موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: آراءٌ لغيرِ الشِّيعةِ في نشأةِ التَّشيُّعِ


الرَّأيُ الأوَّلُ: أنَّ بَذْرةَ التَّشيُّعِ بدأت بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُباشَرةً؛ حيثُ وُجِد مَن يرى أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللَّهُ عنه أحَقُّ بالإمامةِ. وهذا الرَّأيُ قال به طائفةٌ من القُدامى والمعاصِرين، منهم ابنُ خَلدونَ [55] ((تاريخ ابن خلدون)) (3/107-171). ، وأحمد أمين [56] ((فجر الإسلام)) (ص: 266). ويُنظر: ((ضحى الإسلام)) (3/209). وقال علي الخربوطلي: (ونحن نرى أنَّ التَّشيُّعَ بدأ بعد أن آلت الخلافةُ إلى أبي بكرٍ دونَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ). (الإسلام والخلافة)) (ص: 62). كما يقولُ بهذا الرأيِ محمَّد عبد الله عنان. يُنظر: ((تاريخ الجمعيات السرية)) (ص: 13). ، وبعضُ المُستَشرِقينَ [57] يُنظر: ((دائرة المعارف الإسلامية)) (14/58). .
قال ابنُ خَلدونَ: (اعلَمْ أنَّ مَبدَأَ هذه الدَّولةِ -يعني دولةَ الشِّيعةِ- أنَّ أهلَ البيتِ لَمَّا تُوفِّيَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يرونَ أنَّهم أحَقُّ بالأمرِ، وأنَّ الخِلافةَ لرِجالِهم دونَ مَن سِواهم) [58] ((تاريخ ابن خلدون)) (3/107-171). .
وقال أحمد أمين: (كانت البَذْرةُ الأولى للشِّيعةِ الجماعةَ الذين رأوا بَعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ أهلَ بيتِه أَولى النَّاسِ أن يَخلُفوه) [59] ((فجر الإسلام)) (ص: 266). .
مُناقَشةُ هذا الرَّأيِ:
أوَّلًا: إذا وُجِدَ من يرى أحِقِّيَّةَ عَليٍّ بالإمامةِ، باعتبارِ أنَّ الإمامةَ ينبغي أن تكونَ في القَرابةِ، فقد وُجِد أيضًا رأيٌ يقولُ باستِخلافِ سَعدِ بنِ عُبادةَ، وأنَّ الإمامةَ ينبغي أن تكونَ في الأنصارِ، وهذا لا دَلالةَ فيه على ميلادِ حِزبٍ مُعَيَّنٍ، أو فِرقةٍ مُعَيَّنةٍ، وتعدُّدُ الآراءِ شأنٌ طبيعيٌّ، وهو من مُقتَضياتِ نظامِ الشُّورى في الإسلامِ، فهم في مجلِسٍ واحدٍ قد تعدَّدت آراؤهم، (وما انفَصلوا حتَّى اتَّفَقوا، ومِثلُ هذا لا يُعَدُّ نِزاعًا) [60] ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/36). ، (وقد اندرجوا تحتَ الطَّاعةِ عن بَكرةِ أبيهم لأبي بَكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه، وكان عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه سامعًا لأمرِه، وبايَع أبا بكرٍ على ملأٍ من الأشهادِ، ونهَض إلى غزوِ بني حَنيفةَ) [61] ((الإرشاد)) للجويني (ص: 428). .
وموقِفُ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه ينفي استمرارَ مِثلِ هذه الآراءِ أو بقاءَها بَيْنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللَّهُ عنهم؛ فقد تواتر عنه من وجوهٍ كثيرةٍ أنَّه قال على مِنبَرِ الكوفةِ: (خَيرُ هذه الأمَّةِ بَعدَ نبيِّها أبو بَكرٍ ثمَّ عُمَرُ) [62] قال ابنُ تيميَّةَ: (رُوِيَ عن عليٍّ من نحوِ ثمانينَ وجهًا وأكثَرَ أنَّه قال على مِنبَرِ الكوفةِ هذا القولَ، وقد ثبت في صحيحِ البُخاريِّ من روايةِ رِجالِ هَمدانَ خاصَّةً، التي يقولُ فيها عليٌّ: لو كنتُ بوَّابًا على بابِ جنَّةٍ لقُلتُ لهَمدانَ: ادخُلي بسلامٍ، من روايةِ سُفيانَ الثَّوريِّ عن مُنذِرٍ الثَّوريِّ، وكِلاهما من همدانَ، رواه البخاريُّ عن محمَّدِ بنِ كثيرٍ. قال: حدَّثَنا سفيانُ الثَّوريُّ، حدَّثنا: جامِعُ بنُ شدَّادٍ، حدَّثنا أبو يعلى مُنذِرٌ الثَّوريُّ عن محمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ قال: قُلتُ لأبي: يا أبتِ، مَن خيرُ النَّاسِ بعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فقال: يا بُنَيَّ: أو ما تعرِفُ؟ فقُلتُ: لا. فقال: أبو بكرٍ. قلتُ: ثمَّ مَن؟ قال: ثمَّ عُمَرُ. وهذا يقولُه لابنِه الذي لا يتَّقيه ولخاصَّتِه). ((مجموع الفتاوى)) (4/ 407، 408). ويُنظر: ((صحيح البخاري)) (3671). . فكيف يرى غيرُه من الصَّحابةِ فيه ما لم يَرَه هو في نفسِه؟!
ثانيًا: القَولُ بظُهورِ جماعةٍ بعدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ترى أحقِّيَّةَ عَليٍّ بالإمامةِ ليس له أصلٌ تاريخيٌّ ثابتٌ، ويبدو أنَّ عُمدتَه ما قاله اليَعقوبيُّ في تاريخِه: (كان المهاجِرون والأنصارُ لا يشكُّون في عليٍّ،... وتخلَّف عن بَيعةِ أبي بَكرٍ قومٌ من المهاجِرين والأنصارِ، ومالوا مع عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، منهم: العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ، والفَضلُ بنُ العبَّاسِ، والزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ بنِ العاصِ، وخالِدُ بنُ سعيدٍ، والمِقدادُ بنُ عَمرٍو، وسَلمانُ الفارِسيُّ، وأبو ذَرٍّ الغِفاريُّ، وعَمَّارُ بنُ ياسِرٍ، والبراءُ بنُ عازِبٍ، وأُبَيُّ بنُ كَعبٍ) [63] ((تاريخ اليعقوبي)) (2/124). .
وهي روايةٌ لا تَصِحُّ؛ فقد تفرَّد بذِكرِها أحمدُ بنُ إسحاقَ اليعقوبيُّ الرَّافِضيُّ [64] تاريخُ اليَعقوبيِّ مليءٌ بما يُثبِتُ كونَه رافضيًّا، وفيه أخبارٌ بلا إسنادٍ، يقطَعُ الباحِثُ بكونِها كَذِبًا؛ لمخالفِتها للمعروفِ بالأسانيدِ المتَّصِلةِ عندَ العُلَماءِ. وحين ذَكَر اليعقوبيُّ خِلافةَ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ رَضِيَ اللهُ عنهم قال عن كلِّ واحدٍ منهم: أيَّامُ أبي بكرٍ، أيَّامُ عُمَرَ، أيَّامُ عُثمانَ، ثمَّ قال: خلافةُ أميرِ المؤمنين عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ثمَّ قال: خلافةُ الحَسَنِ بنِ عَليٍّ، ثمَّ ذَكَر بقيَّةَ المُلوكِ من الأُمَويِّين والعَبَّاسيِّين بقولِه: أيَّامُ فُلانٍ، أيَّامُ فُلانٍ، فجعل الخُلَفاءَ الثَّلاثةَ الرَّاشِدين كالمُلوكِ، ولم يذكُرْ بالخلافةِ إلَّا عليَّ بنَ أبي طالبٍ والحَسَنَ بنَ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ إشارةً منه إلى عَدَمِ صِحَّةِ خلافةِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، وهذا تشيُّعٌ منه، واللهُ المستعانُ. ، وهو مِثلُ المؤَرِّخِ المسعوديِّ المُعتَزليِّ الشِّيعيِّ [65] قال ابنُ حَجَرٍ عن المسعوديِّ: (كُتُبُه طافحةٌ بأنَّه كان شيعيًّا مُعتَزِليًّا). (لسان الميزان) (5/ 532). ، فيَجِبُ الحذَرُ ممَّا يتفرَّدان بروايتِه، ولا سيَّما فيما يوافِقُ مُيولَهما المذهبيَّةَ [66] قال ابنُ العَرَبيِّ: (لا تَسمَعوا لمؤرِّخٍ كلامًا إلَّا للطَّبَريِّ، وغيرُ ذلك هو الموتُ الأحمرُ والدَّاءُ الأكبَرُ). ((العواصم من القواصم)) (ص: 248)؛ فابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ إذا ذكر روايةً وإن كانت تؤيِّدُ قولَ الشِّيعةِ، يذكُرُ إسنادَها، بما يُسَهِّلُ النَّظَرَ في صِحَّتِها أو عَدَمِ صِحَّتِها، بخلافِ مُؤَرِّخي الشِّيعةِ - كاليَعقوبيِّ والمسعوديِّ- الذين يَذكُرون رواياتٍ لا إسنادَ لها، ولا يدري الباحِثُ من أين نقلوها؟ وما هو مَصدَرُها؟ والغالِبُ في الرِّواياتِ التي بغيرِ إسنادٍ أن تكونَ كَذِبًا، لا سِيَّما الرِّواياتِ التَّاريخيَّةِ التي ظهَرَت بعد تلك الأحداثِ بمئاتِ السِّنينَ! .
ثالثًا: فِرقةُ الشِّيعةِ ليس لها ذِكرٌ في عهدِ أبي بَكرٍ ولا عُمَرَ ولا عثمانَ رضيَ اللَّهُ عنهم، فكيف يُقالُ بنشأتِها بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟!
الرَّأيُ الثَّاني: أنَّ التَّشيُّعَ لعَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه بدأ بمقتَلِ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
قال ابنُ حزمٍ: (وَلِيَ عُثمانُ، وبَقِي اثنَي عشَرَ عامًا، وبموتِه حصَل الاختِلافُ، وابتدأَ أمرُ الرَّوافِضِ) [67] ((الفصل)) (2/8). وبمِثلِ قَولِ ابنِ حَزمٍ هذا قال طائفةٌ من العُلَماءِ والباحثين، مِثلُ: عُثمانَ بنِ عَبدِ اللهِ الحنفيِّ في كتابه ((الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة)) (ص: 6)، وكذلك المُستَشرِقُ: فلهوزن. يُنظر: ((الخوارج والشيعة)) (ص: 112). .
وعليه، فالذي بدأ غَرْسَ بَذرةِ التَّشيُّعِ هو عبدُ اللَّهِ بنُ سَبَأٍ اليَهوديُّ [68] عبدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ رأسُ الطَّائفةِ السَّبَئيَّةِ، وكانت تقولُ بألوهيَّةِ عليٍّ رضي اللهُ عنه، كما تقولُ برجعتِه، وتطعَنُ في الصَّحابةِ رضي اللهُ عنهم، أصلُه من يهودِ اليَمَنِ، وكان يتظاهَرُ بالإسلامِ، رحل لنشرِ فتنتِه إلى الحِجازِ فالبَصرةِ فالكوفةِ، ودخَل دِمَشقَ في أيَّامِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رضي اللهُ عنه فأخرَجه أهلُها، فانصرف إلى مِصرَ وجَهَر ببدعتِه. قال ابنُ حَجَرٍ: (عبدُ اللهِ بنُ سَبَأٍ من غُلاةِ الزَّنادِقةِ، ضالٌّ مُضِلٌّ، أحسَبُ أنَّ عَليًّا حَرقه بالنَّارِ).‍ ((لسان الميزان)) (4/ 484). وقد تكاثَر ذِكرُ أخبارِ فِتنتِه وشُذوذِه، وسَعيِه في التَّآمرِ هو وطائفتِه، في كتُبِ الفِرَقِ والرِّجالِ والتَّاريخِ، وغيرِها من مصادِرِ السُّنَّةِ والشِّيعةِ جميعًا. يُنظر في ذلك: ((تاريخ الطبري)) (4/340)، ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/86)، ((البدء والتاريخ)) للمقدسي (5/129)، ((التنبيه والرد على أهل الأهواء)) للملطي (ص: 18)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 223)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/174)، ((التبصير في الدين)) للأسفراييني (ص: 71، 72)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (29/3 - 10)، ((الأنساب)) للسمعاني (7/46)، ((الكامل)) لمجد الدين ابن الأثير (3/77)، ((اللباب في تهذيب الأنساب)) لعز الدين ابن الأثير (1/527)، ((اعتقادات فرق المسلمين)) للرازي (ص: 86)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/167)، ((المنية والأمل)) للمرتضى الزيدي (ص: 29)، ((تاريخ ابن خلدون)) (2/160،161). ومن مصادِرِ الشِّيعةِ: ((مسائل الإمامة)) للناشئ الأكبر (ص: 22، 23)، ((المقالات والفرق)) للقمي (ص: 20)، ((فرق الشيعة)) للنوبختي (ص: 22)، ((رجال الكشي)) (ص: 106-108)، ((شرح نهج البلاغة)) لابن أبي الحديد (2/308). ، وقد بدأ هذا اليهوديُّ المتسَتِّرُ بحُبِّ آلِ البيتِ حركتَه في أواخِرِ عَهدِ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
الرَّأيُ الثَّالِثُ: أنَّ مَنشَأَ التَّشيُّعِ كان سنةَ 37هـ‍، وهذا الرَّأيُ مذكورٌ في كتابِ (مختَصَرِ التُّحفةِ الاثنَي عَشريَّة) [69] ((مختصر التحفة الاثني عشرية)) لمحمود شكري الألوسي، وأصل الكتاب لعبد العزيز الدهلوي (ص: 5). ، كما قال بهذا الرَّأيِ المُستَشرِقُ وات مُنْتوجُمري؛ فقد ذَكَر أنَّ بدايةَ حَركةِ الشِّيعةِ هي أحدُ أيَّامِ سنةِ 658م (37هـ‍) [70] (p,104) ((((Islam and the Integration of Society . .
مُناقَشةُ هذا الرَّأيِ:
إنَّ هذا القولَ يَربِطُ نشأةَ التَّشيُّعِ بمَوقِعةِ صِفِّينَ؛ حيثُ وقعت سنةَ 37هـ بَيْنَ عَليٍّ ومعاويةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، وما صاحَبَها من أحداثٍ، وما أعقَبَها من آثارٍ، ولكِنَّ هذا الرَّأيَ لا يعني بدايةَ الأُصولِ الشِّيعيَّةِ؛ فلا يوجَدُ في أحداثِ هذه السَّنةِ -فيما نقله المؤَرِّخون- من نادى بالوصيَّةِ، أو قال بالرَّجعةِ، أو دعا إلى أصلٍ من أُصولِ الشِّيعةِ المعروفةِ، كما أنَّ أنصارَ الإمامِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه لا يمكِنُ أن يُقالَ بأنَّهم على مذهَبِ الشِّيعةِ، أو على أصلٍ من أصولِ الشِّيعةِ، وقد كان للسَّبَئيِّين أثرٌ في تلك الفِتنةِ، وقد وُجِدوا قَبلَها، كما أنَّه بعدَ حادِثةِ التَّحكيمِ وفي بُنودِ التَّحكيمِ أُطلِقَ لَفظُ الشِّيعةِ على الجانِبَينِ بلا تخصيصٍ [71] يُنظر: ((مروج الذهب)) للمسعودي (2/378)، ((تاريخ مدينة دمشق)) لابن عساكر (10/144). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (أمَّا شِيعةُ عَليٍّ الذين شايَعوه بعدَ التَّحكيمِ، وشيعةُ مُعاويةَ التي شايعَتْه بعدَ التَّحكيمِ، فكان بَيْنَهما من التَّقابُلِ وتلاعُنِ بعضِهم وتكافُرِ بعضِهم ما كان، ولم تكُنِ الشِّيعةُ التي كانت مع عَليٍّ يظهَرُ منها تَنقُّصٌ لأبي بَكرٍ وعُمَرَ، ولا فيها من يُقَدِّمُ عَليًّا على أبي بَكرٍ وعُمَرَ، ولا كان سَبُّ عُثمانَ شائِعًا فيها، وإنَّما كان يتكَلَّمُ به بعضُهم فيَرُدُّ عليه آخَرُ، وكذلك تفضيلُ عَليٍّ عليه لم يكُنْ مشهورًا فيها، بخلافِ سَبِّ عَليٍّ؛ فإنَّه كان شائِعًا في أتباعِ مُعاويةَ؛ ولهذا كان عَليٌّ وأصحابُه أَولى بالحَقِّ وأقرَبَ إلى الحَقِّ من مُعاويةَ وأصحابِه) [72] ((مجموع الفتاوى)) (4/436، 437). .
الرَّأيُ الرَّابعُ: أنَّ التَّشيُّعَ ظَهر بَعدَ مقتَلِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.
قال المُستَشرِقُ شِتْروتمانُ -وهو من  المُستَشرِقين المتخصِّصين في الفِرَقِ ومذاهِبِها [73] يُنظر: ((المستشرقون)) لنجيب العقيقي (2/788). -: (إنَّ دَمَ الحُسَينِ يُعتَبَرُ البَذرةَ الأولى للتَّشيُّعِ كعقيدةٍ) [74] ((دائرة المعارف الإسلامية)) (14/59). .
الرَّأيُ المُختارُ:
الذي يظهَرُ أنَّ الشِّيعةَ كفِكرٍ وعقيدةٍ لم تُولَدْ فَجأةً، بل أخذَت طَورًا زَمَنيًّا، ومرَّت بمراحِلَ، فطلائِعُ العقيدةِ الشِّيعيَّةِ ظهَرت على يَدِ عبدِ اللَّهِ بنِ سَبَأٍ اليَهوديِّ، وأهمُّ الأصولِ التي تَدينُ بها الشِّيعةُ ظهَرت على يَدِه [75] ممَّا ينبغي أن يُلحَظَ أنَّ رَبطَ نشأةِ التَّشيُّعِ بابنِ سَبَأٍ هو في التَّشيُّعِ الغالي المتضَمِّنِ لهذه الأصولِ الغاليةِ، أمَّا التَّشيُّعُ الخفيفُ الذي مضمونُه تفضيلُ عَليٍّ وتقديمُه على غيِره، ونحوُ ذلك، فلم يكُنْ هذا من إحداثِ الزَّنادقةِ، بخِلافِ دعوى النَّصِّ والعِصمةِ الذي ابتَدَعه ابنُ سَبَأٍ اليهوديُّ المنافِقُ الزِّنديقُ وأتباعُه. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/466). ، وذلك بَعدَ استِشهادِ الخليفةِ الرَّاشِدِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، فكان ظُهورُ تلك الأصولِ في عَهدِ الخليفةِ الرَّاشدِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ولم تأخُذْ مكانَها في نفوسِ فِرقةٍ مُعَيَّنةٍ معروفةٍ، بل إنَّ السَّبَئيَّةَ ما كادت تُطِلُّ برأسِها حتَّى حاربَها عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه [76] فقد أمَر بإحراقِ أولئك الذين ادَّعَوا فيه الألوهيَّةَ. يُنظر: ((التنبيه والرد)) للملطي (ص: 18)، ((التبصير في الدين)) للأسفراييني (ص: 70)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/219)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/270). وأمَّا السَّبَّابةُ الذين يَسُبُّون أبا بكرٍ وعُمَرَ فإنَّ عليًّا لمَّا بلغه ذلك طلَب ابنَ السَّوداءِ الذي بلغه ذلك عنه، وقيل: إنَّه أراد قَتْلَه، فهرب منه. وأمَّا المُفَضِّلةُ الذين يُفَضِّلونه على أبي بكرٍ وعُمَرَ فصَحَّ عنه أنَّه قال: (لا أُوتى بأحَدٍ يُفَضِّلُني على أبي بكرٍ وعُمَرَ إلَّا ضرَبْتُه حَدَّ المُفتري). يُنظر: ((منهاج السنة)) لابن تيمية (1/219، 220). ، ولكِنْ ما تلا ذلك من أحداثٍ هيَّأ الأسبابَ لظهورِ هذه العقائِدِ، كمَعركةِ صِفِّينَ، وحادثةِ التَّحكيمِ، واستشهادِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه، ثمَّ ظُهورِ شَتمِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ على المنابِرِ، ثمَّ استِشهادِ الحُسَينِ بنِ عَليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه؛ فكُلُّ هذه الأحداثِ دفعَت كثيرًا من النَّاسِ إلى التَّشيُّعِ لآلِ البيتِ، وصار التَّشيُّعُ أيضًا وسيلةً لكُلِّ من أراد هدْمَ الإسلامِ، ودخَلت إلى المُسلِمين أفكارٌ ومُعتَقَداتٌ أجنبيَّةٌ اكتست بثوبِ التَّشيُّعِ، وسَهُل دُخولُها تحتَ غِطائِه، وبمرورِ الأيَّامِ كانت تتَّسِعُ بِدعةُ التَّشيُّعِ ويتعاظَمُ خَطَرُها، لا سِيَّما مع استحلالِ كثيرٍ من الرَّافِضةِ الكَذِبَ على أئمَّتِهم وغيرِهم، واللَّهُ المستعانُ.

انظر أيضا: