَّحابةِ؛ لأنَّ كَلِمةَ «مِن» تفيدُ التَّبعيضَ، ومنهم مَن قال: بل يتناوَلُ جميعَ الصَّحابةِ؛ لأنَّ جملةَ الصَّحابةِ موصوفون بكونِهم سابِقين أوَّلِين بالنِّسبةِ إلى سائِرِ المُسلِمين، وكَلِمةُ «مِن» في قَولِه: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ليست للتَّبعيضِ، بل للتَّبيِينِ، أي: والسَّابقون الأوَّلون الموصوفون بوَصفِ كَونِهم مهاجِرينَ وأنصارًا، كما في قَولِه تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ، وكثيرٌ من النَّاسِ ذهبوا إلى هذا القولِ) [55] ((تفسير الرازي)) (16/ 129). .
وقال ابنُ القَيِّمِ في الاستدلالِ على لُزومِ مُتابَعةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم بالآيةِ السَّابقةِ: (وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ تعالى أثنى على مَن اتَّبَعهم، فإذا قالوا قَولًا فاتَّبَعَهم مُتَّبِعٌ عليه قَبلَ أن يَعرِفَ صِحَّتَه، فهو متَّبِعٌ لهم، فيَجِبُ أن يكونَ محمودًا على ذلك، وأن يَستَحِقَّ الرِّضوانَ، ولو كان اتِّباعُهم تقليدًا مَحْضًا كتقليدِ بَعضِ المُفتين، لم يَستَحِقَّ من اتَّبَعهم الرِّضوانَ إلَّا أن يكونَ عامِّيًّا، فأمَّا العُلَماءُ المجتَهِدون فلا يجوزُ لهم اتِّباعُهم حينَئذٍ) [56] ((إعلام الموقعين)) (5/ 556، 557). .
وقال ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (إذا قال الصَّحابيُّ قولًا فإمَّا أن يخالِفَه صحابيٌّ آخَرُ أو لا يخالِفَه؛ فإنْ خالفه مِثلُه لم يكُنْ قَولُ أحَدِهما حُجَّةً على الآخَرِ، وإن خالفه أعلَمُ منه، كما إذا خالَف الخُلَفاءُ الرَّاشِدون أو بعضُهم غيرَهم من الصَّحابةِ في حُكمٍ، فهل يكونُ الشِّقُّ الذي فيه الخُلَفاءُ الرَّاشِدون أو بعضُهم حُجَّةً على الآخَرينَ؟ فيه قولانِ للعُلَماءِ، وهما روايتانِ عن الإمامِ أحمَدَ، والصَّحيحُ: أنَّ الشِّقَّ الذي فيه الخُلَفاءُ الرَّاشدون أو بعضُهم أرجَحُ وأَولى أن يُؤخَذَ به من الشِّقِّ الآخَرِ، فإن كان الأربعةُ في شِقٍّ فلا شَكَّ أنَّه الصَّوابُ، وإن كان أكثَرُهم في شِقٍّ فالصَّوابُ فيه أغلَبُ، وإن كانوا اثنَينِ واثنينِ فشِقُّ أبي بكرٍ وعُمَرَ أقرَبُ إلى الصَّوابِ؛ فإن اختَلَف أبو بكرٍ وعُمَرُ فالصَّوابُ مع أبي بكرٍ، وهذه جملةٌ لا يَعرِفُ تفصيلَها إلَّا مَن له خِبرةٌ واطِّلاعٌ على ما اختَلَف فيه الصَّحابةُ، وعلى الرَّاجِحِ من أقوالِهم... وإنْ لم يخالِفِ الصَّحابيَّ صحابيٌّ آخَرُ؛ فإمَّا أن يشتَهِرَ قَولُه في الصَّحابةِ أو لا يَشتَهِرَ، فإن اشتهَرَ فالذي عليه جماهيرُ الطَّوائِفِ من الفُقَهاءِ أنَّه إجماعٌ وحُجَّةٌ، وقالت طائفةٌ منهم: هو حُجَّةٌ وليس بإجماعٍ، وقالت شِرذِمةٌ من المتكَلِّمين وبعضِ الفُقَهاءِ المتأخِّرين: لا يكونُ إجماعًا ولا حُجَّةً. وإن لم يَشتَهِرْ قولُه أو لم يُعلَمْ هل اشتَهَر أم لا، فاختَلَف النَّاسُ: هل يكونُ حُجَّةً أم لا؟ فالذي عليه جمهورُ الأمَّةِ أنَّه حُجَّةٌ) [57] ((إعلام الموقعين)) (5/ 546 - 550). وقد ذَكَر ابنُ القَيِّمِ سِتَّةً وأربعين دليلًا على وجوبِ اتِّباعِ الصَّحابةِ. يُنظر: ((إعلام الموقعين)) من (5/ 556) إلى (6/ 37). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (إذا أجمَعوا -يعني الصَّحابةَ- على القولِ فهو حُجَّةٌ، وإذا انفَرَد به أحَدٌ واشتَهَر ولم يُنكَرْ فهو حُجَّةٌ، وإذا قال به أحدٌ ولم يُعلَمْ أنَّه انتشر فإن كان ممَّن نصَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على اتِّباعِهم فهو حُجَّةٌ بالسُّنَّةِ) [58] ((شرح بلوغ المرام)) (1/ 239). .
وقد أثنى اللهُ تعالى على الصَّحابةِ الكرامِ رَضِيَ اللهُ عنهم في عِدَّةِ مواضِعَ من كتابِه؛ منها:
1- قولُ اللهِ سُبحانَه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
قال السَّعديُّ: (يُخبِرُ تعالى عن رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، أنَّهم بأكمَلِ الصِّفاتِ، وأجلِّ الأحوالِ، وأنَّهم أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ أي: جادُّون ومُجتَهِدونَ في عَداوَتِهِم، وساعونَ في ذلك بغايةِ جُهدِهِم، فلَم يَرَوا مِنهم إلَّا الغِلْظةَ والشِّدَّةَ؛ فلِذلك ذَلَّ أعداؤُهم لهم، وانكَسَروا، وقَهَرَهمُ المُسْلِمونَ، رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ أي: مُتَحابُّونَ مُتَراحِمونَ مُتَعاطِفونَ، كالجَسَدِ الواحِدِ، يُحِبُّ أحَدُهم لِأخيه ما يُحِبُّ لِنَفسِه، هَذِه مُعامَلَتُهم مَعَ الخَلقِ، وأمَّا مُعامَلَتُهم مَعَ الخالِقِ فإنَّكَ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا أي: وَصْفُهم كثرةُ الصَّلاةِ، الَّتي أجلُّ أركانِها الرُّكوعُ والسُّجودُ. يَبْتَغُونَ بتِلكَ العِبادةِ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا أي: هَذا مَقصودُهم بلوغُ رِضا رَبِّهم، والوُصولُ إلى ثَوابِه. سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي: قَد أثَّرَتِ العِبادةُ -مِن كثرَتِها وحُسْنِها- في وُجوهِهِم، حَتَّى استَنارَت، لَمَّا استَنارَت بالصَّلاةِ بواطِنُهم استَنارَت بالجَلالِ ظَواهِرُهم.
ذَلِكَ المَذكورُ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ أي: هَذا وصْفُهمُ الَّذي وصَفَهمُ اللهُ به، مَذكورٌ بالتَّوراةِ هَكَذا. وأمَّا مَثَلُهم في الإنجيلِ فإنَّهم مَوصوفون بوَصفٍ آخَرَ، وأنَّهم في كمالِهِم وتَعاوُنِهِم كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ أي: أخرَجَ فراخَهُ، فوازَرَتهُ فراخُهُ في الشَّبابِ والاستِواءِ. فَاسْتَغْلَظَ ذلك الزَّرعُ، أي: قَوِيَ وغَلُظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ جَمعُ ساقٍ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ من كمالِه واستِوائِه، وحُسنِه واعتِدالِه، كذلك الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، هم كالزَّرعِ في نَفعِهِم لِلخَلقِ واحتياجِ النَّاسِ إلَيهِم، فقُوَّةُ إيمانِهِم وأعمالِهِم بمَنزِلةِ قوَّةِ عُروقِ الزَّرعِ وسُوقِه، وكَونُ الصَّغيرِ والمُتَأخِّرِ إسلامُه قَد لحِقَ الكَبيرَ السَّابِقَ ووازَرَهُ وعاوَنَهُ عَلى ما هو عليه، من إقامةِ دينِ اللّهِ والدَّعوةِ إلَيه؛ كالزَّرعِ الَّذي أخرَجَ شَطْأهُ، فآزَرَهُ فاستَغلَظَ؛ ولِهَذا قال: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ حينَ يَرَونَ اجتِماعَهم وشِدَّتَهم عَلى دينِهِم، وحينَ يَتَصادَمونَ هم وهم في مَعارِكِ النِّزالِ، ومَعامِعِ القِتالِ.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فالصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم، الَّذينَ جَمَعوا بَينَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، قَد جَمَعَ اللهُ لهم بَينَ المَغفِرةِ، الَّتي من لوازِمِها وِقايةُ شُرورِ الدُّنيا والآخِرةِ، والأجرُ العَظيمُ في الدُّنيا والآخِرةِ) [59] ((تفسير السعدي)) (ص: 795). .
2- قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] .
قال رَحمتُ اللّهِ الهِنديُّ في هَذِه الآيةِ: (الصَّحابةُ كانوا مُحِبِّي الإيمانِ كارِهي الكُفرِ والفِسْقِ والعِصيانِ، وكانوا راشِدينَ، فاعتِقادُ ضِدِّ هَذِه الأشياءِ في حَقِّهِم خَطَأٌ) [60] ((إظهار الحق)) (3/ 935). .
3- قال اللهُ تعالى عنِ الَّذينَ بايَعوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ الحُدَيبيَةِ تَحتَ الشَّجَرةِ وكانوا ألفًا وأربَعَمِائةٍ: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح: 18] .
وعن جابِرِ بنِ عَبدِ اللّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما عن أمِّ مُبَشِّرٍ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: سَمِعتُ رَسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ عِندَ حَفصةَ: ((لَا يَدْخُلُ النَّارَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ، الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا )) [61] رواه مسلم (2496). .
قال النَّوَويُّ: (قال العُلَماءُ: مَعناهُ لا يَدخُلُها أحَدٌ مِنهم قَطعًا، كما صَرَّحَ به في الحَديثِ الَّذي قَبلَهُ؛ حَديثِ حاطِبٍ، وإنَّما قال: إنْ شاءَ اللهُ؛ لِلتَّبَرُّكِ لا لِلشَّكِّ) [62] ((شرح مسلم)) (16/ 58). .
وقد أثنى عليهم النَّبيّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ودافع عنهم:
1- عن عَبد اللّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سُئِلَ رَسولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قال: ((قَرْني، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم )) [63] رواه البخاري (3651)، ومسلم (2533) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ عَلى أنَّ خَيرَ النَّاسِ الَّذينَ صَحِبوا رَسولَ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ورَأوهُ، ثُمَّ التَّابِعونَ لهم بإحسانٍ، كما قال عَزَّ وجَلَّ: والَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) [64] ((الإفصاح)) (2/ 49). .
وقال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (يَعني: أنَّ هَذِه القُرونَ الثَّلاثةَ أفضَلُ مِمَّا بَعدَها إلى يَومِ القيامةِ، وهَذِه القُرونُ في أنفُسِها مُتَفاضِلةٌ، فأفضَلُها: الأوَّلُ، ثُمَّ الَّذي بَعدَهُ، ثُمَّ الَّذي بَعدَهُ. هَذا ظاهِرُ الحَديثِ. فأمَّا أفضَليَّةُ الصَّحابةِ، وهمُ القَرنُ الأوَّلُ عَلى مَن بَعدَهم، فلا تَخفى... وأمَّا أفضَليَّةُ مَن بَعدَهم بَعضِهم عَلى بَعضٍ، فبِحَسَبِ قُربِهِم مِنَ القَرنِ الأوَّلِ، وبِحَسَبِ ما ظَهَرَ عَلى أيديهِم من إعلاءِ كلِمةِ الدِّين، ونَشْرِ العِلمِ، وفَتحِ الأمصارِ، وإخمادِ كَلِمةِ الكُفرِ، ولا خَفاءَ أنَّ الَّذي كانَ من ذلك في قَرنِ التَّابِعين كانَ أكثَرَ وأغلَبَ مِمَّا كانَ في أتباعِهِم، وكَذلك الأمرُ في الَّذينَ بَعدَهم، ثُمَّ بَعدَ هَذا غَلَبَتِ الشُّرورُ، وارتُكِبَتِ الأمورُ) [65] ((المفهم)) (6/ 486). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (الاعتِبارُ بالقُرونِ الثَّلاثةِ بجُمهورِ أهلِ القَرنِ، وهم وسَطُهُ، وجُمهورُ الصَّحابةِ انقَرَضوا بانقِراضِ خِلافةِ الخُلَفاءِ الأربَعةِ، حَتَّى إنَّهُ لم يَكُنْ بَقي من أهلِ بَدرٍ إلَّا نَفرٌ قَليلٌ، وجُمهورُ التَّابِعين بإحسانٍ انقَرَضوا في أواخِرِ عَصرِ أصاغِرِ الصَّحابةِ في إمارةِ ابنِ الزُّبيرِ وعَبدِ المِلكِ، وجُمهورُ تابِعِي التَّابِعينَ في أواخِرِ الدَّولةِ الأُمَويَّةِ وأوائِلِ الدَّولةِ العَبَّاسيَّةِ) [66] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 357). .
2- عن أبي مُوسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((صَلَّيتُ المَغرِبَ مَعَ رَسولِ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثُمَّ قُلنا: لو جَلَسْنا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ العِشاءَ، قال: فجَلَسْنا فخَرجَ علينا فقال: ما زِلتُم هَاهُنا؟، قُلنا: يا رَسولَ اللّهِ صَلَّينا مَعَكَ المَغرِبَ، ثُمَّ قُلنا: نَجلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ العِشاءَ، قال: أحسَنْتُم أو أصبْتُم، قال: فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ وكانَ كثيرًا ما يَرفَعُ رَأسَهُ إلى السَّماءِ، فقال: النُّجومُ أَمَنةُ السَّماءِ، فإذا ذَهَبَتِ النُّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لِأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ، وأصحابي أَمَنةٌ لِأُمَّتي فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتِي ما يُوعَدونَ )) [67] رواه مسلم (2531). .
قال النَّوَويُّ: (مَعنى الحَديثِ أنَّ النُّجومَ ما دامَت باقيةً فالسَّماءُ باقيةٌ، فإذا انكَدَرَتِ النُّجومُ وتَناثَرَت في القيامةِ وهَنَتِ السَّماءُ فانفَطَرَت وانشَقَّت وذَهَبَت، وقَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأنا أَمَنةٌ لِأصحابي فإذا ذَهَبْتُ أتى أصحابي ما يُوعَدونَ)) أي: مِنَ الفِتَنِ والحُروبِ وارتِدادِ مَنِ ارتَدَّ مِنَ الأعرابِ واختِلافِ القُلوبِ ونَحوِ ذلك مِمَّا أَنذَرَ به صَريحًا، وقَد وقَعَ كُلُّ ذلك. قَولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وأصحابي أَمَنةٌ لِأمَّتي، فإذا ذَهَبَ أصحابي أتى أمَّتِي ما يُوعَدونَ )) مَعناهُ من ظُهورِ البِدَعِ والحَوادِثِ في الدِّين والفِتَنِ فيه، وطُلوعِ قَرنِ الشَّيطانِ، وظُهورِ الرُّومِ وغَيرِهِم عليهِم، وانتِهاكِ المَدينةِ ومَكةَ، وغَيرِ ذلك، وهَذِه كُلُّها من مُعجِزاتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [68] ((شرح مسلم)) (16/ 83). .
3- عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كانَ بَينَ خالِدِ بْنِ الوَليدِ وبَينَ عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ شَيءٌ، فسَبَّهُ خالِدٌ، فقال رَسولُ اللّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَسُبُّوا أحَدًا من أصحابي، فإنَّ أحَدَكم لو أنفَقَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدرَكَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصيفَه )) [69] رواه البخاري (3673) ومسلم (2541) واللَّفظُ له. .
 قال ابنُ الجَوزيِّ: (المُدُّ: رُبعُ الصَّاعِ. والنَّصيفُ: نِصفُهُ. قال أبو عُبَيدٍ: والعَرَبُ تُسَمِّي النِّصفَ: النَّصيفَ... فإنْ قال قائِلٌ: لِمَن خاطَبَ؟ إن كانَ خاطَبَ أصحابَه فكَيفَ يَقولُ: ((يا أصحابي))، ((ولا تَسُبُّوا أصحابي)) وإن كانَ خاطَبَ التَّابِعين فما وُجِدوا بَعدُ. فالجَوابُ: أنَّه يَحتَمِلُ الأمرَينِ، فإن كانَ خاطَبَ أصحابَه فالخِطابُ لِلمُتَأخِّرين مِنهم، فأعلَمُهم أنَّهم لن يَبلُغوا مَرتَبةَ المُتَقَدِّمين، كما قال في حَقِّ أبي بَكْرٍ: ((قُلتُم: كذَبْتَ، وقال: صَدَقْتَ، فهَل أنتُم تارِكو صاحِبي؟ )) [70] أخرجه البخاري (3661) باختلافٍ يسيرٍ مُطَوَّلًا. . ويَكشِفُ هَذا قَولُهُ تعالى: لَا يَستَوي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ [الحَديد: 10] وإن كانَ قال لِمَن سَيَأتي فعلى مَعنى: بَلِّغوا مَن يَأتي، ويوَضِّحُهُ قَولُهُ تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ) [71] ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) (3/ 150). .
وقال عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: (إنَّ اللهَ نَظَر في قُلوبِ العِبادِ، فوَجَدَ قَلبَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيرَ قُلوبِ العِبادِ، فاصطَفاهُ لِنَفسِه، فابتَعَثَهُ برسالَتِه، ثُمَّ نَظَر في قُلوبِ العِبادِ بَعدَ قَلبِ مُحَمَّدٍ، فوَجَدَ قُلوبَ أصحابِه خَيرَ قُلوبِ العِبادِ، فجَعَلَهم وُزَراءَ نَبيِّه، يُقاتِلونَ عَلى دينِه، فما رَأى المُسْلِمونَ حَسَنًا فهوَ عِندَ اللهِ حَسَنٌ، وما رَأوا سَيِّئًا فهوَ عِندَ اللهِ سَيِّئٌ) [72] رواه أحمد (1/379) (3600)، والطبراني (9/112). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/177): رواه أحمد، والبزَّار، والطَّبراني، ورجالُه مُوَثَّقون. وقال الألباني في ((السلسلة الضعيفة والموضوعة)) (532): والأصَحُّ وَقْفُه على ابنِ مسعودٍ. وقال في (533): لا أصلَ له مرفوعًا، وإنَّما ورد موقوفًا على ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. وقال شعيب الأرناؤوط محقِّق ((المسند)): إسنادُه حَسَنٌ. .
وعن عُروةَ قال: قُلتُ لعائِشةَ رَحِمها اللهُ: إنِّي أسمَعُ ناسًا يتناوَلون أصحابَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فقالت: (يا بُنَيَّ، إنَّ أصحابَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان اللهُ عزَّ وجَلَّ يُجري لهم أجوَرهم، فلمَّا قَبَضَهم اللهُ عزَّ وجَلَّ أحَبَّ أن يُجريَ ذلك الأجرَ لهم) [73] رواه الآجُرِّي في ((الشريعة)) (1999). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (لا تَسُبُّوا أصحابَ محمَّدٍ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد أمَر بالاستغفارِ لهم، وهو يعلَمُ أنَّهم سيَقتَتِلون) [74] أخرجه أحمد بن حنبل في ((فضائل الصحابة)) (18). .
وقد أجمَعَ عُلَماءُ الإسلامِ على عدالةِ الصَّحابةِ وفَضْلِهم، والمفاضَلةُ بَينَهم من دونِ انتِقاصِ أحَدٍ منهم [75] يُنظر: ((الكفاية في علم الرواية)) للخطيب البغدادي (ص: 46 - 49)، ((تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة)) للعلائي (ص: 60 - 82). .

انظر أيضا: