موسوعة الفرق

الفصلُ الأوَّلُ: مفهومُ الكُفرِ عندَ المُرجِئةِ


الكُفرُ عندَ المُرجِئةِ مبنيٌّ على القولِ بعَدمِ دُخولِ العَملِ في مُسمَّى الإيمانِ، وأنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ بالقلبِ، ومِن ثَمَّ حصَروا الكُفرَ بالجَهلِ والتَّكذيبِ والجُحودِ والإنكارِ والعِنادِ والاستِحلالِ، ونَحوِ ذلك ممَّا يكونُ في القلبِ فقط، وما كان فِعلًا أو قولًا مُجمَعًا على أنَّه كُفرٌ، فإنَّه ليس كُفرًا في نَفسِه، وإنَّما هو علامةٌ على الكُفرِ.
ومَذهَبُ المُرجِئةِ هو الذي تبنَّاه الأشاعِرةُ كما قرَّره الباقِلَّانيُّ [298] يُنظر: ((التمهيد)) (ص: 348). ، والبَغداديُّ [299] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص: 266).   ، وغَيرُهما [300] يُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) للأشعري (1/115)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/145)، ((الفرق بين الفرق)) للبغداي (ص: 195). .
قال الباقِلَّانيُّ في تعريفِ الكُفرِ: (هو ضدُّ الإيمانِ، وهو الجَهلُ باللهِ عزَّ وجلَّ والتَّكذيبُ به، السَّاتِرُ لقلبِ الإنسانِ عن العِلمِ به؛ فهو كالمُغطِّي للقلبِ عن معرفةِ الحقِّ، ومنه قولُ الشَّاعِرِ:
في ليلةٍ كفَر النُّجومَ غَمامُها، أي: غطَّاها، ومنه قولُهم: زيدٌ مُتكفِّرٌ بسِلاحِه...، وقد يكونُ الكُفرُ بمعنى التَّكذيبِ والجَحدِ والإنكارِ) [301] ((التمهيد)) (ص: 348). .
وقال البَغداديُّ: (السُّجودُ للشَّمسِ أو للصَّنمِ، وما جرى مجرى ذلك: مِن علاماتِ الكُفرِ، وإن لم يكنْ في نَفسِه كُفرًا إذا لم يُضامَّه عَقدُ القلبِ على الكُفرِ، ومَن فعَل شيئًا مِن ذلك أجرَينا عليه حُكمَ أهلِ الكُفرِ، وإن لم نعلَمْ كُفرَه باطِنًا، وأمَّا تارِكُ الصَّلاةِ فإنْ ترَكَها عن استِحلالٍ فهو كافِرٌ) [302] ((أصول الدين)) (ص: 266). .
ويُلاحَظُ أنَّ البَغداديَّ الأشعَريَّ قرَّر أنَّ السُّجودَ للشَّمسِ والصَّنمِ ليس كُفرًا في نَفسِه، فيُقالُ له: إذا لم تكنْ كُفرًا في نَفسِها، فلماذا نُجري عليه أحكامَ الكُفرِ ونحن لا نعلَمُ كُفرَه باطِنًا [303] يُنظر: ((نواقض الإيمان الاعتقادية)) للوهيبي (1/186). ؟
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ: (وإلى هذا المَذهَبِ مال ابنُ الرَّاوَنديِّ، وبِشرٌ المِرِّيسيُّ؛ قالا: الإيمانُ هو التَّصديقُ بالقلبِ واللِّسانِ جميعًا، والكُفرُ هو الجُحودُ والإنكارُ، والسُّجودُ للشَّمسِ والقَمرِ والصَّنمِ ليس بكُفرٍ في نَفسِه، ولكنَّه علامةُ الكُفرِ) [304] ((الملل والنحل)) (1/144). ويُنظر: ((نواقض الإيمان الاعتقادية)) للوهيبي (1/185-187). .
وقال الجُرجانيُّ في شرحِ مواقِفِ الإيجيِّ: («قُلْنا: هو دليلُ عَدمِ التَّصديقِ»، أي: سُجودُه لها يدُلُّ بظاهِرِه على أنَّه ليس بمُصدِّقٍ، ونحن نحكُمُ بالظَّاهِرِ؛ ولذلك حكَمْنا بعَدمِ إيمانِه، لا لأنَّ عَدمَ السُّجودِ لغَيرِ اللهِ داخِلٌ في حقيقةِ الإيمانِ، «حتَّى لو علِم أنَّه لم يسجُدْ لها على سبيلِ التَّعظيمِ واعتِقادِ الإلهيَّةِ»، بل سجَد لها وقلبُه مُطمئِنٌّ بالتَّصديقِ، «لم يُحكَمْ بكُفرِه فيما بَينَه وبَينَ اللهِ»، وإن أُجرِي عليه حُكمُ الكافِرِ في الظَّاهِرِ) [305] ((شرح المواقف)) (3/540). .
وقال التَّفتازانيُّ: (قال القاضي: هو الجَحدُ باللهِ، وفُسِّر بالجَهلِ، ورُدَّ: بأنَّ الكافِرَ قد يعرِفُ اللهَ ويُصدِّقُ به، والمُؤمِنَ قد لا يعرِفُ بعضَ أحكامِه، فأُجيبَ: بأنَّ المُرادَ الجَحدُ به في شيءٍ ممَّا عُلِم قطعًا أنَّه مِن أحكامِه، أو الجَهلُ بذلك إجمالًا وتفصيلًا) [306] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/268) باختصارٍ. .
وقال في شرحِ ذلك: (... إن قيل: مَن استخَفَّ بالشَّرعِ أو الشَّارِعِ، أو ألقى المُصحَفَ في القاذوراتِ، أو شدَّ الزُّنَّارَ بالاختِيارِ؛ كافِرٌ إجماعًا، وإن كان مُصدِّقًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ ما جاء به...، قُلْنا: لو سُلِّم اجتِماعُ التَّصديقِ المُعتبَرِ في الإيمانِ معَ تلك الأمورِ التي هي كُفرٌ وِفاقًا، فيجوزُ أن يجعَلَ الشَّارِعُ بعضَ محظوراتِ الشَّرعِ علامةَ التَّكذيبِ، فيَحكُمَ بكُفرِ مَن ارتَكَبه، وبوُجودِ التَّكذيبِ فيه وانتِفاءِ التَّصديقِ عنه، كالاستِخفافِ بالشَّرعِ، وشَدِّ الزُّنَّارِ، وبعضُها لا، كالزِّنا وشُربِ الخَمرِ، ويتفاوَتُ ذلك إلى مُتَّفَقٍ عليه، ومُختلَفٍ فيه، ومنصوصٍ عليه، ومُستنبَطٍ مِن الدَّليلِ) [307] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 267). .
فالتَّفتازانيُّ يرى أنَّ هذه الأمورَ إذا وُجِدَت دلَّ ذلك على تكذيبِ القلبِ؛ فهي علاماتٌ على الكُفرِ، وهو تكذيبُ القلبِ.
وذكَر الكَشْميريُّ الماتُريديُّ هذا الإشكالَ والإلزامَ، ثُمَّ أشار إلى جوابِهم عنه، فقال: (هاهنا إشكالٌ يَرِدُ على الفُقَهاءِ والمُتكلِّمينَ، وهو أنَّ بعضَ أفعالِ الكُفرِ قد توجَدُ مِن المُصدِّقِ، كالسُّجودِ للصَّنمِ، والاستِخفافِ بالمُصحَفِ، فإن قُلْنا: إنَّه كافِرٌ ناقَض قولَنا: إنَّ الإيمانَ هو التَّصديقُ، ومعلومٌ أنَّه بهذه الأفعالِ لم ينسلِخْ عن التَّصديقِ، فكيف يُحكَمُ عليه بالكُفرِ؟ وإن قُلْنا: إنَّه مُسلِمٌ، فذلك خلافُ الإجماعِ، وأجاب الكَسْتَلِّيُّ تَبعًا للجُرجانيِّ أنَّه كافِرٌ قضاءً، ومُسلِمٌ ديانةً) [308] ((فيض الباري على صحيح البخاري)) (1/ 125). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 401). .
فتبيَّن بهذا أنَّ المُرجِئةَ يجعَلونَ الرِّدَّةَ والكُفرَ إنَّما تكونُ بالقلبِ فقط، ولا تكونُ الرِّدَّةُ بالقولِ والفِعلِ استِقلالًا، وقد تأثَّر بقولِهم كثيرٌ مِن المُتكلِّمينَ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (مَن كان مُوافِقًا لقولِ جَهمٍ في الإيمانِ بسببِ انتِصارِ أبي الحَسنِ لقولِه في الإيمانِ؛ يبقى تارةً يقولُ بقولِ السَّلفِ والأئمَّةِ، وتارةً يقولُ بقولِ المُتكلِّمينَ المُوافِقينَ لجَهمٍ، حتَّى في مسألةِ سبِّ اللهِ ورسولِه رأَيتُ طائِفةً مِن الحَنبليِّينَ والشَّافِعيِّينَ والمالِكيِّينَ إذا تكلَّموا بكلامِ الأئمَّةِ قالوا: إنَّ هذا كُفرٌ باطِنًا وظاهِرًا، وإذا تكلَّموا بكلامِ أولئك قالوا: هذا كُفرٌ في الظَّاهِرِ، وهو في الباطِنِ يجوزُ أن يكونَ مُؤمِنًا تامَّ الإيمانِ) [309] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 403). .
كونُ الكُفرِ لا يكونُ إلَّا بالاعتِقادِ يرُدُّه أمورٌ؛ منها:
1- إذا بطَل تعريفُ المُرجِئةِ للإيمانِ بأنَّه مُجرَّدُ التَّصديقِ، بطَل حَصرُهم الكُفرَ بالتَّكذيبِ والجُحودِ؛ لأنَّ الكُفرَ لا يختصُّ بالتَّكذيبِ [310] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 521-525)، ((نواقض الإيمان الاعتقادية)) للوهيبي (2/ 57-198). .
قال ابنُ القيِّمِ: (وأمَّا الكُفرُ الأكبَرُ فخمسةُ أنواعٍ: كُفرُ تكذيبٍ، وكُفرُ استِكبارٍ وإباءٍ معَ التَّصديقِ، وكُفرُ إعراضٍ، وكُفرُ شكٍّ، وكُفرُ نِفاقٍ) [311] ((مدارج السالكين)) (1/ 346). .
2- الإجماعُ على عددٍ مِن المُكفِّراتِ القوليَّةِ المعروفةِ، وكثيرٌ منها لا يتضمَّنُ التَّكذيبَ بالقلبِ، مِثلُ سبِّ اللهِ، أو سبِّ الرَّسولِ، أو السُّجودِ لغَيرِ اللهِ، أو الذَّبحِ لغَيرِ اللهِ، ونَحوِ ذلك [312] يُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/ 473-475)، ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 298، 521)، ((نواقض الإيمان القولية والعملية)) لعبد العزيز آل عبد اللطيف (ص: 164- 401). .
3- قال ابنُ تيميَّةَ: (هؤلاء القائِلونَ بقولِ جَهمٍ والصَّالِحيِّ قد صرَّحوا بأنَّ سبَّ اللهِ ورسولِه، والتَّكلُّمَ بالتَّثليثِ وكُلِّ كلمةٍ مِن كلامِ الكُفرِ؛ ليس هو كُفرًا في الباطِنِ، ولكنَّه دليلٌ في الظَّاهِرِ على الكُفرِ، ويجوزُ معَ هذا أن يكونَ هذا السَّابُّ الشَّاتِمُ في الباطِنِ عارِفًا بالله، مُوحِّدًا له، مُؤمِنًا به! فإذا أُقيمَت عليهم حُجَّةٌ بنصٍّ أو إجماعٍ أنَّ هذا كافِرٌ باطِنًا وظاهِرًا، قالوا: هذا يقتضي أنَّ ذلك مُستلزِمٌ للتَّكذيبِ الباطِنِ، وأنَّ الإيمانَ يستلزِمُ عَدمَ ذلك، فيُقالُ لهم: معَنا أمرانِ معلومانِ؛ أحدُهما: معلومٌ بالاضطِرارِ مِن الدِّينِ، والثَّاني: معلومٌ بالاضطِرارِ مِن أنفُسِنا عندَ التَّأمُّلِ.
أمَّا الأوَّلُ: فإنَّا نعلَمُ أنَّ مَن سبَّ اللهَ ورسولَه طوعًا بغَيرِ كُرهٍ، بل مَن تكلَّم بكلماتِ الكُفرِ طائِعًا غَيرَ مُكرَهٍ، ومَن استهزَأ باللهِ وآياتِه ورسولِه؛ فهو كافِرٌ باطِنًا وظاهِرًا، وأنَّ مَن قال: إنَّ مِثلَ هذا قد يكونُ في الباطِنِ مُؤمِنًا باللهِ، وإنَّما هو كافِرٌ في الظَّاهِرِ؛ فإنَّه قال قولًا معلومَ الفسادِ بالضَّرورةِ مِن الدِّينِ، وقد ذكَر اللهُ كلماتِ الكُفَّارِ في القرآنِ وحكَم بكُفرِهم واستِحقاقِهم الوعيدَ بها، ولو كانت أقوالُهم الكُفريَّةُ بمنزِلةِ شَهادةِ الشُّهودِ عليهم، أو بمنزِلةِ الإقرارِ الذي يغلَطُ فيه المُقِرُّ؛ لم يجعَلْهم اللهُ مِن أهلِ الوعيدِ بالشَّهادةِ التي قد تكونُ صِدقًا وقد تكونُ كذِبًا، بل كان ينبغي ألَّا يُعذِّبَهم إلَّا بشرطِ صِدقِ الشَّهادةِ، وهذا كقولِه تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [المائدة: 73] ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة: 17] ، وأمثالِ ذلك.
وأمَّا الثَّاني: فالقلبُ إذا كان مُعتقِدًا صِدقَ الرَّسولِ، وأنَّه رسولُ اللهِ، وكان مُحبًّا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مُعظِّمًا له؛ امتنَع معَ هذا أن يلعَنَه ويسُبَّه؛ فلا يُتصوَّرُ ذلك منه إلَّا معَ نوعٍ مِن الاستِخفافِ به وبحُرمتِه، فعُلِم بذلك أنَّ مُجرَّدَ اعتِقادِ أنَّه صادِقٌ لا يكونُ إيمانًا إلَّا معَ محبَّتِه وتعظيمِه بالقلبِ...، يُبيِّنُ ذلك قولُه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل: 106-107] .
 فقد ذكَر تعالى مَن كفَر باللهِ مِن بَعدِ إيمانِه، وذكَر وعيدَه في الآخرةِ، ثُمَّ قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ [النحل: 107] ، وبيَّن تعالى أنَّ الوعيدَ استحقُّوه بهذا، ومعلومٌ أنَّ بابَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ والعِلمِ والجَهلِ ليس هو مِن بابِ الحُبِّ والبُغضِ، وهؤلاء يقولونَ: إنَّما استحَقُّوا الوعيدَ لزوالِ التَّصديقِ والإيمانِ مِن قُلوبِهم، وإن كان ذلك قد يكونُ سببُه حُبَّ الدُّنيا على الآخِرةِ، واللهُ سبحانَه وتعالى جعَل استِحبابَ الدُّنيا على الآخِرةِ هو الأصلَ الموجِبَ للخُسرانِ، واستِحبابُ الدُّنيا على الآخِرةِ قد يكونُ معَ العِلمِ والتَّصديقِ بأنَّ الكُفرَ يضُرُّ في الآخِرةِ، وبأنَّه ما له في الآخِرةِ مِن خَلاقٍ، وأيضًا فإنَّه سبحانَه استثنى المُكرَهَ مِن الكُفَّارِ، ولو كان الكُفرُ لا يكونُ إلَّا بتكذيبِ القلبِ وجَهلِه لم يستَثنِ منه المُكرَهَ؛ لأنَّ الإكراهَ على ذلك مُمتنِعٌ، فعُلِم أنَّ التَّكلُّمَ بالكُفرِ كُفرٌ لا في حالِ الإكراهِ) [313] ((مجموع الفتاوى)) (7/ 557-560). .
4- يُقالُ للمُرجِئةِ: قولُكم: إنَّ سابَّ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يكفُرُ إذا كان مُستحِلًّا، وإن لم يكنْ مُستحِلًّا فسَق؛ يلزَمُ منه أنَّه لا أثرَ للسَّبِّ في التَّكفيرِ وُجودًا وعَدمًا، وإنَّما المُؤثِّرُ هو الاعتِقادُ، فإن اعتقَد حِلَّ السَّبِّ كفَر، سَواءٌ اقترَن به وُجودُ السَّبِّ أو لم يقترِنْ، وهذا خلافُ ما أجمَع عليه العُلَماءُ [314] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 516). .
5- إذا كان المُكفِّرُ هو اعتِقادُ الحِلِّ، فليس في السَّبِّ ما يدُلُّ على أنَّ السَّابَّ مُستحِلٌّ، فيجِبُ ألَّا يُكفَّرَ، لا سيَّما إذا قال: أنا أعتقِدُ أنَّ هذا حرامٌ، وإنَّما أقولُ غَيظًا وسَفهًا أو عَبثًا أو لعِبًا، كما قال المُنافِقونَ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة: 65] ، فإن قيل: لا يكونونَ كُفَّارًا، فهو خلافُ نصِّ القرآنِ، وإن قيل: يكونونَ كُفَّارًا، فهو تكفيرٌ بغَيرِ موجِبٍ، إذا لم يجعَلْ نَفسَ السَّببِ مُكفِّرًا [315] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 516). .
ومِن أعظَمِ أسبابِ اضطِرابِ المُرجِئةِ وتناقُضِهم أنَّهم رأَوا أنَّ الإيمانَ هو مُجرَّدُ تصديقِ الرَّسولِ فيما أخبَر به، ورأَوا أنَّ اعتِقادَ صِدقِه لا يُنافي السَّبَّ والشَّتمَ بالذَّاتِ، كما أنَّ اعتِقادَ إيجابِ طاعتِه لا يُنافي معصيتَه؛ فإنَّ الإنسانَ قد يُهينُ مَن يعتقِدُ وُجوبَ إكرامِه، كما يترُكُ ما يعتقِدُ وُجوبَ فِعلِه، ويفعَلُ ما يعتقِدُ وُجوبَ تَركِه، ثُمَّ رأَوا أنَّ الأمَّةَ قد كفَّرَت السَّابَّ، فقالوا: إنَّما كفَر لأنَّ سبَّه دليلٌ على أنَّه لم يعتقِدْ أنَّه حرامٌ، واعتِقادُ حِلِّه تكذيبٌ للرَّسولِ، فكفَر بهذا التَّكذيبِ لا بتلك الإهانةِ، وإنَّما الإهانةُ دليلٌ على التَّكذيبِ، فإذا فُرِض أنَّه في نَفسِ الأمرِ ليس بمُكذِّبٍ كان في نَفسِ الأمرِ مُؤمِنًا، وإن كان حُكمُ الظَّاهِرِ إنَّما يجري عليه بما أظهَره، فهذا مَأخَذُ المُرجِئةِ ومُقتَصديهم الذين يقولونَ: الإيمانُ هو الاعتِقادُ والقولُ، وغُلاتُهم وهُم الكَرَّاميَّةُ الذين يقولونَ: هو مُجرَّدُ القولِ، وإن عَرِيَ عن الاعتِقادِ، وأمَّا الجَهْميَّةُ الذين يقولونَ: هو مُجرَّدُ المعرفةِ والتَّصديقِ بالقلبِ فقط، وإن لم يتكلَّمْ بلِسانِه؛ فلهم مَأخَذٌ آخَرُ، وهو أنَّه قد يقولُ بلِسانِه ما ليس في قلبِه، فإذا كان في قلبِه التَّعظيمُ والتَّوقيرُ للرَّسولِ لم يقدَحْ إظهارُ خلافِ ذلك بلِسانِه في الباطِنِ، كما لا ينفَعُ المُنافِقَ إظهارُ خلافِ ما في قلبِه في الباطِنِ [316] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 516). .
6- أنَّ الإيمانَ وإن كان أصلُه تصديقَ القلبِ، فذلك التَّصديقُ لا بُدَّ أن يوجِبَ حالًا في القلبِ وعملًا له، وهو تعظيمُ الرَّسولِ وإجلالُه ومحبَّتُه، وذلك أمرٌ لازِمٌ.
7- أنَّ الإيمانَ وإن كان يتضمَّنُ التَّصديقَ، فليس هو مُجرَّدَ التَّصديقِ، وإنَّما هو الإقرارُ والطُّمأنينةُ، وذلك لأنَّ التَّصديقَ إنَّما يعرِضُ للخَبرِ فقط، فأمَّا الأمرُ فليس فيه تصديقٌ مِن حيثُ هو أمرٌ، وكلامُ اللهِ خَبرٌ وأمرٌ؛ فالخَبرُ يستوجِبُ تصديقَ المُخبِرِ، والأمرُ يستوجِبُ الانقِيادَ له والاستِسلامَ، وهو عَملٌ في القلبِ جِماعُه الخُضوعُ والانقِيادُ للأمرِ، وإن لم يفعَلِ المأمورَ به، فإذا قوبِل الخَبرُ بالتَّصديقِ، والأمرُ بالانقِيادِ؛ فقد حصَل أصلُ الإيمانِ في القلبِ، وهو الطُّمأنينةُ والإقرارُ.
وإذا كان الأمرُ كذلك فالسَّبُّ إهانةٌ واستِخفافٌ، والانقِيادُ للأمرِ إكرامٌ وإعزازٌ، ومُحالٌ أن يُهينَ القلبُ مَن قد انقاد له وخضَع واستسلَم، أو يستخِفَّ به، فإذا حصَل في القلبِ استِخفافٌ واستِهانةٌ امتنَع أن يكونَ فيه انقِيادٌ واستِسلامٌ، فلا يكونُ فيه إيمانٌ، وهذا هو بعَينِه كُفرُ إبليسَ؛ فإنَّه سمِع أمرَ اللهِ له فلم يُكذِّبْ رسولًا، ولكن لم ينقَدْ للأمرِ، ولم يخضَعْ له، واستكبَر عن الطَّاعةِ؛ فصار كافِرًا.
8- أنَّ العبدَ إذا فعَل الذَّنبَ معَ اعتِقادِ أنَّ اللهَ حرَّمه عليه، واعتِقادِ انقِيادِه للهِ فيما حرَّمه وأوجَبه؛ فهذا ليس بكافِرٍ، بل عاصٍ، فأمَّا إن اعتقَد أنَّ اللهَ لم يُحرِّمْه تكذيبًا لخَبرِ اللهِ، أو اعتقَد أنَّ اللهَ حرَّمه لكن امتنَع مِن قَبولِ هذا التَّحريمِ، وأبى أن يُذعِنَ للهِ وينقادَ؛ فهو إمَّا جاحِدٌ أو مُعانِدٌ، ولهذا كان مَن عصى مُستكبِرًا كإبليسَ، كفَر بالاتِّفاقِ، ومَن عصى مُشتهيًا لم يكفُرْ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، فمَن فعَل المحارِمَ مُستحِلًّا لها فهو كافِرٌ بالاتِّفاقِ؛ فإنَّه ما آمَن بالقرآنِ مَن استحلَّ محارِمَه، ومِثلُه مَن استحلَّها بغَيرِ فِعلٍ [317] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 518-521). .
وأمَّا القولُ بأنَّ مَن تكلَّم بالتَّكذيبِ والجَحدِ وسائِرِ أنواعِ الكُفرِ مِن غَيرِ إكراهٍ، فإنَّه يجوزُ أن يكونَ معَ ذلك في نَفسِ الأمرِ مُؤمِنًا؛ فهذا لا يُمكِنُ، وقد قال اللهُ سبحانَه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل: 106] .
ومعلومٌ أنَّه لم يُرِدْ بالكُفرِ هنا اعتِقادَ القلبِ فقط؛ لأنَّ ذلك لا يُكرَهُ الرَّجلُ عليه، وهو قد استثنى مَن أُكرِه، ولم يُرِدْ مَن اعتقَد؛ لأنَّه استثنى المُكرَهَ، وهو لا يُكرَهُ على العَقدِ، وإنَّما يُكرَهُ على القولِ فقط بدونِ انشِراحِ القلبِ بالكُفرِ؛ فعُلِم أنَّ المعنى: مَن تكلَّم بكلمةِ الكُفرِ فعليه غضبٌ مِن اللهِ، وله عذابٌ عظيمٌ، وأنَّه كافِرٌ بذلك، إلَّا مَن أُكرِه وهو مُطمئِنٌّ بالإيمانِ، ولكن مَن شرَح بالكُفرِ صَدرًا مِن المُكرَهينَ فإنَّه كافِرٌ أيضًا، فكُلُّ مَن تكلَّم بالكُفرِ كافِرٌ، إلَّا مَن أُكرِه فقال بلِسانِه كلمةَ الكُفرِ، وقُلبُه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ، وقال تعالى في حقِّ المُستهزِئينَ: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 66] ، فبيَّن أنَّهم كُفَّارٌ بالقولِ معَ أنَّهم لم يعتقِدوا صِحَّتَه [318] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 523). .

انظر أيضا: